المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة يس سورة (يس) مكية بالإجماع إلا أن فرقة قالت: إن - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٧

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة يس سورة (يس) مكية بالإجماع إلا أن فرقة قالت: إن

‌سورة يس

سورة (يس) مكية بالإجماع إلا أن فرقة قالت: إن قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ} نزلت في بني سلمة من الأنصار حين أرادوا أن يتركوا ديارهم، وينتقلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يأتي. وهي ثلاث وثمانون آية، وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة، وثلاثة آلاف حرف، فعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لكلّ شيء قلبا، وقلب القرآن (يس)، ومن قرأ (يس) كتاب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات» . أخرجه الترمذي، وقال:

حديث غريب. وعن معقل بن يسار، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا على موتاكم (يس)» . أخرجه أبو داود، وغيره. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ (يس) في ليلة أصبح مغفورا له، ومن قرأ حم التي يذكر فيها الدّخان أصبح مغفورا له» . أخرجه الحافظ أبو يعلى.

ولهذا قال بعض العلماء: من خصائص هذه السورة: أنها لا تقرأ عند أمر عسير إلا يسره الله تعالى، وكأن قراءتها عند المحتضر، أو الميت لتنزل الرحمة والبركة، وليسهل عليه خروج الروح، والله تعالى أعلم. قال الإمام أحمد-رحمه الله: كان المشيخة يقولون: إذا قرئت -يعني: (يس) -عند الميت؛ خفف الله عنه بها. وروى البزار عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لوددت أنّها في قلب كلّ إنسان من أمّتي» . وعن أنس-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من دخل المقابر، فقرأ سورة (يس) خفّف الله عنهم يومئذ، وكان له بعدد من فيها حسنات» . وذكر الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» عن عبد الأعلى، قال:

حدثنا محمد بن الصلت، عن عمرو بن ثابت، عن محمد بن مروان، عن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة فليكتب (يس) في جام بزعفران، ثم يشربه. حدثني أبي رحمه الله، قال:

حدثنا أصرم بن حوشب، عن بقيّة بن الوليد، عن المعتمر بن أشرف، عن محمد بن علي، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القرآن أفضل من كلّ شيء دون الله، وفضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه، فمن وقّر القرآن فقد وقر الله، ومن لم يوقّر القرآن لم يوقر الله، وحرمة القرآن عند الله كحرمة الوالد على ولده، القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق، فمن شفع له القرآن شفع، ومن محل به القرآن صدّق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وحملة القرآن هم المحفوفون برحمة الله، الملبسون نور الله، المعلّمون كلام الله، من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله.

ص: 701

يقول الله تعالى: يا حملة القرآن استجيبوا لربّكم بتوقير كتابه، يزدكم حبّا، ويحبّبكم إلى عباده، يدفع عن مستمع القرآن بلوى الدنيا، ويدفع عن تالي القرآن بلوى الآخرة، ومن استمع آية من كتاب الله، كان له أفضل ممّا تحت العرش إلى النّجوم، وإنّ في كتاب الله لسورة، تدعى العزيزة، ويدعى صاحبها الشريف يوم القيامة، تشفع لصاحبها في أكثر من ربيعة ومضر، وهي سورة يس». انتهى. قرطبي، والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{يس (1)}

فيه قراءات كثيرة، كما في لفظ (طه) وقد اختلف في معناه، فقيل: معناه: يا رجل! وروي عن ابن عباس، وابن مسعود، وغيرهما: أن معناه يا إنسان. وقالوا في قوله تعالى: {سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ} رقم [130] من سورة (الصافات) أي: على آل محمد. وقال سعيد بن جبير-رحمه الله تعالى-: هو اسم من أسماء محمد صلى الله عليه وسلم، ودليله:{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} قال السيد الحميري: [البسيط] يا نفس لا تمحضي بالنصح جاهدة

على المودّة إلاّ آل ياسين

وقال أبو بكر الوراق: معناه: يا سيد البشر. وقيل: إنه اسم من أسماء الله، قاله مالك.

هذا؛ وذكر الماوردي عن علي-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله تعالى أسماني في القرآن سبعة أسماء: محمد وأحمد وطه وياسين والمزمّل والمدّثر وعبد الله» . قاله القاضي. وحكى أبو عبد الرحمن السلمي عن جعفر الصادق: أن المعنى: يا سيد! مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم. انتهى. قرطبي بتصرف كبير.

الإعراب: {يس:} فيه، أوجه: أحدها أنه خبر لمبتدإ محذوف، أي هذه (يس). الثاني: أنه مفعول به لفعل محذوف، التقدير: اتل (يس). الثالث: أنه مقسم به، وحرف القسم محذوف، التقدير: أقسم ب: (يس).

{وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)}

الشرح: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ:} قسم أقسم الله بالقرآن: أن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من عنده، وهو رد على كفار قريش؛ حيث قالوا: لست مرسلا. ومعنى الحكيم: المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، كما قال تعالى في أول سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة،

ص: 702

وألف سلام. {كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ..} . إلخ رقم [1] ويقال فيه: ذو الحكمة، يقال: قصيدة حكيمة، أي ذات حكمة، وانظر الكلام على {الْحِكْمَةَ} في سورة (لقمان) رقم [12]. وحكم الرجل يحكم؛ أي: صار حكيما، ومنه قول النابغة الذبياني يخاطب النعمان بن المنذر في معلقته رقم [27]:[البسيط] واحكم كحكم فتاة الحيّ إذ نظرت

إلى حمام شراع وارد الثّمد

وأحكمته التجارب: جعلته حكيما. قال الشاعر: [الكامل] وقصيدة تأتي الملوك حكيمة

قد قلتها ليقال من ذا قالها؟

والخطاب بقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} للنبي صلى الله عليه وسلم. {عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: على منهج قويم، وشرع مستقيم، كقوله تعالى في سورة (الشورى):{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللهِ} أي: الطريق الذي أمر الله بالسير عليه، ولا تنس ما في الآية الكريمة من التأكيد بأكثر من مؤكد؛ لأن المرسل إليهم منكرون، فقد أكد ب:«إن» واللام، ويسمى هذا النوع في علم المعاني: إنكارا.

قال الزمخشري: فإن قلت: أي حاجة إليه، وقد علم: أن المرسلين لا يكونون إلا على صراط مستقيم؟! قلت: ليس الغرض بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته، وإنما الغرض وصفه، ووصف ما جاء به من الشريعة، فجمع بين الوصفين في نظام واحد، كأنه قال:{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ،} الثابتين على طريق ثابت. هذا؛ والصراط: الطريق، وهو مستعار هنا للدين القويم كما في سورة الفاتحة، وسمي الدين طريقا؛ لأنه يؤدي إلى الجنة، فهو طريق إليها، وهو يقرأ بالصاد، والسين، والزاي، ويذكر، ويؤنث، والأول أكثر.

هذا؛ وأصل مستقيم (مستقوم)؛ لأنه من: استقام، وهو أجوف واوي، فقل في إعلاله:

اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح أولى بالحركة من حرف العلة، فنقلت حركة الواو إلى القاف بعد سلب سكونها، ثم قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، فصار: مستقيم.

الإعراب: {وَالْقُرْآنِ:} جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم بالقرآن.

{الْحَكِيمِ:} صفة له. {إِنَّكَ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {لَمِنَ:} اللام: هي المزحلقة. (من المرسلين): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: (إنّ). {عَلى صِراطٍ:} متعلقان بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان ب:{الْمُرْسَلِينَ،} ويجوز أن يكونا متعلقين بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مُسْتَقِيمٍ:} صفة (صراط). والجملة الاسمية: {إِنَّكَ..} .

إلخ جواب القسم، والقسم وجوابه كلام مبتدأ لا محل له من الإعراب.

ص: 703

{تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)}

الشرح: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي: أعني: هذا القرآن تنزيل العزيز الرحيم، أو هو مفعول مطلق لفعل محذوف، التقدير: نزل تنزيل، ويقرأ بالرفع، فيكون المعنى: القرآن الكريم الموجود بين أيدينا، المتلو بألسنتنا، المحفوظ في صدورنا تنزيل العزيز الرحيم، كما يقرأ بالجر على البدلية من القرآن. {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ} المراد: كفار قريش، وغيرهم، والمراد بآبائهم: الأقربون لا الأبعدون، فإنهم قد أنذروا، فآباء العرب الأقدمون أنذروا بإسماعيل عليه السلام، وآباء غيرهم الأقدمون قد أنذروا بعيسى، ومن قبله. هذا؛ وفي:{قَوْماً} اختلف المفسرون، فأكثرهم ومنهم قتادة يقولون: إنها نافية. وعليه فالمعنى: لم يأت آباءهم نذير. وقال ابن عباس، وعكرمة، وقتادة أيضا: هي بمعنى: «الذي» وعليه فالمعنى: لتنذرهم مثل ما أنذر آباؤهم. وقيل: إن {قَوْماً} مصدرية، والمعنى: لتنذر قوما إنذار آباءهم، ثم يجوز أن تكون العرب قد بلغتهم بالتواتر أخبار الأنبياء.

فالمعنى يكون: لم ينذروا برسول من أنفسهم، ويجوز أن يكون بلغهم الخبر، ولكن غفلوا، وأعرضوا، ونسوا. ويجوز أن يكون هذا خطابا لقوم لم يبلغهم خبر نبي، وقد قال تعالى في الآية رقم [44] من سورة (سبأ):{وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} . وقال تعالى في الآية رقم [3] من سورة (السجدة): {لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي: لم يأتهم نذير. وعلى قول من قال: بلغهم خبر الأنبياء، فالمعنى فهم معرضون الآن متغافلون عن ذلك. ويقال للمعرض عن الشيء: إنه متغافل عنه. وقيل المعنى: فهم غافلون عن عقاب الله، وانتقامه. انتهى. قرطبي بتصرف. والزمخشري بمعناه.

الإعراب: {لِتُنْذِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» ، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالمصدر:{تَنْزِيلَ،} أو بمعنى (من المرسلين)، أي: أنت مرسل للإنذار. {قَوْماً:} مفعول به. {قَوْماً:} نافية. {أُنْذِرَ:} فعل ماض مبني للمجهول.

{آباؤُهُمْ:} نائب فاعله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {قَوْماً،} وعلى اعتبار {قَوْماً} موصولة، أو نكرة موصوفة، وهو أجود، فالجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، وتكون {قَوْماً} بدلا من:{قَوْماً،} ولا يصح أن تكون صفة له؛ لأنه نكرة، وهي معرفة، وعلى اعتبار {قَوْماً} مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل نصب مفعول مطلق، التقدير: لتنذر قوما إنذارا مثل إنذار آبائهم. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف.

(هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {غافِلُونَ:} خبره مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ} على اعتبار (ما) نافية، وعلى الاعتبارين الآخرين فالجملة الاسمية معطوفة على الجملة:{إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} . وقيل: هي تعليلية،

ص: 704

ولا وجه له. هذا؛ وأورد أبو البقاء وجها رابعا، وهو أن تكون زائدة، وتكون جملة:{أُنْذِرَ آباؤُهُمْ} صفة: {قَوْماً،} والرابط: الضمير.

{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7)}

الشرح: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ:} لقد وجب العذاب على أكثرهم، واستحقوه، وهو فحوى قوله تعالى في الآية رقم [13] من سورة (السجدة):{وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} . {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ:} وهذا فيمن سبق في علم الله: أنه يموت على كفره، وذكر الله سبحانه الأكثر؛ لأن بعضهم أدركته العناية الإلهية، وسبق في علم الله الأزلي:

أنه يموت على الإسلام فأسلم، وهؤلاء الذين سبق في علم الله: أنهم يموتون على الكفر قد أخرج الله من أصلابهم من حمل لواء الإسلام في ربوع الدنيا. والتاريخ الإسلامي وسيرة السلف الصالح شاهد عدل على ما أقول.

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم مقدر. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {حَقَّ:} فعل ماض. {الْقَوْلُ:} فاعله. {عَلى أَكْثَرِهِمْ:}

متعلقان بالفعل {حَقَّ،} والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَقَدْ حَقَّ..} . إلخ لا محل لها على الوجهين المعتبرين في اللام. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {لا:} نافية.

{يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على الجملة قبلها، لا محل لها مثلها. وإن اعتبرتها تعليلية؛ فلست مفندا.

{إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)}

الشرح: {إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً:} جمع: غل، يقال: في رقبته غل من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله: أن الغل كان يتخذ من جلد، وعليه شعر فيقمل، والغل، والغلة: حرارة العطش، وكل ذلك بضم الغين، وهو بكسرها بمعنى: الحقد، والبغض.

ورحم الله من يقول: [البسيط] يا طالب العيش في أمن وفي دعة

رغدا بلا قتر صفوا بلا رنق

خلّص فؤادك من غلّ ومن حسد

الغلّ في القلب مثل الغلّ في العنق

هذا؛ وفي الكلام استعارة تمثيلية، فقد شبه الله تعالى حال الكفار في امتناعهم من الهدى، والإيمان بمن غلت يده إلى عنقه بالسلاسل، والأغلال، فأصبح مرفوعا رأسه، لا يستطيع خفضا له، ولا التفاتا، وبمن سدت الطرق في وجهه، فلم يهتد لمقصوده. وذلك بطريق الاستعارة

ص: 705

التمثيلية، ولا تنس: أنه اكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين؛ وإن كانتا مرادتين، وهذا جيد؛ لأنه لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين إلى العنق؛ اكتفى بذكر العنق عن اليدين، وهذا يعني: أن الضمير يعود إلى اليدين، وإن لم يتقدم لهما ذكر، ورجح الزمخشري عوده على الأغلال.

{فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ:} جمع: ذقن، هو من الإنسان مجمع لحييه. واللّحي (بفتح اللام):

منبت اللّحية (بكسر اللام) من الإنسان، وغيره لذا فاللحية: هي الشعر المسترسل من لحي الإنسان. قال هدبة بن خشرم يوصي امرأته حين قتل قودا في ابن عمه زيادة: [الطويل] فلا تنكحي إن فرّق الدهر بيننا

أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا

ضروبا بلحييه على زور صدره

إذا القوم هشّوا للفعال تقنّعا

{فَهُمْ مُقْمَحُونَ} أي: رافعوا رءوسهم، لا يستطيعون الإطراق؛ لأن من غلّت يده إلى ذقنه ارتفع رأسه. وهو مأخوذ مما حكاه الأصمعي، قال: يقال أقمحت الدابة: إذا جذبت لجامها لترفع رأسها، وقمح البعير قمحا: إذا رفع رأسه عند الحوض، وامتنع عن الشرب، والجمع:

قماح على غير قياس، قال بشر بن أبي خازم يصف سفينة:[الوافر] ونحن على جوانبها قعود

نغضّ الطرف كالإبل القماح

والإقماح: رفع الرأس، وغض البصر، ولم تذكر هذه المادة في غير هذه السورة. هذا؛ والإقناع المذكور في الآية رقم [43] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام بقوله:{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ} معناه: رفع الرأس وشخوص البصر إلى السماء. هذا؛ وفي الآية فن القلب؛ إذ أصل الكلام: جعلنا أعناقهم في الأغلال. وهذا باب مشهور في كلام العرب.

الإعراب: {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {جَعَلْنا:} فعل، وفاعل. {فِي أَعْناقِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{أَغْلالاً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» . وقيل: الجار والمجرور في محل نصب مفعول: {جَعَلْنا} الثاني تقدم على الأول، وليس بشيء؛ لأن:{جَعَلْنا} بمعنى: وضعنا. {أَغْلالاً:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ تعليل لعدم إيمانهم، لا محل لها. {فَهِيَ:} الفاء: حرف عطف. (هي): مبتدأ. {إِلَى الْأَذْقانِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنّا جَعَلْنا..} . إلخ. لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{فَهُمْ مُقْمَحُونَ} معطوفة عليها أيضا، لا محل لها.

ص: 706

{وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)}

الشرح: {وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا..} . إلخ: قال أبو السعود، وغيره: وهذا تتمة للتمثيل، وتكميل له؛ أي: لما في الآية السابقة. انتهى. والمعنى: منعناهم عن الإيمان بموانع، فهم لا يستطيعون الخروج من الكفر إلى الإيمان، كالمضروب أمامه وخلفه بالأسداد، فيكون في الكلام استعارة كما في الآية السابقة. {فَأَغْشَيْناهُمْ:} أي: فأغشينا أبصارهم؛ أي: غطيناها، وجعلنا عليها غشاوة. فهي معنوية مستعارة لعدم الاهتداء، ورؤية طريق الحق والصواب. وقرئ:

«(فأغشيناهم)» بالعين من: العشاء في العين، وهو ضعف البصر؛ حتى لا تبصر في الليل، قالت عاتكة عمة النبي صلى الله عليه وسلم:[مجزوء الكامل] بعكاظ يعشي النّاظري

ن إذا هم لمحوا شعاعه

{فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي: طريق الهدى، والحق؛ وإن كانت لهم عيون، كما قال تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} الآية رقم [18] من سورة (البقرة).

هذا؛ وقيل: نزلت الآيتان في أبي جهل، وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل-لعنه الله- حلف: لئن رأى محمدا يصلي ليرضخنّ رأسه بحجر، فلما رآه؛ ذهب، فرفع حجرا ليرميه، فلما أومأ إليه رجعت يده إلى عنقه، والتصق الحجر بيده. قاله ابن عباس، وعكرمة، وغيرهما، فهو على هذا تمثيل، أي هو بمنزلة من غلّت يده إلى عنقه. فلما عاد إلى صاحبيه أخبرهما بما حل به، فقال الرجل الثاني، وهو الوليد بن المغيرة: أنا أرضخ رأسه، فأتاه، وهو يصلي على حالته ليرميه بالحجر، فأعمى الله بصره، فجعل يسمع صوته، ولا يراه، فرجع إلى أصحابه، فلم يرهم حتى نادوه، فقال: والله ما رأيته، ولقد سمعت صوته. فقال الثالث: والله لأشدخنّ أنا رأسه، ثم أخذ الحجر، وانطلق، فرجع القهقرى ينكص على عقبيه حتى خر على قفاه مغشيا عليه، فقيل له:

ما شأنك؟ قال: شأني عظيم، رأيت الرجل، فلمّا دنوت منه، فإذا فحل من الإبل يخطر بذنبه، ما رأيت قط فحلا أعظم منه، حال بيني وبينه، فو اللات والعزى لو دنوت منه لأكلني! فأنزل الله تعالى:{إِنّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً..} . إلخ. انتهى. قرطبي ومثله في الكشاف، والخازن.

تنبيه: في ليلة الهجرة المباركة التي تآمرت فيها كفار قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاطوا في بيته وأخذوا يرصدونه وترقبوا خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد، أمر ابن عمه عليا أن ينام في فراشه، وأخذ كفا من تراب، فرماهم به، وخرج من بيته، وهو يقرأ يس والقرآن الحكيم

إلخ، إلى قوله تعالى:{فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ،} فأعمى الله أبصارهم، فلم يبصروه حين خرج، وهذا شيء مشهور ومسطور.

ص: 707

الإعراب: {وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {مِنْ بَيْنِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم على الأول. {بَيْنِ:} مضاف، و:

{أَيْدِيهِمْ:} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء، والهاء في محل جر بالإضافة. {سَدًّا:} مفعول به. {وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:

{وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على جملة: {جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.

(أغشيناهم): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {خَلْفِهِمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {لا:} نافية. {يُبْصِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. وقيل: تعليلية. ولا وجه له.

{وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10)}

الشرح: (سواء): مصدر بمعنى الاستواء، فلذا صح الإخبار به عن متعدد. وقيل: هو اسم بمعنى: مستو، وهو لا يثنى، ولا يجمع. قالوا: هما، وهم سواء. فإذا أرادوا لفظ المثنى؛ قالوا: سيان. وإن شئت؛ قلت: سواءان، وفي الجمع: هم أسواء، وهذا كله ضعيف، ونادر.

وأيضا على غير القياس: هم سواس، وسواسية، أي: متساويان ومتساوون. هذا؛ ويأتي بمعنى الوسط، كما في قوله تعالى:{فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ} رقم [55] من سورة (الصافات)، ويأتي بمعنى: العدل، كما في قوله تعالى:{فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ} رقم [58] من سورة (الأنفال) وسواء الشيء غيره، قال الأعشى:[الطويل] تجانف عن جوّ اليمامة ناقتي

وما عدلت عن أهلها لسوائكا

وسواء السبيل: ما استقام منه، وسواء الجبل: ذروته. الإنذار: الإعلام، والتخويف من عذاب الله. {لا يُؤْمِنُونَ:} المعنى: الإجمالي للآية الكريمة إنذارك وعدمه لكفار مكة سواء، فهم لا يؤمنون. والحمد لله قد آمن أولادهم، وأحفادهم.

الإعراب: (سواء): خبر مقدم، وفاعله ضمير مستتر فيه. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: (سواء). {أَأَنْذَرْتَهُمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتسوية. (أنذرتهم): فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية وهمزة التسوية في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر. {أَمْ:} حرف عطف معادل لهمزة التسوية. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تُنْذِرْهُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: {لَمْ} . والفاعل تقديره: «أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية هذه مؤولة أيضا بمصدر معطوف على سابقه، وتقدير الكلام: إنذارك، وعدمه سواء. هذا؛ وجوز اعتبار (سواء) مبتدأ، والمصدر المؤول خبرا عنه. والأول أقوى؛ لأن سواء نكرة لما ترى، ولا مسوغ لوقوعه

ص: 708

مبتدأ. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها بالواو العاطفة، فهي في محل رفع أيضا، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها، والجملة الفعلية:{لا يُؤْمِنُونَ..} . إلخ في محل نصب حال مؤكدة لمضمون الجملة قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها، ورجحه ابن هشام في المغني.

هذا؛ وينبغي أن تعلم: أن الآية مذكورة بحروفها في الآية رقم [6] من سورة (البقرة)، فلذا لم يتكلم عنها أحد من المفسرين، وإنما أحالوا على سورة (البقرة)، والله الموفق، والمعين.

{إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اِتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}

الشرح: {إِنَّما تُنْذِرُ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي: إنما ينتفع بإنذارك، وتخويفك يا محمد المؤمنون، من اتبع القرآن، وعمل بما فيه. {وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} أي:

خاف الله بالغيب؛ حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى، فهو يعلم أن الله مطلع عليه، وعالم بما يفعل. هذا؛ والغيب: ما غاب عن الإنسان، ولم تدركه حواسه، قال الشاعر:[الطويل] وبالغيب آمنّا وقد كان قومنا

يصلّون للأوثان قبل محمد

هذا؛ وانظر الخوف في الآية رقم [28] من سورة (فاطر). هذا؛ والخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، وهو المراد منه بخشية عباد الله المؤمنين المتكررة في القرآن الكريم. هذا؛ والماضي: خشي، والمضارع: يخشى، والمصدر: خشية، والرجل خشيان، والمرأة خشيا. وهذا المكان أخشى من ذلك؛ أي: أشد خوفا. وقد يأتي الفعل: «خشي» بمعنى: علم القلبية، قال الشاعر:[الكامل] ولقد خشيت بأنّ من تبع الهدى

سكن الجنان مع النّبيّ محمد

قالوا: معناه: علمت. وقوله تعالى في سورة (الكهف) حكاية عن قول الخضر: {فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً} قال الأخفش: معناه: كرهنا. {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ:} لذنوبه، وستر لعيوبه.

{وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} أي: كثير، واسع، حسن، جميل. كما قال تعالى في سورة الملك:{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} . هذا؛ والبشارة عبارة عن الخبر السار؛ الذي يظهر على بشرة الوجه أثر الفرح به، ولما كان ذلك الفرح والسرور يوجبان تغيّر بشرة الوجه؛ كان كذلك الحزن، والغم، يظهر أثرهما على الوجه، وهو الكمودة، التي تعلو الوجه عند حصول الغم، والحزن، فثبت بهذا: أن البشارة لفظ مشترك بين الخبر السار، والخبر المحزن، وعليه قوله تعالى في سورة (النحل):{وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} . ولكن قد تستعمل البشارة بالشر، وبما يسوء على سبيل التهكم، والاستهزاء، كما في قوله تعالى:

{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} . وهو كثير في القرآن الكريم.

ص: 709

الإعراب: {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {تُنْذِرُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» .

{مَنِ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {اِتَّبَعَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنِ،} وهو العائد، أو الرابط. {الذِّكْرَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة {مَنِ} أو صفتها، وجملة:{وَخَشِيَ الرَّحْمنَ} معطوفة عليها. {بِالْغَيْبِ:}

متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو المفعول، والجملة الفعلية:{إِنَّما تُنْذِرُ..} . إلخ تعليل لتسوية الإنذار وعدمه للكافرين. {فَبَشِّرْهُ:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا وواقعا {فَبَشِّرْهُ} . (بشره): فعل أمر، والفاعل تقديره:

«أنت» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها. {بِمَغْفِرَةٍ:} متعلقان بما قبلهما.

{وَأَجْرٍ:} معطوف على ما قبله. {كَرِيمٍ:} صفة له.

{إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)}

الشرح: {إِنّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى:} يوم القيامة للحشر والنشر والحساب والجزاء، أو المراد:

نحيي القلوب الميتة بالإيمان، على حد قوله تعالى في الآية رقم [122] من سورة (الأنعام):{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ..} . إلخ. {وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا} أي: من الأعمال، خيرها، وشرها، صالحها، وسيئها، فآثار المرء التي تبقى، وتذكر بعد الإنسان من خير، أو شر يجازى عليها: من أثر حسن، كعلم علموه، أو كتاب صنفوه، أو وقف وقفوه، أو بناء بنوه، من مسجد، أو مدرسة، أو قنطرة يعبر الناس فوقها، مما تركوه من بعدهم مما تقدم يجري لهم ثوابه وأجره بعد موتهم. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، أو صدقة جارية من بعده» . أخرجه مسلم، أما السّيّئ الذي يسجل عليه وزره بعد موته: كوظيفة وظفها بعض الفاسدين المفسدين على المسلمين، أو بناء بناه تجري فيه المفاسد، مثل المقاصف، التي تقع المعاصي فيها من قمار، وشرب الخمور، والكازينات المعدة للرقص، والمخزيات، وما يبنى على شواطئ البحار، والأنهار للدعارة، والخلاعة، وكل ما يغضب الواحد القهار، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [62] من سورة (الأحزاب)، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ وقيل: إن المراد ب: (آثارهم) خطاهم إلى المساجد. قال النحاس: وهذا أولى ما قيل فيه؛ لأنه قال: إن الآية نزلت في ذلك؛ لأن الأنصار كانت منازلهم بعيدة عن المسجد. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الرجل في جماعة تضعّف على

ص: 710

صلاته في بيته، وفي سوقه، خمسا وعشرين ضعفا، وذلك أنّه إذا توضأ، فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلاّ الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلّى لم تزل الملائكة تصلّي عليه ما دام في مصلاّه ما لم يحدث

إلخ». رواه البخاري. وعن ابن عمر-رضي الله عنهما-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة» . رواه مالك، والبخاري، ومسلم، والنسائي، والترمذي، وهذا هو المفتى به، والمشهور عند المسلمين، وخذ ما يلي:

فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم:«إنّه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد» . قالوا: نعم يا رسول الله! قد أردنا ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم:«يا بني سلمة! دياركم تكتاب آثاركم! دياركم تكتاب آثاركم!» . أخرجه الإمام مسلم والإمام أحمد. والمعنى: الزموا دياركم. والفعل المضارع مجزوم بهذا المقدر.

وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم من المسجد، فنزلت:{وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ} فأقاموا في مكانهم، وقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا. رواه الحافظ البزار. هذا؛ وقال قتادة-رحمه الله تعالى-: لو كان الله عز وجل-مغفلا شيئا من شأنك يا بن آدم؛ أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره، وعمله كله؛ حتى أحصى هذا الأثر، فيما هو من طاعة الله تعالى، أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى؛ فليفعل. انتهى. من القرطبي ومختصر ابن كثير وغيرهما. هذا؛ والأثر: الأجل، وخذ ما يلي:

فعن أنس-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسّأ له في أثره؛ فليصل رحمه» . رواه البخاري، ومسلم. قال في الفتح: وسمي الأجل أثرا؛ لأنه يتبع العمر. قال زهير بن أبي سلمى: [البسيط] والمرء ما عاش ممدود له أمل

لا ينقضي العمر حتّى ينتهي الأثر

{وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ} أي: حفظنا كل شيء، وعددناه، وأثبتناه في اللوح المحفوظ، فهو مسطور، ومضبوط، لا يطرأ محو، ولا تغيير، ولا تبديل عليه، والإمام: الكتاب الذي يسجل فيه عمل الإنسان، وبه قيل في قوله تعالى:{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} . الآية رقم [71] من سورة (الإسراء)، أي: بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير، أو شر، كما قال تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ} . وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ..} . إلخ. الآية رقم [49] من سورة (الكهف)، ويقال له:{اِقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} الآية رقم [14] من سورة (الإسراء).

ص: 711

الإعراب: {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمه. {نَحْنُ:} ضمير منفصل لا محل له.، أو هو تأكيد لاسم (إنّ) على المحل، أو هو مبتدأ. {نُحْيِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ) على الوجهين الأولين في الضمير، وفي محل رفع خبره على اعتباره مبتدأ، فتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر (إنّ). {الْمَوْتى:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. (نكتاب): مضارع، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير:

نكتاب الذي، أو شيئا قدموه. (آثارهم): معطوف على {ما قَدَّمُوا،} والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{وَكُلَّ:} الواو: حرف استئناف. (كل): منصوب على الاشتغال بفعل محذوف، يفسره المذكور بعده، ومثله قوله تعالى في الآية رقم [13] من سورة (الإسراء):{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ..} . إلخ. {أَحْصَيْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة لا محل لها؛ لأنها مفسرة لجملة مستأنفة في التقدير. {فِي إِمامٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُبِينٍ:} صفة {إِمامٍ} .

{وَاِضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)}

الشرح: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً:} الخطاب لسيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم، والمضروب لهم كفار مكة. {أَصْحابَ الْقَرْيَةِ:} المراد به أنطاكية في قول جميع المفسرين، فيما ذكر الماوردي.

{إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ} أي: الذين أرسلهم عيسى على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، إلى:

«أنطاكية» بكسر الهمزة وفتحها.

هذا؛ وأصحاب جمع: صاحب، وهو هنا بمعنى: المالك، والصاحب يكون بمعنى الصديق، والزوج، ونحوه. وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو كل من جالسه في حياته، ولو ساعة واحدة بشرط أن يكون مسلما موحدا. ويجمع على أصحاب، وصحب، وصحاب، وصحابة، وصحبة، وصحبان، ثم يجمع أصحاب على أصاحيب أيضا، ثم يخفف، فيقال: أصاحب.

أما القرية: فهي اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وهو يطلق على المدينة الكبيرة، وغيرها، كيف لا؟ وقد جعل الله مكة المكرمة أم القرى في قوله تعالى:{وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها} الآية رقم [92] من سورة (الأنعام). كما تطلق على الضيعة الصغيرة، وهي مأخوذة من قريت الماء في المكان: جمعته. وفي القاموس المحيط: القرية: بكسر القاف، وفتحها، والنسبة إليها: قرويّ وقرئيّ والفتح أقوى.

ص: 712

وأما المثل في هذه الآية ونحوها، فهو عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر؛ بينهما مشابهة؛ ليتبين أحدهما من الآخر، ويصوره. وقيل: هو تشبيه شيء بشيء آخر. وبالجملة:

هو القول السائر بين الناس، والذي فيه غرابة من بعض الوجوه، والممثل بمضربه. أي: هو الحالة الأصلية، التي ورد الكلام فيها. وما أكثر الأمثال في اللغة العربية، علما بأن الأمثال لا تغير:

تذكيرا، وتأنيثا، إفرادا، وتثنية، وجمعا؛ بل ينظر فيها دائما إلى مورد المثل، أي: أصله. مثل:

(الصّيف ضيّعت اللّبن). فإنه يضرب لكل من فرط في تحصيل شيء في أوانه، ثم طلبه بعد فواته.

الإعراب: {وَاضْرِبْ:} الواو: حرف عطف. (اضرب): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه، تقديره:

«أنت» . {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان به. وقيل: متعلقان بمحذوف حال. ولا وجه له. {مَثَلاً:}

مفعول به أول. {أَصْحابَ:} مفعول به ثان، وصحح «الجمل» العكس. و {أَصْحابَ} مضاف، و {الْقَرْيَةِ} مضاف إليه. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب بدل من {أَصْحابَ الْقَرْيَةِ} . {جاءَهَا:} ماض، ومفعوله. {الْمُرْسَلُونَ

:} فاعل مرفوع إلخ، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:{وَاضْرِبْ..} . إلخ معطوفة على ما تضمنته الآيات السابقة من الكلام على كفار قريش، لا محل لها، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

تنبيه: قال مكي-رحمه الله تعالى-: أصح ما يعطي القياس، والنظر في {مَثَلاً أَصْحابَ:}

أنهما مفعولان ل: (اضرب)، دليله: قوله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ} الآية رقم [24] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. فلا اختلاف: أن {مَثَلُ} ابتداء، و {كَماءٍ} خبره، فهذا ابتداء، وخبر بلا شك، ثم قال تعالى في موضع آخر:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ..} . إلخ الآية رقم [45] من سورة (الكهف)، فدخل (اضرب) على الابتداء، والخبر، فعمل في الابتداء، ونصبه، فلا بد أن يعمل في الخبر أيضا؛ لأن كل فعل دخل على الابتداء، والخبر، فعمل في الابتداء، فلا بد أن يعمل في الخبر؛ إذ هو هو، فقد تعدى (اضرب)؛ الذي هو لتمثيل الأمثال إلى مفعولين بلا اختلاف في هذا، فوجب أن يجري في غير هذا الموضع على ذلك، فيكون قوله تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ،} مفعولين ل: (اضرب)، كما كان في دخوله على الابتداء، والخبر، وقد قيل: إن {أَصْحابَ} بدل من «مثل» وتقديره: واضرب لهم مثلا «مثل» أصحاب، فالمثل الثاني بدل من الأول، ثم حذف المضاف. انتهى. بحروفه.

{إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)}

الشرح: {إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ:} اسمهما: يوحنا، وبولس. وقيل: غير ذلك. هذا؛ وأسند سبحانه وتعالى الإرسال إلى نفسه؛ لأن عيسى أرسلهما بأمره، جلت قدرته، وتعالت حكمته.

{فَكَذَّبُوهُما:} قيل: ضربوهما، وسجنوهما. {فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ} أي: قوينا، وشددنا أمر الاثنين

ص: 713

برسول ثالث، واسمه: شمعون الصفا بن لاوي. ويقرأ الفعل بالتشديد، والتخفيف، وهما بمعنى واحد. وقيل: التخفيف بمعنى: غلبنا وقهرنا، ومنه قوله تعالى في سورة (ص) رقم [23]:

{وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ} . والتشديد بمعنى: قوينا، وكثرنا.

وخذ القصة بما يلي: أرسل عيسى-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-رسولين من الحواريين، اسمهما: يوحنا، وبولس إلى مدينة أنطاكية، فلقيا رجلا يرعى غنيمات له، وهو حبيب النجار صاحب:«يس» فدعوه إلى عبادة الله تعالى، وقالا: نحن رسولا عيسى ندعوك إلى عبادة الله تعالى. فطالبهما بالمعجزة، فقالا: نحن نشفي المرضى، وكان له ابن مريض منذ سنتين، فمسحاه، فقام بإذن الله صحيحا، فآمن الرجل بالله تعالى، ففشا أمرهما، وشفيا كثيرا من المرضى، فأرسل الملك إليهما، وكان يعبد الأصنام، فسألهما عن حالهما، وما يريدان، فقالا: نحن رسولا عيسى، فقال: وما آيتكما؟ قالا: نبرئ الأكمه، والأبرص، ونبرئ المريض بإذن الله، وندعوك إلى عبادة الله، وتوحيده. فحسبهما الملك، وجلدهما مائة جلدة، فانتهى الخبر إلى عيسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فأرسل ثالثا هو شمعون الصفا رأس الحواريين؛ لنصرهما.

فعاشر حاشية الملك حتى تمكن منهم، واستأنسوا به، ورفعوا حديثه إلى الملك، فأنس به، وأظهر موافقته في دينه، فرضي الملك طريقته، ثم قال يوما للملك: بلغني: أنك حبست رجلين دعواك إلى الله، فلو سألت عنهما ما وراءهما؟ فقال: إن الغضب حال بيني، وبين سؤالهما! قال: فلو أحضرتهما، فأمر بذلك، فقال لهما شمعون: ما برهانكما على ما تدعيان؟ فقالا:

نبرئ الأكمه، والأبرص، فجيء بغلام ممسوح العينين، موضع عينيه كالجبهة، فدعوا ربهما، فانشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من طين، فوضعاهما في خديه، فصارتا مقلتين يبصر بهما، فعجب الملك، وقال: إن هاهنا غلاما مات منذ سبعة أيام؛ ولم أدفنه حتى يجيء أبوه، فهل يحييه ربكما؟ فدعوا الله علانية، ودعاه شمعون سرا، فقام الميت حيا، فقال للناس: إني مت منذ سبعة أيام فوجدت مشركا، فأدخلت في سبعة أودية من النار، فأحذركم ما أنتم فيه، فآمنوا بالله! ثم فتحت أبواب السماء، فرأيت شابا، حسن الوجه، يشفع لهؤلاء الثلاثة: شمعون، وصاحبيه، حتى أحياني الله، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى رسول الله، وكلمته، وأن هؤلاء هم رسل الله. فقالوا له: وهذا شمعون أيضا معهم؟ فقال: نعم، وهو أفضلهم، فأعلمهم شمعون: أنه رسول المسيح إليهم، فأثر قوله في الملك، فدعاه إلى الله، فآمن الملك في قوم كثير، وكفر آخرون.

وحكى القشيري: أن الملك آمن، ولم يؤمن قومه، وصاح جبريل صيحة مات كل من بقي من الكفار. وروي: أن عيسى لما أمرهم أن يذهبوا إلى تلك القرية، قالوا: يا نبي الله! إنا لا نعرف أن نتكلم بألسنتهم، ولغاتهم! فدعا الله لهم، فناموا بمكانهم، فهبوا من نومتهم، وقد

ص: 714

حملتهم الملائكة، فألقتهم بأرض أنطاكية، فكلم كل واحد صاحبه بلغة القوم. فذلك قوله تعالى:{وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} . انتهى. قرطبي ونحوه في الخازن، والكشاف.

الإعراب: {إِذْ:} بدل من سابقتها، فهي في محل نصب مثلها. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل.

{إِلَيْهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني تقدم على الأول.

{اِثْنَيْنِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بالمثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها.

{فَكَذَّبُوهُما:} فعل، وفاعل، ومفعول به. والميم والألف حرفان دالان على التثنية، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها. (عززنا): فعل، وفاعل، والمفعول محذوف؛ إذ التقدير: فعززناهما. {بِثالِثٍ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر أيضا. (قالوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} (إنّ) حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُرْسَلُونَ:} خبر (إنّ) مرفوع إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{فَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها أيضا.

{قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ (15)}

الشرح: {قالُوا} أي: أهل القرية. {ما أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا:} تأكلون الطعام مثلنا، وتمشون في الأسواق، لا مزية لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدعون. وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة، وقد ذكر الله ذلك عنهم في كثير من آيات القرآن. {وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ} أي: من وحي يأمر به، وينهى. {إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَكْذِبُونَ:} في دعوى الرسالة، وتفترون شيئا لم يأذن به الله.

هذا؛ و {بَشَرٌ} يطلق على الإنسان ذكرا كان أو أنثى، مفردا كان، أو جمعا، مثل كلمة:

الفلك تطلق على المفرد، والجمع. وسمّي بنو آدم: بشرا لبدوّ بشرتهم؛ التي هي ظاهر الجلد، بخلاف أكثر المخلوقات، فإنها مكسوة بالشعر، أو بالصوف، أو بالريش. هذا؛ و {بَشَرٌ} يطلق على الواحد، كما في قوله تعالى:{فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا} الآية رقم [17] من سورة (مريم)، ولذا ثني في قوله تعالى:{فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا} . الآية رقم [47] من سورة (المؤمنون)، ويطلق على الجمع، كما في قوله تعالى:{فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً} الآية رقم [26] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.

وأما (مثل) فهو بكسر الميم، وسكون الثاء، ومثله: مثيل، وشبه، وشبيه، وهو اسم متوغل في الإبهام، فلا يتعرف بإضافته إلى الضمير، ونحوه من المعارف، ولذلك نعتت به النكرة في قوله تعالى حكاية عن قول فرعون وقومه:{أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ} . ويوصف به

ص: 715

المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، وهو واضح في مواضعه. وتستعمل على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الشبيه، كما في الآية الكريمة، ونحوها. والثاني: بمعنى نفس الشيء، وذاته، كما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} عند بعضهم، حيث قال: المعنى: ليس كذاته شيء. والثالث: زائدة، كما في قوله تعالى:{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} أي:

بما آمنتم به.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {ما:} نافية. {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {بَشَرٌ:} خبر المبتدأ.

{مِثْلُنا:} صفة: {بَشَرٌ،} و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {أَنْزَلَ:} فعل ماض. {الرَّحْمنُ:}

فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {الرَّحْمنُ:}

حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {أَنْتُمْ:}

مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {تَكْذِبُونَ:} فعل مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)}

الشرح: {قالُوا} أي: الرسل. {رَبُّنا يَعْلَمُ إِنّا..} . إلخ: أي: قالوا لهم مجيبين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة؛ لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا، وينصرنا عليكم، وستعلمون من تكون له عاقبة الدار، وإنما أكد الكلام هنا باللام بخلافه في قوله:{إِنّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} لأن الأول ابتداء إخبار، والثاني جواب عن إنكار، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [3]. وقولهم:{رَبُّنا يَعْلَمُ} جار مجرى القسم في التوكيد، مثل قولهم: شهد الله، وعلم الله.

{وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ:} وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغا واضحا جليا، لا غموض فيه، فإن آمنتم؛ فلكم السعادة في جنات عدن، تجري من تحتها الأنهار، وإن كذبتم؛ فلكم الشقاوة في النار، وبئس القرار! وهذا؛ وعيد لهم. قاله أبو حيان، ووصف {الْبَلاغُ} ب:{الْمُبِينُ؛} لأنه الواضح، بالآيات الشاهدة بصحة الإرسال، وهي ما شاهدوه من إبراء الأكمه، والأبرص، وإحياء الميت، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {رَبُّنا:} مبتدأ. و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَعْلَمُ:} فعل مضارع،

ص: 716

والفاعل يعود إلى {رَبُّنا} وهو معلق عن العمل لفظا بسبب لام الابتداء، ولذا كسرت همزة (إنّ) قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:[الرجز] وكسروا من بعد فعل علّقا

باللاّم كاعلم إنّه لذو تقى

{إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت ألفها دليلا عليها.

{إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {لَمُرْسَلُونَ:} اللام: هي المزحلقة. (مرسلون):

خبر (إنّ) مرفوع إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ في محل نصب سدت مسد مفعول:

{يَعْلَمُ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{رَبُّنا يَعْلَمُ..} . إلخ، في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {عَلَيْنا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {إِلاّ:} حرف حصر. {الْبَلاغُ:} مبتدأ مؤخر. {الْمُبِينُ:} صفة له، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول أيضا، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من (نا) فلست مفندا، ويكون الرابط: الواو، والضمير.

{قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18)}

الشرح: {قالُوا إِنّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ} أي: تشاءمنا بكم، وبدعوتكم القبيحة إلى الآن، وترك عبادة الأوثان. قال المفسرون: ووجه تشاؤمهم بالرسل: أنهم دعوهم إلى دين غير ما يدينون به، فاستغربوه، واستقبحوه، ونفرت منه طبائعهم المعوجة، فشاءموا بمن دعا إليه، كأنهم قالوا:

أعاذنا الله مما تدعوننا إليه! وعادة الجهال أن يتيمنوا بكل شيء مالوا إليه، وقبلته طباعهم، ويتشاءموا بما نفروا منه، وكرهوه، فإن أصابهم بلاء، أو نعمة؛ قالوا: بشؤم هذا؛ وبركة ذاك.

وقيل: حبس عنهم المطر ثلاث سنين، فقالوا: هذا بشؤمكم. ويقال: إنهم أقاموا ينذرونهم عشر سنين. هذا؛ وقرئ: {اِطَّيَّرْنا} كما في الآية رقم [47] من سورة (النمل). {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا} أي:

تكفوا عن دعوتكم إيانا إلى ما تعبدون. {لَنَرْجُمَنَّكُمْ} أي: لنقتلنكم. وقيل: المعنى: لنرجمنكم بالحجارة. وقيل: المعنى: لنشتمنكم بالقبيح من الكلام. {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ:} وليصيبنكم. {مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ:} عقوبة شديدة. قيل: أرادوا الحرق بالنار.

الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {إِنّا:} (إنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها. {تَطَيَّرْنا:} فعل، وفاعل. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:

{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {لَمْ:} حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَنْتَهُوا:} مجزوم ب: {لَمْ،} وهو فعل الشرط،

ص: 717

وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَنَرْجُمَنَّكُمْ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المقدر، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، على القاعدة:«إذا اجتمع شرط وقسم فالجواب للسابق منهما» . قال ابن مالك في ألفيته: [الرجز] واحذف لدى اجتماع شرط وقسم

جواب ما أخّرت فهو ملتزم

والكلام {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا..} . إلخ كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وإعرابها مثلها بلا فارق.

{قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)}

الشرح: {قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: سبب شؤمكم معكم، وهو سوء عقيدتكم، وخبث أعمالكم، وعصيانكم لربكم. المعنى: أصابكم الشؤم من قبلكم. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: طائرهم: ما قضي لهم، وقدر عليهم من عند الله. هذا؛ وكانت العرب في الجاهلية أكثر الناس طيرة، وكان أحدهم إذا أراد سفرا؛ نفّر الطير صباحا، فإن طار يمنة؛ تيمن، وسار، وإن طار يسرة؛ أي: شمالا؛ رجع، وتشاءم، وإن طار يمنة؛ يسمونه: السانح. وإن طار يسرة؛ يسمونه البارح. والعرب تتيمن بالسانح، وتتشاءم بالبارح. قاله الجوهري. وقال غيره: للعرب في ذلك طريقان، فأهل نجد يتيمنون بالسانح دون البارح، وأهل الحجاز بالعكس. قال الشاعر:[الطويل] على عن يميني مرّت الطّير سنّحا

وكيف سنوح واليمين قطيع؟

وهذا هو الشاهد رقم (266) من كتابنا فتح القريب المجيب، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطير، ويتمدح بتركه، قال شاعر منهم:[الطويل] وما عاجلات الطير تدني من الفتى

نجاحا ولا عن ريثهنّ قصور

وقال آخر، وأظنه: لبيد بن ربيعة العامري الصحابي، رضي الله عنه:[الطويل] لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى

ولا زاجرات الطير ما الله صانع؟

وقد أبطل الإسلام ذلك، فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر» . أخرجه البخاري. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الطّيرة شرك، الطّيرة شرك، الطّيرة شرك» .

ص: 718

وأخيرا: فطائر الإنسان: عمله الذي قلده، قال تعالى:{وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الآية رقم [13] من سورة (الإسراء).

{أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ:} شرط جوابه محذوف لدلالة السياق عليه، التقدير: أإن ذكرناكم، ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله؛ تشاءمتم، وتوعدتمونا بالرجم، والتعذيب؟! وفيه تسعة أوجه من القراءات. {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي: أنتم قوم عادتكم الإسراف في العصيان، فمن ثمّ جاءكم الشؤم. أو مسرفون في الضلال، ولذلك توعدتم، وتشاءمتم بمن يجب أن يكرم، ويتبرك به. وفي سورة (النمل) رقم [47]:{بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} . وفيها أيضا رقم [55]: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} .

الإعراب: {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {طائِرُكُمْ:} مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة. {مَعَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِنّا إِنْ:} الهمزة: حرف استفهام. (إن):

حرف شرط جازم. {ذُكِّرْتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، انظر تقديره في الشرح، والكلام في محل نصب مقول القول. {قَبْلُ:} حرف إضراب. {أَنْتُمْ:} مبتدأ. {قَوْمِ:} خبره. {لَمُسْرِفُونَ:} صفة:

{قَوْمِ} . وهذه الصفة وطئ لها بلفظ: {قَوْمِ،} فهي المرادة، لا لفظ:{قَوْمِ؛} لأنهم معلومون بأنهم {قَوْمِ،} ومثل ذلك ما ذكرته في الشرح من سورة (النمل)، والجملة الاسمية مستأنفة، وهي من مقول الرسل. وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اِتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)}

الشرح: {وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ:} آخرها؛ أي: من مكان بعيد. {رَجُلٌ يَسْعى:} يسرع في مشيه. {قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أي: الذين يدعونكم للإيمان. والمراد: رسل عيسى الذين مر ذكرهم. وينبغي أن تعلم: أن الله تعالى قدم هنا قوله: {مِنْ أَقْصَا} على: {فَرَجُلٌ} لأنه لم يكن من أقصاها، وإنما جاء منها، وفي سورة (القصص) رقم [20] وصفه بأنه من أقصاها، وهما رجلان مختلفان، وقضيتان متباينتان، فما هنا في قصة حبيب النجار، وقضية حواري عيسى، وما هناك في قضية موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

تنبيه: المراد ب: {فَرَجُلٌ} هنا هو حبيب بن مري، وكان نجارا. وقيل: هو حبيب بن إسرائيل النجار، وكان ينحت الأصنام، وهو ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبينهما ستمائة سنة، كما آمن به تبع الأكبر، وورقة بن نوفل، وبحيرا الراهب، وغيرهم، ولم يؤمن بنبي أحد إلا بعد ظهوره.

قال وهب: وكان حبيب مجذوما، ومنزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان يعكف على

ص: 719

عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوها لعلها ترحمه، وتكشف ضره، فما استجابت له-وهذا يناقض ما ذكرته في الآية رقم [25] الآتية-فلما أبصر الرسل، دعوه إلى عبادة الله تعالى، فقال: هل من آية؟ قالوا: نعم ندعو ربنا القادر، فيفرج عنك ما بك؟ فقال: إن هذا لعجب لي، أدعو هذه الآلهة سبعين سنة تفرج عني، فلم تستطع، فكيف يفرجه ربكم عني في غداة واحدة؟

قالوا: نعم، ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئا، ولا تضر. فآمن، ودعوا ربهم، فكشف الله ما به، كأن لم يكن به بأس، فحينئذ أقبل على التكسب، فإذا أمسى تصدق بنصف كسبه، وأطعم عياله نصفا، فلما هم قومه بقتل الرسل؛ جاءهم ف {قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} .

الإعراب: {وَجاءَ:} الواو: حرف استئناف. (جاء): فعل ماض. {مِنْ أَقْصَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. و {أَقْصَا} مضاف، و {الْمَدِينَةِ} مضاف إليه. {رَجُلٌ:} فاعل. {يَسْعى:}

فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى: {رَجُلٌ} . والجملة الفعلية في محل رفع صفة: {رَجُلٌ،} وجملة: {وَجاءَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قالَ:} ماض، وفاعله يعود إلى:{رَجُلٌ} . (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو.

(قوم): منادى منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة ضمير في محل جر بالإضافة، وحذف الياء هذه إنما هو بالنداء خاصة؛ لأنه لا لبس فيه، ومنهم من يثبت الياء ساكنة، فيقول: يا قومي. ومنهم من يثبتها، ويحركها بالفتحة، فيقول: يا قومي. ومنهم من يقلبها ألفا بعد فتح ما قبلها، فيقول: يا قوما. ومنهم من يقول: يا قوم بضم الميم، ففيه خمس لغات، ويزاد سادسة، وهي حذف الياء بعد قلبها ألفا، وإبقاء الفتحة على الميم دليلا عليها، فيقول: يا قوم. {اِتَّبِعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْمُرْسَلِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء إلخ، والجملة الفعلية، والندائية كلتاهما في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل نصب حال من فاعل (يسعى) المستتر، والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير:«قد» قبلها.

{اِتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}

الشرح: كرر القول {اِتَّبِعُوا} تأكيدا، وبيانا للسبب، والمعنى: اتبعوا هؤلاء الرسل الكرام الصادقين المخلصين، الذين لا يطلبون منكم أجرا على ما يدعونكم إليه من توحيد رب العالمين، وهم على هدى، وبصيرة فيما يدعونكم إليه. قيل: كان يعبد الله في غار، فلما بلغه خبر الرسل؛ أتاهم، وأظهر دينه، وقال لهم: أتسألون على هذا أجرا؟ قالوا: لا! فأقبل على قومه، و {قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} . قاله قتادة، وهذا يخالف ما ذكرته في إيمانه سابقا.

وإنما قال: {يا قَوْمِ} تأليفا لقلوبهم، واستمالة لها لقبول النصيحة، وما قاله لهم كلمة جامعة في

ص: 720

الترغيب فيهم. والمعنى: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، وتربحون صحة دينكم، فينتظم لكم خير الدنيا، والآخرة.

الإعراب: {اِتَّبِعُوا:} قال الجلال رحمه الله: هو توكيد للأول، ووافقه الجمل على ذلك، وأقول: لا بأس باعتباره بدلا من سابقه على حد الآية رقم [133] و [222] كلتاهما من سورة (الشعراء)، وفي الثانية هنا زيادة إيضاح كما في آيتي (الشعراء). {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب بدلا من: {الْمُرْسَلِينَ} قاله الجمل، وذلك بإظهار العامل، أي: إعادته، وعلى اعتبار الفعل بدلا من سابقه فهو مفعول به لهذا الفعل، وهذا هو المتبادر للأفهام. {لا:}

نافية. {يَسْئَلُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} وهو العائد، والكاف مفعول به أول. {أَجْراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَهُمْ:} الواو:

واو الحال. (هم): مبتدأ. {مُهْتَدُونَ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط: الواو، والضمير، ولا يخفى عليك: أنه روعي لفظ (من) إعادة الفاعل إليها، وروعي معناها في الجملة الاسمية الواقعة حالا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)}

الشرح: فلما قال لهم حبيب النجار ما تقدم؛ قالوا له: وأنت مخالف لديننا، ومتابع هؤلاء الرسل، ومؤمن بإلههم؟ فقال:{وَما لِيَ لا أَعْبُدُ..} . إلخ. وقيل: أضاف الفطرة إلى نفسه، والرجوع إليهم؛ لأن الفطرة أثر النعمة، وكانت عليه أظهر، والرجوع فيه معنى الزجر، فكان بهم أليق. هذا؛ وفيه تلطف في الإرشاد بإبرازه في معرض المناصحة لنفسه، وإمحاض النصح حيث أراد لهم ما أراد لها، والمراد: تقريعهم، وتوبيخهم على تركهم عبادة خالقهم، ورازقهم إلى عبادة غيره، وفي قوله:{وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تهديد، أي: فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. ومعنى {فَطَرَنِي} خلقني.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {لِيَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {لا:}

نافية. {أَعْبُدُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«أنا» . {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {فَطَرَنِي:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} وهو العائد، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{لا أَعْبُدُ..} . إلخ في محل نصب حال من ياء المتكلم، والرابط: الضمير فقط. (إليه): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.

{تُرْجَعُونَ

:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية

ص: 721

معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب حال مثلها. والجملة الاسمية:{وَما لِيَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، وعلى الاعتبارين فهي في محل نصب مقول القول؛ لأنها من مقول الرجل؛ الذي هو حبيب النجار.

{أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23)}

الشرح: {أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ:} من دون الله. {آلِهَةً:} أصناما. والمعنى: كيف أتخذ من دون الله آلهة لا تسمع، ولا تبصر، ولا تنفع ولا تضر، ولا تغني عن عابدها شيئا. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ} أي: بفقر، أو مرض، ونحو ذلك. {لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً} أي: هي في المهانة، والحقارة؛ بحيث لو أراد الله أن ينزل بي شيئا من الضر، والأذى، وشفعت لي؛ لم تنفع شفاعتهم، ولم يقدروا على إنقاذي مما أنا فيه، ولا يدفعوا عني من عذاب الله شيئا.

الإعراب: {أَأَتَّخِذُ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (أتخذ): مضارع، وفاعله:

«أنا» . {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما مفعوله الثاني، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {آلِهَةً،} كان نعتا له على مثل ما رأيت في الآية رقم [8]. {آلِهَةً:} مفعول به. {إِنْ:}

حرف شرط جازم. {يُرِدْنِ:} مضارع فعل الشرط، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. {الرَّحْمنُ:} فاعله. {بِضُرٍّ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها على مثال ما رأيت في الآية رقم [19]. {لا:} نافية. {تُغْنِ:} فعل مضارع جواب الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. {عَنِّي:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {شَفاعَتُهُمْ:} فاعل، والهاء في محل جر بالإضافة. {شَيْئاً:} مفعول به، والجملة الفعلية:{لا تُغْنِ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُنْقِذُونِ:} معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعول به. هذا؛ والآية بكاملها في محل نصب مقول القول؛ لأنها من قول الرجل المذكور في الآية رقم [20]. وقيل: الجملة الشرطية صفة: {آلِهَةً} وقيل: مستأنفة.

{إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)}

الشرح: {إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: إني إن عبدت غير الله، واتخذت الأصنام آلهة؛ لفي خسران ظاهر، وجلي؛ لأن إيثار ما لا ينفع، ولا يدفع ضرا بوجه ما على الخالق المقتدر على النفع، والضر، وإشراكه به ضلال مبين، لا يخفى على عاقل. ولما قال هذا لقومه؛ أخذوا

ص: 722

يرجمونه بالحجارة، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، وقال:{إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي: فاشهدوا لي بذلك عند الله. وقيل: الخطاب لقومه، والمعنى: إني آمنت بربكم الذي خلقكم، فاسمعوا قولي، واعملوا بنصيحتي. ولما قال لهم ذلك، وأعلن إيمانه؛ وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه. قال ابن مسعود رضي الله عنه: وطئوه بأرجلهم؛ حتى خرج قصبه من دبره.

وقيل: كانوا يرمونه بالحجارة، وهو يقول: اللهم اهد قومي؛ حتى أهلكوه، وقبره بأنطاكية.

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «سبّاق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، وصاحب (يس) ومؤمن آل فرعون» . وفي رواية ثانية: «ثلاثة ما كفروا بالله قطّ:

مؤمن آل ياسين، وعلي بن أبي طالب، وآسية امرأة فرعون». وهذا يناقض ما ذكرته في الآية رقم [20] من أنه كان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة. وهذا التناقض موجود في الكشاف، وغيره. اللهم إلا أن يقال: إنه كان موحدا، وكان يخفي إيمانه، وتوحيده، فلما جاء رسل عيسى إلى المدينة، وسمع بهم؛ أظهر إيمانه، وتوحيده. والله أعلم بحقيقة ذلك.

الإعراب: {إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {إِذاً:} حرف جواب، وجزاء مهمل لا عمل له. هذا؛ واعتباره ظرفا متعلقا ب:{مُبِينٍ،} والتنوين نائب عن الجملة التي تضاف «إذ» إليها، والتقدير: إني لفي ضلال مبين؛ إذا اتخذت آلهة من دون الله. فالمعنى يؤيد هذا الاعتبار، {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة. (في ضلال): متعلقان بمحذوف خبر (إنّ).

{مُبِينٍ:} صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية: {إِنِّي إِذاً..} . إلخ في محل نصب مقول القول.

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، وياء المتكلم اسمها. {آمَنْتُ:} فعل، وفاعل. {بِرَبِّكُمْ:}

متعلقان بالفعل قبلهما. والكاف في محل جر بالإضافة. من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنِّي..} . إلخ مؤكدة للجملة قبلها. {فَاسْمَعُونِ:} الفاء: هي الفصيحة. (اسمعون): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم المحذوفة مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كنت آمنت بربكم؛ فاشهدوا على ذلك، واسمعوا.

{قِيلَ اُدْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)}

الشرح: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ:} قيل له ذلك لما قتلوه إكراما له بدخولها كسائر الشهداء. وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة، وقال الحسن: لما أراد القوم أن يقتلوه رفعه الله إليه، وهو في الجنة، ولا يموت إلا بفناء السموات، والأرض. وهذا لم يثبت بسند صحيح. {قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ:} تمنى أن يعلم قومه أن الله تعالى غفر له، وأكرمه؛ ليرغبوا في دين الرسل. فلما قتل

ص: 723

غضب الله عز وجل له، فعجل لهم العقوبة، فأمر جبريل عليه الصلاة والسلام، فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم.

{بِما غَفَرَ لِي رَبِّي..} . إلخ: انظر الإعراب يتضح لك المعنى. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: نصح قومه في حياته بقوله: {يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} وبعد مماته بقوله:

{يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما..} . إلخ. وقال سفيان الثوري عن أبي مجلز: معنى {بِما غَفَرَ لِي رَبِّي} بإيماني بربي، وتصديقي المرسلين. ومقصوده: أنهم لو اطلعوا على ما حصل له من الثواب، والجزاء، والنعيم المقيم؛ لقادهم ذلك إلى اتباعه. فرحمه الله، ورضي عنه، فلقد كان حريصا على هداية قومه. قال قتادة: لا تلقى المؤمن إلا ناصحا، لا تلقاه غاشا، لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى؛ {قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ..} . إلخ.

وقال محمد بن إسحاق عن كعب الأحبار: أنه ذكر له (حبيب بن زيد) الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة، حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول: نعم، ثم يقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فيقول له مسيلمة-لعنه الله-أتسمع هذا؛ ولا تسمع ذاك؟! فيقول: نعم. فجعل يقطعه عضوا عضوا، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات بين يديه، فقال كعب حين قيل له: اسمه حبيب: وكان والله صاحب يس اسمه: حبيب!.

وفي هذه الآية تنبيه عظيم، ودلالة على وجوب كظم الغيظ، والحلم عن أهل الجهل، والترؤف على من أدخل نفسه في غمار الأشرار، وأهل البغي، والتشمر في تخليصه، والتلطف في افتدائه، والاشتغال بذلك عن الشماتة به، والدعاء عليه، ألا ترى كيف تمنى الخير لقتلته، والباغين له الغوائل، وهم كفرة عبدة أصنام. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {اُدْخُلِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:

«أنت» . {الْجَنَّةَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله عند بعض النحاة، وفي مقدمتهم سيبويه، والمحققون وعلى رأسهم الأخفش ينصبونه على التوسع في الكلام بإسقاط الخافض، لا على الظرفية، فهو منتصب عندهم انتصاب المفعول به على السعة، بإجراء اللازم مجرى المتعدي.

وقل مثل ذلك في: (دخلت المدينة، ونزلت البلد، وسكنت الشام). والجملة الفعلية: {اُدْخُلِ الْجَنَّةَ} في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ،} وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول، (يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه) وهذا لا غبار عليه. هذا؛ وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وقيل قول. وقيل: الجار والمجرور المقدر ب: «له» في محل رفع نائب فاعل، والمعتمد الأول، وأيده ابن هشام في المغني؛ حيث قال: إن الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات، ولهذا تقع مبتدأ، نحو:

ص: 724

(لا حول، ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة) ونحو: (زعموا مطية الكذب)، والجملة الفعلية:

{قِيلَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (رجل) تقديره:«هو» . (يا): حرف تنبيه. وقيل:

أداة النداء، والمنادى محذوف، والمعتمد الأول. (ليت): حرف مشبه بالفعل. {قَوْمِي:} اسم (ليت) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة إلخ، والياء ضمير متصل في محل نصب جر بالإضافة، وجملة:{يَعْلَمُونَ} في محل رفع خبر: (ليت)، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ، مستأنفة، لا محل لها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {يَعْلَمُونَ،} وهما في المعنى مفعوله. {غَفَرَ:} فعل ماض. {لِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {رَبِّي:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: يعلمون بالذي غفره لي ربي. هذا؛ وأجيز اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{يَعْلَمُونَ،} التقدير: يعلمون بغفران ربي لي ذنوبي.

هذا؛ وأجاز الفراء اعتبار (ما) استفهامية فيها معنى التعجب، كأنه قال: ليت قومي يعلمون بأي شيء غفر لي ربي. واعترضه الكسائي، فقال: لو صح هذا؛ لقال: «بم» من غير ألف، كقوله تعالى:{بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} . وقال الفراء: يجوز أن يقال: «بما» بالألف، وهو استفهام، وأنشد فيه أبياتا، أقول من ذلك قول حسان رضي الله عنه:[الوافر] على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في دمان؟

وهذا هو الشاهد رقم [556] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وأيضا قول كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو الشاهد [557] من كتابنا المذكور:[البسيط] أنّا قتلنا بقتلانا سراتكمو

أهل اللّواء ففيما يكثر القيل؟

وعليه يكون الإعراب كما يلي: الباء: حرف جر، و (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل بعدهما، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به، وعليه فالفعل:{يَعْلَمُونَ} معلق عن العمل لفظا ب: (ما) الاستفهامية. {وَجَعَلَنِي:}

الواو: حرف عطف. (جعلني): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {رَبِّي،} والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات، التي رأيتها في فعلها. {مِنَ الْمُكْرَمِينَ:} متعلقان بما قبلهما، وهما في المعنى مفعوله الثاني، وأجيز اعتبار الباء زائدة على جميع الاعتبارات. تأمل.

ص: 725

{وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنّا مُنْزِلِينَ (28)}

الشرح: {وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ..} . إلخ: الضمير يعود إلى حبيب النجار الذي كان الكلام فيه، يخبر الله تعالى أنه انتقم لحبيب من قومه بعد قتلهم إياه، غضبا منه تبارك وتعالى عليهم؛ لأنهم كذبوا رسله، وقتلوا وليه. ويذكر الله عز وجل: أنه ما أنزل عليهم، وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم؛ بل الأمر كان أيسر من ذلك.

قاله ابن مسعود، رضي الله عنه. انتهى. مختصر ابن كثير.

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: فلم أنزل الجنود من السماء يوم بدر، والخندق؟ فقال:{فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها،} وقال جل ذكره: {مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} . وقال تعالت حكمته: {أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} .

وقال تمت كلمته: {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ؟} . الأولى من سورة (الأحزاب)، والثانية من سورة (الأنفال)، والثالثة، والرابعة من سورة (آل عمران).

قلت: إنما كان يكفي ملك واحد، فقد أهلكت مدائن قوم لوط بريشة من جناح جبريل، وبلاد ثمود، وقوم صالح بصيحة، ولكن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بكل شيء على سائر الأنبياء، وأولي العزم من الرسل، فضلا عن حبيب النجار، وأولاه من أسباب الكرامة، والإعزاز ما لم يوله أحدا، فمن ذلك: أنه أنزل له جنودا من السماء، وكأنه تعالى أشار بقوله:{وَما أَنْزَلْنا،} {وَما كُنّا مُنْزِلِينَ} إلى أن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهّل لها إلا مثلك، وما كنا نفعل لغيرك يا محمد!. انتهى. بتصرف.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَنْزَلْنا:} فعل، وفاعل. {عَلى قَوْمِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ بَعْدِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {قَوْمِهِ} وهو أولى من تعليقهما بالفعل السابق، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ:}

حرف جر صلة. {جُنْدٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صفة:

{جُنْدٍ،} والجملة الفعلية: {وَما أَنْزَلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه. {مُنْزِلِينَ:}

خبر كان منصوب، وعلامة نصبه الياء إلخ، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وأجاز كثيرون اعتبار (ما) الثانية صلة، والمعنى: قد كنا منزلين، وعليه فالجملة الفعلية في محل نصب حال، والرابط: الواو، والضمير. وقيل:(ما) بمعنى «الذي» معطوفة على: {جُنْدٍ،} وهو ضعيف معنى، وإعرابا. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

ص: 726

{إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)}

الشرح: {إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً:} قال المفسرون: أخذ جبريل-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-بعضادتي باب المدينة، وصاح بهم صيحة واحدة. {فَإِذا هُمْ خامِدُونَ:}

ميتون خمدا كما تخمد النار، فتعود رمادا. ففيه تشبيه بليغ، كما قال لبيد بن ربيعة الصحابي رضي الله عنه:[الطويل] وما المرء إلاّ كالشّهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

هذا؛ ويقرأ برفع «(صيحة)» أيضا على اعتبار (كان) تامة، ومثلها الآية رقم [53] الآتية، والإعراب يوضح ذلك. ولعلك تدرك معي: أن الله تعالى لم يصرح باسم البلدة، التي حصل فيها ما حصل، ولم يصرح باسم الشخص الذي دعا أهلها إلى عبادة الله تعالى، ولا باسم الرسل الكرام؛ لأن كل ذلك ليس هو الهدف والغاية من القصة؛ لأن القصد منها التذكير، والاعتبار.

وهذا من محاسن القرآن الكريم، وبلاغته الخارقة في الإيجاز في القصص، والأخبار، والإشارة إلى روح القصة وسرّها. وهذا؛ واضح وجلي في كل ما قص علينا من قصص. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، واسمها محذوف، يفهم من المقام. التقدير: ما كانت العقوبة، أو الأخذة النازلة بهم. {إِلاّ:} حرف حصر.

{صَيْحَةً:} خبر (كان) وعلى قراءتها بالرفع فهي فاعل: {كانَتْ} على اعتبارها بمعنى: حصلت، ووقعت. {واحِدَةً:} صفة: {صَيْحَةً} على القراءتين. {فَإِذا:} الفاء: حرف عطف وتعقيب، وخذ ما قاله السيوطي-رحمه الله تعالى-فيها: اختلف في هذه الفاء. فقال المازني: هي زائدة لازمة للتأكيد؛ لأن «إذا» الفجائية فيها معنى الإتباع، ولذا وقعت في جواب الشرط موقع الفاء، وهذا ما اختاره ابن جني، وقال مبرمان: هي عاطفة لجملة: (إذا) ومدخولها على الجملة قبلها.

واختاره الشلوبين الصغير، وأيده أبو حيان بوقوع {ثُمَّ} موقعها في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ

}. وقال الزجاج: دخلت على حد دخولها في جواب الشرط. انتهى. أي: فهي للسببية المحضة. وفي مغني اللبيب نحو هذا.

(إذا): كلمة دالة على المفاجأة هنا، وهي تختص بالدخول على الجملة الاسمية، ولا تحتاج إلى جواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناها الحال لا الاستقبال، نحو: خرجت، فإذا الأسد بالباب. وهي حرف عند الأخفش، وابن مالك، ويرجحه:(خرجت فإذا إن زيدا بالباب) لأن «إنّ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وظرف مكان عند المبرد، وابن عصفور، وظرف زمان عند الزجاج، والزمخشري. وزعم الأخير: أن عاملها فعل مشتق من لفظ المفاجأة. ولا يعرف هذا

ص: 727

لغير الزمخشري. وإنما ناصبها عندهم الخبر المذكور في نحو: «خرجت فإذا زيد جالس» ، أو المقدر في نحو:«فإذا الأسد» أي: حاضر، وإذا قدرت: أنها الخبر؛ فعاملها: مستقر، أو:

استقر، ولم يقع الخبر معها في التنزيل إلا مصرحا به. انتهى. ملخصا من المغني. وعلى اعتبارها ظرف مكان، أو زمان، لا أجد لها متعلقا هنا إلا بالتقدير: فهلكوا إذا هم إلخ، وتعليقها ب:{خامِدُونَ} كما رأيت في المثال المتقدم، لا يعطي المعنى الذي أعطاه هذا التقدير.

{هُمْ:} مبتدأ. {خامِدُونَ:} خبره مرفوع إلخ، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على التقدير الذي قدرته، وعليه فالجملة المقدرة معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها؛ لأن الأولى مستأنفة، وعلى تعليقها ب:{خامِدُونَ،} فتبقى الجملة الاسمية معطوفة على الفعلية قبلها، وأيضا على اعتبار (إذا) حرفا؛ فالجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.

{يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)}

الشرح: {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ} أي: يا ويل العباد. وقال قتادة: المعنى: يا حسرة العباد على أنفسهم على ما ضيعت من أمر الله، وفرطت في جنب الله. قال الخازن: يعني: يا لها حسرة، وندامة، وكآبة على العباد. والحسرة أن يركب الإنسان من شدة الندم ما لا نهاية له؛ حتى يبقى قلبه حسيرا. قيل: تحسروا على أنفسهم لما عاينوا العذاب؛ حيث لم يؤمنوا بالرسل الثلاثة، فتمنّوا الإيمان؛ حيث لم ينفعهم. وقيل: تتحسّر عليهم الملائكة حيث لم يؤمنوا بالرسل. وقيل: يقول الله تعالى: يا حسرة على العباد يوم القيامة حيث لم يؤمنوا بالرسل. انتهى.

هذا؛ واختلفت الروايات بشأن الرسل، هل قتلوا مع حبيب النجار، أم لا؟ وخذ ما يلي:

قال المفسرون: بعث الله تعالى إليهم جبريل، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، فأخذ بعضادتي باب بلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة، فإذا هم خامدون عن آخرهم. لم تبق بهم روح تتردد في جسد. وقد تقدم عن كثير من السلف: أن هذه القرية هي أنطاكية، وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلا من قبل المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام. كما نص عليه قتادة، وغيره. وفي ذلك نظر من وجوه:

أحدها: أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عز وجل، لا من جهة المسيح عليه السلام، كما قال تعالى:{إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ..} . إلخ ولو كان هؤلاء من الحواريين؛ لقالوا عبارة تناسب: أنهم من عند المسيح عليه السلام، ثم لو كانوا رسل المسيح؛ لما قالوا لهم:

{إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُنا} .

الثاني: أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم، وكانت أول مدينة آمنت بالمسيح، ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربع اللاتي فيهنّ «بتاركة» وهن: القدس؛ لأنها بلد

ص: 728

المسيح، وأنطاكية؛ لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها، والاسكندرية؛ لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة، والمطارنة، والأساقفة، والقساوسة، ثم رومية؛ لأنها مدينة الملك قسطنطين؛ الذي نصر دينهم، وأوطده. فإذا تقرر: أن أنطاكية أول مدينة آمنت؛ فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم. والله أعلم.

الثالث: أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة، وقد ذكر غير واحد من السلف: أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم؛ بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين. ذكروه عند قوله تبارك وتعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى} الآية رقم [43] من سورة (القصص).

فعلى هذا يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أخرى غير أنطاكية، كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضا، أو تكون أنطاكية إن كان لفظها محفوظا في هذه القصة مدينة أخرى، غير هذه المشهورة المعروفة، فإن هذه لم يعرف: أنها أهلكت، لا في الملة النصرانية، ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى. مختصر ابن كثير بحروفه.

الإعراب: (يا): أداة نداء، تنوب مناب: أدعو. (حسرة): منادى، ونداء الحسرة مجاز؛ لأنها لا يتأتى منها الإقبال، وإنما المعنى على المبالغة في شدة التحسر، وكأنهم نادوا الحسرة، وقالوا: إن كان لك وقت؛ فهذا أوان حضورك. ومثله: يا ويلتا، ونحوه. وعليه: فالجار والمجرور متعلقان ب: (حسرة) فيكون المنادى شبيها بالمضاف، وبسبب ذلك نون، كما قرئ شاذا:«(يا حسرة العباد)» بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، أو لمفعوله. هذا؛ ويجوز أن يكون المنادى محذوفا، و:(حسرة) مفعولا مطلقا لفعل محذوف، التقدير: يا هؤلاء ونحوه أتحسر حسرة. هذا؛ ولا يجوز هذا الاعتبار بقوله تعالى حكاية عن قول الكافرين: {يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها} الآية رقم [31] من سورة (الأنعام)، وقوله تعالى في الآية رقم [56] من سورة (الزمر):{أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ} . {ما:} نافية. {يَأْتِيهِمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والهاء مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {رَسُولٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب حال من {الْعِبادِ} والرابط الضمير. وقال أبو البقاء:

الجملة تفسير سبب الحسرة. وقال الجمل: مستأنفة. {إِلاّ:} حرف حصر. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وجملة:«يستهزءون به» في محل نصب خبر: {كانُوا،} والجملة: {كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من {رَسُولٍ} والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير:«قد» قبلها، وساغ مجيء

ص: 729

الحال من {رَسُولٍ} وهو نكرة لتقدم النفي عليه. وقيل: في محل نصب حال من الضمير المنصوب مستثنى من عموم الأحوال، والكلام:{يا حَسْرَةً..} . إلخ كله مستأنف، لا محل له.

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31)}

الشرح: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ..} . إلخ: أي: ألم يتعظ كفار قريش، ويعتبروا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل؛ كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة؟! وهذا يرد على أهل الزيغ والضلال، الذين يقولون بالرجعة، يحكى عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قيل له: إن قوما يزعمون: أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: بئس القوم نحن إذا! نكحنا نساءه، وقسمنا ميراثه.

هذا؛ و {الْقُرُونِ} جمع: قرن بفتح القاف، وسكون الراء مائة سنة على الصحيح. وقيل:

ثمانون. وقيل: ثلاثون. ويقال: القرن في الناس: أهل زمان واحد، وهو المراد في الآية الكريمة، ونحوها. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم:«خير القرون قرني» . ومنه قول الشاعر: [الطويل] إذا ذهب القرن، الّذي أنت فيهمو

وخلّفت في قرن فأنت غريب

وخذ قول لبيد بن ربيعة الصحابي-رضي الله عنه: [الطويل] فإن أنت لم ينفعك علمك فانتسب

لعلّك تهديك القرون الأوائل

والقرن بفتح القاف: الزيادة العظيمة، التي تنبت في رءوس بعض الحيوانات، ومنه:

إسكندر ذو القرنين. والقرن الجبل الصغير. وذؤابة المرأة من الشعر. والقرن من القوم:

سيدهم، ومن السيف: حدّه، ونصله، وجمعه في كل ما تقدم قرون. هذا؛ وهو بكسر القاف، وسكون الراء: الكفؤ في الشجاعة، والعلم، ونحوهما، والجمع على هذا: أقران.

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{يَرَوْا:} مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو: فاعله، والألف للتفريق. {كَمْ:}: خبرية بمعنى كثير مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. {أَهْلَكْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به للفعل:

{يَرَوْا} المعلق عن العمل لفظا بسبب {كَمْ} الخبرية؛ لأنها مثل الاستفهامية في تعليق الأفعال.

{قَبْلَهُمْ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة. {مِنَ الْقُرُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة. هذا؛ وإن علقتهما بالفعل:

{أَهْلَكْنا} فالظرف متعلق بمحذوف حال من القرون، وهو قوي معنى. والجملة الفعلية:{أَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {إِلَيْهِمْ:} جار

ص: 730

ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {لا:} نافية. {يَرْجِعُونَ:} فعل مضارع إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:(أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب بدلا من معنى:{كَمْ أَهْلَكْنا..} . إلخ بدل اشتمال، أو بدل كل من كل، وأجيز اعتباره في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: قضينا، وحكمنا أنهم إليهم لا يرجعون. وقال الجمل: ويدل على هذا قراءة ابن عباس، والحسن:(إنهم) بكسر الهمزة على الاستئناف، والاستئناف قطع لهذه الجملة عما قبلها، فهو مقوّ لأن تكون الجملة معمولة لفعل محذوف يقتضي انقطاعها عما قبلها. انتهى.

{وَإِنْ كُلٌّ لَمّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32)}

الشرح: {وَإِنْ كُلٌّ..} . إلخ: المعنى: أن كلهم محشورون، مجموعون، محضرون للحساب، والجزاء يوم القيامة. وقيل:{مُحْضَرُونَ} معذبون. وإنما أخبر ب: {جَمِيعٌ} عن {كُلٌّ؛} لأن كلا يفيد معنى الإحاطة، والشمول، فلا ينفلت منهم أحد، والجميع معناه: الاجتماع، وأن المحشر يجمعهم. والجميع: فعيل بمعنى مفعول، يقال: حي جميع، وجاءوا جميعا. هذا؛ وقرئ بتشديد ميم:{لَمّا} وتخفيفها. ومعنى الآية كقوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَمّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ} الآية رقم [112] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): مخففة من الثقيلة مهملة لا عمل لها. {كُلٌّ:}

مبتدأ. {لَمّا:} اللام: هي الفارقة بين المهملة، والعاملة، أو الفارقة بين النفي، والإثبات. (ما):

صلة لا عمل لها. {جَمِيعٌ:} خبر المبتدأ. {لَدَيْنا:} ظرف مكان متعلق بما بعده منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء لاتصاله ب:(نا) التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مُحْضَرُونَ:} صفة {جَمِيعٌ} مرفوع، وعلامة رفعه الواو إلخ. وقيل:{مُحْضَرُونَ:} خبر ثان للمبتدإ. هذا؛ وعلى قراءة {لَمّا} بالتشديد فهي بمعنى: «إلا» وإن نفي بمعنى: «ما» والمعنى: ما كل إلا جميع محضرون لدينا. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الطارق: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمّا عَلَيْها حافِظٌ} .

والآية رقم [35] من سورة (الزخرف): {وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} وخذ قول الشاعر، وهو الشاهد رقم (515) من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الرجز] قالت له بالله يا ذا البردين

لمّا غنثت نفسا أو اثنين

{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)}

الشرح: {وَآيَةٌ لَهُمُ:} علامة لأهل مكة على قدرة الله تعالى بأنه يعيد ابن آدم بعد موته يوم القيامة، ويحييه كما يحيي الأرض الميتة بعد موتها بإخراج النبات منها بسبب نزول المطر عليها،

ص: 731

كما قال تعالى في سورة (الحج): {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} . {وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا:} القمح، والشعير، ونحوهما. {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ:}

قدم الجار والمجرور للدلالة على أن الحب معظم ما يؤكل منه، ويعاش به، وينتفع به الإنس، وإذا قلّ؛ جاء القحط، ووقع الضرر، وإذا فقد؛ حضر الهلاك، ونزل البلاء.

الإعراب: {وَآيَةٌ:} الواو: حرف استئناف. (آية): خبر مقدم. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (آية). {الْأَرْضُ:} مبتدأ مؤخر. {الْمَيْتَةُ:} صفة: {الْأَرْضُ} .

{أَحْيَيْناها:} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{الْأَرْضُ} .

والرابط: الضمير فقط، وهي على تقدير:«قد» قبلها، وأجاز الزمخشري، والبيضاوي، والنسفي وجهين: الأول: الاستئناف. والثاني: اعتبار الجملة صفة ل: {الْأَرْضُ} لأنه أريد بها الجنس لا أرض بعينها، فعوملت معاملة النكرة في وصفها بالأفعال، ومثلها الآية رقم [37] الآتية، وقول رجل من بني سلول:[الكامل] ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني

وهذا هو الشاهد رقم [152] من كتابنا فتح القريب المجيب. وينبغي أن تفرق معي بين الآية التي نحن بصدد شرحها، والآية الآتية، والبيت، فإن الآية التي نحن بصدد شرحها قد وصفت {الْأَرْضُ} فيها ب:{الْمَيْتَةُ،} والوصف وحده يجيز مجيء الحال من النكرة، كيف؛ و {الْأَرْضُ} مقرونة بال، ووصفت ب:{الْمَيْتَةُ} . هذا؛ وأجاز مكي، وأبو البقاء اعتبار (آية) مبتدأ، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبره. و {الْأَرْضُ} مبتدأ، وجملة:{أَحْيَيْناها} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية برمتها تفسير للجملة الأولى، أو تفسير ل:(آية) وحدها.

(أخرجنا): فعل، وفاعل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، على جميع الاعتبارات فيها. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {حَبًّا:} مفعول به. {فَمِنْهُ:} الفاء: حرف عطف. (منه): متعلقان بما بعدهما على أنهما مفعوله، وجملة «يأكلون منه» معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها.

{وَجَعَلْنا فِيها جَنّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34)}

الشرح: {وَجَعَلْنا فِيها جَنّاتٍ:} بساتين، جمع: جنة بفتح الجيم، سميت بذلك لكثرة أشجارها، ولأنها تستر ما فيها. وسميت جنة عدن لذلك. هذا؛ والجنة بكسر الجيم: الجنون، سمي بذلك؛ لأنه يغطي العقل، ويذهب به، والجنة بكسر الجيم أيضا الجن، سموا بذلك؛ لأنهم يستترون عن أعين الناس. قال تعالى في سورة (الناس):{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} . وهو بضم الجيم كل ما استترت به، وكل

ص: 732

ما وقيت به نفسك من السلاح، وغيره، ومنه: المجن، والمجنة بكسر الميم فيهما، وهو الترس الذي كان يتخذ للوقاية من ضربات السيوف، والرماح. {نَخِيلٍ:} فيه قولان: أحدهما: أنه اسم جمع، واحده: نخلة. والثاني: أنه جمع: نخل؛ الذي هو اسم جنس. (أعناب): جمع: عنب الذي هو اسم جنس، واحده: عنبة. هذا؛ وإنما خص الله هذين النوعين بالذكر من بين سائر الأشجار تغليبا لهما لشرفهما، وكثرة منافعهما. وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحب، والأعناب، لاختصاص شجرها بمزيد النفع، وآثار الصنع.

{وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ} أي: جعلنا في الجنات أنهارا جارية في أمكنة يحتاجون فيها.

هذا؛ و {الْعُيُونِ} جمع: عين، وانظر ما ذكرته في آية (السجدة) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ و (نا) في قوله تعالى: (جعلنا وفجرنا) ونحوهما فقد قال ابن تيمية-رحمه الله تعالى- في كتابه: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» : وقوله تعالى: (جعلنا وهبنا، نحن، إنّا) لفظ يقع في جميع اللغات على من له شركاء، وأمثال، وعلى الواحد العظيم المطاع، الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا له شركاء، ولا نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك، أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده، فإذا كان الواحد من الملوك، يقول: فعلنا وإنا، ونحن

إلخ ولا يريدون: أنهم ثلاثة ملوك، فمالك الملك رب العالمين، ورب كل شيء، ومليكه هو أحق أن يقول: فعلنا، ونحن، وإنا

إلخ، مع أنه ليس له شريك، ولا مثل؛ بل له جنود السموات، والأرض. انتهى.

أقول: و: «نا» هذه تسمى نون العظمة، وليست دالة على الجماعة، كما يزعم الملحدون، والكافرون، فالله لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكثيرا ما يتكلم بها العبد، ذكرا كان، أو أنثى، فيقول: أخذنا، وأعطينا إلخ، وليس معه أحد. والغاية من هذا الكلام الرد على النصارى الذين يدخلون الشبهة على السذج من المسلمين بأن الإله ثلاثة أقانيم:

الأب، والابن، وروح القدس، ويدعمون شبهتهم هذه بالألفاظ الموجودة في القرآن، والتي ظاهرها يفيد الجمع، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {جَنّاتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مِنْ نَخِيلٍ:} متعلقان بمحذوف صفة: {جَنّاتٍ} . {وَأَعْنابٍ:} معطوفة على ما قبله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على جميع الاعتبارات فيهن. {وَفَجَّرْنا:}

فعل، وفاعل. {فِيها:} متعلقان بما قبلهما، والمفعول محذوف، التقدير: وفجرنا فيها ينبوعا، أو: ما ينتفعون به. {مِنَ الْعُيُونِ:} متعلقان بمحذوف صفة على التقدير الأول، وفي محل نصب حال من «ما» على التقدير الثاني، و {مِنْ} بيان للإبهام. هذا؛ وأجاز الأخفش اعتبارها زائدة في الإيجاب، وعليه ف:{الْعُيُونِ} هي المفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

ص: 733

{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35)}

الشرح: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} أي: من ثمر النخيل، والأعناب. وأعاد الضمير عليهما مفردا، لتأويلهما بالمذكور. وقيل: يعود الضمير إلى ماء العيون. و (ثمر) مفرده ثمرة، مثل: شجرة، وشجر، ويجمع (ثمر) بفتحتين على: ثمار، كجبل، وجبال، ويجمع «ثمار» على:

ثمر بضمتين، ككتاب، وكتاب، وجمع ثمر على: أثمار، كعنق، وأعناق. وانظر ما ذكرته في الشاهد رقم (231) من كتابنا فتح القريب المجيب؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ:} أجيز اعتبار (ما) موصولة معطوفة على {ثَمَرِهِ} . وأجيز اعتبارها نافية، وعليه يختلف المعنى، فيكون المعنى على الأول:{لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} والذي عملته أيديهم من الزرع، والغرس الذي تعبوا فيه. وعلى الثاني: لم تعمله أيديهم، وليس من صنيعهم؛ بل وجدوها معمولة، أي: مصنوعة. {أَفَلا يَشْكُرُونَ:} الله على نعمه.

هذا؛ و {أَيْدِيهِمْ} جمع: يد، وهي تطلق على الجارحة بداهة، وتطلق، ويراد بها: القوة، والقدرة، كما في قوله:{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: قدرة الله فوق قدرتهم، كما تطلق على النعمة، والمعروف، يقال: لفلان عندي يد، أي: نعمة، ومعروف، وتطلق على الحيلة، والتدبير، فيقال:

لا يد لي في هذا الأمر؛ أي: لا حيلة لي فيه، ولا تدبير. هذا؛ وأصل يد:(يدي) فحذفت منه الياء، والدليل على ذلك ردها إليه في الجمع، فنقول: الأيدي، كما في الآية الكريمة، وكذلك ترد إليه في التصغير، فنقول: يديو؛ لأن التكسير، والتصغير يردان الأشياء إلى أصولها.

الإعراب: {لِيَأْكُلُوا:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ ثَمَرِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وهما مفعوله في المعنى، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:(جعلنا) على الاعتبار الأول في الضمير، ومتعلقان بالفعل:(فجرنا) على الاعتبار الثاني في عود الضمير. {وَما:} الواو: حرف عطف.

(ما): موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية، فعلى الأول والثاني مبنية على السكون في محل جر معطوفة على:{ثَمَرِهِ،} أو في محل نصب معطوفة على محل الجار والمجرور. {عَمِلَتْهُ:}

فعل ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والهاء مفعول به. {أَيْدِيهِمْ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير الواقع مفعولا به، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر، أو في محل نصب معطوف على ما قبله. هذا؛ وعلى اعتبار (ما) نافية فالجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

ص: 734

{أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي، الفاء: حرف عطف. (لا): نافية.

{يَشْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله، والمفعول محذوف، انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: أيرون هذه النعم، أو يتنعمون بهذه النعم، فلا يشكرونها، والكلام كله مستأنف، لا محل له.

{سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمّا لا يَعْلَمُونَ (36)}

الشرح: {سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها:} نزه الله نفسه عن قول الكفار؛ إذ عبدوا غيره مع ما رأوه من نعمه، وآثار قدرته. وفيه معنى الأمر، أي: سبحوه، ونزهوه عما لا يليق به.

وقيل: فيه معنى التعجب، أي: عجبا لهؤلاء في كفرهم مع ما يشاهدونه من هذه الآيات! ومن تعجب من شيء قال: سبحان الله! و {الْأَزْواجَ} الأنواع، والأصناف، فكل زوج صنف؛ لأنه مختلف في الألوان، والطعوم، والأشكال، والصغر، والكبر، فاختلافها هو ازدواجها. وقال قتادة: يعني: الذكر، والأنثى. انتهى. قرطبي.

{مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ:} من النبات، وأنواع الشجر. {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي: وخلق منهم أزواجا ذكورا، وإناثا. {وَمِمّا لا يَعْلَمُونَ} أي: من أصناف خلقه في البر، والبحر، والسماء، والأرض. ثم يجوز أن يكون مما يخلقه لا يعلمه البشر، وتعلمه الملائكة. ويجوز أن لا يعلمه مخلوق. ووجه الاستدلال في هذه الآية: أنه إذا انفرد بالخلق، فلا ينبغي أن يشرك به.

قال محمد علي الصابوني: سبحان الله ما أعظم قدرة الله، لقد كان السائد: أن الزوجية إنما تكون بين الإنسان، والحيوان فقط، وجاء القرآن بالمعجزة الباهرة المثبتة لما اكتشفه العلم الحديث منذ زمن قريب، وهي: أن الزوجية بين الإنسان، والحيوان، والنبات، والذرة، وسائر الكائنات، فقد ثبت: أن الذرة وهي أصغر أجزاء المادة، مؤلفة من زوجين مختلفين من الإشعاع الكهربائي: سالب، وموجب يتزاوجان، ويتحدان، وأن بين النبات أعضاء مذكرة، وأعضاء مؤنثة. فسبحان العلي القدير القائل:{سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ..} . إلخ انتهى. هذا؛ وقال تعالى في سورة (الذاريات): {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فهذه الآية الكريمة عممت الزوجية في النبات، والإنسان وفي كل شيء مما نعلمه، ومما لا نعلمه، فسبحان الإله القدير العليم الذي أحاط علمه بكل الأكوان، وأحصى كل شيء عددا. انتهى.

الإعراب: {سُبْحانَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف لم يذكر. و {سُبْحانَ} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا. {خَلَقَ:} فعل ماض،

ص: 735

والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {الْأَزْواجَ:} مفعول به. {كُلَّها:} توكيد، و (ها):

في محل جر بالإضافة، وجملة:{خَلَقَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها، والكلام {سُبْحانَ..} . إلخ مستأنف، لا محل له. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الأزواج، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من).

{تُنْبِتُ:} فعل مضارع. {الْأَرْضُ:} فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء تنبته الأرض. {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ:} معطوفان على ما قبلهما، والهاء في محل جرّ بالإضافة. {وَمِمّا:} جار ومجرور معطوفان على مثلهما.

{لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو: من شيء لا يعلمونه.

{وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)}

الشرح: المعنى: وعلامة ثانية لأهل مكة، ومن لف لفهم من المشركين دالة على قدرة الله، ووحدانيته، وبأنه جلت حكمته قادر على إعادة الأموات بعد فنائها، ويحييها يوم القيامة للحساب، والجزاء كما يسلخ الليل من النهار. والعكس صحيح. هذا؛ والسلخ: الكشط، والنزع. يقال: سلخه الله من دينه. ثم تستعمل بمعنى الإخراج، ففي الكلام استعارة تصريحية، شبه الله إزالة ضوء النهار، وانكشاف ظلمة الليل بسلخ الجلد عن الشاة، ونحوها، واستعارة اسم السلخ للإزالة، والإخراج، واشتق منه:{نَسْلَخُ} بمعنى: نخرج منه النهار بطريق الاستعارة التصريحية. وهذا من بليغ الاستعارة. وبين الليل، والنهار طباق. {فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ:} داخلون في الظلام، يقال: أظلمنا؛ أي: دخلنا في ظلام الليل، وأظهرنا: دخلنا في وقت الظهر، وكذلك: أصبحنا، وأضحينا، وأمسينا.

هذا؛ والليل واحد بمعنى الجمع، واحده: ليلة، مثل: تمر، وتمرة، وقد جمع على: ليال، فزادوا فيه الياء على غير قياس، ونظيره: أهل، وأهال، والليل الشرعي: من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، وهو أحد القولين في اللغة، والقول الآخر: من غروبها إلى طلوعها.

هذا؛ والنهار: ضد الليل، وهو لا يجمع كما لا يجمع العذاب، والسراب، فإن جمعته قلت في الكثير: نهر، بضمتين، كسحاب، وسحب، وأنشد ابن كيسان:[الرجز] لولا الثّريدان لمتنا بالضّمر

ثريد ليل، وثريد بالنّهر

وفي القليل: أنهر. والنهار: من طلوع الشمس، أو من طلوع الفجر-على ما تقدم في نهاية الليل- إلى غروب الشمس. وقد يطلق عليهما: اليوم. هذا؛ والليل يطلق على الحبارى، أو على فرخها، وفرخ الكروان، والنهار يطلق على فرخ القطا. انتهى. قاموس. وقد ألغز بعضهم بقوله:[الوافر]

ص: 736

إذا شهر الصّيام إليك وافى

فكل ما شئت ليلا أو نهارا

كما ألغز بعضهم بقصب السكر، فقال:[الطويل] مهفهفة الأعطاف عذب مذاقها

تفوق القنا لكن بغير سنان

ويأخذ كلّ الناس منها منافعا

وتؤكل بعد العصر في رمضان

هذا؛ ويطلق على الليل والنهار اسم الجديدين، قالت الخنساء رضي الله عنها:[البسيط] إنّ الجديدين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسد النّاس

أما (آية) فإنها تطلق على معان كثيرة: الدلالة: كما في هذه الآية ونحوها. وتطلق على المعجزة: مثل انشقاق القمر، ونحوه، وعصا موسى، ونحو ذلك، قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} . وتطلق على الموعظة، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} . كما تطلق على جملتين، أو أكثر من كلام الله تعالى، وعلى السورة بكاملها، وهو كثير.

الإعراب: (آية): خبر مقدم. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (آية).

{اللَّيْلُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على مثلها في الآية رقم [33]. {نَسْلَخُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {النَّهارَ:}

مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{اللَّيْلُ} على اعتبار (ال) فيه للتعريف، والعامل في الحال:(آية) لما فيها من معنى للدلالة، أو في محل رفع صفة:{اللَّيْلُ} على اعتبار (ال) فيه للجنس، ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً،} حيث إن جملة {يَحْمِلُ أَسْفاراً} تصلح لأن تكون حالا من الحمار، وأن تكون نعتا له. ومثل الآيتين قول رجل من بني سلول، وهو الشاهد رقم (152) من كتابنا «فتح القريب المجيب»:[الكامل] ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني

فمضيت ثمّت قلت: لا يعنيني

فجملة: «يسبني» تصلح لأن تكون نعتا للئيم، وأن تكون حالا منه. {فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ:}

إعراب هذه الجملة مثل إعراب: {فَإِذا هُمْ خامِدُونَ} في الآية رقم [29].

{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)}

الشرح: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها} أي: وآية أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فلك لا تتجاوزه، ولا تتخطاه لزمن تستقر فيه، ولوقت تنتهي إليه، وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم. وقال ابن كثير: وفي قوله تعالى: {لِمُسْتَقَرٍّ لَها} قولان:

ص: 737

أحدهما: أن المراد مستقرها المكاني، وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب وهي أينما كانت فهي تحت العرش، هي وجميع المخلوقات؛ لأنه سقفها، فحينئذ تسجد، وتستأذن في الطلوع، كما جاءت بذلك الأحاديث. روي البخاري عن أبي ذرّ-رضي الله عنه-قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، في المسجد عند غروب الشمس، فقال صلى الله عليه وسلم:«يا أبا ذرّ أتدري أين تغرب الشمس؟» . قلت: الله ورسوله أعلم، قال:«فإنّها تذهب حتّى تسجد تحت العرش، فتستأذن، فيؤذن لها. ويوشك أن تسجد، فلا يقبل منها، وتستأذن، فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت. فتطلع من مغربها» . فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها..} . إلخ.

والقول الثاني: أن المراد ب: «مستقرها» هو منتهى سيرها، وهو يوم القيامة، يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتكوّر، وينتهي العالم إلى غايته، وهذا هو مستقرها الزماني، قال قتادة -رحمه الله تعالى-:{لِمُسْتَقَرٍّ لَها} أي لوقتها، ولأجل لا تعدوه. هذا؛ وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم:«(لا مستقرّ لها)» أي: لا قرار لها، ولا سكون؛ بل هي سائرة ليلا نهارا، لا تفتر، ولا تقف، كما قال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ} الآية رقم [33] من سورة (إبراهيم)، أي: لا يفتران، ولا يقفان إلى يوم القيامة. انتهى.

{ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي: ذلك الجري، وذلك الدوران بانتظام، وبحساب دقيق هو تقدير القوي القادر الغالب على أمره، العليم بكل شيء صغيرا كان، أو كبيرا، سرا كان، أو جهرا.

هذا؛ وجاء في الظلال للشهيد ما يلي: والشمس تدور حول نفسها، وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها، الذي تدور فيه، ولكن عرف أخيرا: أنها غير مستقرة في مكانها، إنما هي تجري فعلا في اتجاه واحد في الفضاء الكوني، الهائل بسرعة، حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية، والله ربها الخبير بها، وبجريانها يقول: إنها {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها} هذا المستقر الذي تنتهي إليه، لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، وحين نتصور أن حجم هذه الشمس يبلغ نحو مليون ضعف لحجم أرضنا هذه، وأن هذه الكتلة الهائلة تتحرك وتجري في الفضاء، لا يسندها شيء، ندرك طرفا من هذه القدرة، التي تصرّف هذا الوجود عن قوة، وعن علم. وصدق الله إذ يقول:

{ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} . انتهى. صفوة التفاسير للصابوني.

هذا؛ وجاء في الكشاف ما يلي: {لِمُسْتَقَرٍّ لَها:} لحد لها مؤقت مقدر، تنتهي إليه من فلكها في آخر السنة، شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لمنتهى لها من المشارق، والمغارب؛ لأنها تتقصاها مشرقا مشرقا، ومغربا مغربا، حتى تبلغ أقصاها، ثم ترجع، فذلك حدها، ومستقرها؛ لأنها لا تعدوه. أو لحد لها من مسيرها كل يوم في مرأى عيوننا، وهو المغرب. وقيل: مستقرها: أجلها الذي أقر الله عليه أمرها في جريها، فاستقرت عليه، وهو آخر السنة. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 738

هذا؛ والثابت: أن الشمس إذا غربت في ناحية من الأرض؛ تشرق على ناحية أخرى، مما يدل على أنها لا تقف أبدا، ويؤيد هذا القول ما قاله الفقهاء في باب مواقيت الصلاة من أن الأوقات الخمسة تختلف باختلاف الجهات، والنواحي، فقد يكون المغرب عندنا عصرا عند آخرين، ويكون الظهر عندنا صبحا عند آخرين، وهكذا. انتهى. جمل.

الإعراب: {وَالشَّمْسُ:} يجوز أن يكون معطوفا على ما قبله، فيكون التقدير: وآية لهم الشمس، وعليه فالإعراب مثله في الآية رقم [33]. ويجوز أن يكون (الشمس) مرفوعا بفعل محذوف يفسره الثاني. ويجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء، والجملة الفعلية بعده خبره، التقدير: والشمس جارية.

اعتبارات ذكرها القرطبي، والثاني ضعيف معنى، تأمل. {لِمُسْتَقَرٍّ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {لَها:} جار ومجرور متعلقان ب: (مستقر)، أو بمحذوف صفة له. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {تَقْدِيرُ:}

خبر المبتدأ. وهو مضاف، و {الْعَزِيزِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {الْعَلِيمِ:} بدل مما قبله، والجملة الاسمية:{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)}

الشرح: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ..} . إلخ: أي: قدرنا له منازل، أو: قدرنا مسيره في منازل، مثل قوله تعالى في سورة (المطففين):{وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} فإن الأصل: كالوا لهم، أو وزنوا لهم. والمنازل ثمانية وعشرون منزلا، ينزل كل ليلة في منزل منها، لا يتعداه يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين، ثم يستتر ليلتين، أو ليلة إذا نقص، فإذا كان في آخر منازله رقّ، وتقوّس، كما قال تعالى:{حَتّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} وهو العود الذي عليه شماريخ العذق إلى منبته من النخلة، و {الْقَدِيمِ} الذي أتى عليه الحول، فإذا قدم؛ عتق، ويبس، وتقوّس، واصفر، فشبه به القمر عند انتهائه إلى آخر منازله، فوجه الشبه فيه مركب، وهو الاصفرار، والدقة، والاعوجاج. وهذا التشبيه يسمى مجملا، فقد أجمل وجه الشبه في العرجون القديم.

والعرجون القديم غصن النخل اليابس، وهذا اللفظ لم يذكر في غير هذه السورة.

قال ابن كثير: جعل الله القمر لمعرفة الشهور، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير الشمس، وسير القمر، فالشمس تطلع كل يوم، وتغرب في آخره، وتنتقل في مطالعها، ومغاربها صيفا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار، ويقصر الليل، ثم يطول الليل، ويقصر النهار، وهو كوكب نهاري:{يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ} . {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ،} وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور، ثم يزداد نورا في الليلة الثانية، ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع؛ ازداد نوره، وضياؤه؛ حتى يتكامل

ص: 739

نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم. انتهى.

تنبيه: قال الله تعالى في الآية رقم [5] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} وقال تبارك وتعالى في الآية رقم [12] من سورة (الإسراء): {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً} . وقال جل شأنه في الآية رقم [189] من سورة (البقرة): {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ..} . إلخ انظر شرح هذه الآيات في محالّها تجد: أن العبادات الإسلامية والمعاملات كلها مرتبط بحركة القمر الدورانية، لا دخل للعبد في صنع شيء من ذلك.

فالحمد لله على ما أنعم، وأعطى. وتكرم!

بقي أن تعرف منازل القمر الثمانية والعشرين بأسمائها، وهي مواقع النجوم؛ التي نسبت إليها العرب الأنواء الماطرة، وهي:(الشّرطان، البطين، الثّريّا، الدّبران، الهقعة، الهنعة، الذّراع، النّثرة، الطّرف، الجبهة، الخراتان، الصّرفة، العوّاء، السّماك، الغفر، الزّبانيان، الإكليل، القلب، الشولة، النّعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلغ، سعد السعود، سعد الأخبية، الفرغ المقدّم، الفرغ المؤخّر، بطن الحوت)، فإذا صار القمر في آخرها؛ عاد إلى أولها، وهذه المنازل منقسمة على البروج، لكل برج منزلان، وثلث، انظر الآية رقم [61] من سورة (الفرقان) لمعرفة هذه البروج.

الإعراب: {وَالْقَمَرَ:} يقرأ بالرفع، فتجري فيه الاعتبارات التي ذكرتها في قوله:

{وَالشَّمْسُ} ويقرأ بالنصب وهي قراءة الكوفيين، وبها قرأ حفص، وهو اختيار أبي عبيد، واختار الفراء الرفع، فعلى النصب فهو مفعول به لفعل محذوف، يفسره المذكور بعده. {قَدَّرْناهُ:}

فعل، وفاعل، والهاء مفعول به، أو مجرورة بحرف جر، كما رأيت في الشرح. {مَنازِلَ:} فيه أوجه: أحدها: أنه مفعول ثان ل: (قدرنا) بمعنى: صيرنا. الثاني: أنه حال، ولا بد من تقدير مضاف قبل:{مَنازِلَ،} تقديره: ذا منازل. الثالث: أنه ظرف، أي: قدرنا سيره في منازل.

الرابع: أنه مفعول به على اعتبار الضمير مجرورا، بحرف جر محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:(القمر)، أو في محل نصب حال منه على رفعه، ومفسرة على نصبه، لا محل لها. {حَتّى:} حرف غاية وجر بعدها «أن» مضمرة. {عادَ:} فعل ماض، وفاعله مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى: (القمر). {كَالْعُرْجُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر. وإن اعتبرت الفعل ناقصا؛ والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبره، وإن اعتبرت الكاف اسما فالمحل لها على الاعتبارين، وتكون مضافا، و (العرجون) مضاف إليه. {الْقَدِيمِ}

ص: 740

صفة: (العرجون)، و «أن» المضمرة بعد:{حَتّى} والفعل: {عادَ} في تأويل مصدر في محل جر ب: {حَتّى،} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)}

الشرح: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي..} . إلخ: أي: لا يصح للشمس ولا يتسهل لها أن تدرك القمر في سرعة سيره، فإن ذلك يخل بتكوين النبات وبعيش الحيوان، أو في آثاره، ومنافعه، أو مكانه بالنزول إلى محله، أو سلطانه فتطمس نوره. وإيلاء حرف النفي الشمس للدلالة على أنها مسخرة، لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. انتهى. بيضاوي. وفحوى الآية الكريمة: أن الشمس والقمر لا يتوافقان في السير، ولا يجتمعان معا، فأما قوله تعالى في سورة القيامة رقم [9]{وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} فذلك يكون حين تحبس الشمس عن الطلوع من المشرق، وتطلع من المغرب، وجمعهما علامة لانقضاء الدنيا، وقيام الساعة، فذلك اليوم الذي قال الله تعالى فيه:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ..} . إلخ الآية رقم [158] من سورة (الأنعام). {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي: كل من الشمس، والقمر، والنجوم. هذا؛ وقال تعالى في الآية رقم [33] من سورة (الأنبياء):{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والمعنى: كل واحد مما ذكر في فلك يسبحون، أي يجرون، ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء. وإنما جمعهن جمع المذكر السالم بالواو والنون، وهو للعقلاء؛ لأنه تبارك وتعالى ذكر عنهن فعل العقلاء، وهو السباحة والجري، وجعلهن في الطاعة والانقياد بمنزلة من يعقل، وهذا يتكرر في القرآن الكريم، وقد ذكرته في محالّه.

هذا؛ والفلك بفتحتين: مدار النجوم الذي يضمها، وهو في كلام العرب كل شيء مستدير، وجمعه: أفلاك ويجمع على: فلك، مثل: أسد، وأسد. وقيل: الفلك: السماء الذي فيه الكواكب، فكل كوكب يجري في السماء، الذي قدر له أن يجري فيه. وقيل: الفلك طاحونة كهيئة فلك المغزل، فهو الذي تجري فيه النجوم، وهو مستدير كاستدارة الرحى. وقيل: غير ذلك، وقال أصحاب الهيئة: الأفلاك: أجرام صلبة، لا ثقيلة، ولا خفيفة، غير قابلة للخرق، والالتئام، والنمو، والذبول. والحق: أنه لا سبيل إلى معرفة صفة السموات، إلا بإخبار الصادق، فسبحان الخالق، المدبر لخلقه بالحكمة، والقدرة الباهرة غير المتناهية.

الإعراب: {لا:} نافية. {الشَّمْسُ:} مبتدأ. {يَنْبَغِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {لَها:} متعلقان بما قبلهما. {أَنْ تُدْرِكَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى: {الشَّمْسُ} . {الْقَمَرَ:} مفعول به، و {أَنْ} والمضارع في تأويل

ص: 741

مصدر في محل رفع فاعل {يَنْبَغِي،} والجملة الفعلية: {يَنْبَغِي..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{لا الشَّمْسُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {اللَّيْلُ:} مبتدأ. {سابِقُ:} خبره، وهو مضاف، و {النَّهارِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وقرئ بنصب:{النَّهارِ،} وحذف تنوين {سابِقُ} فيكون {النَّهارِ} مفعولا به صريحا، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {وَكُلٌّ:} الواو: حرف استئناف. (كل): مبتدأ، سوغ الابتداء به الإضافة المقدرة. {فِي فَلَكٍ:} متعلقان بما بعدهما، والجملة الفعلية:«يسبحون في فلك» في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، واعتبارها حالا لا بأس به.

{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)}

الشرح: المعنى: وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا: أننا حملنا آباءهم الأقدمين (وهم ذرية آدم) في سفينة نوح-على نبينا، وعليه ألف صلاة وألف سلام-؛ التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين. انتهى. صفوة التفاسير. وفي البيضاوي:{ذُرِّيَّتَهُمْ} أولادهم الذين يبعثونهم في تجاراتهم، أو صبيانهم، ونساءهم؛ الذين يصطحبونهم في أسفارهم.

فإن الذرية تقع عليهن؛ لأنهن مزارعهما، وتخصيصهم في الذكر؛ لأن استقرارهم في السفن أشق، وتماسكهم فيها أعجب، وقيل: المراد: فلك نوح، وحمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل آباءهم الأقدمين. وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وتخصيص الذرية بالذكر؛ لأنه أبلغ في الامتنان، وأدخل في التعجب مع الإيجاز. انتهى. بتصرف. هذا؛ و {الْمَشْحُونِ} المملوء بالبضائع، والناس، والدواب، وغير ذلك من بترول، ونحوه في هذه الأيام. هذا؛ وقد استدل بهذه الآية على أن الذرية تطلق على الآباء كما تطلق على الأولاد، وهو ما في التاج، وتجمع جمع تكسير: ذراري كما تجمع جمع مؤنث سالما: (ذريات). وإطلاق ذرية على الآباء لأن الله ذرأ منهم الأولاد.

هذا؛ و {الْفُلْكِ:} بضم الفاء وسكون اللام، يطلق على المفرد، والجمع، والمذكر، والمؤنث، فقد أفرد سبحانه وتعالى في هذه الآية، وذكّر، وقال تعالى:{وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ} . فأنث، ويحتمل الإفراد، والجمع، وقال جل شأنه:{حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} . فجمع، وكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى معنى المركب، فتذكر، وإلى معنى السفينة، فتؤنث، وقد ألغز فيها الشاعر حيث قال:[الطويل] مكسّحة تجري ومكفوفة ترى

وفي بطنها حمل على ظهرها يعلو

فإن عطشت عاشت وعاش جنينها

وإن شربت ماتت وفارقها الحمل

ص: 742

ولا تنس: أن أول من اخترع السفينة (وهي الفلك) نوح، على نبينا، وشفيعنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ومن تصميمها وشكلها أخذت البشرية تصنع السفن، وتتطور جيلا بعد جيل، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في العصر الحاضر. هذا؛ وقد كانت السفن في الزمن الماضي تسير بواسطة الرياح، وأما في أيامنا هذه؛ فإنها تسير بواسطة البخار، ففي الزمن الماضي، كان البحارون يلقون العناء إذا اضطرب البحر، أو عاكست الرياح مسير السفينة، وقد عبر المتنبي عن ذلك، بقوله:(وهو جار مجرى المثل): [البسيط] ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه

تأتي الرياح بما لا تشتهي السّفن

هذا؛ والذرية هي النّسل من بني آدم، وهي تقع على الجمع كما في قوله تعالى:{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً،} وعلى الواحد كما في قوله تعالى حكاية عن قول زكريا-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} . قيل:

هي مشتقة من: «الذّرا» بفتح الذال، وهو كل ما استذريت به، يقال: أنا في ظل فلان، وفي ذراه، أي: في كنفه، وستره، وتحت حمايته. وهو بضم الذال: أعلى الشيء. وقيل: هي مشتقة من الذّرء، وهو الخلق، قال تعالى:{قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . وقال تعالى:

{يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} . أبدلت همزة الذّرء ياء، ثم شددت الياء، وتبعتها الراء في التشديد.

الإعراب: {وَآيَةٌ:} الواو: حرف استئناف. (آية): مبتدأ. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر مقدم. {أَنّا:} (أنّ): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {حَمَلْنا:} فعل، وفاعل.

{ذُرِّيَّتَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي الْفُلْكِ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْمَشْحُونِ:} صفة، وجملة:{حَمَلْنا..} . إلخ في محل رفع خبر: (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر. وهذا الإعراب هو فحوى كلام ابن هشام في المغني. وأجاز أبو البقاء اعتبار هذا المصدر خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هي أننا

إلخ.

وقال مكي: المصدر المؤول مفسر ل: (آية). هذا؛ وأرى أنّ (آية) خبر مقدم، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة:(آية). والمصدر المؤول في محل مبتدأ مؤخر، مثله:{وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ..} . إلخ، و {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ..} . إلخ. ولا حاجة إلى هذه التأويلات. والجملة الاسمية معطوفة على الجملتين المذكورتين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42)}

الشرح: المعنى: خلقنا لأهل مكة، وللناس أجمعين مثل الفلك المذكورة. {ما يَرْكَبُونَ:}

من الإبل؛ لأن الله خلقها للركوب، وللحمل مثل السفن المركوبة في البحر، والعرب تشبه الإبل بالسفن، قال طرفة في معلقته رقم [4]. [الطويل]

ص: 743

كأنّ حدوج المالكيّة غدوة

خلايا سفين بالنّواصف من دد

هذا قول. والقول الثاني: أن المراد جميع ما يركب من الدواب. والقول الثالث: أن المراد:

السفن، وأن المراد في الفلك المشحون: سفينة نوح خاصة على نحو ما رأيت فيما تقدم. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وهو الأظهر لقوله تعالى في الآية التالية: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} .

الإعراب: {وَخَلَقْنا:} الواو: حرف عطف. (خلقنا): فعل، وفاعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ مِثْلِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {ما} . هذا؛ وأجيز اعتبار {مِنْ} صلة في الإيجاب على مذهب الأخفش. ومثله حال من: {ما} . وقدمت لمناسبة رءوس الآي، والهاء في محل جر بالإضافة. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف التقدير: الذي يركبونه. وجملة: {وَخَلَقْنا..} . إلخ معطوفة على جملة: {حَمَلْنا..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.

{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)}

الشرح: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ} أي: في البحر، ونهلكهم فيه. {فَلا صَرِيخَ لَهُمْ:} فلا مغيث لهم، ولا معين، ولا منجد فهو فعيل بمعنى فاعل. وفي سورة (إبراهيم) قوله تعالى حكاية عن قول إبليس-أخزاه الله تعالى-:{ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} . {وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ:}

ينجون من الموت. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ولا أحد ينقذهم من عذابي.

هذا؛ وكما يطلق (الصريخ) على المغيث يطلق على الصارخ، وهو المستغيث فهو من الأضداد، كما صرح به أهل اللغة، ويكون مصدرا بمعنى: الإغاثة؛ لأنه في الأصل بمعنى:

الصراخ، وهو صوت مخصوص، وكل منهما صحيح هنا. انتهى. جمل نقلا من الشهاب، وقد قال الشاعر، -وهو الشاهد رقم [100] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» -: [الكامل] قوم إذا سمعوا الصّريخ رأيتهم

ما بين ملجم مهره، أو سافع

والصراخ: صوت المستغيث، وصوت المغيث؛ إذا صرخ بقومه للإغاثة. قال سلامة بن جندل:[البسيط] إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصراخ له قرع الظّنابيب

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف عطف. (إن): حرف شرط جازم. {نَشَأْ:} فعل مضارع فعل الشرط، وفاعله مستتر تقديره:«نحن» ، ومفعوله محذوف، التقدير: وإن نشأ إهلاكهم، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {نُغْرِقْهُمْ:}

فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام

ص: 744

معطوف على ما قبله، أو هو مستأنف لا محل له. {فَلا:} الفاء: قال أبو البقاء: حرف استئناف، وبه قال ابن عطية. وأرى صحة اعتبارها فصيحة تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا شئنا إغراقهم؛ (فلا

) إلخ. (لا): نافية للجنس تعمل عمل: «إنّ» . {صَرِيخَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا). هذا؛ وقال أبو البقاء: وقرئ بالرفع، والتنوين، فتكون:(لا) عاملة عمل: «ليس» ، وعلى الاعتبارين:

لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية.

{نُغْرِقْهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُنْقَذُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع إلخ، والواو نائب فاعله، والمتعلق محذوف، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{إِلاّ رَحْمَةً مِنّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)}

الشرح: {إِلاّ رَحْمَةً مِنّا..} . إلخ: أي لا ينقذهم من الغرق أحد إلا نحن؛ لأجل رحمتنا إياهم، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم. فقد بين الله تعالى: أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة الباهرة، فإن سير السفينة بما فيها من الرجال، والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة، فقد حملتهم قدرة الله تعالى، ونواميسه التي تحكم، وتصرفه بحكم خواص السفن، وخواص الماء، وخواص الريح، وكلها من أمر الله تعالى، وخلقه وتقديره، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهب الهواء، وإن لم تدركها رحمة الله؛ فهي هالكة في لحظة من ليل، أو نهار، والذين ركبوا البحار، وشاهدوا الأخطار يدركون هول البحر المخيف، ويحسون معنى رحمة الله تبارك وتعالى، وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف، والتيارات. انتهى.

صفوة التفاسير. هذا؛ وانظر ما ذكره الله تعالى عن الكافرين في الآية رقم [32] من سورة (لقمان) حيث يلجئون إلى الله تعالى حين يغشاهم الموج من جميع جهاتهم، ويدركون: أنهم هالكون لا محالة. ومعنى {إِلى حِينٍ:} إلى أجل يموتون فيه، لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق، ولقد أحسن أبو الطيب المتنبي؛ إذ يقول:[الوافر] ولم أسلم لكي أبقى ولكن

سلمت من الحمام إلى الحمام

ورحم الله من يقول: [الطويل] ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

تنوّعت الأسباب، والموت واحد

{وَمَتاعاً:} انتفاعا، وتلذذا. وتمتع، واستمتع بكذا: انتفع به، والمتعة: الانتفاع، والتلذذ بالشيء، وأمتعه الله، ومتّعه بكذا بمعنى واحد، ومتاع الغرور: أي: ما يغر، ويخدع، ولا يغر إلا ضعفاء الإيمان، وذوي النفوس المريضة. وخاب الفسقة الذين يقولون: إن متاع الغرور

ص: 745

المذكور في كثير من الآيات هو ما تحمله المرأة في أيام حيضها من خرق. فمن أين أتوا بهذا التفسير الذي لا يقره ذوق، فضلا عن عدم وجوده في كتاب اللغة؟ وانظر ما ذكرته في الآية رقم [148] من سورة (الصافات) تجد ما يسرك، وانظر شرح (الحين) في سورة (ص) رقم [88].

الإعراب: {إِلاّ:} أداة استثناء. {رَحْمَةً:} استثناء منقطع؛ لأنه ليس من جنس ما قبله، فهو استثناء من أعم العلل، فهو بمعنى المفعول لأجله. وقيل: هو مفعول مطلق، فعله محذوف. وقيل:

هو منصوب على نزع الخافض. {مِنّا:} جار ومجرور متعلقان ب: {رَحْمَةً،} أو بمحذوف صفة لها. {وَمَتاعاً:} معطوف على ما قبله. {إِلى حِينٍ:} متعلقان ب: (متاعا)، أو بمحذوف صفة له.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمُ:} لهؤلاء الكافرين من أهل مكة، وغيرهم. ومثلهم الملحدون، والفاسقون، والمفسدون في هذه الأيام. {اِتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ} أي: الوقائع التي خلت، والعذاب المعد لكم في الآخرة. أو: نوازل السماء، ونوائب الأرض، كقوله تعالى:

{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ..} . إلخ، الآية رقم [9] من سورة (سبأ) أو المراد: عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة، أو عكسه، أو: ما تقدم من الذنوب، وما تأخر.

هذا؛ والتعبير عن الأمام، والخلف بقوله تعالى:{ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ} ونحوه كثير في القرآن الكريم؛ وإن اختص كل موضع بتفسير، ومعنى حسب مقتضيات الأحوال، واختلافها، فمثلا قوله تعالى:{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} في الآية رقم [28] من سورة (الأنبياء) يفسر بغير ما في هذه الآية، وكذلك الآية رقم [110] من سورة (طه) وكلتاهما تخالفان معنى قوله تبارك وتعالى:{لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا} الآية رقم [64] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام، وهكذا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

هذا؛ و {قِيلَ} أصلها: (قول) بضم القاف، وكسر الواو، فنقلت حركة الواو إلى القاف قبلها بعد سلب حركتها، فصار:(قول) بكسر القاف وسكون الواو، ثم قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، فصار: قيل.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف عطف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {قِيلَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {اِتَّقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَيْدِيكُمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء للثقل، والكاف ضمير

ص: 746

متصل في محل جر بالإضافة. {وَما:} معطوفة على سابقتها فهي في محل نصب مثلها.

{خَلْفَكُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول إلخ، والجملة الفعلية:{اِتَّقُوا..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل {قِيلَ،} وهذا على قول من يجيز وقوع الجملة فاعلا، ويكون جاريا على القاعدة في بناء الفعل للمجهول:«يحذف الفاعل، ويقام المفعول به مقامه» وهذا لا غبار عليه. هذا؛ وقيل: نائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، أو هو محذوف يدل عليه المقام، التقدير: وقيل قول. وقيل: الجار والمجرور {لَهُمُ} في محل رفع نائب فاعل. والمعتمد الأول، وأيده ابن هشام في المغني؛ حيث قال: إن الجملة التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات، ولهذا تقع مبتدأ، نحو:(لا حول ولا قوة إلاّ بالله كنز من كنوز الجنة) ونحو: (زعموا مطية الكذب). وجملة: {قِيلَ..} . إلخ في محل جر بإضافة (إذا) إليها، وجواب (إذا) محذوف، تقديره: أعرضوا بدليل الآية التالية. {لَعَلَّكُمْ:}

حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها. {تُرْحَمُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعلّ) والجملة الاسمية فيها معنى التعليل للأمر. و (إذا) ومدخولها، كلام معطوف على (إنّ) ومدخولها لا محل له مثله.

{وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46)}

الشرح: المعنى: وما تأتي هؤلاء المشركين من أهل مكة، وغيرهم علامة من العلامات الواضحة، الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، كالمعجزات الباهرة؛ التي أيده الله بها، إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب، والاستهزاء. قال أبو السعود: وإضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا؛ لتفخيم شأنها، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بالآيات: الآيات التنزيلية، التي من جملتها الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات التي من جملتها ما ذكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية. انتهى. صفوة التفاسير. وقال الجمل نقلا من أبي السعود أيضا: الآية وسابقتها بيان لإعراضهم عن الآيات التنزيلية بعد بيان إعراضهم عن الآيات الآفاقية؛ التي كانوا يشاهدونها، وعدم تأملهم فيها. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (ما): نافية. {تَأْتِيهِمْ:}

مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والهاء مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {آيَةٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {مِنْ آياتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة:

{آيَةٍ،} و {آياتِ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه. والهاء ضمير متصل في محل جر

ص: 747

بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلاّ:} حرف حصر. {كانُوا:}

فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق. {عَنْها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.

{مُعْرِضِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم.

وجملة: {كانُوا..} . إلخ في محل نصب حال مستثنى من عموم الأحوال، وجملة:{وَما تَأْتِيهِمْ..} . إلخ معطوفة على جواب (إذا) المقدر، أو هي مستأنفة ولا محل لها على الاعتبارين.

{وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)}

الشرح: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ} أي: لهؤلاء المشركين من أهل مكة، ومن على شاكلتهم من مانعي الزكاة على سبيل النصيحة، والإرشاد. {أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ:} أعطوا الفقراء قسما من الأموال التي رزقكم الله إياها، وأنعم عليكم بها. {قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالله، وبحكمته، وأحكامه.

{لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: قالوا لهم تهكما، وسخرية، واستهزاء بهم. {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ} أي: أنعطي ونرزق من لو يشاء الله أعطاه، ورزقه؟! {إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي: ما أنتم أيها المؤمنون إلا في خطأ ظاهر واضح؛ حيث تأمروننا بأن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله، ولو شاء؛ لأغناهم مثلنا. وقيل: إن الجملة الاسمية من قول المؤمنين للكافرين. وقيل: هي من قول الله لهم.

قال الخازن: نزلت الآية في كفار قريش، وذلك: أن المؤمنين قالوا لكفار مكة: أنفقوا على المساكين مما زعمتم: أنه لله تعالى من أموالكم. وهو ما جعلوه لله من حروثهم، وأنعامهم. انتهى. وقال القرطبي: قيل: إن أبا بكر الصديق-رضي الله عنه-كان يطعم مساكين المسلمين، فلقيه أبو جهل الخبيث، فقال: يا أبا بكر! أتزعم: أن الله قادر على إطعام هؤلاء؟ قال: نعم. قال: فما باله لم يطعمهم؟ قال: ابتلى قوما بالفقر، وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر، وأمر الأغنياء بالإعطاء. فقال: يا أبا بكر! ما أنت إلا في ضلال، أتزعم أن الله قادر على إطعام هؤلاء، وهو لا يطعمهم؟ ثم تطعم أنت، فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى في سورة الليل:{فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى..} . إلخ. هذا؛ وقد صدقوا في قولهم لو شاء الله أطعمهم، ولكن كذبوا في الاحتجاج، ومثله ما حكى الله عنهم بقوله:{سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا..} . إلخ الآية رقم [148] من سورة (الأنعام)، وقوله تعالى عن المنافقين:{قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} . انتهى.

وقال الخازن: ومعنى الآية: أنهم قالوا: لو أراد الله أن يرزقهم؛ لرزقهم، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم، فلا نطعم من لم يطعمه. وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون: لا نعطي من

ص: 748

حرمه الله، وهذا الذي يزعمون باطل؛ لأن الله تبارك وتعالى أغنى بعض الخلق، وأفقر بعضهم، ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا، وأعطى الدنيا للغني لا استحقاقا، وأمر الغني بالإنفاق، لا حاجة إلى ماله، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له من مال الغني، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله تعالى، وحكمته في خلقه، والمؤمن يوافق أمر الله فيما أمر، وينتهي عما نهى عنه. انتهى.

الإعراب: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا:} انظر إعراب هذه الكلمات في الآية رقم [45]. {مِمّا:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من) التقدير: من رزق الله لكم، وعلى الاعتبارين الأولين فالجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: أنفقوا من الذي، أو من شيء رزقكم الله إياه، و (إذا) ومدخولها كلام معطوف على مثله، لا محل له مثله. {قالَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلته. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {قالَ،} وجملة: {آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {أَنُطْعِمُ:} الهمزة: حرف استفهام.

(نطعم): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{يَشاءُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: لو يشاء الله إطعامه.

والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {أَطْعَمَهُ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والهاء مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب:{لَوْ،} و {لَوْ} ومدخولها صلة {مَنْ} أو صفتها، والجملة الفعلية:{أَنُطْعِمُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قالَ..} . إلخ جواب: (إذا)، لا محل لها.

{إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {أَنْتُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي ضَلالٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر المبتدأ. {مُبِينٍ:} صفة: {ضَلالٍ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، إن كانت من مقول الذين كفروا، ومستأنفة إن كانت من قول المؤمنين، أو من قول الله تعالى.

{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)}

الشرح: لما قيل لهم: {اِتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ؛} قالوا: متى يكون يوم القيامة الذي تتوعدوننا به؟ ومتى يقع هذا العذاب الذي تخوفوننا به؟ {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} في دعواكم: أن هناك بعثا، أو نشورا، وحسابا شديدا، وعذابا أليما فأتوا بذلك كله. وقولهم هذا على وجه التكذيب،

ص: 749

والاستبعاد، والاستهزاء، وإنما قالوا بلفظ الجمع:{إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} لأن كل أمة قالت لرسولها كذلك. أو المعنى إن كنت صادقا أنت، وأتباعك يا محمد! والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يقولون): فعل مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله. {مَتى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {هذَا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْوَعْدُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، لدلالة ما قبله عليه، انظر تقديره في الشرح، والكلام كله في محل نصب مقول القول، والجملة الفعلية: (يقولون

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{ما يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)}

الشرح: {ما يَنْظُرُونَ:} ما ينتظرون. {إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً:} هي نفخة إسرافيل الأولى التي يموت بها من كان على وجه الأرض. {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ:} يتخاصمون في متاجرهم، وفي معاملاتهم، وفي بيعهم، وشرائهم، فيموتون في مكانهم. وهذه نفخة الصعق. وفي {يَخِصِّمُونَ} خمس قراءات: وأصله: يختصمون، فسكنت التاء، وأدغمت في الصاد، ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. فهذه الآية تحدثنا عن أول أهوال يوم القيامة. وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ولتقومنّ الساعة، وقد نشر الرجلان ثوبا بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومنّ الساعة، وقد انصرف الرجل بلبن لقحته، فلا يطعمه، ولتقومنّ الساعة، وهو يليط حوضه، فلا يسقي فيه، ولتقومنّ الساعة، وقد رفع أكلته إلى فيه، فلا يطعمها» . أخرجه البخاري. انتهى. خازن. ولم أجده في التجريد الصريح، أما الحافظ المنذري، فقال: رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.

الإعراب: {ما:} نافية. {يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {صَيْحَةً:} مفعول به. {واحِدَةً:} صفة. {تَأْخُذُهُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:

{صَيْحَةً،} والهاء مفعول به. والجملة الفعلية في محل نصب صفة ثانية ل: {صَيْحَةً،} أو في محل نصب حال منها بعد وصفها ب: {واحِدَةً} . {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ.

{يَخِصِّمُونَ:} فعل مضارع، وفاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة

ص: 750

الاسمية في محل نصب حال من الضمير المنصوب. والرابط: الواو، والضمير. والجملة الفعلية:{ما يَنْظُرُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)}

الشرح: {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} أي: إذا حصلت الصيحة؛ فلا يقدر الناس أن يوصي بعضهم بعضا بأمر من الأمور، أو بالتوبة إلى الله تعالى، والإقلاع عن المعاصي؛ بل يموت كل واحد في مكانه الذي هو فيه. {وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي: لا يرجعون إلى منازلهم. بمعنى لا يتمكنون من ذلك. والحديث الذي ذكرته شاهد صدق.

الإعراب: {فَلا:} الفاء: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَسْتَطِيعُونَ:} مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {تَوْصِيَةً:} مفعول به. {وَلا:} الواو:

حرف عطف. (لا): نافية. {إِلى أَهْلِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {يَرْجِعُونَ:}

مضارع مرفوع، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)}

الشرح: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ:} الصور كهيئة البوق. قاله مجاهد، ويدل على صحته ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنه، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

ما الصّور؟ قال: «قرن ينفخ فيه» . أخرجه أبو داود والترمذي رحمهما الله تعالى، وقال أبو هريرة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله لمّا فرغ من خلق السموات والأرض خلق الصّور، فأعطاه إسرافيل، فهو واضعه على فيه، شاخص ببصره إلى العرش، ينتظر متى يؤمر بالنفخة» . قلت:

يا رسول الله! ما الصّور؟ قال: «قرن والله عظيم! والذي بعثني بالحقّ إنّ عظم دارة فيه كعرض السماء والأرض!» .

وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم؟ وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ؟!» . وكأنّ ذلك ثقل على أصحابه، فقالوا: كيف نفعل يا رسول الله؟! وكيف نقول؟ فقال: «قولوا: حسبنا الله، ونعم الوكيل، على الله توكّلنا» . وربّما قال: «توكلنا على الله» . أخرجه الترمذي.

وينبغي أن تعلم: أن الذي ينفخ في الصور، إنما هو إسرافيل-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-أحد الملائكة العشرة المقربين، وهو ينفخ نفختين، بينهما أربعون عاما على الصحيح، الأولى: لإماتة الخلق أجمعين، والثانية: لإحيائهم، وبعثهم للحساب، والجزاء.

ص: 751

والآيات هنا دلت على ذلك. وخذ قوله تعالى في سورة (الزمر) رقم [68]: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} .

{فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ} أي: القبور، وقرئ بالفاء:«(من الأجداف)» ذكره الزمخشري، يقال:

جدث، جدف، واللغة الفصيحة الجدث بالثاء، والجمع: أجدث، وأجداث، قال المنتخل الهذلي:[الوافر]

عرفت بأجدث، فنعاف عرق

علامات كتحبير النّماط

هذا؛ وقال تعالى في سورة (القمر): {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ،} وقال في سورة (المعارج): {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} .

{إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ:} يخرجون. ومنه قول امرئ القيس في معلقته رقم [27]: [الطويل]

وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلي

قرئ بضم السين، وكسرها، ومنه قيل للولد: نسل؛ لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل:

المعنى: يسرعون، والنسلان، والعسلان: الإسراع في السير، ومنه: مشية الذئب، قال لبيد.

وقيل: هو للنابغة: [الرمل]

عسلان الذئب أمسى قاربا

برد الليل عليه فنسل

الإعراب: {وَنُفِخَ:} الواو: حرف عطف. (نفخ): فعل ماض مبني للمجهول. {فِي الصُّورِ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل. {فَإِذا هُمْ:} انظر الآية رقم [29] ففيها الكفاية. {مِنَ الْأَجْداثِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {إِلى رَبِّهِمْ:} متعلقان بالفعل بعدهما أيضا، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{يَنْسِلُونَ:} مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو:{هُمْ} .

{قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)}

الشرح: {قالُوا يا وَيْلَنا} أي: يقول الكافرون حين يخرجون من قبورهم: يا هلاكنا. وهذه القراءة سبعية، وقرأ ابن أبي ليلى:«(يا ويلتنا)» بتاء التأنيث، وعنه أيضا:«(يا ويلتى)» بإبدال الياء ألفا، وتأويل هذا: أن كل واحد منهم يقول: يا ويلتي. انتهى. جمل نقلا عن السمين. هذا؛ والتعبير في هذه الآية، ونحوها بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق وقوعه.

{مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا:} من أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها؟ وهذا على اعتبار (مرقد) اسم مكان، وأما على اعتباره مصدرا، فيكون المعنى: من بعثنا من رقادنا؟ أي: من نومنا، وهذا

ص: 752

أحسن؛ لأن المصدر يفرد مطلقا، بخلافه على الأول، فيكون المفرد أقيم مقام الجمع، فإن قيل:

كيف يقولون هذا، وهم من المعذبين في قبورهم؟ فالجواب: يكون من ثلاث جهات: الأولى:

قال أبي بن كعب: ينامون نومة. الثانية: قال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور، وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية، وبينهما أربعون سنة. وهذا قاله ابن عباس، وقتادة-رضي الله عنهما-الثالثة: قال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب، صار ما عذّبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم.

أقول: ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة (غافر): {النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} . {هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} أي: هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت، والحساب، والجزاء، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله تعالى. وهذا من كلامهم. وقيل: هو من كلام الملائكة لهم. وقيل: هو من كلام المؤمنين جوابا لهم عن سؤالهم، معدولا به عن سننه، تذكيرا لكفرهم، وتقريعا لهم عليه، وتنبيها بأن الذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث، كأنهم قالوا: بعثكم الرحمن الذي وعدكم البعث، فأرسل إليكم الرسل، فصدقوكم، وليس الأمر كما تظنونه، فإنه ليس بعث النائم، فيهمكم السؤال عن الباعث، وإنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال. انتهى. بيضاوي بتصرف.

هذا؛ وفي الآية استعارة تصريحية أصلية، حيث استعير الرقاد للموت. والجامع بينهما عدم ظهور الفعل منهما. وهذا على اعتبار (مرقد) مصدرا ميميا، وأما على اعتباره اسم مكان؛ فالاستعارة تبعية.

الإعراب: {قالُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. (يا): أداة نداء، والمنادى محذوف.

كأنهم قالوا لبعضهم: يا هؤلاء ويلا لنا، فلما أضاف حذف اللام الثانية، وعليه ف:(ويلا) مصدر مفعول مطلق فعله محذوف. و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وهذا قاله الجلال، وأيده سليمان الجمل، وقول لمكي، وأجيز اعتبار:(ويلنا) منادى مثل: {يا حَسْرَةً} في الآية رقم [30] فيكون المعنى: يقول الكافر يوم القيامة: تعال يا ويل هذا زمانك، وإبانك، وقال الكوفيون: إن (ويل) كلمة برأسها، و «لنا» جار ومجرور متعلقان به. ولا معنى لهذا إلا بتأويل بعيد، وهو أن يكون: يا عجب لنا؛ لأن (وي) تفسر بمعنى: أعجب منا. انتهى. جمل. وعليه يكون الكافر قد نادى العجب. تأمل، وتدبر.

{مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بَعَثَنا:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {مَنْ}. و (نا): مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول كالجملة التي قبلها، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 753

هذا؛ وقرئ: «(من بعثنا)» على اعتبارهما جار ومجرور متعلقين بالمصدر: (ويل). {مِنْ مَرْقَدِنا:}

جار ومجرور متعلقان بما قبلهما على القراءتين. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {ما:} اسم موصول، أو نكره موصوفة مبنية على السكون في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: هذا الذي، أو: شيء وعده الرحمن عباده، فيكون قد حذف المفعولين، ويجوز اعتبار:{ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل رفع خبر المبتدأ، فيكون التقدير: هذا؛ وعد الرحمن عباده البعث، والجزاء، وصدق المرسلين. وعلى الأول، التقدير: والذي صدقه المرسلون. والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر الشرح.

هذا؛ وأجيز اعتبار اسم الإشارة في محل جر صفة ل: {مَرْقَدِنا،} فيكون الوقف على {مَرْقَدِنا} . هذا، وما بعده مستأنف، وفيه ثلاث اعتبارات: الأول: {ما:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو ما وعد الرحمن. الثاني: بمعنى: الحق ما وعد الرحمن. والثالث: أن يكون بمعنى: الذي وعد الرحمن حق. والكلام هذا في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر ما ذكرته في الشرح.

{إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53)}

الشرح: {إِنْ كانَتْ إِلاّ صَيْحَةً واحِدَةً} أي: ما كانت النفخة الثانية التي ينفخها إسرافيل على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ ويقرأ برفع صيحة على اعتبار (كان) تامة، ومثلها الآية رقم [29]. وفي القرطبي: يعني: إن بعثهم، وإحياءهم كان بصيحة واحدة، وهي قول إسرافيل: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتقطعة، والشعور المتفرقة، واللحوم المتمزقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء. وهو فحوى قوله تعالى في سورة (ق):{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} . {فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ} أي: مجموعون عندنا للحساب، والجزاء، وفي ذلك تهوين البعث، والحشر، والنشر، واستغناؤهما عن الأسباب التي ينوطان بها فيما يشاهدونه، وخذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين النفختين أربعون» . قيل:

أربعون يوما؟ قال أبو هريرة: أبيت، قال: أربعون شهرا؟ قال: أبيت، قال: أربعون سنة؟ قال:

أبيت، «ثمّ ينزل من السّماء ماء فينبتون كما ينبت البقل، وليس من الإنسان شيء، إلا يبلى إلا عظم واحد، وهو عجب الذّنب، منه يركّب الخلق يوم القيامة» . رواه البخاري، ومسلم.

الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {كانَتْ:} فعل ماض ناقص، واسمه محذوف، يفهم من المقام، التقدير: ما كانت الفعلة التي فعلها إسرافيل. {إِلاّ:} حرف حصر. {صَيْحَةً:}

ص: 754

خبر كان، وعلى قراءتها بالرفع، فهي فاعل:{كانَتْ،} على اعتبارها بمعنى حصلت، ووقعت.

{واحِدَةً:} صفة: {صَيْحَةً} على القراءتين. {فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ:} انظر الآية رقم [29] ففيها الكفاية.

{لَدَيْنا:} ظرف مكان متعلق بما بعده، منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المنقلبة ياء، لاتصاله ب:(نا) التي هي ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مُحْضَرُونَ:} صفة {جَمِيعٌ} مرفوع إلخ، والجملة الفعلية:{إِنْ كانَتْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)}

الشرح: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي: ففي ذلك اليوم يوم القيامة، لا تظلم نفس شيئا بنقص ثوابها، أو بزيادة وزرها، سواء أكانت هذه النفس برة، أو فاجرة. {وَلا تُجْزَوْنَ إِلاّ..}. إلخ: أي: لا تجزون إلا بأعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهذا حكاية لما سيقال لهم في الآخرة حين يرون العذاب المعد لهم، تحقيقا للحق، وتصديقا للوعيد، والوعد، وتقريعا لهم.

الإعراب: {فَالْيَوْمَ:} الفاء: حرف استئناف. (اليوم): ظرف زمان متعلق بالفعل بعده.

{لا:} نافية. {تُظْلَمُ:} فعل مضارع مبني للمجهول. {نَفْسٌ:} نائب فاعله. {شَيْئاً:}

مفعول به ثان، أو هو نائب مفعول مطلق. والجملة الفعلية:{فَالْيَوْمَ..} . إلخ، مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {تُجْزَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها. والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: إلا الذي، أو:

شيئا كنتم تعملونه. وعلى اعتبار {ما} مصدرية، تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به ثان، التقدير: إلا عملكم. هذا؛ وأجيز اعتبار {ما} على جميع الوجوه فيها منصوبة بنزع الخافض، التقدير: إلا بما كنتم تعملون، وهو كثير في القرآن الكريم، وجملة:

{وَلا تُجْزَوْنَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55)}

الشرح: {إِنَّ أَصْحابَ..} . إلخ: {فِي شُغُلٍ} أي: بما هم فيه من اللذات، والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي، ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيه أقرباؤهم، وأهلوهم، وقال ابن كيسان: مشغولون في زيارة بعضهم بعضا. وقيل: مشغولون في ضيافة الله تعالى، وروي: أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبادي الذين أطاعوني،

ص: 755

وحفظوا عهدي بالغيب؟ فيقومون كأن وجوههم البدر، والكوكب الدّرّي ركبانا على نجب من نور، أزمتها الياقوت، تطير بهم على رءوس الخلائق، حتى يقوموا بين يدي العرش، فيقول الله عز وجل لهم:«السّلام على عبادي الذين أطاعوني، وحفظوا عهدي بالغيب، أنا اصطفيتكم، وأنا اجتبيتكم وأنا اخترتكم، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب، و {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ» فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف، فتفتّح لهم أبوابها، ثم إن الخلق في المحشر موقوفون، فيقول بعضهم لبعض: يا قوم أين فلان وفلان؟ وذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ} . انتهى. قرطبي.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: شغلوا بافتضاض الأبكار، وسماع الأوتار عن أهليهم من أهل النار، لا يذكرونهم؛ لئلا يتنغصوا. وقال أبو حيان: والظاهر: أن الشغل هو النعيم؛ الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال، وهذا أولى وأقوى.

و: {تَفَكَّهُونَ:} مسرورون، ناعمون، فرحون، وقرئ:«(فكهون)» و «(فكهين)» وفي تنكير {شُغُلٍ} وإبهامه، تعظيم لما هم فيه من البهجة، والتلذذ، وتنبيه على أنه مما لا يحيط به الأفهام، ولا يعرب عن كنهه الكلام. هذا؛ وقرئ:{شُغُلٍ} بضم الغين، وسكونها، وهي قاعدة عربية. قال عيسى بن عمر: كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم وأوسطه ساكن، فمن العرب من يخففه، ومنهم من يثقله. وذلك مثل: رسل، وعسر، ويسر، وأسد، ورحم

إلخ، ولا تنس: أن الله تبارك وتعالى لما أخبر عن حال المجرمين، ومآلهم؛ أخبر عن حال الأبرار المتقين، ومآلهم. وتلك سنة اقتضتها حكمة الحكيم العليم، ورحمته في كتابه الكريم بأن لا يذكر التكذيب من الكافرين والمنافقين؛ إلا ويذكر التصديق من المؤمنين، ولا يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة، ونعيمها؛ إلا ويذكر النار، وجحيمها، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب، والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا، خائفا راجيا. وهذا ما يسمى بالمقابلة.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {أَصْحابَ:} اسم (إنّ) وهو مضاف، و {الْجَنَّةِ} مضاف إليه. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق ب: {تَفَكَّهُونَ} . وقيل: متعلق بمحذوف حال، ولا وجه له. {فِي شُغُلٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر أول، وأجيز تعليقهما بما بعدهما.

{تَفَكَّهُونَ:} خبر مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنَّ أَصْحابَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56)}

الشرح: {هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ:} في ظلال الجنان الوارفة؛ حيث لا شمس فيها، ولا زمهرير، و {ظِلالٍ} جمع: ظلة، مثل: قباب جمع: قبة، أو جمع: ظل، مثل: شعاب

ص: 756

جمع: شعب. {عَلَى الْأَرائِكِ:} السرر في الحجال، واحدها أريكة، مثل: سفينة، وسفائن، والمراد بها: نحو قبة تغلق على السرير، وتزين به العروس، قال الشاعر:[الطويل] كأنّ احمرار الورد فوق غصونه

بوقت الضحى في روضة المتضاحك

خدود عذارى قد خجلن من الحيا

تهادين بالرّيحان فوق الأرائك

الإعراب: {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {وَأَزْواجُهُمْ:}

معطوف على الضمير، والهاء في محل جر بالإضافة. {فِي ظِلالٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {عَلَى الْأَرائِكِ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مُتَّكِؤُنَ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه الواو إلخ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان للمبتدإ، أو هي مستأنفة. لا محل لها كالجملة الاسمية السابقة لها. هذا الإعراب هو الظاهر، وهو المعتمد.

هذا؛ وأجيز اعتبار: {مُتَّكِؤُنَ} خبر المبتدأ والجارين والمجرورين متعلقين به. كما أجيز اعتبار الضمير توكيدا للمستتر في: {شُغُلٍ،} أو في: {تَفَكَّهُونَ،} و (أزواجهم) معطوفا عليه، واعتبار:

{فِي ظِلالٍ} متعلقين بمحذوف حال من: (أزواجهم)، واعتبار الجملة الاسمية:{عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ:} في محل رفع خبر ثان ل: {إِنَّ} واعتبارها مستأنفة أيضا، والإعراب الأول أقوى وأوضح.

{لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57)}

الشرح: {لَهُمْ:} لأصحاب الجنة. {فِيها:} في الجنة. {فاكِهَةٌ:} كثيرة من كل أنواع الفواكه. {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ:} ما يتمنون، وما يشتهون، وما يطلبون، فمهما طلبوا من أنواع الملاذ؛ وجدوه، فعن أسامة بن زيد-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا هل من مشمّر إلى الجنّة، فإنّ الجنة لا خطر لها. هي وربّ الكعبة نور كلّها يتلألأ، وريحانة تهتزّ، وقصر مشيد، ونهر مطّرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في دار سلامة، وفاكهة خضرة، وخير، ونعمة في محلّة عالية بهيّة» . قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها! قال صلى الله عليه وسلم: «قولوا: إن شاء الله» . فقال القوم: إن شاء الله. أخرجه ابن أبي حاتم، ورواه ابن ماجة في كتاب الزهد. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ وأصل {يَدَّعُونَ:} يدتعيون على وزن يفتعلون، فأسكنت الياء؛ لأن الضم فيها ثقيل، وألقيت حركتها على العين بعد أن أزيلت حركة العين، ثم حذفت الياء لسكونها، وسكون الواو بعدها، فصار: يدتعون، ثم قلبت التاء دالا، وأدغمت الدال في الدال، فصار:{يَدَّعُونَ} وقلبت التاء دالا، ولم تقلب الدال تاء؛ لأنّ الدال حرف مجهور، والتاء مهموسة، والمجهور أقوى في اللفظ من المهموس. انتهى. مكي بن أبي طالب القيسي بتصرف.

ص: 757

الإعراب: {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف في محل نصب حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وبعضهم يعتبرهما متعلقين بمحذوف حال من:{فاكِهَةٌ} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا. وبعضهم لا يجيز مجيء الحال من المبتدأ. {فاكِهَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية يجوز فيها ما جاز بالجملة:{عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ} من أوجه. {وَلَهُمْ:}

الواو: حرف عطف. (لهم): متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: ولهم الذي، أو: شيء يدعونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل رفع مبتدأ مؤخر، التقدير: ولهم ادعاؤهم. والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها.

{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}

الشرح: {سَلامٌ..} . إلخ: يعني: سلم الله عز وجل عليهم. روى البغوي بإسناد الثعلبي عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما أهل الجنة في نعيمهم؛ إذ سطع لهم نور، فرفعوا رءوسهم فإذا الرّبّ عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السّلام عليكم يا أهل الجنة! فذلك قوله عز وجل: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم، ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم» . أخرجه ابن أبي حاتم، قال ابن كثير: وفي إسناده نظر، ورواه ابن ماجة في كتاب السنة من سننه.

وقيل: تسلم الملائكة عليهم من ربهم. وقيل: تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب، يقولون: سلام عليكم من ربكم الرحيم، وهذا صريح قوله تعالى في سورة (الرعد):{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ} وقال تعالى في الآية رقم [10] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ} . وقال تعالى في الآية رقم [44] من سورة (الأحزاب): {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} .

الإعراب: {سَلامٌ:} بدل من {ما} في الآية السابقة، والتقدير: ولهم سلام. ويجوز أن يكون صفة ثانية لها، على اعتبارها موصوفة، التقدير: ولهم شيء يدعونه مسلّم. ويجوز أن يكون خبرا لها، و (لهم) ظرف ملغى. هذا؛ وقرأ ابن مسعود، وأبيّ وغيرهما:(سلاما) بالنصب، وعليه فهو مفعول مطلق، عامله محذوف. أو: هو حال في معنى مسلّما، أو: ذا سلامة، وصاحب: الحال ما، أو «من» العائد عليها المحذوف. هذا؛ وزيد في قراءته بالرفع

ص: 758

اعتباره خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو سلام، واعتباره مبتدأ خبره الناصب ل:{قَوْلاً،} أي {سَلامٌ} يقال لهم {قَوْلاً} . وقيل: تقديره: سلام عليكم، واعتباره مبتدأ وخبره:{مِنْ رَبٍّ} . انتهى. جمل نقلا عن السمين، وانفرد الجلال باعتباره مبتدأ خبره:{قَوْلاً،} تقديره:

سلام بالقول، فاعتبر {قَوْلاً} منصوبا ينزع الخافض. {قَوْلاً:} مفعول مطلق فعله محذوف، التقدير: يقولونه قولا يوم القيامة، أو قال الله تعالى ذلك قولا، والجملة الفعلية مستأنفة، أو معترضة. {مِنْ رَبٍّ:} متعلقان ب: {قَوْلاً،} أو بمحذوف صفة له، أو متعلقان بمحذوف خبر سلام على وجه مر ذكره. {رَحِيمٍ:} صفة: {رَبٍّ} .

{وَاِمْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}

الشرح: {وَامْتازُوا..} . إلخ: أي: يقال لهم: اعتزلوا، وانفردوا، وتميزوا اليوم من المؤمنين الصالحين، وكونوا على حدة. وقيل: إن لكل كافر في النار بيتا، فيدخل ذلك البيت، ويردم بابه، فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى، ولا يرى، فعلى هذا القول يمتاز بعضهم عن بعضهم. انتهى. خازن. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة. وقال داود بن الجراح:

يمتاز المسلمون من الكافرين؛ إلا أصحاب الأهواء، فيكونون مع المجرمين.

وقد ذكر هذا التمييز، والتفريق بين المؤمنين، والكافرين في كثير من الآيات. خذ قوله تعالى في الآية رقم [28] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ} . وقال تعالى في الآية رقم [14] من سورة (الروم):

{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} .

هذا؛ وفي المنجد الناقل عن القاموس قوله: ماز، يميز، وميّز، وأماز الشيء: فرزه عن غيره، والشيء: فضلّه عن سواه. وتميّز، وانماز انميازا، وامتاز امتيازا، واستماز استمازة:

انفصل عن غيره وانعزل. وتميّز فلان من الغيظ: تقطع، وامتاز القوم: تميّز بعضهم من بعض.

هذا؛ وقد قال الله تعالى في سورة (آل عمران) رقم [179]{ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} . وقال عز وجل في سورة (الأنفال) رقم [37]: {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ..} . وقال تعالت حكمته في سورة (الملك) رقم [8]: {تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ..} . إلخ.

تنبيه: المراد ب: المجرمين في هذه الآية: الكافرون، وكثيرا ما يعبر القرآن الكريم عن الكافرين بالظالمين، والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، والكاذبين

إلخ، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعدهم بالعقاب الشديد، وإننا نجد الكثير من المسلمين يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد، وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يوجه إليهم ما ذكر،

ص: 759

وهم أحق بذلك؛ لا سيما من قرأ القرآن منهم، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم من رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

الإعراب: {وَامْتازُوا:} الواو: حرف عطف. (امتازوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {أَيُّهَا:} منادى نكرة مقصودة، حذف منها أداة النداء، مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء المحذوفة، و (ها):

حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {الْمُجْرِمُونَ:} صفة: (أيّ) لأنه مشتق. ويجوز اعتباره بدلا من (أيّ)، أو عطف بيان عليه، فهو مرفوع تبعا للفظ، والآية بكاملها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: فيقال للكافرين: امتازوا، وهذه الجملة معطوفة على ما يقال لأصحاب الجنة، وما أعد لهم من النعيم المقيم، والخير العميم، وذلك من باب المقارنة، والمقابلة؛ التي رأيتها في الآية رقم [55].

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)}

الشرح: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي..} . إلخ: العهد: الوصية، وعهد إليه: إذا وصاه، وعهد الله إليهم: ما ركزه فيهم من الأدلة العقلية، والحجج السمعية، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره. واعتبر طاعة الشيطان عبادة له؛ لأنه الآمر بالكفر، وعبادة غير الله تعالى. هذا؛ وهناك عهد قديم أزلي أخذه على بني آدم؛ وهم في عالم الذر أن يعبدوه، ولا يشركوا به. خذ قوله تعالى في الآية رقم [172] من سورة (الأعراف):{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} وهذا الكلام من جملة ما يقال للكافرين يوم القيامة على سبيل التقريع، والتوبيخ، والإلزام للحجة.

هذا؛ و (عدو) ضد الصديق، وهو على وزن فعول بمعنى فاعل، مثل: صبور، وشكور، وما كان من هذا الوزن يستوي فيه المفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر، والمؤنث، إلا لفظا واحدا جاء نادرا، قالوا: هذه عدوّة الله. قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} فقد عبر به عن مفرد، وقال تعالى:{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاّ رَبَّ الْعالَمِينَ} فقد عبر به عن جمع، ومثل ذلك صديق. وجمع عدو: أعداء، وأعاد، وعدات، وعدى. وقيل: أعاد جمع: أعداء، فيكون جمع الجمع. وفي «القاموس المحيط»: والعدا (بالضم، والكسر) اسم الجمع. هذا، وسمي العدو عدوا؛ لعدوه عليك عند أول فرصة تسنح له للإيقاع بك، والقضاء عليك، كما سمي الصديق صديقا؛ لصدقه فيما يدعيه لك من الألفة، والمودة، والمحبة. هذا؛ والعبادة: غاية التذلّل، ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال، وهو الله تعالى؛ ولذا يحرم السجود لغير الله تعالى.

وقيل: العبودية أربعة: الوفاء بالعهود، والرضا بالموجود، والحفظ للحدود، والصبر على

ص: 760

المفقود، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: «أنا، والإنس، والجنّ في نبأ عظيم، أخلق؛ ويعبد غيري، وأرزق؛ ويشكر غيري» .

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {أَعْهَدْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) والفاعل مستتر، تقديره:«أنا» . {إِلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. (يا): أداة نداء، تنوب مناب أدعو. (بني): منادى منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني) مضاف، و:{آدَمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {أَنْ:} حرف تفسير لسبقه بجملة فيها معنى القول دون حروفه، أو هي مصدرية ناصبة. {لا:} ناهية على التفسير، ونافية على اعتبار {أَنْ} ناصبة. {تَعْبُدُوا:}

مجزوم ب: {لا،} أو منصوب ب: {أَنْ} وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى اعتبار {أَنْ} مفسرة؛ فالجملة الفعلية لا محل لها، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: بأن لا تعبدوا. والجار، والمجرور متعلقان بالفعل {أَعْهَدْ}. {الشَّيْطانَ:}

مفعول به. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل. {لَكُمْ:} متعلقان ب: {مُبِينٌ،} أو ب: {عَدُوٌّ} بعدهما. {عَدُوٌّ:} خبر (إن). {مُبِينٌ:} صفة. والجملة الاسمية تعليل لما قبلها. والآية بكاملها في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: فيقول الله: ألم أعهد

إلخ.

{وَأَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}

الشرح: {وَأَنِ اعْبُدُونِي:} خصوني بالعبادة. {هذا:} إشارة إلى ما عهد إليهم من معصية الشيطان، وطاعة الرحمن؛ إذ لا صراط أقوم منه. {صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ:} ففي التنكير معنى (الصراط) بليغ في بابه؛ بليغ في استقامته، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه. ويجوز أن يراد: هذا بعض الصراط المستقيمة، توبيخا لهم على العدول عنه، والتفادي عن سلوكه، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج، الذي يؤدي إلى الضلالة، والتهلكة. انتهى. كشاف بحروفه.

الإعراب: {وَأَنِ:} الواو: حرف عطف. (أن): معطوفة على سابقتها على الوجهين المعتبرين فيها. {اُعْبُدُونِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها.

{هذا:} مبتدأ. {صِراطٌ:} خبره. {مُسْتَقِيمٌ:} صفة له. والجملة الاسمية مستأنفة، وفيها معنى التعليل، وهي من جملة مقول القول المقدر.

ص: 761

{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}

الشرح: {وَلَقَدْ أَضَلَّ:} أخرج الشيطان عن طريق الحق، وأغوى {مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً} أي:

خلقا كثيرا، وجموعا كثيرة، ففيه خمس قراءات. هذا؛ والجبلة: الخليقة. قال تعالى في سورة (الشعراء) رقم [184]: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} . {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي: تعرفون عداوته، وتعلمون: أن الواجب طاعة الله، وامتثال أمره، واجتناب نهيه؟، أو المعنى: أفما كان لكم عقل يردعكم عن طاعة الشيطان، ومخالفة أمر ربكم؟! وهو توبيخ، وتقريع آخر للكفرة الفجار.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبرون الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف. ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو أقسم والله، واللام واقعة في جواب القسم المحذوف. وبعضهم يقول: موطئة للقسم، والموطئة معناها:

المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على:«إن» الشرطية، لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر) افهم هذا؛ واحفظه، فإنه جيد إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم! فالجواب: أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:

{وَالضُّحى} . {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ

،} فإنه التقدير: ورب الضحى، ورب السماء إلخ. الدليل على ذلك التصريح به في قوله تعالى:{فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} الآية رقم [23] من سورة (الذاريات) وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها..} . إلخ الآية رقم [71] من سورة (مريم) وأظهر منه في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} الآية رقم [73] من سورة (المائدة)، فالواو في الآيتين حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب.

(قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {أَضَلَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الشيطان، تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية {(لَقَدْ أَضَلَّ

)} إلخ جواب القسم، لا محل لها، والقسم وجوابه كلام معطوف على ما قبله، فهو في محل نصب مقول القول أيضا. {مِنْكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {جِبِلاًّ:} مفعول به. {كَثِيراً:} صفة له. {أَفَلَمْ:}

ص: 762

الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الفاء: حرف عطف على محذوف، أو هي حرف استئناف.

(لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {تَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{تَعْقِلُونَ} في محل نصب خبر: {تَكُونُوا} . والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة، أو هي مستأنفة، وهي من جملة مقول القول.

{هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اِصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)}

الشرح: تقول لهم خزنة جهنم: هذه جهنم التي وعدتم، فكذبتم بها، فذوقوا حرها بسبب كفركم في الدنيا، وهو أمر إهانة وتحقير لهم، وهو كقوله تعالى في سورة الطور:{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ،} فقد روي عن أبي هريرة-رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجنّ والأوّلين والآخرين في صعيد واحد، ثمّ أشرف عنق من النّار على الخلائق، فأحاط بهم، ثمّ ينادي مناد: {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ..}. إلخ فحينئذ تجثو الأمم على ركبها، وتضع كلّ ذات حمل حملها، وتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكنّ عذاب الله شديد» .

هذا؛ وفي المصباح المنير: صلي بالنار، وصليها صلى من باب: تعب: وجد حرها.

والصّلاء وزان كتاب: حر النار. وصليت اللحم أصليه من باب: رمى: شويته. وقال الجوهري:

يقال: صليت الرجل نارا: إذا أدخلته النار، وجعلته يصلاها. فإن ألقيته فيها إلقاء، كأنك تريد الإحراق؛ قلت: أصليته بالألف، وصلّيته تصلية. ويقال: أيضا: صلي بالأمر: إذا قاس حره، وشدته. واصطليت بالنار، وتصلّيت بها: إذا استدفأت بها، وفلان لا يصطلى بناره: إذا كان شجاعا لا يطاق.

الإعراب: {هذِهِ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والهاء: حرف تنبيه لا محل له. {جَهَنَّمُ:} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول المحذوف. انظر الشرح. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة: {جَهَنَّمُ} . {كُنْتُمْ:}

فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {تُوعَدُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والثاني محذوف، وهو عائد الموصول، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} صلة الموصول، لا محل لها. {اِصْلَوْهَا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول أيضا.

{الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما): مصدرية، تؤول مع

ص: 763

ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: بسبب كفركم. واعتبار (ما) موصولة، أو موصوفة هنا لا يؤيده المعنى. {كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} إعراب هذه الجملة مثل إعراب ما قبلها بلا فارق بينهما.

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65)}

الشرح: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ:} نمنعها من الكلام {وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ} تنطق أيديهم بما عملت من سيئات في الدنيا. {وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} أي: من الأعمال السيئة.

هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (النور) رقم [24]: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ،} وقال جل ذكره في الآية رقم [20] من سورة (فصلت): {حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} .

وقد قال ابن كثير: هذا حال الكفار، والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت، فقد روى مسلم-رحمه الله-في صحيحه عن أنس بن مالك-رضي الله عنه-قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال:«أتدرون ممّ أضحك؟» . قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:

«من مخاطبة العبد ربّه يوم القيامة، يقول: ربّ ألم تجرني من الظّلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز عليّ إلاّ شاهدا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم الله على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلّى بينه وبين الكلام، فيقول: بعدا لكنّ وسحقا! فعنكنّ كنت أناضل» . قال تعالى في سورة (فصلت) مبينا ما يقولونه لجوارحهم: {وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .

وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، وهو حديث القيامة الطويل، وفيه:

ثم يقال له: «الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكر في نفسه، من ذا الّذي يشهد عليه؟ فيختم الله على فيه، ويقال لفخذه، ولحمه، وعظامه: انطقي! فتنطق فخذه، ولحمه، وعظامه بعمله. وذلك ليعذر من نفسه. وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه» . انتهى. قرطبي وابن كثير.

ثم قيل: في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا: {وَاللهِ رَبِّنا ما كُنّا مُشْرِكِينَ} فختم الله على أفواههم؛ حتى نطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري، رضي الله عنه.

الثاني: ليعرفهم أهل الموقف، فيتميزون منهم. قاله ابن زياد. الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق، لخروجه مخرج الإعجاز، وإن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز.

الرابع: ليعلم: أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه، صارت عليه شهودا في حق ربه.

ص: 764

فإن قيل: لم قال: {وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} فيجعل ما كان من اليد كلاما، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله، والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال، أو فعل، فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول، وعما صدر من الأرجل بالشهادة. انتهى. قرطبي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الْيَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بما بعده. {نَخْتِمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» . {عَلى أَفْواهِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. (تكلمنا): فعل مضارع، و (نا): مفعول به. {أَيْدِيهِمْ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وجملة:{(تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ)} معطوفة عليها، لا محل لها أيضا.

{بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء كانوا يكسبونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسبهم. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَكْسِبُونَ} في محل نصب خبرها.

{وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنّى يُبْصِرُونَ (66)}

الشرح: {وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ} أي: لو نشاء لأعميناهم، فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم، ولا غيرها. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: المعنى: لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدا إلى طريق الحق، انتهى. فيكون في الكلام استعارة. {فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ:} فاستبقوا الطريق الذي اعتادوا سلوكه؛ ليجوزوا. {فَأَنّى يُبْصِرُونَ:} فكيف، أو:

من أين يبصرون وجهة السلوك في الطريق، والحال طمسنا أعينهم وأعميناهم عنه؟!

وقال عطاء، ومقاتل، وقتادة، وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهم: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فاهتدوا وأبصروا رشدهم، وبادروا إلى طريق الآخرة، ولكننا لم نفعل ذلك بهم، فكيف يهتدون، وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية؟! انتهى. قرطبي.

وفيه أيضا، ما روي عن عبد الله بن سلام-رضي الله عنه-في تأويل هذه الآية غير ما تقدم، وتأولها على أنها في يوم القيامة، وقال: إذا كان يوم القيامة، ومدّ الصراط؛ نادى مناد: ليقم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيقومون برّهم، وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم، فاستبقوا الصراط، فمن أين يبصرونه، حتى يجاوزوه؟! ثم ينادي مناد، ليقم

ص: 765

عيسى صلى الله عليه وسلم وأمته، فيقوم، فيتبعونه برّهم، وفاجرهم، فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء، عليهم السلام. هذا؛ والمطموس، والطميس عند أهل اللغة: الأعمى الذي ليس في عينيه شق، والفعل يأتي من الباب الأول، والثاني. انتهى. وأعتمد القول الأول، فإنه هو الظاهر. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{نَشاءُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، ومفعوله محذوف، تقديره: لو نشاء الطمس. والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{لَطَمَسْنا:} اللام: واقعة في جواب لو. (طمسنا): فعل، وفاعل. {عَلى أَعْيُنِهِمْ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها، ولو ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {فَاسْتَبَقُوا:} الفاء: حرف عطف. (استبقوا): فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {الصِّراطَ:} منصوب بنزع الخافض، أو هو مفعول به على تضمين الفعل معنى المبادرة، أفاده ابن هشام في المغني. والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لو) لا محل لها مثله. {فَأَنّى:} الفاء: هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر.

(أنى): اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب حال، عامله ما بعده. {يُبْصِرُونَ:}

فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط مقدر ب:«إذا» التقدير: وإذا طمسنا أعينهم؛ فكيف يبصرون طريقهم؟! والجملة الشرطية هذه معطوفة على (لو) ومدخولها، لا محل لها أيضا.

{وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اِسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67)}

الشرح: {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ:} المسخ: تبديل الخلقة، وقلبها حجرا، أو جمادا، أو بهيمة، ومسخ أقوام من اليهود قردة وخنازير، كما رأيت في الآية رقم [162] من سورة (الأعراف) وما بعدها. {عَلى مَكانَتِهِمْ:} على مكاناتهم. قال الحسن: المعنى: لو نشاء لأقعدناهم، فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم، ولا يرجعوا وراءهم، وكذلك الجماد لا يتقدم، ولا يتأخر. {فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا:} ذهابا، وسيرا. {وَلا يَرْجِعُونَ} أي: لا يستطيعون رجوعا إلى الوراء بسبب مسخهم بشيء مما ذكر.

والمعنى: أنهم بكفرهم، ونقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك، لكنّا لم نفعل لشمول الرحمة لهم، واقتضاء الحكمة إمهالهم. وهذا تهديد، ووعيد لأهل مكة. والمراد به في هذه الدنيا. وانظر ما اعتمدته في الآية الأولى.

الإعراب: {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ:} الإعراب مثل الآية السابقة بلا فارق. {عَلى مَكانَتِهِمْ:} متعلقان في محل نصب حال من الضمير المنصوب؛ إذ المعنى لمسخناهم على

ص: 766

حالتهم، فهم ممسوخون في محالهم، وفي منازلهم. {فَمَا:} الفاء: حرف عطف. (ما): نافية.

{اِسْتَطاعُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق. {مُضِيًّا:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جواب (لو) لا محل لها مثله. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يَرْجِعُونَ:}

مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على:{مُضِيًّا} . انظر التقدير في الشرح. وخذ قول الفرزدق، وهو عكس ما في الآية الكريمة:[الطويل] ألم ترني عاهدت ربّي وإنّني

لبين رتاج قائما ومقام

على حلفة لا أشتم الدهر مسلما

ولا خارجا من فيّ زور كلام

فإن التقدير: لا شاتما مسلما، ولا خارجا إلخ، وهذا هو الشاهد، رقم (755) من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» .

{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)}

الشرح: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ:} نطل عمره. {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ:} من نكست الشيء، أنكسه نكسا: قلبته على رأسه، فانتكس. قال قتادة: المعنى: أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا. انتهى. ومن المشاهد أن الإنسان إذا طال عمره؛ ردّ إلى الضعف بعد القوة، والعجز بعد النشاط، والنقص بعد الزيادة، قال تعالى في سورة (الروم) رقم [54]:{اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} . وقال تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} الآية رقم [70] من سورة (النحل). وانظر الآية رقم [5] من سورة (الحج) قال الشاعر الحكيم: [البسيط] من عاش أخلقت الأيام جدّته

وخانه ثقتاه السّمع والبصر

والمراد من هذا كله الإخبار عن هذه الدار، بأنها دار زوال، وانتقال، لا دار دوام، واستقرار. ولهذا قال تعالى:{أَفَلا يَعْقِلُونَ} أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم، ثم صيرورتهم إلى سنّ الكهولة، ثم إلى سنّ الشيبة، ثم إلى سنّ الشيخوخة، ليعلموا: أنهم خلقوا لدار أخرى، لا زوال لها، ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، هي الدار الآخرة، وفي ذلك دليل أيضا على قدرة الله تعالى؛ الذي لو شاء؛ طمس على أعينهم، أو مسخهم على مكانتهم، وقادر أيضا على أن يعيدهم بعد موتهم من قبورهم. هذا؛ وقرئ:«(ننكسه)» ، وقرئ:«(تعقلون)» .

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {نُعَمِّرْهُ:} فعل مضارع فعل شرط. والفاعل مستتر تقديره: «نحن» ، والهاء مفعول به. {نُنَكِّسْهُ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول

ص: 767

به، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط. وقيل: جملة الجواب.

وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح عند المعاصرين. والجملة الاسمية:{وَمَنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ. الفاء: حرف استئناف. (لا): نافية.

{يَعْقِلُونَ:} فعل مضارع مرفوع إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)}

الشرح: {وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ:} الضمير منصوب مراد منه النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه رد على كفار قريش الذين كانوا يقولون: إن محمدا شاعر، وإن القرآن شعر، والمعنى: وما علمنا محمدا صلى الله عليه وسلم قول الشعراء، أو وما علمناه بتعليم القرآن الشعر. على معنى: أن القرآن ليس بشعر، فالشعر:

كلام موزون مقفّى يدل على معنى، فأين الوزن وأين التقفية في القرآن الكريم؟ فلا مناسبة بينه، وبين الشعر في وجه من الوجوه؛ إذا تأملته وحققته.

{وَما يَنْبَغِي لَهُ} أي: وما يليق به، وما يصلح منه، ولا يسهل له ذلك لو أراد نظم الشعر، ولا يتأتى منه له ذلك، كما جعلناه أميا، لا يقرأ، ولا يكتب، لتكون الحجة أثبت، والشبهة أدحض، قال العلماء: ما كان يتزن له صلى الله عليه وسلم بيت شعر، وإن تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا، كما روي عن الحسن البصري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بقول سحيم بن وثيل الرياحي، فيقول:[الطويل] كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيا

فقال الصديق-رضي الله عنه: يا نبي الله إنما قال الشاعر: [الطويل] عميرة ودّع إن تجهّزت غازيا

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

فأعاد صلى الله عليه وسلم الشطر الثاني مثل قوله الأول، ففطن الصديق لذلك، وقال: أشهد أنك رسول الله، وصدق الله إذ يقول:{وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ..} . إلخ، وعن عائشة-رضي الله عنها-قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراب الخبر تمثل فيه ببيت طرفة: [الطويل]

... ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وهو من معلقته رقم [111] وهو بتمامه كما يلي:[الطويل] ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

هذا؛ وما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وهو راكب بغلته يتقدم بها في نحور العدو:[الرجز] أنا النبيّ لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب

ص: 768

ومن قوله صلى الله عليه وسلم حين أصابه حجر، فنكبت إصبعه:[الرجز] هل أنت إلاّ إصبع دميت

وفي سبيل الله ما لقيت

أخرجه البخاري، ومسلم من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه، ولهما أيضا من حديث أنس-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الرجز] اللهمّ إن العيش عيش الآخرة

فأكرم الأنصار والمهاجرة

فهذا كله من كلامه صلى الله عليه وسلم، الذي نطق به من غير صنعة فيه، ولا تكلف له، إلا أنه اتفق له من غير قصد إليه، وإن جاء موزونا، كما يتفق في كثير من إنشاءات الناس في خطبهم، ورسائلهم ومحاوراتهم كلام موزون، يدخل في وزن البحور.

{إِنْ هُوَ} أي: القرآن. {إِلاّ ذِكْرٌ:} من الله تعالى يعظ به الإنس، والجن، وليس بشعر؛ لأنه ليس على أساليب الشعر، ولا يدخل في بحوره. {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي: إنه كتاب سماوي يقرأ في المحاريب، ويتلى في المساجد، وأماكن العبادة، وينال بتلاوته الثواب، ورفيع الدرجات، وفيه بيان الحدود، والأحكام، وبيان الحلال والحرام، فكم من فرق بينه وبين الشعر، الذي هو من همزات الشياطين، وأقاويل الشعراء الكذابين. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [225] من سورة (الشعراء) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {عَلَّمْناهُ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {الشِّعْرَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يَنْبَغِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل.

والفاعل ضمير مستتر تقديره: «هو» يعود إلى: {الشِّعْرَ} . {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِنْ:} حرف نفي بمعنى:

«ما» . {هُوَ:} مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {ذِكْرٌ:} خبر المبتدأ. {وَقُرْآنٌ:} الواو: حرف عطف. (قرآن): معطوف على ما قبله. {مُبِينٌ:} صفة له. والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)}

الشرح: {لِيُنْذِرَ:} الضمير إلى القرآن. وقيل: إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه قرئ بالتاء.

{مَنْ كانَ حَيًّا:} عاقلا فهما، فإن الغافل كالميت، أو مؤمنا في علم الله تعالى. فإن الحياة الأبدية بالإيمان، وتخصيص الإنذار به؛ لأنه المنتفع به، والكافر كالميت الذي لا يتدبر، ولا يتفكر، ودليل ذلك قوله تعالى:{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ..} . إلخ رقم [122] من سورة (الأنعام). {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ}

ص: 769

أي: ويجب كلمة العذاب على الكافرين المصرين على الكفر. و {الْقَوْلُ} هو قوله تعالى في سورة (السجدة) رقم [13]: {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} .

هذا؛ وقد جعل الله الكافرين في مقابلة من كان حيا إشعارا بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم أموات في الحقيقة.

الإعراب: {لِيُنْذِرَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى القرآن، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حسب ما رأيت في الشرح، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: أنزل عليه الذكر للإنذار. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {كانَ:} فعل ماض ناقص. واسمه يعود إلى {مَنْ} وهو العائد، أو الرابط.

{حَيًّا:} خبر: {كانَ،} والجملة الفعلية صلة {مَنْ} أو صفتها. {وَيَحِقَّ:} الواو: حرف عطف. (يحق): فعل مضارع معطوف على (ينذر) منصوب مثله. {الْقَوْلُ:} فاعله. {عَلَى الْكافِرِينَ:} متعلقان بالفعل قبلهما.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي: ويتفكروا، ويعتبروا، والمراد: أهل مكة، وغيرهم. {أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ} أي: لأجلهم، وانتفاعهم. {مِمّا عَمِلَتْ أَيْدِينا} أي: مما تولينا خلقه وإحداثه، ولم يقدر على إحداثه غيرنا. وذكر الأيدي، وإسناد العمل إليها استعارة تمثيلية، تفيد مبالغة في الاختصاص، والتفرد بالإحداث. ويجوز أن يكون من المجاز المتفرع على الكناية بأن يكنى عن الإيجاد بعمل الأيدي، فيمن له ذلك، ثم بعد الشيوع يستعمل لغيره. ويجوز أن يكون المعنى: علمناه بقوتنا، وقدرتنا. فعبر عن ذلك بالأيدي. انظر ما ذكرته في سورة (ص) رقم [17]، والأنعام واحده النعم، وهو يطلق في الأصل على المأكول من الحيوانات. وقيل: يطلق على الإبل خاصة، فيكون الجمع هنا من باب التغليب، غلب المأكول على غيره، أو غلب الإبل على غيرها من المأكول وغيره، والأنعام تؤنث كما في هذه الآية، فإن الأنعام جمع كما رأيت؛ ولذلك عده سيبويه-رحمه الله تعالى-في المفردات المبنية على أفعال، كأخلاق، وذكّر في قوله تعالى في الآية رقم [66] من سورة (النحل):{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمّا فِي بُطُونِهِ..} . إلخ.

هذا؛ وخص الأنعام بالذكر من بين المخلوقات؛ لأنها أكثر أموال العرب، والنفع بها أعم.

{فَهُمْ لَها مالِكُونَ} أي: فهم فيها متصرفون تصرف الملاك بالانتفاع فيها لا يزاحمون، أو فهم لها ضابطون قاهرون. قال الربيع بن منيع الذي عمر طويلا:[المنسرح] أصبحت لا أملك السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

ص: 770

أي: لا أضبط البعير إن نفر. وهذا من جملة النعم الظاهرة، وإلا فمن كان يقدر عليها لولا تذليل الله لها وتسخيرها لابن آدم، كما قال «كثير عزة» من قصيدة قالها لعبد الملك بن مروان حينما احتقره، وقال: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه: [الوافر] وقد عظم البعير بغير لبّ

فلم يستغن بالعظم البعير

يصرّفه الصبيّ بكلّ وجه

ويحبسه على الخسف الجرير

وتضربه الوليدة بالهراوي

فلا غير لديه ولا نكير

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتوبيخ، وتقريع. الواو: عاطفة على محذوف، التقدير: ألم يتفكروا، أو: ألم يلاحظوا، ولم يروا. وقال الجلال: عاطفة على قوله تعالى:

{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا..} . إلخ الآية رقم [31] وفيه بعد لا يخفى. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَوْا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {خَلَقْنا:} فعل، وفاعل. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:

{أَنْعاماً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . وما تحتمل الموصولة، والمصدرية، فعلى الأول فهي: مبنية على السكون في محل جر ب: (من)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: من الذي عملته أيدينا، وعلى الثاني تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب (من)، التقدير: من عمل أيدينا، والأول أقوى معنى، تأمل. {عَمِلَتْ:} فعل ماض، والتاء للتأنيث. {أَيْدِينا:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. هذا؛ وجملة: {خَلَقْنا..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد المفعول به. {أَنْعاماً:} مفعول به ل: {خَلَقْنا} . {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {لَها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مالِكُونَ:} خبر المبتدأ.

والجملة معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72)}

الشرح: {وَذَلَّلْناها لَهُمْ:} سخرناها لهم؛ حتى يقود الصبي الصغير الجمل العظيم، ويضربه، ويصرفه كيف شاء، لا يخرج عن طاعته. {فَمِنْها رَكُوبُهُمْ} أي: مركوبهم، وقرئ:

«(مركوبتهم)» ، والركوب، والركوبة واحد، مثل: الحلوب، والحلوبة، والحمول، والحمولة،

ص: 771

وحكى الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صبور، وشكور بغير هاء، ويقولون: شاة حلوبة، وناقة ركوبة؛ لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل، وبين ما كان الفعل واقعا عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلا، وأثبتوها فيما كان مفعولا، كما قال عنترة بن شداد:[الكامل] فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودا كخافية الغراب الأسود

فيجب أن يكون على هذا: (ركوبتهم). فأما البصريون، فيقولون: حذفت الهاء على النسب.

والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة، قال: الركوبة تكون للواحد، والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة، فعلى هذا يكون لتذكير الجميع. وما أحراك أن تنظر ما ذكرته في (مرضع) في الآية رقم [2] من سورة (الحج)، وما ذكرته في {عاقِراً} في الآية رقم [8] من سورة (مريم) على نبينا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام. {وَمِنْها يَأْكُلُونَ} أي: من لحومها.

الإعراب: {وَذَلَّلْناها:} الواو: حرف عطف. (ذللناها): فعل، وفاعل، ومفعول به.

{لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فَمِنْها:} الفاء: حرف عطف، وتفريع. (منها): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {رَكُوبُهُمْ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {وَمِنْها:} الواو: حرف عطف. (منها): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

{وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73)}

الشرح: {وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ:} من أصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وشحومها، ولحومها، وجلودها، والحرث عليها، وغير ذلك. {وَمَشارِبُ} يعني: ألبانها، جمع: مشرب، مصدر، أو اسم مكان. فيكون المراد: ضروعها، التي فيها اللبن. {أَفَلا يَشْكُرُونَ:} الله الذي سخر لهم ما ذكر من الحيوانات على اختلاف أجناسها، وتنوع منافعها.

هذا؛ وخذ قوله تعالى في سورة (النحل): {وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} . انظر شرح هذه الآيات هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {وَلَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو هما متعلقان بما بعدهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. {مَنافِعُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة

ص: 772

الاسمية معطوفة على ما قبلها. لا محل لها أيضا. {وَمَشارِبُ:} معطوف على ما قبله، ولم يدخلهما التنوين؛ لأنهما صيغتا منتهى الجموع. {أَفَلا يَشْكُرُونَ:} مثل: {أَفَلا يَعْقِلُونَ} في الآية رقم [68].

{وَاِتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)}

الشرح: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً} أي: بعد أن رأوا هذه الآيات، الدالة على قدرته تعالى اتخذوا آلهة من الحجارة، لا قدرة لها على فعل أي شيء. وفي ذلك توبيخ شديد، وتقريع أليم للكفرة، والمشركين من أهل مكة، ومن لف لفهم. {لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} أي: لما يرجون من نصرتها لهم إن نزل بهم عذاب، أو أحاط بهم بلاء، وهيهات هيهات أن ينصروا!.

الإعراب: {وَاتَّخَذُوا:} الواو: حرف عطف. (اتخذوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {مِنْ دُونِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {آلِهَةً}. كان صفة له إلخ. وقيل: هما في محل نصب مفعوله الثاني. و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {آلِهَةً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {يُنْصَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها تعليل لاتخاذهم آلهة من دون الله. وقيل: في محل نصب حال، ولا وجه له؛ لأنّ الرجاء إنشاء.

{لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)}

الشرح: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي: لا تستطيع الآلهة المزعومة نصرهم بحال من الأحوال، لا بنصرة، ولا بشفاعة؛ بل هي أضعف من ذلك، وأقل، وأذل، وأحقر، وأدحر؛ بل لا تقدر على نصر نفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جمادات لا تسمع، ولا تعقل، وما فعله إبراهيم الخليل-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-من تكسيرها، وتحطيمها أكبر شاهد على ذلك. {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ:} قال قتادة-رحمه الله تعالى-: أي هؤلاء المشركون كالجند، والخدم لأصنامهم في التعصب لها، والذب عنهم، وفدائها بالمال، والروح، وهي لا تسوق لهم خيرا، ولا تدفع عنهما شرا في الدنيا، ولا في الآخرة.

وقال مجاهد-رحمه الله تعالى-: يعني: عند الحساب. يريد: أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند الحساب عابديها، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم، وخيبتهم، وأدل في إقامة الحجة عليهم. وانظر جمع ما لا يعقل جمع المذكر السالم في الآية رقم [40].

ص: 773

وخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يطّلع عليهم ربّ العالمين، فيقول: ألا ليتبع كلّ إنسان ما كان يعبد، فيمثّل لصاحب الصليب صليبه، ولصاحب التصاوير تصاويره، ولصاحب النار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون

إلخ». الحديث، وأخرجه الترمذي بطوله، ومعناه ثبت في صحيح مسلم. هذا؛ وفي كتاب:«الترغيب والترهيب» للحافظ المنذري أحاديث كثيرة من هذا النوع.

الإعراب: {لا:} نافية. {يَسْتَطِيعُونَ:} فعل مضارع، والواو فاعله. {نَصْرَهُمْ:} مفعول به.

والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. من إضافة المصدر لفاعله، أو من مفعوله حسب ما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): مبتدأ. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.

وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {جُنْدٌ} . {جُنْدٌ:} خبر المبتدأ. {مُحْضَرُونَ:} صفة له مرفوع مثله، وعلامة رفعه الواو إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو الضمير، وهي حال متداخلة.

{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76)}

الشرح: {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أي: لا يهمك، ولا يغمك، ولا يخوفك كفرهم، وتهديدهم، ووعيدهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. هذا؛ ويقرأ الفعل بفتح الياء من الثلاثي، وبضمها من الرباعي، والمعنى واحد، والأول من باب: قتل، وهو لغة قريش، والرباعي لغة تميم، وهو متعدّ على اللغتين، مثل: سلكه، وأسلكه. قاله اليزيدي. هذا؛ و (حزن) بكسر الزاي من باب: فرح لازم.

هذا؛ و {قَوْلُهُمْ} هو ما كانوا يصفون به النبي صلى الله عليه وسلم: إنك شاعر، أو ساحر، أو كاهن، أو مجنون. وأيضا: استهزاؤهم، وتهكمهم به صلى الله عليه وسلم. {إِنّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ} أي: يخفون في صدورهم من الكيد، وعداوتهم، وتكذيبهم. {وَما يُعْلِنُونَ} أي: يظهرونه من أقوالهم، وأفعالهم، وعبادة الأصنام، وغير ذلك.

تنبيه: النهي للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية ليس على ظاهره، وليس إثباتا لحزنه بذلك، وإنما هو على سبيل الفرض، والتقدير، كما في قوله تعالى:{فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ} وقوله عز وجل:

{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،} وقوله جلت قدرته، وتعالت حكمته:{وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ..} .

الإعراب: {فَلا:} الفاء: حرف استئناف، أو هي الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: إن علمت ما تقدم منهم؛ فلا يحزنك إلخ. (لا): ناهية. {يَحْزُنْكَ:} فعل مضارع مجزوم ب (لا) الناهية، والكاف مفعول به. {قَوْلُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من: إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِنّا:} حرف مشبه

ص: 774

بالفعل، و (نا): اسمها. {نَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: نعلم الذي، أو: شيئا يسرّونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: نعلم سرهم. والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل للنهي، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين، ولا يتوهم متوهم: أن الجملة من مقول المشركين، فيحصل في الكلام تناقض، ولذا فالوقف على:(قولهم) واجب، ومثل هذه الآية آية سورة (يونس)، رقم [65]. وقد قرئ هناك بفتح همزة (أنّ) وعليه فتؤول مع اسمها، وخبرها بمصدر في محل جر بحرف جر تعليل محذوف، وعليه: فلا يجب الوقف على:

(قولهم). {وَما يُعْلِنُونَ:} معطوف على ما قبله، وهو مثله في إعرابه بلا فارق.

{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ} أي: أو لم ينظر الإنسان نظر تبصر، واعتبار. {أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: من نطفة قذرة خسيسة مذرة خارجة من الإحليل؛ الذي هو قناة النجاسة. والمراد بالإنسان: الكافر الذي ينكر قدرة الله على بعثه، وحشره للحساب، والجزاء، وهو أبيّ بن خلف الجمحي، كما ستعرفه. {فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ:} شديد الخصومة، فهو على مهانة أصله، ودناءة أوله يتصدى لمخاصمة ربه، وينكر قدرته على إحياء الميت بعد ما رمت عظامه، ومثل هذه الآية قوله تعالى:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} الآية رقم [20] من سورة المرسلات. وقال تعالى في سورة (الدهر) رقم [2]: {إِنّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ} أي: من نطفة من أخلاط متفرقة، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة؛ أليس بقادر على إعادته بعد موته؟! بلى! وأنا على ذلك من الشاهدين.

روى الإمام أحمد في مسنده عن بشر بن جحاش-رضي الله عنه-قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه، فوضع عليها إصبعه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قال الله تعالى: ابن آدم أنّى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سوّيتك، وعدّلتك مشيت بين برديك، وللأرض منك وئيد، فجمعت، ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة؟!» .

أخرجه الإمام أحمد. ورواه ابن ماجة في سننه.

الإعراب: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ:} انظر الآية رقم [71]، فالإعراب مثله بلا فارق.

{مِنْ نُطْفَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ:} انظر الآية رقم [29] فالإعراب واحد.

ص: 775

{وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)}

الشرح: قال مجاهد، وعكرمة: جاء أبيّ بن خلف الجمحي-لعنه الله تعالى-إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده عظم بال، وهو يفته بيده، ويذره في الهواء، وهو يقول: يا محمد! أتزعم أن الله يبعث هذا؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم يميتك الله تعالى، ثمّ يبعثك، ثمّ يحشرك إلى النّار» . فنزل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ..} . إلخ إلى آخر السورة.

فقد استبعد اللعين إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة للأجساد، والعظام الرميمة، ونسي نفسه وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده، وأنكره وجحده. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ و (الرميم) اسم لما بلي من العظام غير صفة، كالرمة، والرفات، فلا يقال: لم لم يؤنث؟ وقد وقع خبرا لمؤنث، ولا هو فعيل بمعنى فاعل، أو مفعول. ولقد استشهد بهذه الآية من يثبت الحياة في العظام، ويقول: إن عظام الميتة نجسة؛ لأن الموت يؤثر فيها من جهة أن الحياة تحلها، وهو قول الشافعية. وأما الحنفية فهي عندهم طاهرة، وكذلك الشعر، والعصب، ويزعمون: أن الحياة لا تحلها، فلا يؤثر فيها الموت، ويقولون: المراد بإحياء العظام في الآية ردها إلى ما كانت عليه غضة رطبة في بدن حي حساس. انتهى. كشاف. هذا؛ وقال البيضاوي: والرميم: ما بلي من العظام، ولعله فعيل بمعنى فاعل من: رم الشيء، صار اسما بالغلبة، ولذلك لم يؤنث، أو بمعنى مفعول من رممته. انتهى. والنسفي قال بقول الزمخشري، وكلاهما قد أخذا تفسيرهما من الكشاف. هذا؛ والرميم: الهالك البالي، قال جرير يرثي ابنه:[البسيط] تركتني حين كفّ الدّهر من بصري

وإذ بقيت كعظم الرّمّة البالي

وأصل الكلمة من: رم العظم: إذا بلي، تقول منه: رم العظم، يرم بالكسر، رمّة، فهو رميم، قال الشاعر:[الكامل] ورأى عواقب خلف ذاك مذمّة

تبقى عليه والعظام رميم

وخذ قول الآخر، وهو الشاهد رقم [210] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل] لعمرك ما الإنسان إلا ابن يومه

على ما تجلّى يومه لا ابن أمسه

وما الفخر بالعظم الرميم وإنّما

فخار الّذي يبني الفخار بنفسه

الإعراب: {وَضَرَبَ:} الواو: حرف عطف. (ضرب): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الإنسان. {لَنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مَثَلاً:} مفعول به، والجملة الفعلية

ص: 776

معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وجملة:{وَنَسِيَ خَلْقَهُ} معطوفة عليها لا محل لها أيضا. {قالَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الْإِنْسانُ} أيضا. {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُحْيِ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{مَنْ} . {الْعَظْمُ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية:{مَنْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، والجملة الاسمية:

{وَهِيَ رَمِيمٌ} في محل نصب حال من {الْعَظْمُ،} والرابط: الواو، والضمير، وجملة:

{قالَ..} . إلخ مفسرة لقوله {مَثَلاً} .

{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)}

الشرح: {قُلْ يُحْيِيهَا} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل يا محمد لهذا الكافر المعاند الذي ينكر إحياء العظام البالية: {يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: ابتدأ خلقها، وهي نطفة. {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} أي: يعلم العظام في سائر أقطار الأرض، وأرجائها: أين ذهبت، وأين تفرقت، وكيف تمزقت؟ وخذ ما يلي:

قال الإمام أحمد: قال عقبة بن عمرو لحذيفة-رضي الله عنهما: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: «إن رجلا حضره الموت، فلما أيس من الحياة؛ أوصى أهله إذا أنا متّ؛ فاجمعوا لي حطبا كثيرا جزلا، ثم أوقدوا فيه نارا، حتى إذا أكلت لحمي، وخلصت إلى عظمي، فامتحشت فخذوها فدقوها، فذرّوها في اليم. ففعلوا، فجمعه الله تعالى إليه، ثم قال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك! فغفر الله عز وجل له» .

وفي الصحيحين بأنه أمر بنيه أن يحرقوه، ثم يسحقوه، ثم يذروا نصفه في البرّ، ونصفه في البحر في يوم رائح (أي: كثير الهواء) ففعلوا ذلك، فأمر الله تعالى البحر، فجمع ما فيه، وأمر البر، فجمع ما فيه، ثم قال له: كن؛ فإذا هو رجل قائم. فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: مخافتك؛ وأنت أعلم، فما تلافاه أن غفر له. انتهى. مختصر ابن كثير. وفي «الترغيب والترهيب» بمعناه، وزاد في الحديثين «لئن قدر الله عليّ ليعذّبني عذابا ما عذّبه أحدا» .

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يُحْيِيهَا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، و (ها): مفعول به. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل. {أَنْشَأَها:} فعل ماض، و (ها): مفعول به، والفاعل يعود إلى الذي، وهو العائد. {أَوَّلَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وهو مضاف، و {مَرَّةٍ} مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): مبتدأ.

{بِكُلِّ:} جار ومجرور متعلقان ب: {عَلِيمٌ} بعدهما، و (كل) مضاف، و {خَلْقٍ} مضاف إليه.

ص: 777

{عَلِيمٌ:} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية في محل نصب حال من الفاعل المستتر، والرابط:

الواو، والضمير.

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)}

الشرح: المعنى: إن الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء، حتى صار خضرا، نضرا، ذا ثمر، وزهر وورد، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا، توقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد، لا يمنعه شيء. وقيل: المراد بذلك شجر المرخ، والعفار، ينبت في أرض الحجاز، فيأتي من أراد قدح نار، وليس معه زناد، فيقطع منها غصنين مثل السواكين، وهما خضراوان، يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ-وهو ذكر-على العفار. وهو أنثى، فتنقدح النار بإذن الله كالزناد سواء. وفي المثل: في كل شجر نار، واستمجد المرخ، والعفار. ولقد أحسن القائل:[البسيط] جمع النّقيضين من أسرار قدرته

هذا السّحاب به ماء به نار

هذا؛ ومن غرائب التفسير ما قيل: المراد بالشجر الأخضر: إبراهيم، والمراد بالنار: نور محمد صلى الله عليه وسلم. {فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي: تقتبسون الدين. وهو تأويل باطل لنصوص القرآن؛ وإن كان سبكه جميلا، وعبارته لطيفة.

هذا؛ و (جعل) هنا بمعنى: خلق، وأنشأ، وأوجد، والفرق بين:«خلق» و: «جعل» الذي له مفعول واحد: أن الخلق فيه معنى التقدير، والجعل فيه معنى التضمين، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إحداث النور، والظلمات بالجعل، فقال:{وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ} تنبيها على أنهما لا يقومان بأنفسهما كما زعمت المجوس، بخلاف الخلق؛ لأن فيه معنى الإيجاد، والإنشاء، ولذا عبر سبحانه في كثير من الآيات عن إيجاد السموات، والأرض بالخلق.

الإعراب: {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع بدلا من الموصول السابق، أو هو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الذي، أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني الذي. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى:

{الَّذِي،} وهو العائد. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: هما في محل نصب مفعوله الثاني تقدم على الأول. {مِنَ الشَّجَرِ:} متعلقان بالفعل {جَعَلَ} أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {ناراً} كان صفة له. {الْأَخْضَرِ:} صفة: {الشَّجَرِ} . {ناراً:} مفعول به، والجملة الفعلية:{جَعَلَ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {فَإِذا أَنْتُمْ:} انظر الآية رقم [29] ففيها الكفاية. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تُوقِدُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية خبر المبتدأ.

ص: 778

{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ (81)}

الشرح: يقرر الله عبادة في هذه الآية الكريمة، ويلفت نظرهم إلى خلق السموات، وما فيها من الكواكب السيارة، والثوابت، والأرضين السبع، وما فيها من جبال، ورمال، وبحار، وقفار، وما بين ذلك. ويرشد خلقه إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء، فهو كقوله تعالى:{لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ} الآية رقم [57] من سورة (غافر)، وفحوى هذه الآية مثل الآية رقم [33] من سورة (الأحقاف):{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ..} . إلخ و {الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ:} صيغتا مبالغة.

هذا؛ و {بَلى} حرف إثبات لما نفوه من إعادة الأجساد بعد فنائها، وإثبات بأن خلق السموات، والأرض أعظم من إعادتها قطعا، و:«بلى» حرف جواب كنعم، وجير، وأجل، وإي، إلا: أن {بَلى} جواب لنفي متقدم، أي إبطال، ونقض، وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام أم لا؟ فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد، فنقول: بلى أي قد قام، وقوله: أليس زيد قائما؟ فتقول: بلى، أي هو قائم، قال تعالى:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى،} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم؛ لكفروا.

الإعراب: {أَوَلَيْسَ:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ، الواو: حرف استئناف. (ليس): فعل ماض ناقص. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع اسم (ليس). {خَلَقَ:}

فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} وهو العائد. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم، والجملة الفعلية، صلة الموصول، لا محل لها. {وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {بِقادِرٍ:} الباء: حرف جر صلة.

(قادر): خبر (ليس) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وجملة:{أَوَلَيْسَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {عَلى:}

حرف جر. {أَنْ يَخْلُقَ:} مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى: {الَّذِي،} و {أَنْ يَخْلُقَ} في تأويل مصدر في محل جر ب: {عَلى،} والجار والمجرور متعلقان ب (قادر).

{مِثْلَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة. {بَلى:} حرف جواب مهمل لا عمل له.

{وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): مبتدأ. {الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ:} خبران للمبتدإ. والجملة الاسمية معطوفة على ما يفيده الإيجاب، أي بلى هو قادر على ذلك، {وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ} والكلام بعد:{بَلى} كله مستأنف لا محل له.

ص: 779

{إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)}

الشرح: {إِنَّما أَمْرُهُ:} شأن الله. {إِذا أَرادَ شَيْئاً} أي: من الأشياء. {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: احدث، فيحدث. وليس المراد حقيقة أمر؛ بل هو تمثيل لما تعلقت به إرادته بلا مهلة بطاعة المأمور والمطيع بلا توقف، فهو سبحانه يأمر بالشيء أمرا واحدا، لا يحتاج إلى تكرار، وتأكيد، كما قيل:[الطويل] إذا ما أراد الله أمرا فإنّما

يقول له كن قولة فيكون

فعن أبي ذر الغفاري-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يقول:

يا عبادي! كلكم مذنب إلاّ من عافيت، فاستغفروني؛ أغفر لكم، وكلكم فقير إلاّ من أغنيت، إني جواد ماجد أفعل ما أشاء، عطائي كلام، وعذابي كلام، إذا أردت شيئا، فإنما أقول له: كن، فيكون». أخرجه أحمد. وانظر الآية رقم [40] من سورة (النحل) ففيها بحث جيد.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {أَمْرُهُ:} مبتدأ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِذا:} ظرف مجرد عن الشرطية مبني على السكون في محل نصب متعلق بالمصدر قبله. {أَرادَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي} . {شَيْئاً:}

مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذا} إليها، والمصدر المؤول من:{أَنْ يَقُولَ} في محل رفع خبر المبتدأ، وهو متضمن معناه، وساغ ذلك؛ لاختلاف متعلقهما على حد قوله تعالى:{وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ} . وقال أبو النجم: [الرجز] أنا أبو النّجم، وشعري شعري

لله درّي ما يجنّ صدري

وهذا هو الشاهد رقم [613] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» .

{لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{كُنْ:} فعل أمر تام بمعنى احدث، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

{فَيَكُونُ:} الفاء: حرف عطف. (يكون): فعل مضارع تام مرفوع، وفاعله يعود إلى (شيء). والجملة الفعلية معطوفة على جملة محذوفة تفصح عنها الفاء، وينسحب عليها الكلام، أي: فنقول ذلك، فيكون، كقوله تعالى:{إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وإما جواب لشرط محذوف؛ أي: فإذا قلنا ذلك؛ فهو يكون. انتهى. جمل. من سورة (النحل). وهذا يفيد: أن الفاء الفصيحة. وقال غيره: الجملة الفعلية في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو يكون، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ ويقرأ:«(يكون)» بالنصب عطفا على:

ص: 780

{يَقُولَ} وليست الفاء للسببية؛ لأن لفظ {كُنْ} أمر، ومعناه الخبر عن قدرة الله تعالى؛ إذ ليس ثمّ مأمور بأن يفعل شيئا. أفاده مكي بن أبي طالب القيسي. والجملة الاسمية:{إِنَّما أَمْرُهُ..} .

إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)}

الشرح: {فَسُبْحانَ الَّذِي..} . إلخ: تنزيه له سبحانه وتعالى عما وصفوه به، وتعجيب مما قالوا في شأنه؛ وهو الحي القيوم؛ الذي بيده مقاليد السموات، والأرض، وإليه ترجع العباد يوم المعاد، فيجازي كل عامل بعمله، وهو العادل المنعم المتفضل. ومعنى هذه الآية مثل قوله تعالى:{تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} إلخ، فالملك، والملكوت واحد في المعنى، كرحمة، ورحموت، ورهبة، ورهبوت. ومن الناس من يقول: إن الملك هو عالم الأجساد، والملكوت هو عالم الأرواح. والصحيح الأول، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم.

روى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان-رضي الله عنه-قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقرأ السبع الطوال في ركعات، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع، قال:«سمع الله لمن حمده، ثم قال: الحمد لله ذي الملكوت، والجبروت، والكبرياء، والعظمة» . وكان ركوعه مثل قيامه، وسجوده مثل ركوعه، فانصرف، وقد كادت تنكسر رجلاي. أخرجه أحمد، ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي بنحوه.

وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، قال: قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة، فقام، فقرأ سورة (البقرة) لا يمرّ بآية رحمة إلا وقف، وسأل، ولا يمرّ بآية عذاب، إلا وقف، وتعوّذ.

قال: ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه:«سبحان ذي الجبروت، والملكوت، والكبرياء، والعظمة» . ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام، فقرأ ب:(آل عمران) ثم قرأ سورة. أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في الشمائل، والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي، رضي الله عنه. انتهى. مختصر ابن كثير.

أقول فحوى ما تقدم يفيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل القيام في صلاة التهجد، وقد روي بالنص: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة (البقرة) في الركعة الأولى، و (آل عمران) في الثانية، و (النساء) في الثالثة، و (المائدة) في الرابعة، وكان ركوعه صلى الله عليه وسلم، بمقدار خمسين آية، وسجوده بمقدار مائة آية، وحديث عائشة رضي الله عنها يوضح هذا، قالت-رضي الله عنها، وعن أبويها، وهي الخبيرة بتهجده صلى الله عليه وسلم:«كان يقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا؛ وقد غفر لك ما تقدّم من ذنبك، وما تأخّر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟» . رواه البخاري ومسلم.

ص: 781

الإعراب: {فَسُبْحانَ:} الفاء: حرف استئناف. وقيل: الفصيحة. ولا وجه له. (سبحان):

مفعول مطلق، فعله محذوف، و:(سبحان) مضاف، و:{الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو: لمفعوله، فيكون الفاعل محذوفا. {بِيَدِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مَلَكُوتُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {كُلِّ} مضاف إليه. و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه، والجملة الاسمية صلة الموصول، لا محل لها. هذا؛ وإن اعتبرت الجار والمجرور متعلقين بمحذوف صلة الموصول، ف:{مَلَكُوتُ} يكون فاعلا بمتعلقه، والكلام:{فَسُبْحانَ..} . إلخ مستأنف، لا محل له.

{وَإِلَيْهِ:} الواو: حرف عطف. (إليه): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

انتهت سورة (يس)، بحمد الله وتوفيقه، تفسيرا وإعرابا والحمد لله على ما أنعم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 782