المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة السّجدة سورة (السجدة)، وهي مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة؛ - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٧

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة السّجدة سورة (السجدة)، وهي مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة؛

‌سورة السّجدة

سورة (السجدة)، وهي مكية غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة؛ وهي قوله تعالى:{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً..} . إلخ. قاله الكلبي، ومقاتل. وقال غيرهما: إلا خمس آيات من قوله تعالى:

{تَتَجافى جُنُوبُهُمْ} إلى قوله: {تُكَذِّبُونَ} . وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا. وفي الصحيح عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} .

أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم

الشرح: أعوذ: أتحصن، وأعتصم، وأستجير، وألتجئ. وعاذ فلان بفلان: لجأ إليه، واعتصم به. قال تعالى:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ،} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ،} وفي الحديث الشريف: «عذت بمعاذ» ومن أمثال العرب: «ذليل عاذ بقرملة» والقرملة: شجرة معروفة. ومعنى هذا المثل: أن الذليل قد لجأ إلى غير ملجأ، واعتصم بما لا يعصم، فهو ضد الحديث الذي ذكرته. وأصله: أعوذ على وزن: أنصر، فقل في إعلاله: اجتمع معنا حرف صحيح ساكن، وحرف علة متحرك، والحرف الصحيح، أولى بالحركة من حرف العلة. فنقلت حركة الواو إلى العين بعد سلب سكونها، فصار: أعوذ.

(الله): علم على الذات الواجب الوجود، المستحق لجميع المحامد، وهو اسم الله الأعظم، الذي إذا دعي به؛ أجاب، وإذا سئل به؛ أعطى، وإنما تخلفت الإجابة في بعض الأحيان عند الدعاء به؛ لتخلف شروط الإجابة؛ التي أعظمها أكل الحلال.

الشيطان: اسم يطلق على عدو الله إبليس، وقد يطلق على كل نفس عاتية خبيثة، خارجة عن الصراط المستقيم من الإنس، والجن، والحيوان، وما أكثر الشياطين بهذا المعنى من بني آدم! قال تعالى:{شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} الآية رقم [112] من سورة (الأنعام)، وما أجدرك أن تنظر شرحها هناك.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري-رضي الله عنه: «يا أبا ذرّ! تعوّذ بالله من شياطين الإنس والجنّ» . قال: أو للإنس شياطين؟ قال: «نعم» . ولا تنس: أن لكل واحد من الإنس شيطانا بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة-رضي الله عنها: «أجاءك شيطانك؟» . قالت: أولي شيطان؟ قال:

«ما من أحد، إلاّ وله شيطان» . قالت: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا؛ إلاّ أنّني أعانني الله عليه فأسلم، فلا يأمر إلاّ بخير» . بفتح الميم من الإسلام، وبضمها من السلامة.

ص: 377

هذا؛ والشيطان مأخوذ من: شطن إذا بعد. وقيل: مأخوذ من: شاط: إذا احترق، فعلى الأول هو مصروف؛ لأن النون أصلية، وعلى الثاني هو غير مصروف لزيادة الألف والنون، وشطن من باب: قعد، وشاط من باب ضرب. (الرجيم): فعيل بمعنى مفعول، أي: إنه مرجوم باللعن، وطرد عن الخير، وعن رحمة الله تعالى. وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، أي: يرجم غيره بالإغواء، والوسوسة.

بعد هذا لا يخفى عليك المعنى لهذه الجملة، وقد يعبر عن الجملة بكاملها بكلمة الاستعاذة على طريقة النحت، والنحت في الكلام: تركيب كلمة من كلمتين فأكثر، نحو البسملة، والحوقلة من:«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم» . والاسترجاع من: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون» .

والفذلكة من قولك: «فذلك كذا وكذا» . وهلمّ جرّا.

قال الخازن: ومن لطائف الاستعاذة أن قوله: {(أَعُوذُ بِاللهِ

)} إلخ إقرار من العبد بالعجز، والضعف، واعتراف من العبد بقدرة الباري عز وجل، وأنه الغني القادر على دفع جميع المضرات، والآفات، واعتراف من العبد أيضا بأن الشيطان عدو مبين، ففي الاستعاذة لجوء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغوي الفاجر، وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلا الله تعالى. والله أعلم. انتهى.

الإعراب: (أعوذ): فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنا» . (بالله): جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وإن علقتهما بمحذوف حال من الفاعل المستتر؛ فلا بأس، ويكون التقدير: أعوذ مستجيرا بالله. (من الشيطان): متعلقان بالفعل قبلهما. (الرجيم): صفة الشيطان مجرور مثله، ويجوز رفعه على أنه خبر لمبتدإ محذوف، ونصبه على أنه مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أذم، وهذان الوجهان على القطع عن الإتباع، وجملة: (أعوذ

) إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الشرح: (اسم): اختلفوا في اشتقاقه، فقال البصريون: أصله: سمو، من السّموّ، وهو العلو والارتفاع، فاسم الشيء: ما علاه حتى ظهر به، وعلا عليه، فكأنه علا على معناه، وصار علما له، فحذفت لامه، وعوض عنها همزة الوصل في أوله. وقال الكوفيون: أصله: وسم من السّمة، وهي العلامة، فكأنه علامة لمسماه، حذفت فاؤه، وعوض عنها همزة الوصل. وحجة البصريين:

أنه لو كان اشتقاقه من السّمة؛ لكان تصغيره وسيم، وجمعه، أوسام؛ لأن التصغير، والتكسير يردان الأشياء إلى أصولها، وقد أجمعوا على أن تصغيره سميّ، وجمعه: أسماء، وأسام.

ص: 378

وقد حذفت الألف من: {بِسْمِ اللهِ..} . للخفة، ولكثرة الاستعمال، وأثبتت في قوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} لقلة الاستعمال. هذا؛ واسم: أحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدءين، زادوا همزة الوصل في أولها، تفاديا للابتداء بالساكن، علما بأن هذه الهمزة تسقط في وصل الكلام وإن كتبت، وهذه الأسماء هي: ابن، وابنة، وابنم، وامرئ، وامرأة، واسم، واست، واثنين، واثنتين، وايمن.

{الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:} اسمان. وقيل: صفتان مأخوذتان من الرحمة، وهما في حقه سبحانه وتعالى بمعنى المحسن، أو مريد الإحسان، لكن الأول بمعنى المحسن بجلائل النعم، والثاني بمعنى المحسن بدقائق النعم، وإنما جمع بينهما في البسملة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يطلب منه تعالى النعم الحقيرة، كما ينبغي أن يطلب منه النعم العظيمة، وقد يوصف بالرحيم المخلوقون، وأما الرحمن فلا يوصف به إلا الله تعالى ومن وصف به مسيلمة الكذاب فقد تعنّت حيث قال فيه:[البسيط] وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

بعد هذا ينبغي أن تعلم: أن البسملة آية من سورة الفاتحة، وآية من كل سورة ما عدا براءة عند الشافعي-رحمه الله تعالى-ولا تعد آية في كل ذلك عند مالك، وأبي حنيفة-رحمهما الله تعالى-وإنما هي للفصل بين كل سورتين، وأحمد-رحمه الله تعالى-يعدها آية من أول سورة الفاتحة، ولا يعدها آية في غيرها. ومبحث ذلك مبسوط في كتاب الفقه.

وأخيرا ينبغي أن تعلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى افتتاح جميع أمورنا بالبسملة تيمنا، وتبركا، فقد روى الخطيب في كتاب الجامع عنه صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرّحمن الرحيم، فهو أبتر» . وفي رواية: فهو أقطع، والمعنى: قليل البركة، أو معدومها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {بِسْمِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف، تقديره: أقرأ، أو أتلو؛ إذا أراد الشخص القراءة، وقس على ذلك جميع الأعمال التي يقوم بها المسلم، ويسمي الله عليها، فمثلا الآكل، والشارب، والقائم، والقاعد، تقدير المحذوف عنده: آكل، أو أشرب

إلخ، وتقدير المحذوف «فعلا» مذهب الكوفيين، وهم: يقدرونه مؤخرا ليفيد معنى الاختصاص، وأما البصريون فإنهم يقدرون المحذوف «اسما» والتقدير عندهم: ابتدائي كائن بسم. وقال المرحوم سليمان الجمل: والأحسن أن يقدر متعلق الجار هنا: قولوا؛ لأن المقام مقام تعليم، وهذا الكلام صادر عن حضرة الرب تعالى. انتهى. و (اسم) مضاف، و {اللهَ} مضاف إليه.

{الرَّحْمنِ:} بدل من لفظ الجلالة. {الرَّحِيمِ:} بدل ثان من لفظ الجلالة، وهذا على اعتبارهما اسمين من أسماء الله الحسنى، وهو المعتمد. وقيل: هما صفتان للفظ الجلالة. هذا؛ ويجوز

ص: 379

في العربية رفعهما على أنهما خبران لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الرحمن الرحيم، كما يجوز نصبهما على أنهما مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أمدح، ونحوه. وهذان الوجهان على القطع، أعني به قطع النعت عن المنعوت، وجملة: البسملة على الوجهين ابتدائية لا محل لها.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)}

{الم:} انظر شرحها، وإعرابها في، أول سورة (الروم).

{تَنْزِيلُ الْكِتابِ} أي: القرآن الكريم الموجود بين أيدينا، المتلو بألسنتنا، المحفوظ في صدورنا، المنزل على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم. {لا رَيْبَ فِيهِ:} لا شك فيه. {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي: إنه منزل من رب العالمين الذي أنشأهم من العدم، وأحسن خلقهم، وصوّرهم، فأحسن تصويرهم، وربّاهم، فأحسن تربيتهم، وغذّاهم، فأحسن تغذيتهم

إلخ.

تنبيه: يرد هنا سؤال، وهو: إن الله تعالى قد نفى الريب والشك عن كتابه الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاستغراق، وقد ارتاب فيه كثيرون في الماضي، وفي الحاضر.

والجواب: أن المنفي كونه متعلّقا للريب، ومظنة له؛ لأنه من وضوح الدلالة، وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه، لا أن أحدا لا يرتاب، ومن ارتاب فيه، أو في بعضه فالريب حصل له من فهمه السقيم، وعقله العقيم، وخذ قول المتنبي:[الوافر] وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السّقيم

ولكن تأخذ الآذان منه

على قدر القريحة والفهوم

ورحم الله البوصيري إذ يقول: [البسيط] قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد

وينكر الفم طعم الماء من سقم

ورحم الله أحمد شوقي إذ يقول: [الوافر] وما ضرّ الورود وما عليها

إذا المزكوم لم يطعم شذاها

وما أحسن قول بعضهم: [البسيط] عاب الكلام أناس لا خلاق لهم

وما عليه إذا عابوه من ضرر

ما ضرّ شمس الضحى في الأفق طالعة

أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

وخذ قول أبي الطيب المتنبي أيضا: [الوافر] ومن يك ذا فم مرّ مريض

يجد مرّا به الماء الزّلالا

ص: 380

هذا؛ وتقول: رابني هذا الأمر، وأوقعني في ريبة، أي في شك. وحقيقة الريبة: قلق النفس، واضطرابها. قال الرسول صلى الله عليه وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» . أخرجه الترمذي والنسائي عن الحسن بن علي سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، رضي الله عنهما.

الإعراب: {تَنْزِيلُ:} فيه، أوجه خمسة: أحدها: أنه خبر عن {الم} لأن {الم} يراد به السورة، وبعض القرآن، و {تَنْزِيلُ} بمعنى منزّل، والجملة من قوله:{لا رَيْبَ فِيهِ} حال من الكتاب، والعامل فيها {تَنْزِيلُ؛} لأنه مصدر، و {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} متعلق به أيضا، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في {فِيهِ} لوقوعه خبرا، والعامل فيه الظرف، أو الاستقرار.

الثاني: أن يكون {تَنْزِيلُ} مبتدأ، و {لا رَيْبَ فِيهِ} خبره، و {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} حالا من الضمير {فِيهِ،} ولا يجوز حينئذ أن يتعلق ب: {تَنْزِيلُ؛} لأن المصدر قد أخبر عنه، فلا يعمل، ومن يتسع في الجار، لا يبالي بذلك.

الثالث: أن يكون {تَنْزِيلُ} مبتدأ أيضا، و {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ:} خبره، و {لا رَيْبَ فِيهِ:}

حالا، أو معترضا.

الرابع: أن يكون {لا رَيْبَ فِيهِ} و {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} خبرين ل: {تَنْزِيلُ} .

الخامس: أن يكون {تَنْزِيلُ} خبر مبتدأ مضمر، التقدير: هذا تنزيل، أو: المتلوّ تنزيل، أو:

هذه الحروف تنزيل، ودلت {الم} على ذكر الحروف، وكذلك:{لا رَيْبَ فِيهِ،} وكذلك {مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} فتكون كل جملة مستقلة برأسها، ويجوز أن تكونا حالين من تنزيل، وأن تكون:

{مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} هي الحال، و {لا رَيْبَ فِيهِ} معترض. انتهى. جمل نقلا عن السمين بتصرف مني، وهو ملخص ما في العكبري، والكشاف، والبيضاوي، وما قاله مكي والنسفي

إلخ.

و {تَنْزِيلُ} مضاف، و {الْكِتابِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف.

{لا:} نافية للجنس تعمل عمل «إنّ» . {رَيْبَ:} اسم {لا} مبني على الفتح في محل نصب.

{فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر {لا،} والجملة الاسمية رأيت ما فيها من أوجه. {مِنْ رَبِّ:} انظر ما يجوز في تعليقهما من أوجه، و {رَبِّ} مضاف، و {الْعالَمِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}

الشرح: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ:} هذه «أم» المنقطعة، التي تقدر ب:«بل» و «ألف الاستفهام» ؛ إذ التقدير: بل أيقولون افتراه، وهي تدل على الخروج من حديث إلى حديث، فإن الله عزّ وجلّ

ص: 381

أثبت: أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله:

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} أي: افتعله واختلقه محمد صلى الله عليه وسلم. {بَلْ هُوَ} أي: القرآن. {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ:}

هذا تقرير له، وتثبيت أنه منزل من عند الله. {لِتُنْذِرَ قَوْماً:} هم قريش قاله قتادة، كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال الخازن: المراد ب: {قَوْماً} العرب؛ لأنهم كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم. وأعتمد الأول؛ لأن دعوة قريش دعوة العرب عامة لما لها من زعامة على العرب قاطبة، وجميع العرب ينظرون إليها نظرة إجلال، وتقدير، واحترام لشرف نسبها، وحرمة البيت الموجود في بلدها، ولا تنس الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في الآية، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [6] من سورة (يس) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

والنذير: هو المبشر على عمل الخير خيرا، والمخوف من عمل الشر، وموعد عليه شرا.

{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي: إلى طريق الحق، والصواب، فيصدقونك ويؤمنون بالقرآن المنزل عليك. هذا؛ والترجي في هذه الآية، وأمثالها إنما هو بحسب عقول البشر؛ لأن الله تعالى لا يحصل منه ترج، ورجاء لعباده، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، أو الترجي معتبر من جهته صلى الله عليه وسلم، أي: لتنذرهم راجيا لاهتدائهم.

الإعراب: {أَمْ:} حرف عطف بمعنى «بل» الإضرابية الإبطالية. {يَقُولُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مع مقولها مستأنفة، لا محل لها. {اِفْتَراهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» ، يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم له ذكر، وهو مفهوم يدل عليه المقام، وانظر الآية رقم [16] من سورة (لقمان)، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بَلْ:} حرف عطف وإضراب انتقالي. وقيل: إبطالي أيضا. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْحَقُّ:} خبره، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {الْحَقُّ،} والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لِتُنْذِرَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر، تقديره: أنت، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال ثانية من {الْحَقُّ،} أو هما متعلقان بفعل محذوف، التقدير: أنزله للإنذار، وعلى الأول لا يوقف على {رَبِّكَ} وعلى الثاني يوقف، وتكون الجملة الفعلية المقدرة

ص: 382

مستأنفة، لا محل لها. {قَوْماً:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: لتنذر به قوما. وقدره السمين: لتنذر قوما العقاب. {قَوْماً:} نافية. {أَتاهُمْ:} فعل ماض مبني على الفتحة المقدرة على الألف للتعذر، والهاء مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نَذِيرٍ:}

فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{قَوْماً} . {مِنْ قَبْلِكَ:} جار ومجرور متعلقان ب: {نَذِيرٍ،} أو بمحذوف صفة له، وأجيز تعليقهما بالفعل {أَتاهُمْ} . هذا؛ وأجيز اعتبار {قَوْماً} موصولة صفة للمفعول الثاني المحذوف، التقدير: لتنذر قوما العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، وعليه ف:{مِنْ نَذِيرٍ} متعلقان بالفعل {أَتاهُمْ} أي: أتاهم على لسان نذير من قبلك وبواسطته، وكذلك قوله تعالى في سورة (يس) رقم [6]:{لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ} ف {قَوْماً} مفعول في الموضعين، و {أَنْذِرْ} متعد إلى اثنين، قال تعالى:{فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ} . {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها، وجملة:{يَهْتَدُونَ} في محل رفع خبرها، والجملة الاسمية تعليل للإنذار، لا محل لها. وقيل: في محل نصب حال، التقدير: لتنذرهم راجيا اهتداءهم.

{اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)}

الشرح: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ:} انظر الآية رقم [25] من سورة (لقمان). {وَما بَيْنَهُما:} لم يقل بينهن؛ لأنه أراد بين الصنفين، أو النوعين، أو الشيئين كقول القطامي:[الوافر] ألم يحزنك أنّ حبال قيس

وتغلب قد تباينتا انقطاعا

أراد: وحبال تغلب، فثنّى، والحبال جمع، فثناهما؛ لأنه أراد الشيئين، أو النوعين. أو لأنه ثناهما على تأويلهما بالجماعة، وتثنية الجمع جائزة على تأويل الجماعتين، قال الشاعر يذم عاملا على الصدقات:[البسيط] سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا

فكيف لو قد سعى عمرو عقالين؟

لأصبح النّاس أوبادا ولم يجدوا

عند التّفرّق في الهيجا جمالين

فقد ثنى: جمال، الذي هو جمع: جمل. والعقال صدقة عام، والسبد: المال القليل، واللبد: المال الكثير. وأوبادا: هلكى جمع: وبد، فهو يقول: صار عمرو عاملا على الصدقات في سنة واحدة، فظلم، وأخذ أموال الناس بغير حق حتى لم يبق لنا إلا شيء قليل من المال، فكيف يكون حالنا، أو: كيف يبقى لأحد شيء لو صار عمرو عاملا في زكاة عامين؟! ثم أقسم،

ص: 383

فقال: والله لو صار عاملا سنتين؛ لصارت القبيلة هلكى، فلا يكون لهم عند التفرق في الحرب جمالان، فيختل أمر الغزوات.

{فِي سِتَّةِ أَيّامٍ:} في ستة أوقات، أو في مقدار ستة أيام، فإن اليوم المتعارف زمان طلوع الشمس إلى غروبها لم يكن حينئذ، وفي خلق الأشياء مدرّجا مع القدرة على خلقها دفعة، دليل للاختيار، واعتبار للنظار، وحث على التأني في الأمور. هذا؛ وما ذكر من أن الله ابتدأ الخلق يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة عصرا، فخلق الأرض في يومين: الأحد، والاثنين، وما بينهما في يومين: الثلاثاء، والأربعاء، والسموات في يومين: الخميس، والجمعة، كل ذلك لم يثبت وإن أسنده القرطبي في سورة (غافر) إلى عبد الله بن سلام، رضي الله عنه. قاتل الله اليهود، فإنهم يقولون: استراح ربنا يوم السبت، فلذا اختاروه للراحة، والعبادة.

{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} أي: استولى، ولا يجوز تفسيره باستقر، وثبت، فيكون الله من صفات الحوادث، وهذا التأويل ينبغي أن يقال في كل ما يوهم وصفا لا يليق به تعالى، والمنقول عن جعفر الصادق، والحسن، وأبي حنيفة، ومالك-رضي الله عنهم أجمعين-: أن الاستواء معلوم، والتكييف فيه مجهول، والإيمان به واجب، والجحود له كفر، والسؤال عنه بدعة. وهو مثل قول الإمام علي كرم الله وجهه:«الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ لأنّ الله تعالى كان، ولا مكان، فهو على ما كان قبل خلق المكان، لم يتغيّر عمّا كان» . وهذا مذهب الخلف، والسلف يقولون: استوى استواء يليق به.

{الْعَرْشِ:} قال الراغب في كتابه: «مفردات القرآن» : وعرش الله عز وجل مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم، لا بالحقيقة، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك؛ لكان حاملا له، تعالى الله عن ذلك. انتهى. وقد قال سليمان الجمل: وأما المراد به هنا: فهو الجسم النوراني، المرتفع على كل الأجسام المحيط بكلها. وانظر ما ذكرته في آية الكرسي رقم [255] من سورة (البقرة): والصحيح: أن العرش غير الكرسي.

{ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ:} ما لكم إذا جاوزتم رضا الله أحد ينصركم، ويشفع لكم. أو: ما لكم سواه ولي، ولا شفيع؛ بل هو الذي يتولى مصالحكم، وينصركم في مواطن نصركم، على أن الشفيع متجوز به للناصر، فإذا خذلكم لم يبق لكم ولي، ولا ناصر، انتهى.

بيضاوي.

{أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ:} تتعظون بمواعظ الله، وتتفكرون في صنعه، وقدرته، وما ذرأ، أو برأ في هذا الكون المترامي الأطراف.

الإعراب: {اللهُ:} مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. {خَلَقَ:} فعل ماض، والفاعل ضمير مستتر تقديره:«هو» يعود إلى:

ص: 384

{الَّذِي} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {السَّماواتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم. {وَالْأَرْضَ:}

معطوف على {السَّماواتِ} . {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} . {بَيْنَهُما:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة (ما) الموصولة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {فِي سِتَّةِ:} متعلقان بالفعل: {خَلَقَ،} و {سِتَّةِ} مضاف، و {أَيّامٍ} مضاف إليه. {ثُمَّ:} حرف عطف. {اِسْتَوى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {عَلَى الْعَرْشِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها مثلها.

{ما:} نافية. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ دُونِهِ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. هذا؛ ويجيز بعضهم تعليقهما بمحذوف حال من {وَلِيٍّ} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها صار حالا» والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {وَلِيٍّ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ ويجيز بعضهم اعتبار (ما) نافية حجازية تقدم خبرها-وهو متعلق الجار والمجرور-على الاسم، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): زائدة لتأكيد النفي. {شَفِيعٍ:} معطوف على لفظ {وَلِيٍّ} . {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام وتوبيخ. الفاء: حرف استئناف، أو هي عاطفة على محذوف يقتضيه المقام. (لا): نافية. {تَتَذَكَّرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي معترضة في آخر الكلام.

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ (5)}

الشرح: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ} أي: يدبر الله أمر الدنيا بأسباب سماوية كالملائكة وغيرها، نازلة آثارها إلى الأرض. روى عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن سابط، قال: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، صلوات الله عليهم أجمعين. فأما جبريل؛ فموكل بالريح، والجنود. وأما ميكائيل؛ فموكل بالقطر، والماء. وأما ملك الموت؛ فموكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل؛ فهو ينزل بالأمر عليهم. ومعنى:{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} يقضيه، ويقدره وحده، لا يشركه في تدبير خلقه أحد. وقيل: معناه: أنه سبحانه وتعالى

ص: 385

يدبر أحوال الخلق، وأحوال السموات والأرض، فلا يحدث حدث في العالم العلوي، ولا في العالم السفلي إلا بإرادته، وتدبيره، وقضائه، وحكمته، وقد قيل: إن العرش موضع التدبير، كما أن ما دون العرش موضع التفصيل، قال الله تعالى في سورة (الرعد) الآية رقم [2]:{ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ} وما دون السموات موضع التصريف، قال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} وما ذكر من التدبير، والتفصيل، والتصريف إنما هو في مدة الدنيا، وهي سبعة آلاف سنة كما ورد من عدة طرق، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث في الألف السادس، ودلت الآثار على: أن مدة أمته صلى الله عليه وسلم، تزيد على ألف سنة، ولا تبلغ الزيادة عليها خمسمائة سنة. انتهى. جمل نقلا من كتاب للسيوطي، سماه: الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف.

أقول: ومدة الدنيا على ما ذكر إنما هي بالنسبة لخلق آدم عليه الصلاة والسلام، وأما بالنسبة لخلق الدنيا قبل آدم فلا يعلم ذلك إلا الله، وتذكر الاكتشافات الحديثة عن موجودات حية من آلاف السنين؛ بل من ملايين السنين، وقد ذكرت لك في سورة (الحجر) أنه ذكر قبل خلق آدم، أوادم.

وذكرت لك في سورة (الرعد) رقم [2] معنى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ:} يقضيه ويقدره وحده، لا يشركه في تدبير خلقه أحد. أو المعنى أنه سبحانه وتعالى يدبر أحوال الخلق، وأحوال ملكوت السموات والأرض، فلا يحدث حدث في العالم العلوي، ولا في العالم السفلي إلا بإرادته، وتدبيره، وقضائه، وحكمته.

{ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ:} اختلف في فاعل يعرج: قال يحيى بن سلام: هو جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي. وقال النقاش: هو الملك الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض. وقيل:

إنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة؛ قاله ابن شجرة. وعلى هذه الأقوال فالضمير يعود إلى الملك، ولم يجر له ذكر؛ لأنه مفهوم من المعنى. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [16] من سورة (لقمان) كما اختلف في الضمير بقوله:{إِلَيْهِ} فقيل: يعود إلى السماء على لغة من يذكّرها، أو على مكان الملك الذي يرجع إليه، أو على اسم الله تعالى، والمراد: إلى الموضع الذي أقره فيه، وإذا رجع إلى الله؛ فقد رجع إلى السماء؛ أي: إلى سدرة المنتهى، فإنه إليها يرتفع ما يصعد به من الأرض، ومنها ينزل ما يهبط به إليها؛ ثبت معنى ذلك في صحيح مسلم. انتهى. قرطبي.

{فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ} أي: مما تحسبون من أيام الدنيا، وهذا اليوم عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم، وليس بيوم يستوعب نهارا بين ليلتين؛ لأن ذلك ليس عند الله، والعرب تعبر عن مدة العمر باليوم.

ص: 386

هذا؛ وقال تعالى هنا: {كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} مشكل مع قوله تعالى في سورة (المعارج): {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . وقد تكلم العلماء في ذلك، فقيل: إن يوم القيامة فيه أيام، فمنه ما مقداره ألف سنة، ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل: هو أوقات مختلفة، فيعذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة، ثم ينقل إلى جنس آخر، مدته خمسون ألف سنة، ومن شواهد التعبير باليوم عن المدة قول الشاعر:[البسيط] يومان يوم مقامات وأندية

ويوم سير إلى الأعداء تأويب

وقيل: مواقف القيامة خمسون موقفا، كل موقف ألف سنة، فمعنى {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي: مقدار وقت، أو موقف من مواقف يوم القيامة. انتهى. قرطبي.

وقال الخازن: أراد بقوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مدة المسافة بين الأرض، وسدرة المنتهى التي هي مقام جبريل عليه السلام، يقول: يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وقيل: كلها في القيامة، فيكون على بعضهم مثل ألف سنة، وعلى بعضهم خمسين ألف سنة، وهذا في حال الكفار، وأما على المؤمنين فدون ذلك، كما جاء في الحديث «إنّه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاّها في الدنيا». قال إبراهيم التميمي: لا يكون على المؤمنين إلا كما يكون ما بين الظهر، والعصر. وقيل: يحتمل أن يكون هذا إخبارا عن شدته، وهوله، ومشقته. انتهى. وانظر سورة المعارج رقم [4] تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {يُدَبِّرُ:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» . انظر مرجعه في الشرح. {الْأَمْرَ:} مفعول به. {مِنَ السَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الأمر؛ أي: نازلا من السماء. {إِلَى الْأَرْضِ:} متعلقان ب: «نازلا» أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب حال من فاعل {اِسْتَوى} والرابط: الضمير فقط، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {ثُمَّ:}

حرف عطف. {يَعْرُجُ:} فعل مضارع، وانظر مرجع الضمير في الشرح. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {فِي يَوْمٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما أيضا، أو هما متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَعْرُجُ} المستتر، وجملة:{يَعْرُجُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {مِقْدارُهُ:} اسم {كانَ،} والضمير في محل جر بالإضافة. {أَلْفَ:} خبر: {كانَ} وهو مضاف، و {سَنَةٍ:} مضاف إليه. وجملة:

{كانَ..} . إلخ في محل جر صفة {يَوْمٍ} . {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة:

{أَلْفَ،} أو بمحذوف صفة {سَنَةٍ،} و (ما): اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر ب:(من)، وجملة:{تَعُدُّونَ} ويقرأ بالياء صلة: (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: من الذي، أو: من شيء تعدونه. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

ص: 387

{ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)}

الشرح: {ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ} أي: يعلم سبحانه ما غاب عن أبصار عباده، وما يشاهدونه بحواسهم، فلا يغيب عن علمه شيء في الأرض، ولا في السماء، وهو السميع العليم. فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب، والإحاطة بالباطن الذي يخفى على الخلق، فلا يجوز أن يشاركه فيه أحد من خلقه. هذا؛ وقال القرطبي:{ذلِكَ} بمعنى: أنا، وفي الكلام معنى التهديد، والوعيد؛ أي: أخلصوا أفعالكم، وأقوالكم فإني أجازي عليها. انتهى. وقال الخازن: يعني الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض هو عالم الغيب والشهادة. انتهى.

هذا؛ وأرى: أن الإشارة إلى ما تقدم بيانه، وأن هناك مضافا محذوفا، التقدير: ذلك فعل عالم الغيب، والشهادة. فلما حذف المضاف، أقيم المضاف إليه مقامه. هذا؛ وانظر شرح:

{الْغَيْبِ} في الآية رقم [3] من سورة (سبأ).

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عالِمُ:} خبر المبتدأ، وهو مضاف، و {الْغَيْبِ:} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {وَالشَّهادَةِ:} معطوف على: {الْغَيْبِ} على لفظه. {الْعَزِيزُ:} خبر ثان للمبتدإ. {الرَّحِيمُ:} خبر ثالث له، وقد رأيت في البسملة أنه يجوز في العربية قطعهما على إضمار مبتدأ، أو على إضمار فعل، تقديره: أعني. هذا؛ وقرئ شاذا بجر الأسماء الثلاثة على البدلية من الضمير المجرور محلا ب: {إِلَيْهِ،} والجملة الاسمية:

{ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7)}

الشرح: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ:} خلقه موفرا عليه ما يلزم له، ويليق به على وفق الحكمة، والمصلحة، وقال عبد الله بن عباس-رضي الله عنهما: أتقنه، وأحكمه. وقيل:

المعنى: علم كيف يخلق كل شيء. وقيل: خلق كل حيوان على صورة، فلم يخلق البعض على صورة البعض، فكل حيوان كامل في صورته، حسن في شكله، وكل عضو مقدر على ما يصلح به معاشه. وقيل: المعنى ألهم خلقه ما يحتاجون إليه، وعلمهم إياه. وقيل: معناه: أحسن إلى كل خلقه. انتهى. خازن.

{وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ:} يعني: آدم. {مِنْ طِينٍ} أي: من تراب الأرض، وفي سورة (الحجر) رقم [26]:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} انظر شرح هذه الآية هناك، فإنه جيد، ومعنى:{مِنْ طِينٍ} أي: إن الأصل آدم، وهو من طين. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: أي:

ص: 388

من طين خالص، فأما ولده؛ فهو من طين ومني. وخلق الإنسان من تراب يكثر ذكره في القرآن الكريم، وشرحته في محاله، فلا حاجة إلى ذكره هنا.

الإعراب: {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبر رابع للمبتدإ:

{ذلِكَ،} أو هو خبر لمبتدإ محذوف، تقديره:«هو» الذي. أو هو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أمدح، ونحوه. {أَحْسَنَ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى:{الَّذِي،} تقديره: «هو» وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {كُلَّ:} مفعول به، وهو مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {خَلَقَهُ:} فعل ماض، وفاعله يعود إلى:{الَّذِي} أيضا، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{كُلَّ،} أو في محل جر صفة:

{شَيْءٍ،} وهذا على قراءة الفعل بفتح اللام، وأما على قراءته بسكون اللام؛ فهو بدل من كل، أو هو مفعول أول، والمفعول الثاني {كُلَّ} تقدم عليه، وهذا على تضمين {أَحْسَنَ} معنى:

عرّف، وألهم، أو هو مفعول ثان، و {كُلَّ} مفعول أول على تضمين الفعل معنى: أعطى، والبدلية بدل اشتمال على اعتبار الضمير عائدا على {كُلَّ شَيْءٍ} وهذا هو المشهور المتداول، أو هو بدل كل من {كُلَّ} على اعتبار الضمير عائدا على (الله) تعالى، وأجاز مكي اعتباره مصدرا مثل:{صُنْعَ اللهِ} و {كِتابَ اللهِ} وليس بشيء يعتد به. {وَبَدَأَ:} الواو: حرف عطف.

(بدأ): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الذي أيضا. {خَلْقَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْإِنْسانِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، التقدير: وبدأ خلقه الإنسان. {مِنْ طِينٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو بمحذوف حال من {خَلْقَ الْإِنْسانِ} أو بالمصدر، والمعنى: عليه أقوى. تأمل. والجملة الاسمية: هو الذي، أو الفعلية:

أمدح الذي: مستأنفة على الاعتبارين. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8)}

الشرح: {ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ:} ذرية آدم، سميت بذلك؛ لأنها تنسل منه، أي: تنفصل من سلالة.

{مِنْ ماءٍ مَهِينٍ:} ممتهن مبتذل. هذا؛ والسلالة: الخلاصة؛ لأنها تسل من بين الكدر. وقيل: إنما سمي التراب الذي خلق منه آدم: سلالة؛ لأنه سل من كل تربة. وقيل: السلالة المراد بها: ابن آدم.

قاله ابن عباس، وغيره. وعلى هذا؛ فالسلالة: صفوة الماء، يعني: المني، فالنطفة سلالة، والولد سليل، وسلالة، عنى به الماء يسل من الظهر سلا، قال حسان بن ثابت، رضي الله عنه:[الطويل] فجاءت به عضب الأديم غضنفرا

سلالة فرج كان غير حصين

وقالت هند بنت النعمان بن بشير-رضي الله عنهما-في مدح نفسها، وذمّ الحجاج الذي تزوجها في قصة مشهورة، وفي كتاب الأدب مسطورة:[الطويل]

ص: 389

وما هند إلاّ مهرة عربيّة

سليلة أفراس تجلّلها بغل

فإن ولدت مهرا فلله درّها

وإن ولدت نغلا فجاء به البغل

هذا؛ وخذ قوله تعالى في سورة (الحج) رقم [5]: {يا أَيُّهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ،} وخذ قوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [12] وما بعدها: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ} . وانظر شرح هذه الآيات في محالها، تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {جَعَلَ:} فعل ماض، والفاعل تقديره:«هو» ، يعود إلى:

{الَّذِي} . {نَسْلَهُ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ سُلالَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {نَسْلَهُ}. {مِنْ ماءٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {سُلالَةٍ} . {مَهِينٍ:} صفة {ماءٍ،} وجملة: {جَعَلَ..} . إلخ معطوفة على جملة الصلة، لا محل لها.

{ثُمَّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)}

الشرح: {ثُمَّ سَوّاهُ:} قومه، وأحسن خلقه، كما قال تعالى في سورة (الانفطار):{يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوّاكَ فَعَدَلَكَ،} وقال تعالى في سورة التين: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} . {وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ:} دل بإضافة الروح إلى ذاته على أنه خلق عجيب، لا يعلم كنهه إلا هو، كقوله تعالى:{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} الآية رقم [85] من سورة (الإسراء) كأنه قال: ونفخ فيه من الشيء الذي اختص هو به، وبمعرفته، وفي الإضافة إلى ذاته تشريف، وتعظيم، وإن له شأنا، ولهذا من عرف نفسه، فقد عرف ربه.

{وَجَعَلَ لَكُمُ:} خلق، وأوجد وأنشأ. {السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ:} لتحسوا بها ما نصب الله في هذا الكون من الآيات. {وَالْأَفْئِدَةَ:} القلوب؛ لتتفكروا فيها في صنع الله، وما ذرأ، وما برأ، وخص الحواس الثلاث بالذكر؛ لأنها يتعلق بها من المنافع الدينية، والدنيوية ما لا يتعلق بغيرها، قال تعالى في سورة (النحل) رقم [78]:{وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} هذا؛ وقد وحّد سبحانه السمع في هذه الآية وأمثالها دون الأبصار، والأفئدة؛ لأمن اللبس، ولأنه في الأصل مصدر، يقال: سمعت الشيء، سماعا،

ص: 390

وسمعا، والمصدر لا يجمع؛ لأنه اسم جنس يقع على القليل، والكثير، فلا يحتاج فيه إلى تثنية، أو جمع. وقيل: وحّد السمع؛ لأن مدركاته نوع واحد، وهو الصوت، ومدركات البصر والقلب مختلفة، والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب.

{قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} أي: شكركم قليل على نعم هذه الجوارح؛ التي خلقها الله لكم، وهي أساس منفعتكم في هذه الدنيا. وإنما كان شكركم قليلا؛ لأنكم لم تعرفوا عظم هذه النعم، ووضعتموها في غير مواضعها؛ لأنكم لم تعملوا، وتستخدموا أبصاركم، وأسماعكم في آيات الله، وأفعاله، ولم تستدلوا بقلوبكم على نعم الله وأفضاله. وفيه تنبيه على أن من لم يستعمل هذه الجوارح فيما خلقت له، فهو بمنزلة عادمها، لقوله تعالى:{فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} الآية رقم [26] من سورة (الأحقاف). هذا وحقيقة الشكر:

صرف كل نعمة لما خلقت له، واستخدامها في طاعة الله عز وجل، والفعل: شكر يتعدى بنفسه، وبحرف الجر، تقول: شكرت زيدا، وشكرت له، كما تقول: نصحته، ونصحت له. هذا؛ ولا تنس الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، فإن الأول مراد به آدم-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-والثاني مراد به ذريته في كل زمان، ومكان.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {سَوّاهُ:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى {اللهُ} تعالى، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على جملة الصلة لا محل لها مثلها. {وَنَفَخَ:} الواو: حرف عطف.

(نفخ): فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ}. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعول به. {مِنْ رُوحِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية:{وَنَفَخَ..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. (جعل): فعل ماض، والفاعل يعود إلى الله أيضا. {لَكُمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {السَّمْعَ:} مفعول به، وما بعده معطوف عليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

{قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ:} لقد ذكر ابن هشام-رحمه الله تعالى-في مغني اللبيب في هذه الجملة، وأمثالها إعرابا، فأنا أنقله لك باختصار، فقال:{ما} محتملة لثلاثة، أوجه:

أحدها: الزيادة، فتكون لمجرد تقوية الكلام، فتكون حرفا باتفاق، و {قَلِيلاً} بمعنى النفي، وإما لإفادة التقليل، مثلها في:«أكلت أكلا ما» وعلى هذا يكون تقليلا بعد تقليل.

الثاني: النفي، و {قَلِيلاً} نعت لمصدر محذوف، أو لظرف محذوف؛ أي: شكرا قليلا، أو زمانا قليلا.

ص: 391

الثالث: أن تكون مصدرية، وهي وصلتها فاعل ب:{قَلِيلاً،} وقليلا حال معمول لمحذوف، وعليه يكون المعنى، أي: شكروا، فأخروا قليلا شكرهم. أجازه ابن الحاجب، ورجح معناه على غيره. انتهى. بتصرف كبير.

ولم يذكر إعراب قليلا على الوجه الأول، وذكر سليمان الجمل الوجه الأول، واعتبر {قَلِيلاً} نعتا لمصدر محذوف، مثل اعتباره في الوجه الثاني، وذكر أبو البقاء الوجه الثاني، وقال: التقدير: فما يشكرون قليلا، ولا كثيرا، وجملة:{قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ} مستأنفة، أو تعليلية لا محل لها على الاعتبارين. وهذا الإعراب مأخوذ من إعراب ابن هشام لقوله تعالى:{فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ} وهي الآية رقم [88] من سورة (البقرة).

{وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)}

الشرح: {وَقالُوا} أي: كفار مكة. {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ} أي: صرنا ترابا، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، ولا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن، والعرب تقول للشيء غلب عليه غيره، حتى خفي فيه أثره: قد ضل، قال الأخطل التغلبي:[الكامل] كنت القذى في موج أكدر مزبد

قذف الأتيّ به فضلّ ضلالا

أي: هلك، واختفى أثره. وقال قطرب: معنى: {ضَلَلْنا:} غبنا في الأرض. وأنشد قول النابغة الذبياني: [الطويل] فآب مضلّوه بعين جليّة

وغودر بالجولان حزم ونائل

هذا؛ وقرئ: «(ضللنا)» بكسر اللام، والأولى لغة نجد، وهي الفصيحة، والثانية لغة أهل العالية، قاله الجوهري. وانظر الآية رقم [11] من سورة (لقمان)، ورقم [50] من سورة (سبأ) وقرئ شاذا:«(صللنا)» بالصاد، أي أنتنا، وهي قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال النحاس: ولا يعرف في اللغة: صللنا، ولكن يقال: صلّ اللحم، وأصلّ، وخمّ، وأخمّ: إذا أنتن، قال الحطيئة:[السريع] ذاك فتى يبذل ذا قدره

لا يفسد اللّحم لديه الصّلول

{أَإِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ:} أي أنبعث، أو يجدد خلقنا بعد أن نصير مختلطين بالتراب. {بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ:} جاحدون، لما ذكر كفرهم بالبعث؛ أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنّهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة من حساب، وجزاء، وجنة، ونار، لا بالبعث وحده، وأنهم لا يلقون الله تعالى، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: (قالوا): فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَإِذا:}

الهمزة: حرف استفهام إنكاري. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب

ص: 392

بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب، وهذا عند سيبويه. {ضَلَلْنا:}

فعل، وفاعل. {فِي الْأَرْضِ:} جار ومجرور متعلقان به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (إذا) إليها على المشهور المرجوح، وجواب (إذا) محذوف دل عليه الجملة الآتية، التقدير: أإذا ضللنا في الأرض؛ نبعث، ولا يجوز أن يعمل فيها {جَدِيدٍ؛} لأن ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها، وينبغي أن تعلم أن (إذا) هنا ظرف مجرد عن الشرطية، فإن تقدير الكلام: أنبعث إذا

إلخ وهذا قول غير سيبويه، والكلام في محل نصب مقول القول. {أَإِنّا:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري.

(إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت ألفها دليلا عليها. {لَفِي:}

اللام: لام الابتداء، وتسمى هنا: المزحلقة. (في خلق): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر:

(إن). {جَدِيدٍ:} صفة {خَلْقٍ،} والجملة الاسمية: {أَإِنّا..} . إلخ مؤكدة لما قبلها، والاستفهام فيها مبالغة في الإنكار، وبدون الاستفهام فيها حصل الإنكار بالأولى، وهذه مرتبطة فيها، فالإنكار بالأولى، إنكار فيها أيضا، وجملة: (قالوا

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{بَلْ:} حرف إضراب إبطالي. {هُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {بِلِقاءِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كافِرُونَ} بعدهما، و (لقاء): مضاف، و {رَبِّهِمْ:}

مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {كافِرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية: (هم

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)}

الشرح: {قُلْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمقول لهم: كفار قريش، ويعم كل واحد من بني آدم.

{يَتَوَفّاكُمْ:} يقبض أرواحكم من أجسادكم، من: توفّى العدد، والشيء: إذا استوفاه، وقبضه جميعا، يقال: توفّاه الله؛ أي: استوفى روحه، ثم قبضه، وتوفّيت مالي من فلان؛ أي: استوفيته.

{مَلَكُ الْمَوْتِ:} واسمه: عزرائيل، ومعناه: عبد الله، وتصرفه كله بأمر الله تعالى، وبخلقه، واختراعه. هذا؛ وقد قال تعالى هنا:{يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ،} وقال في سورة (الأنعام) رقم [61]: {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ،} وقال في سورة (الزمر) رقم [42]: {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها،} وقال في سورة (الأنفال) رقم [50]: {وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ} والجمع بين هذه الآيات، وما أذكره من أحاديث: أن ملك الموت يقبض، وله أعوان يعالجون، والله تعالى يزهق الروح، لكنه لما كان ملك الموت متولي ذلك بالوساطة، والمباشرة أضيف التوفي إليه. انتهى. قرطبي بتصرف. وذكر

ص: 393

لك في سورة (الأنعام) أن المتوفي في الحقيقة هو الله تعالى، فإذا حضر أجل العبد أمر الله ملك الموت بقبض روحه، ولملك الموت أعوان من الملائكة يأمرهم بنزع روح ذلك العبد من جسده، فإذا وصلت إلى الحلقوم تولى قبضها ملك الموت بنفسه.

بقي شيء آخر ينبغي أن تعلمه، وهو: هل يقبض ملك الموت أرواح جميع الخلائق؟ والجواب: نعم يتوفى أرواح جميع الخلائق حتى البرغوث، والبعوضة. وخذ ما يلي: روى جعفر بن محمد عن أبيه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ملك الموت عند رأس رجل من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أرفق بصاحبي، فإنه مؤمن» . فقال ملك الموت عليه السلام: «يا محمد! طب نفسا، وقرّ عينا، فإني بكل مؤمن رفيق، واعلم: أن ما من أهل بيت مدر، ولا شعر، في بر، ولا بحر، إلا وأنا أتصفحهم في كل يوم خمس مرات؛ حتى لأنا أعرف بصغيرهم، وكبيرهم منهم بأنفسهم، والله يا محمد! لو أني أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت على ذلك؛ حتى يكون الله هو الآمر بقبضها» . قال جعفر بن علي: بلغني: أنه يتصفحهم عند مواقيت الصلاة.

ذكره الماوردي.

وعن سليمان بن مهير الكلابي، قال: حضرت مالك بن أنس، رضي الله عنه، فأتاه رجل، فسأله: أبا عبد الله! البراغيث أملك الموت يقبض أرواحها؟ قال: فأطرق مالك طويلا، ثم قال:

ألها نفس؟ قال: نعم، قال: ملك الموت يقبض أرواحها؛ {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} .

وروى مجاهد: أن الدنيا بين يدي ملك الموت كالطست بين يدي الإنسان، يأخذ من حيث شاء.

وروي: أن ملك الموت لما وكله الله تعالى بقبض الأرواح، قال: رب جعلتني أذكر بسوء، ويشتمني ابن آدم. فقال الله تعالى له: إني أجعل للموت عللا، وأسبابا من الأمراض، والأسقام ينسبون الموت إليها، فلا يذكرك أحد إلا بخير. وقد ذكر: أنه يدعو الأرواح فتجيئه، ويقبضها، ثم يسلمها إلى ملائكة الرحمة، أو العذاب. انتهى. قرطبي بتصرف كبير مني.

وعن معاذ بن جبل-رضي الله عنه-قال: إن لملك الموت حربة، تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهي تتصفح وجوه الناس، فما من أهل بيت إلا وملك الموت يتصفحهم في كل يوم مرتين، فإذا رأى إنسانا قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة، وقال له: الآن تنزل بك سكرات الموت. انتهى. خازن، وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: إن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.

بقي شيء آخر، وهو: أنه قد يرد سؤال، كيف يستطيع عزرائيل قبض أرواح الألوف من المخلوقات في لحظة واحدة من الزمان، والجواب عن ذلك: كما يمكن إطفاء الألوف من المصابيح الكهربائية في لحظة واحدة يستطيع عزرائيل قبض أرواح الألوف؛ بل الملايين من المخلوقات في لحظة واحدة بما منحه الله من قوة، وتسلط على أرواح المخلوقات.

ص: 394

{الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} أي: وكل بقبض أرواحكم وإحصاء آجالكم، فلا يغفل عنكم، ولا شغل له إلا ذلك؛ إذا جاء أجل أحدكم لا يقدم لحظة، ولا يؤخر لحظة، كقوله تعالى:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} . {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي: تصيرون إلى ربكم يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {يَتَوَفّاكُمْ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {مَلَكُ:} فاعل، وهو مضاف، و {الْمَوْتِ} مضاف إليه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع صفة {مَلَكُ الْمَوْتِ} . {وُكِّلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل يعود إلى {الَّذِي،} والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يَتَوَفّاكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {ثُمَّ:} حرف عطف. {إِلى رَبِّكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {تُرْجَعُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ (12)}

الشرح: {وَلَوْ تَرى:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتّى منه الرؤية. {إِذِ الْمُجْرِمُونَ:}

هم الذين قالوا: {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ} . {ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: في موقفهم بين يدي ربهم يوم القيامة، قد نكسوا رءوسهم حياء، وخجلا. والتعبير بالماضي المستفاد من:

{إِذِ،} إنما هو لتحقق وقوع ما يذكر في هذه الآية يوم القيامة.

{رَبَّنا أَبْصَرْنا} أي: يقولون أبصرنا ما وعدتنا حقا، وقد كنا مكذبين به في الدنيا.

{وَسَمِعْنا:} يعني منك تصديق ما أتتنا به رسلك. وقيل: المعنى: أبصرنا معاصينا، وسمعنا ما قيل فيها. {فَارْجِعْنا} أي: إلى الدنيا. {نَعْمَلْ صالِحاً} أي: نؤمن بك، ونصدق رسلك، ونعمل بطاعتك. {إِنّا مُوقِنُونَ} أي: بالبعث، والحساب. ومثل قولهم هذا قولهم في سورة (المؤمنون):{قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنّا ظالِمُونَ} وقد أكذبهم الله تعالى بقوله في سورة (الأنعام): {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} وبالجملة فقد أبصروا حين لا ينفعهم البصر، وسمعوا حين لا ينفعهم السمع.

ص: 395

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{تَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» ، والمفعول محذوف. تقديره: المجرمين، وقد أغنى عنه المبتدأ. {إِذِ:}

ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {الْمُجْرِمُونَ:}

مبتدأ مرفوع

إلخ. {ناكِسُوا:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و {ناكِسُوا} مضاف، و {رُؤُسِهِمْ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {ناكِسُوا،} وقيل: متعلق بمحذوف حال، ولا وجه له، و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ:} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. هذا؛ وجملة:{تَرى..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، تقديره: لرأيت أمرا فظيعا. هذا؛ وأجيز اعتبار (لو) للتمني، فلا تحتاج إلى جواب حينئذ، والأول أقوى معنى. و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء منصوب، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَبْصَرْنا:} فعل، وفاعل، والمفعول به محذوف، والجملة الفعلية مع الجملة الندائية في محل نصب مقول القول لقول محذوف، يقع حالا من واو الجماعة، التقدير: قائلين: ربنا أبصرنا، وجملة:(سمعنا) مع المفعول المحذوف أيضا معطوفة على ما قبلها ويجوز عدم تقدير مفعول للفعلين، فيكون المعنى: صرنا ممن يبصر، ويسمع. {فَارْجِعْنا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا منا؛ فارجعنا. (ارجعنا): فعل دعاء، والفاعل مستتر تقديره: أنت، و:(نا) مفعول به والجملة الفعلية من جملة مقول القول المحذوف.

{نَعْمَلْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للطلب، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف، والفاعل مستتر وجوبا تقديره:«نحن» . {صالِحاً:} صفة لمفعول به محذوف، التقدير: نعمل عملا صالحا. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت ألفها دليلا عليها. {مُوقِنُونَ:} خبر (إن) مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا مُوقِنُونَ} تعليل للطلب، وهي من جملة مقول القول المحذوف، والجملة الشرطية المقدرة: «إذا كان

» إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 396

{وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ (13)}

الشرح: {وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها:} يقول الله: لو شئت؛ لهديت الناس جميعا، فلم يختلف منهم أحد. قال النحاس: في معناه قولان: أحدهما: أنه في الدنيا. والآخر: أن سياق الكلام يدل على أنه في الآخرة؛ أي: لو شئنا؛ لرددناهم إلى الدنيا، والمحنة، كما سألوا. {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي..}. إلخ أي: حق القول مني لأعذبن من عصاني بنار جهنم، وعلم الله تبارك وتعالى أنه لو ردهم؛ لعادوا، كما قال تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} .

هذا؛ وقدر ابن هشام الكلام في المغني كما يلي: ولكن لم أشأ ذلك، فحق القول مني.

وهذه الهداية معناها خلق المعرفة في القلب. وتأويل المعتزلة: -ولو شئنا لأكرهناهم على الهداية بإظهار الآيات الهائلة، لكن لا يحسن منه فعله؛ لأنه ينقض الغرض المجرى بالتكليف إليه، وهو الثواب الذي لا يستحق إلا بما يفعله المكلف باختياره-باطل، ولا وجه له.

وقالت الإمامية في تأويلها: إنه يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة، ولم يعاقب أحدا، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم، فلا يجب على الله تعالى عندنا هداية الكل إليها؛ قالوا:

بل الواجب هداية المعصومين، فأما من له ذنب؛ فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله. وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد: هداها إلى الإيمان، وقد تكلم العلماء عليهم في هذين التأويلين بما فيه كفاية في أصول الدين، وأقرب ما لهم في الجواب أن يقال: فقد بطل عندنا، وعندكم أن يهديهم الله سبحانه على طريق الإلجاء، والإجبار، والإكراه، فصار يؤدي ذلك إلى مذهب الجبرية، وهو مذهب رذل عندنا، وعندكم؛ فلم يبق إلا أن المهتدين من المؤمنين، إنما هداهم الله تعالى إلى الإيمان والطاعة على طريق الاختيار؛ حتى يصح التكليف، فمن شاء آمن، وأطاع اختيارا لا جبرا، قال تعالى في سورة التكوير رقم [28]:{لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ،} وقال في سورة الإنسان رقم [29]: {فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً} . ثم عقب هاتين الآيتين في السورتين المذكورتين بقوله جل شأنه: {وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} فوقع إيمان المؤمنين بمشيئتهم، ونفى أن يشاءوا إلا أن يشاء الله، ولهذا أفرطت الجبرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق (معلّق) بمشيئة الله تعالى، فقالوا: الخلق مجبورون في طاعتهم كلها، التفاتا منهم إلى قوله تعالى:{وَما تَشاؤُنَ إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ} . وفرّطت القدرية لما رأوا أن هدايتهم إلى الإيمان معذوق بمشيئة العباد، فقالوا: الخلق خالقون لأفعالهم، التفاتا منهم إلى قوله تعالى:{لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} .

ومذهبنا هو الاقتصاد في الاعتقاد، وهو مذهب بين مذهبي المجبرة، والقدرية، وخير الأمور، أوسطها، وذلك: أن أهل الحق قالوا: نحن نفرق بين ما اضطررنا إليه وبين ما اخترناه، وهو أنا

ص: 397

ندرك تفرقة بين حركة الارتعاش، الواقعة في يد الإنسان بغير محاولته، وإرادته ولا مقرونة بقدرته، وبين حركة الاختيار؛ إذا حرك يده حركة مماثلة لحركة الارتعاش، ومن لا يفرق بين الحركتين:

حركة الارتعاش، وحركة الاختيار، وهما موجودتان في ذاته، ومحسوستان في يده بمشاهدته، وإدراك حاسته؛ فهو معتوه في عقله، ومختل في حسه، وخارج من حزب العقلاء، وهذا هو الحق المبين وهو طريق بين طريقي الإفراط، والتفريط، قال الشاعر:[الطويل] ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد

كلا طرفي قصد الأمور ذميم

وبهذا الاعتبار اختار أهل النظر من العلماء أن سمّوا هذه المنزلة بين المنزلتين كسبا، وأخذوا هذه التسمية من كتاب الله العزيز، وهو قوله سبحانه في آخر سورة (البقرة):{لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ} انتهى. قرطبي بحروفه بتصرف بسيط. ومعنى: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} أي: من عصاتهما، وقدم الجن؛ لأن المقام مقام تحقير، ولأن أكثر أهل جهنم منهم فيما قيل، وفي تخصيص الجن، والإنس بالذكر إشارة إلى أنه تعالى قد عصم ملائكته عن عمل يستوجبون به جهنم.

هذا؛ وخذ قوله تعالى في الآية رقم [112] من سورة (الأنعام): {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ،} ورقم [107] منها {وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا،} وخذ قوله تعالى في الآية رقم [18] من سورة (الأعراف) لإبليس: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ،} وقوله له في الآية رقم [85] من سورة (ص): {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ،} وقوله تعالى في الآية رقم [119] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ} انظر شرح الآيات في محالها.

تنبيه: قال الله تعالى في الآية رقم [27] من سورة (الحجر): {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ،} وقال في سورة (الرحمن) رقم [15]: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ} فقد قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الجان: أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر. وقال قتادة: هو إبليس.

وقيل: الجان أبو الجن، وإبليس أبو الشياطين. هذا؛ والجنة بكسر الجيم، والجن بمعنى واحد، وفيهم مسلمون، وكافرون، يأكلون، ويشربون، ويحيون، ويموتون، ويتوالدون كبني آدم. وأما الشياطين فليس فيهم مسلمون، ولا يموتون إلا إذا مات أبوهم إبليس. والأصح: أن الشياطين نوع من الجن لاشتراكهم في الاستتار، سمّوا جنّا لتواريهم، واستتارهم عن الأعين من قولهم:

جنّ الليل إذا ستر بظلمته كل شيء. والشيطان هو العاتي المتمرد الكافر، والجن منهم المؤمن، ومنهم الكافر، والجن أجسام نارية لطيفة، قادرة على التشكل في الغالب بأشكال مخيفة قبيحة من حية، ونحوها، وهم يروننا، ولا نراهم. قال تعالى في سورة (الأعراف) رقم [27]:{إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} والملائكة مثلهم في هذا، ولكنهم يتشكلون بأشكال حسنة عكس الجن، وهم مخلوقون من نور.

ص: 398

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{شِئْنا:} فعل، وفاعل، والمفعول محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَآتَيْنا:} اللام: واقعة في جواب (لو). (آتينا): فعل، وفاعل. {كُلَّ:} مفعول به أول، و {كُلَّ} مضاف، و {نَفْسٍ} مضاف إليه. {هُداها:}

مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَآتَيْنا..} . إلخ جواب (لو)، لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف وقيل: واو الحال، ولا وجه له البتة. (لكن): حرف استدراك لا محل له. {حَقَّ:} فعل ماض. {الْقَوْلُ:} فاعله. {مِنِّي:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل: {حَقَّ،} أو بالقول، ومعنى {حَقَّ} وجب فهو بمعنى القسم.

وقيل: متعلقان بمحذوف، ولا وجه له قطعا. {لَأَمْلَأَنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم المفهوم من الجملة الفعلية قبلها. (أملأن): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له: والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنا» . {جَهَنَّمَ:}

مفعول به. {مِنَ الْجِنَّةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالنّاسِ:} معطوف على {الْجِنَّةِ} .

{أَجْمَعِينَ:} توكيد ل: {الْجِنَّةِ} و (الناس) فهو مجرور مثلهما، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:

{لَأَمْلَأَنَّ..} . إلخ جواب القسم المفهوم من الجملة الفعلية السابقة، والكلام:{وَلكِنْ..} . إلخ معطوف على (لو) ومدخولها لا محل له مثله. هذا؛ وقدر ابن هشام الكلام: ولكن لم أشأ ذلك؛ فحق القول مني.

{فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)}

الشرح: {فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا:} فيه قولان: أحدهما: أنه من النسيان؛ الذي لا ذكر معه، أي: لم يعملوا لهذا اليوم، فكانوا بمنزلة الناسين. والآخر: أنه بمعنى تركتم، وكذا:{إِنّا نَسِيناكُمْ} فالأول بمعنى: تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم، والثاني بمعنى: تركناكم من الخير. قاله السدي. وقال مجاهد: تركناكم في العذاب ترك المنسي.

والكلام مقول قول محذوف: يقوله الله، أو الملائكة..

ومعنى الآية: فذوقوا العذاب المخلد في جهنم، وما فيه من نكس الرءوس، والخزي، والغم بسبب نسيان اللقاء، وذوقوا العذاب المخلد بسبب ما عملتم من الشرك، والمعاصي، والكبائر الموبقة. وانظر الذوق، وما قيل فيه في الآية رقم [55] من سورة (العنكبوت).

ص: 399

وجملة القول: إنهم غفلوا عن الإيمان بالله، واليوم الآخر، أو تركوا أوامره؛ حتى صاروا بمنزلة الناسين له، فجازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسيّين من ثوابه، ورحمته، فخرج على مزاوجة الكلام، فهو كقوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها،} ومثل هذا يسمى في فن البلاغة مشاكلة، وقال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [30]:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ،} وقال في سورة (النمل) رقم [50]: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً،} والمكر معناه الخبث والخداع والاحتيال، والكيد، والتدبير الحرام، وهو مستحيل في حقه تعالى، وإنما هو بمعنى المجازاة، والمعاقبة، وذلك كثير في كتاب الله تعالى.

هذا؛ و (النسيان) مصدر: نسيت الشيء، أنساه، وهو مشترك بين معنيين: أحدهما: ترك الشيء عن ذهول، وغفلة، والثاني: عن تعمد، وقصد، وقد رأيت في الشرح القولين فيه.

الإعراب: {فَذُوقُوا:} الفاء: حرف استئناف. (ذوقوا): فعل أمر مبني على حذف النون لاتصاله بواو الجماعة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق. هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذا الفعل، والإعراب الحقيقي أن تقول: مبني على السكون المقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضمة التي جيء بها لمناسبة واو الجماعة، وقل مثله في نحو قولك:«كلا، واشربا» والمانع من ظهور السكون، الفتح الذي جيء به لمناسبة ألف الاثنين، التي هي فاعله، وأيضا قولك:«ذوقي، وكلي» والمانع من السكون اشتغال المحل بالكسرة التي جيء بها لمناسبة ياء المخاطبة، التي هي فاعله. {بِما:} الباء: حرف جر. (ما) مصدرية. {نَسِيتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون، والتاء فاعله. {لِقاءَ:} مفعول به ل: {نَسِيتُمْ،} ومفعول (ذوقوا) محذوف، التقدير: فذوقوا العذاب، ويجوز على مذهب الكوفيين أن يكون {لِقاءَ} مفعول (ذوقوا) على إعمال الأول، كما يجوز أن يكون مفعول (ذوقوا). {هذا} أي: هذا العذاب، وهو ضعيف معنى، و {لِقاءَ} مضاف، و {يَوْمِكُمْ} مضاف إليه، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر صفة: {يَوْمِكُمْ} على المعتمد، والهاء حرف تنبيه لا محل له. و (ما) المصدرية، والفعل بعدها في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، التقدير: بنسيانكم لقاء يومكم هذا، وجملة:{فَذُوقُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف؛ إذ التقدير: فتقول الملائكة لهم: ذوقوا

إلخ، والجملة الفعلية هذه مستأنفة، لا محل لها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت ألفها دليلا عليها. {نَسِيناكُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إن)، والجملة الاسمية:{إِنّا نَسِيناكُمْ} تعليل للأمر، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{وَذُوقُوا عَذابَ} مثل سابقه، و {عَذابَ} مضاف، و {الْخُلْدِ} مضاف إليه. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و:(ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى

ص: 400

الأولين: مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو: بشيء كنتم تعملونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول بما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بسبب عملكم الكفر، والمعاصي والموبقات. {كُنْتُمْ:}

فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه، وجملة (تعملون) في محل نصب خبره، وجملة:

{(ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ

)} إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها.

{إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15)}

الشرح: قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: إنهم لإلفهم الكفر لا يؤمنون بك، إنما يؤمن بك وبالقرآن المتدبرون له، والمتعظون به، وهم الذين إذا قرئ عليهم القرآن خروا سجدا. انتهى.

{إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا:} آيات القرآن. {الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها:} وعظوا بها، وخوّفوا من عقاب الله، أو بشّروا برحمة الله. {خَرُّوا سُجَّداً:} وقعوا على الأرض ساجدين لله خوفا من عذابه وعقابه، أو سقطوا على وجوههم تعظيما لأمر الله، وشكرا لنعمه، وفي سورة (الإسراء){إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً} رقم [107]، وفي رقم [109]:{وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} .

{وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي: نزهوه، وحمدوه، فخلطوا التسبيح بالحمد، فقالوا في جميع حركاتهم، وسكناتهم وفي جميع أحوالهم: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم. فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرّحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» . رواه الستة ما عدا أبا داود. {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان، والطاعة، كما استكبر أهل مكة عن ذلك.

تنبيه: هذه الآية هي العاشرة عند الشافعي، والتاسعة عند أبي حنيفة رحمهما الله تعالى من الآيات الأربع عشرة التي يسن السجود عند قراءتها للقارئ، والسامع، والمستمع، والدليل على ذلك هو سجود النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما:«أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، فيسجد، ونسجد معه حتّى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته في غير وقت صلاة» . متفق عليه. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إذا قرأ ابن آدم السّجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويلتا! أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنّة، وأمرت بالسجود، فأبيت فلي النّار» . رواه مسلم.

ص: 401

هذا؛ وشروط السجدة هي شروط الصلاة، وتزيد عند الشافعي بأنها تحتاج إلى نية كنية الصلاة، وسلام كسلام الصلاة، وهي فورية عند الشافعي، وعلى التراخي عند أبي حنيفة، لذا إذا كان القارئ، والسامع لا يستطيع السجود لعدم طهارته، أو لعدم قدرته على السجود لمانع يمنعه منه يكفيه أن يقول:«سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر» أربع مرات وهذا عند الشافعي. وأما عند أبي حنيفة، فيقضيها عند التمكن من فعلها، ولو بعد أيام، وإذا كانت في الصلاة فلا تؤدى إلا بالسجود لها عند الشافعي، وعند أبي حنيفة تؤدى بركوع الصلاة؛ إذا نواها معه.

الإعراب: {إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع. {بِآياتِنَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {ذُكِّرُوا:} فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذا} إليها على المشهور المرجوح. {خَرُّوا:} فعل ماض مبني على الضم لاتصاله بواو الجماعة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق. هذا هو الإعراب المتعارف عليه في مثل هذه الكلمة، والإعراب الحقيقي أن تقول: فعل ماض مبني على فتح مقدر على آخره، منع من ظهوره اشتغال المحل بالضم، الذي جيء به لمناسبة واو الجماعة، ويقال اختصارا: فعل، وفاعل. {سُجَّداً:} حال بمعنى: ساجدين، وجملة:{خَرُّوا سُجَّداً} جواب: {إِذا} لا محل لها، و {إِذا} ومدخولها صلة الموصول، وجملة:{وَسَبَّحُوا} معطوفة على جواب: {إِذا} لا محل لها مثلها. {بِحَمْدِ:} متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، و (حمد) مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه.

{وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ.

{لا:} نافية. {يَسْتَكْبِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير.

{تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16)}

الشرح: {تَتَجافى:} ترتفع وتتنحّى. {جُنُوبُهُمْ:} جمع جنب، وهو صفحة الإنسان التي ينام عليها في الغالب، وقد ينام مستلقيا على ظهره. {الْمَضاجِعِ:} جمع مضجع، وهي مواضع

ص: 402

النوم، ويحتمل عن وقت الاضطجاع، ولكنه مجاز. والحقيقة أولى، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:[الطويل] أتانا رسول الله يتلو كتابه

كما لاح مشهور من الصّبح ساطع

أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا

به موقنات أنّ ما قال واقع

يبيت يجافي جنبه عن فراشه

إذا استثقلت بالمشركين المضاجع

{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً:} داعين الله خوفا من سخطه، وطمعا في رحمته. {وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ:} المال في وجوه الخير. قيل: المراد: الزكاة المفروضة. وقيل: التطوع زيادة على الزكاة المفروضة، وهذا القول أمدح.

هذا؛ وفي الصلاة التي تتجافى جنوبهم عن المضاجع لأجلها أربعة أقوال: أحدها: التنفل بالليل، قاله الجمهور من المفسرين، وعليه أكثر الناس، وهو الذي فيه المدح. الثاني: أن المراد به صلاة العشاء. الثالث: أن المراد التنفل ما بين المغرب، والعشاء. الرابع: أن المراد صلاة العشاء، والصبح في جماعة. والأول أقوى الأربعة، وها أنا ذا أذكر أحاديث شريفة ترغب في الأربعة:

أولا: بالنسبة للتنفل في الليل انظر ما ذكرته في الآية رقم [78 و 79] من سورة (الإسراء)، وما ذكرته في الآية رقم [64] من سورة (الفرقان) وخذ ما يلي:

فعن أسماء بنت يزيد-رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة؛ جاء مناد، فنادى بصوت تسمعه الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى الناس بالكرم، ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون؛ وهم قليل. ثمّ ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أولى الناس بالكرم، ليقم الّذين لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون. ثمّ ينادي الثالثة: ستعلمون اليوم من أولى الناس بالكرم، ليقم الحامدون لله على كل حال في السرّاء، والضرّاء، فيقومون؛ وهم قليل. فيسرّحون جميعا إلى الجنة، ثمّ يحاسب سائر الناس» .

وعن سلمان الفارسي-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بقيام اللّيل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة لكم إلى ربكم، ومكفرة للسيّئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للداء عن الجسد» . رواه الطبراني. وفي رواية أخرى قريبة منها، رواها الترمذي عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه.

وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله رجلا قام من الليل، فصلّى، وأيقظ امرأته، فإن أبت نضح في وجهها الماء. ورحم الله امرأة قامت من الليل،

ص: 403

فصلّت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء». رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما، والحاكم.

وعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ في اللّيل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدّنيا؛ والآخرة إلاّ أعطاه إيّاه، وذلك كلّ ليلة» . رواه مسلم.

وقد ذكر: أن أبا ذر الغفاري-رضي الله عنه-وقف يوما عند الكعبة في حجة حجها، أو عمرة اعتمرها، فاكتنفه الناس، فقال لهم: لو أن أحدكم أراد سفرا، أليس يعد زادا؟ فقالوا:

بلى! فقال: سفر يوم القيامة أبعد مما تريدون، فخذوا ما يصلحكم. فقالوا: وما يصلحنا؟ قال:

حجوا حجة لعظائم الأمور، وصوموا يوما شديدا حره ليوم النشور، وصلوا في الليل لوحشة القبور. انتهى. زيني دحلان.

ثانيا: بالنسبة للتنفل ما بين المغرب، والعشاء فخذ ما يلي: فعن أبي هريرة-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلّى بعد المغرب ستّ ركعات لم يتكلّم فيما بينهنّ؛ عدلن بعبادة ثنتي عشرة سنة» . رواه ابن ماجة، وابن خزيمة، والترمذي، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من صلّى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتا في الجنّة» . وفي رواية أخرى: «من ركع عشر ركعات بين المغرب والعشاء؛ بني له قصر في الجنة» . فقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: إذا تكثر قصورنا، وبيوتنا يا رسول الله؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«الله أكبر، وأفضل» ، أو قال:«أطيب» . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: صلاة الأوابين الخلوة التي بين المغرب، والعشاء حتى يثوب الناس إلى الصلاة. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه-يصلي في تلك الساعة، ويقول: صلاة الغفلة بين المغرب والعشاء.

ثالثا: بالنسبة لصلاة العشاء والصبح في جماعة؛ فخذ ما يلي: فعن عثمان بن عفان رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من صلّى العشاء في جماعة؛ فكأنّما قام نصف الليل. ومن صلّى الصّبح في جماعة؛ فكأنّما صلّى اللّيل كلّه» . رواه مالك، ومسلم، ورواه أبو داود، والترمذي مع اختلاف في بعض ألفاظه. وفي حق المتقاعسين عن هاتين الصلاتين في الجماعة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنّ أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء، وصلاة الفجر في الجماعة، ولو يعلمون ما فيهما؛ لأتوهما ولو حبوا

إلخ». أخرج الحديث بطوله البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

فائدة وطرفة: -تتعلق بالأبيات السابقة فخذها-كما يلي: أخرج ابن عساكر عن الهيثم بن عدي قال: ذكروا: أن عبد الله بن رواحة-رضي الله عنه-ابتاع جارية، وكتم ذلك عن امرأته، وقد بلغها. فقالت له ذات يوم، وبلغها: أنه كان عندها: إنه بلغني عنك أنك ابتعت جارية، فقال

ص: 404

لها: ما فعلت، قالت: بلى! وقد بلغني أنك كنت عندها اليوم، ولا أحسبك إلا جنبا، فإن كنت صادقا؛ فاقرأ آيات من القرآن، فقال:[الوافر] شهدت بأنّ وعد الله حقّ

وأنّ النّار مثوى الكافرينا

وأنّ العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش ربّ العالمينا

وتحمله ملائكة كرام

ملائكة الإله مقرّبينا

قالت: أما إذا قرأت القرآن؛ فإني قد عرفت: أنه مكذوب عليك. قال: فافتقدته ذات ليلة، فلم تجده على فراشها، فلم تزل تطلبه حتى رأته في ناحية الدار، فقالت: الآن صدّقت ما بلغني، فجحدها فقالت: اقرأ آيات من القرآن؛ إن كنت صادقا، فقال:[الطويل] أتانا رسول الله يتلو كتابه

... الأبيات الثلاثة

فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فضحك حتى ردّ يده على فيه، وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر الله لك يا بن رواحة! إن خياركم خيركم لنسائه، فأخبرني ما الذي ردت عليك، حيث قلت ما قلت؟ قال: قالت لي: أما إذا قرأت القرآن فإني أتهم ظني، وأصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد وجدتها ذات فقه في الدين. انتهى. سيوطي شرح شواهد المغني.

الإعراب: {تَتَجافى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر.

{جُنُوبُهُمْ:} فاعله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها. {عَنِ الْمَضاجِعِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {يَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون، والواو فاعله. {رَبَّهُمْ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {خَوْفاً:} مفعول لأجله، أو هو حال على حذف المضاف، التقدير: ذوي خوف، وذوي طمع، وأجيز اعتباره مفعولا مطلقا لعامل مقدر، وهو ضعيف، وجملة:{يَدْعُونَ رَبَّهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال ثانية من واو الجماعة، أو هي حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، فتكون حالا متداخلة، واستئنافها ضعيف. {وَمِمّا:} الواو: حرف عطف. (مما): جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (من). {رَزَقْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول، والجملة الفعلية صلة:(ما) أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: من الذي، أو من شيء رزقناهم إياه؛ لأن الفعل رزق ينصب مفعولين، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(من)، التقدير: من رزقنا إياهم المال. {يُنْفِقُونَ:} فعل مضارع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{يَدْعُونَ..} . إلخ.

ص: 405

{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17)}

الشرح: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ} أي: للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويقرأ الفعل:{أُخْفِيَ} بقراءات كثيرة. {مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} أي: مما تقر به عيونهم، يحتمل أن تكون من القرار، وهو: السكون والهدوء، ويحتمل أن تكون من القر، وهو الأشهر، والقرّ: البرد؛ لأن العرب تتأذى بالحر، وتستريح إلى البرد، وأيضا: فإن دمع السرور بارد، ودمع الحزن ساخن، فمن هذا يقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو، قال الشاعر:[الطويل] فكم سخنت بالأمس عين قريرة

وقرّت عيون دمعها اليوم ساكب

وضعّف ناس هذا، وقالوا: الدمع كله حار، فمعنى «أقر الله عينه» أي: سكن الله عينه بالنظر إلى من يحبه حتى تقر، وتسكن، وإذا أريد بهذه الجملة الدعاء؛ فيكون المعنى: أقر الله عينه، أي: أسكنها بالموت، فيكون الفعل من الأضداد، وفلان قرة عيني، أي: تسكن نفسي بقربه، قالت ميسون بنت بحدل الكلبية:[الوافر] ولبس عباءة وتقرّ عيني

أحبّ إليّ من لبس الشّفوف

وقد وحد {قُرَّةِ؛} لأنه مصدر، والمصدر يصلح للمفرد، والمثنى، والجمع، والمذكر والمؤنث، وإنما قال:{أَعْيُنٍ} وهو جمع قلة بخلاف عيون، وهو جمع كثرة؛ لأنه أراد أعين المؤمنين المخلصين، والمتقين الخاشعين، وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم، قال تعالى:

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} .

{جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: جوزوا جزاء عظيما بسبب ما عملوا من الطاعات، فأخفى أولئك أعمالهم من أعين الناس، فأخفى الله جزاءهم، فلا يعلم مقداره ملك مقرب، ولا نبي مرسل. وفي معنى هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم:«قال الله عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . ثم قرأ هذه الآية: {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ} إلى قوله: {جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} . خرجه الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه. انتهى. قرطبي، وأسنده الخازن إلى أبي هريرة، رضي الله عنه، وقال: متفق عليه.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: في التوراة مكتوب: «على الله للّذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الأمر في هذا أجلّ وأعظم من أن يعرف تفسيره.

وعن أبي عبيدة-رضي الله عنه-قال: قال عبد الله بن سلام-رضي الله عنه: إنه مكتوب في التوراة: لقد أعد الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم

ص: 406

يخطر على قلب بشر، ولا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، قال: ونحن نقرؤها: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ..} . إلخ.

هذا؛ وقال الجمل-رحمه الله تعالى-: والمراد: لا تعلم نفس ما أخفي لهم علما تفصيليا، وإلا فنحن نعلم ما أعد الله للمؤمنين إجمالا من حيث: إنه غرف في الجنة، وقصور، وأشجار، وأنهار، وملابس، ومآكل، وحور عين، وغير ذلك. انتهى. أقول: وهذا تحدث عنه القرآن في كثير من السور. هذا؛ وذكرت في سورة (الزخرف) رقم [71] بحثا جيدا يتعلق ببلاغة القرآن، وفصاحته مع مقارنته بكلام الرسول صلى الله عليه وسلم؛ الذي هو أفصح البشر على الإطلاق.

هذا؛ و {أَعْيُنٍ} جمع: عين، وهو جمع قلة كما رأيت، وجمع الكثرة: عيون، وأعيان، والثاني غير مشهور، وقليل الاستعمال، والمراد هنا: الأعين الباصرة، وتطلق العين على الماء الخارج من الأرض، وعلى الجاسوس، كما في قولك: بث الأمير عيونه في المدينة، أي:

جواسيسه، كما تطلق على ذات الشخص، كما في قولك: جاء محمود عينه، وعين الشيء:

خياره، وتطلق على النقد من ذهب، وغيره، وإليك قول الشاعر:[البسيط] واستخدموا العين منّي وهي جارية

وقد سمحت بها أيّام وصلهمو

فالمراد بالعين: ذاته. والمراد بجارية: عينه التي تجري بالدمع، والمراد بقوله: بها نقد الذهب، وهذا يسمى في فن البديع استخداما. وتطلق على المطر الهاطل من السحاب، قال عنترة:[الكامل] جادت عليه كلّ عين ثرّة

فتركن كلّ حديقة كالدّرهم

هذا؛ وأعيان القوم: أشرافهم، وبنو الأعيان: الإخوة ومن الأبوين.

الإعراب: {فَلا:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (لا): نافية. {تَعْلَمُ:} فعل مضارع.

{نَفْسٌ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {أُخْفِيَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {ما،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها.

هذا؛ ويقرأ الفعل ببنائه للمعلوم على أن الفاعل يعود إلى: (الله)، والجملة الفعلية صلة {ما} أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: فلم تعلم نفس الذي، أو: شيئا أخفاه الله لهم، ويقرأ الفعل بصيغة المضارع:(نخفي) وعليه فالفاعل تقديره: «نحن» ، والجملة صلة

إلخ، والتقدير: فلا تعلم نفس الذي، أو شيئا نخفيه لهم، كما يقرأ بصيغة المضارع المبني للمجهول (ما يخفى) هذا؛ وأجيز اعتبار {ما} استفهامية مبتدأ، والجملة الفعلية في محل رفع خبره، وذلك على اعتبار الفعل ماضيا، وفي محل نصب مفعول به مقدم على اعتبار الفعل مضارعا، والجملة على الاعتبارين في محل نصب سدت مسد مفعول {تَعْلَمُ} المعلق عن العمل لفظا بسبب {ما}

ص: 407

الاستفهامية. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ قُرَّةِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل، أو من {ما} نفسها، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، و {قُرَّةِ} مضاف، و {أَعْيُنٍ} مضاف إليه. {جَزاءً:} مفعول مطلق، عامله محذوف، تقديره: جوزوا جزاء، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من الضمير المجرور باللام، كما يجوز اعتبار {جَزاءً} حالا منه على تأويله ب: مجازين، وأجيز اعتباره مفعولا لأجله. {بِما:}

جار ومجرور متعلقان ب: {جَزاءً،} أو بالفعل المقدر، و:{ما:} تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية على مثال ما رأيت في الآية رقم [14] قوله تعالى:{بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

{أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18)}

الشرح: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً} أي: كامل الإيمان بالله، ورسوله، وكتابه، واليوم الآخر، والملائكة، راضيا بقضاء الله وقدره، مؤديا لله ما أوجب عليه، منتهيا عما نهاه عنه. {كَمَنْ كانَ فاسِقاً:} خارجا عن الإيمان، مقصرا بواجبات الله، مرتكبا ما نهى الله عنه. {لا يَسْتَوُونَ:}

لا يكونون عند الله بمنزلة ودرجة واحدة، والمراد: جنس المؤمنين، وجنس الفاسقين، ولم يرد مؤمنا واحدا، ولا فاسقا واحدا، ومعنى الآية مثل قوله تعالى في سورة (الجاثية) رقم [21]:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً..} . إلخ، وأيضا قوله تعالى في سورة (ن) رقم [35]:{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} وينبغي أن تعلم: أن الفعل (يستوي) من الأفعال التي لا يكتفى فيها بواحد، فلو قلت: استوى زيد لم يصح، فمن ثمّ لزم العطف على الفاعل، أو تعدده، كما في الآية الكريمة.

هذا؛ وقد نزلت الآية في علي بن أبي طالب-رضي الله عنه-والوليد بن عقبة بن أبي معيط، كان بينهما تنازع، وكلام في شيء، فقال الوليد لعلي: اسكت فإنك صبي، وأنا شيخ، والله إني أبسط منك لسانا، وأحد منك سنانا، وأشجع منك جنانا، وأملأ منك حشوا في الكتيبة! فقال له علي-رضي الله عنه وكرم الله وجهه-: اسكت! فإنك فاسق، فأنزل الله هذه الآية. هذا؛ ولا غرابة في إطلاق الفسق على الوليد، فقد صرحت آية (الحجرات) رقم [6] بفسقه، وذلك لما تعرفه هناك من نقله عن بني المصطلق ما لم يكن، ويحتمل أن تطلق الشريعة ذلك عليه؛ لأنه كان على طرف من الإيمان، وهو الذي شرب الخمر في زمن عثمان رضي الله عنه، وصلى الصبح بالناس، ثم التفت، وقال: أتريدون أن أزيدكم؟ ونحو هذا مما يطول ذكره.

هذا؛ والفاسق في الشرع: الخارج عن أمر الله بارتكاب المعاصي، وله ثلاث درجات:

الأولى: التغابي وهو أن يرتكب الكبيرة أحيانا مستقبحا إياها. والثانية: الانهماك، وهو: أن يعتاد ارتكابها، غير مبال بها. والثالثة: الجحود، وهو أن يرتكبها مستصوبا إياها، فإذا شارف

ص: 408

هذا المقام، وتخطى خططه؛ خلع ربقة الإيمان من عنقه، ولابس الكفر، وما دام في درجة التغابي، أو الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن لاتصافه بالتصديق؛ الذي هو مسمى الإيمان.

تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {أَفَمَنْ:} الهمزة: حرف استفهام داخلة على مقدر محذوف، أي: أفبعد ما بينهما من التفاوت والتباين يتوهم كون المؤمن الذي حكيت أوصافه، كالفاسق الذي ذكرت أحواله. انتهى. جمل نقلا من أبي السعود. الفاء: حرف عطف. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه يعود إلى (من)، وهو العائد.

{مُؤْمِناً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية صلة: (من)، لا محل لها. {كَمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، وإن اعتبرت الكاف اسما فهي الخبر، وتكون مضافة، و (من) اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وجملة:{كانَ فاسِقاً} صلة (من)، لا محل لها، والكلام {أَفَمَنْ..}. إلخ مستأنف لا محل له. {لا:} نافية. {يَسْتَوُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية ومتعلقه محذوف، التقدير: لا يستوون في المآل، أو عند الله: مستأنفة، لا محل لها.

{أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)}

الشرح: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنّاتُ الْمَأْوى:} نوع من الجنات تأوي إليها أرواح المؤمنين. {نُزُلاً:} هو ما يعد للنازل؛ أي: للضيف من طعام، وشراب، وإكرام. قال أبو السعد الضبي:[الطويل] وكنّا إذا الجبّار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

هذا؛ وأجيز اعتباره أن يكون جمع: نازل، كما قال الأعشى في معلقته رقم [67]:[البسيط] إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا

أو تنزلون فإنّا معشر نزل

ولا وجه له البتة. {بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بسبب أعمالهم، وليس المراد السبب الحقيقي، حتى يخالف نص الحديث الشريف، وفحوى هذا: أن نص الآية وغيرها كثير مثلها يفيد: أن دخول الجنة بسبب الأعمال الصالحة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:«لن يدخل أحدا عمله الجنّة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله، قال: «ولا أنا إلاّ أن يتغمّدني الله بفضله، ورحمته، فسدّدوا، وقاربوا

إلخ».

أخرجه البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه-وقد قال تعالى في سورة (الأعراف) الآية رقم [43]: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومثلها في الزخرف رقم [72].

والجمع بين هذه الآيات، والحديث الشريف بأنّ محمل آية (الأعراف) وآية (الزخرف) على أن منازل الجنة إنما تنال بالأعمال؛ لأن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، وأن

ص: 409

محمل الحديث على أصل دخول الجنة. فإن قيل: آية (السجدة) التي الكلام فيها صريحة في أن دخول الجنة أيضا بالأعمال؛ أجيب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث الشريف، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة، وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد أصل الدخول. أو المراد: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم، وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمته، وكذا أصل دخولها حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو شيء من مجازاته لعباده من رحمته، وفضله، لا إله إلا هو له الملك، وله الحمد. انتهى. حاشية الشنواني على مختصر ابن أبي جمرة.

الإعراب: {أَمَّا:} انظر الآية رقم [15] من سورة (الروم). {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {آمَنُوا} فعل، وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. (عملوا): ماض، وفاعله. {الصّالِحاتِ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَلَهُمْ:} الفاء: واقعة في جواب {أَمَّا} . (لهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {جَنّاتُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {الْمَأْوى:}

مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أَمَّا الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة مفرعة عما قبلها، لا محل لها.

{نُزُلاً:} حال من: {جَنّاتُ الْمَأْوى} أي: حالة كونها مهيأة ومعدة لهم، كما يعد ما يحصل به الإكرام للضيف.

{بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {نُزُلاً،} أو بمحذوف صفة له، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء. {كانُوا:} فعل ماض ناقص، مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: بالذي، أو: بشيء كانوا يعملونه، وعلى اعتبار:(ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملهم.

{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20)}

الشرح: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} أي: خرجوا عن طاعة الله تعالى، وارتكبوا المعاصي، والمنكرات. {فَمَأْواهُمُ النّارُ:} مقرهم، وملجؤهم، ومصيرهم النار. {كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها} أي: إذا دفعهم لهب النار إلى أعلاها، ردوا إلى موضعهم فيها؛ لأنهم يطمعون

ص: 410

بالخروج منها، ولا خروج. قيل: إن جهنم لتجيش بهم، فتلقيهم إلى أعلاها، فيريدون الخروج منها، فتضربهم الملائكة الزبانية بمقامع الحديد، فيهوون فيها سبعين خريفا. {وَقِيلَ لَهُمْ:}

القائل هو الله، أو الملائكة. {ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: لا تقرون به، ولا تصدقونه. هذا؛ وانظر التقسيم، والمقابلة في الآية رقم [15] من سورة (الروم)، وأخيرا فالتعبير بالأفعال الماضية عن شيء مستقبل إنما هو لتحقق وقوعه، وهذا التعبير مستعمل في القرآن الكريم بكثرة، وانظر (الذوق) في الآية رقم [55] من سورة (العنكبوت).

تنبيه: {الَّذِي} يقع هنا صفة ل: {عَذابَ،} وجوز أبو البقاء أن يكون صفة ل: {النّارُ} قال:

وذكر على معنى الجحيم، أو الحريق، قال ذلك هنا، وقال في سورة (سبأ) رقم [42]:{الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ} فذكّر الوصف، والضمير هنا، نظرا للمضاف، وهو العذاب، وأنّثهما في سورة (سبأ) نظرا للمضاف إليه، وهو {النّارُ} . وخص ما هنا بالتذكير؛ لأن {النّارُ} وقعت موقع ضميرها، لتقدم ذكره، والضمير لا يوصف، فناسب التذكير، وفي سورة (سبأ) لم يتقدم ذكر «النار» ولا ضميرها فناسب التأنيث، انتهى. جمل نقلا من كرخي. وانظر ما ذكرته في آية (سبأ).

الإعراب: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا:} انظر الآية السابقة. {فَمَأْواهُمُ:} الفاء: واقعة في جواب (أما). (مأواهم): مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {النّارُ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَأَمَّا الَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {كُلَّما:} (كل):

ظرفية متعلقة بجوابها؛ إذ هي تحتاج إلى جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه.

(ما): مصدرية توقيتية. {أَرادُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق.

{أَنْ:} حرف مصدري، ونصب واستقبال. {يَخْرُجُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ} وعلامة نصبه حذف النون

إلخ، والواو فاعله، والألف للتفريق، و {أَنْ يَخْرُجُوا} في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، و (ما) والفعل أراد في تأويل مصدر في محل جر بإضافة (كل) إليه، التقدير: كل وقت إرادة، وهذا التقدير، وهذه الإضافة هما اللذان سببا الظرفية ل:(كل). وقيل:

(ما) نكرة موصوفة، والجملة الفعلية بعدها صفة لها، وهي بمعنى: وقت أيضا. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أُعِيدُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق. {فِيها:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية:{أُعِيدُوا فِيها} جواب: {كُلَّما} لا محل لها، و {كُلَّما} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

(قيل): فعل ماض مبني للمجهول. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{ذُوقُوا:} فعل أمر للإهانة مبني على حذف النون، والواو فاعل، والألف للتفريق. {عَذابَ:}

مفعول به، وهو مضاف، و {النّارُ} مضاف إليه. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في

ص: 411

محل نصب صفة: {عَذابَ النّارِ} . {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، وجملة:«تكذبون به» في محل نصب خبر:

(كان). وجملة: {كُنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. وجملة:{ذُوقُوا..} . إلخ في محل رفع نائب فاعل: (قيل)، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [21] من سورة (لقمان)، وجملة:

{وَقِيلَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {أُعِيدُوا فِيها} لا محل لها مثلها.

{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)}

الشرح: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى} أي: عذاب الدنيا، يريد ما محنوا به من الجدب سبع سنين، والقتل، والأسر. وقال ابن عباس، وغيره: العذاب الأدنى: مصائب الدنيا، وأسقامها مما يبتلى به العبيد حتى يتوبوا، فعلى الأول هو خاص بأهل مكة، وعلى الثاني هو عام في جميع الناس إلى يوم القيامة، وهو الأولى، ولكن الناس في هذه الأيام، وما قبلها لا يتعظون بما ينزل بهم من أنواع البلاء؛ بل هم مستمرون في غيهم، ولا يرتدعون ولا ينزجرون؛ ولم يعلموا أن ما ينزل بهم من أنواع البلاء إنما هو بسبب أعمالهم السيئة. وخذ ما يلي:

فعن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ-وأعوذ بالله أن تدركوهنّ-: لم تظهر الفاحشة في قوم قطّ؛ حتّى يعلنوا بها؛ إلاّ فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال، والميزان؛ إلاّ أخذوا بالسّنين، وشدّة المئونة، وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم؛ إلا منعوا القطر من السّماء، ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله، وعهد رسوله؛ إلاّ سلّط الله عليهم عدوّا من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله، ويتخيّروا فيما أنزل الله إلاّ جعل الله بأسهم بينهم» . رواه ابن ماجة، والحاكم، والبيهقي. هذا؛ و {الْأَدْنى} هنا بمعنى الأصغر، أو: الأقرب، و {دُونَ} بمعنى: قبل هنا.

والعجب العجاب: أن كل إنسان يتألم لما أصاب المسلمين من ذل، وهوان، ويعترف: أن ما أصاب المسلمين في هذه الأيام إنما هو بسبب المعاصي، والمنكرات، والخروج عن طاعة الله. وأعجب من ذلك: أن كل واحد ينظر إلى أعمال غيره السيئة، ويتحرق غيظا، ويندب الإسلام لما هدم من تعاليمه، ولكنه غارق في الظلم، والمعاصي، وخائض في الباطل إلى حافة الأذقان، ولا ينظر إلى سوء أعماله، وقبيح أفعاله، ورحم الله الكميت؛ إذ يقول:[الطويل] كلام النّبيّين الهداة كلامنا

وأفعال أهل الجاهليّة نفعل

ص: 412

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: لعل من بقي منهم يتوبون من الكفر، ويرجعون عن غيهم، وضلالهم، وانظر مثل هذا الترجي في الآية رقم [3].

الإعراب: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله.

والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم.

(نذيقنهم): فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» . {مِنَ الْعَذابِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَدْنى:} صفة {الْعَذابِ} مجرورة مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {دُونَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بمحذوف حال من {الْأَدْنى،} و {دُونَ} مضاف، و {الْعَذابِ} مضاف إليه. {الْأَكْبَرِ:}

صفة العذاب، وجملة: (لنذيقنهم

) إلخ جواب القسم لا محل لها، والقسم وجوابه كلام مستأنف لا محل له. {لَعَلَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه، وجملة:{يَرْجِعُونَ} في محل رفع خبره، والجملة الاسمية:{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فيها معنى التعليل لإذاقتهم العذاب.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}

الشرح: {وَمَنْ أَظْلَمُ..} . إلخ: قال الجمل: هذا بيان إجمالي لحال من قابل آيات الله تعالى بالإعراض بعد بيان حال من قابلها بالسجود، والتسبيح، وكلمة {ثُمَّ} لاستبعاد الإعراض عنها عقلا مع غاية وضوحها، وإرشادها إلى سعادة الدارين. انتهى. نقلا من أبي السعود.

{وَمَنْ أَظْلَمُ} أي: لا أحد أظلم. {مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ} أي: بآيات القرآن. وقيل: ذكر بدلائل وحدانيته، وإنعامه عليه، فلم يتفكر فيها، ولم ينتفع بما فيها. {ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها:} مستكبرا كأن في أذنيه وقرا، وثم لاستبعاد الإعراض عن مثل هذه الآيات في وضوحها، وإنارتها، وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى، بعد التذكير بها مستبعد في العقل، كما تقول لصاحبك: وجدت منك تلك الفرصة، ثم لم تنتهزها! استبعادا لتركه الانتهاز، ومثله:«ثم» في بيت الحماسة وهو لجعفر بن علبة الحارثي. [الطويل] ولا يكشف الغمّاء إلاّ ابن حرّة

يرى غمرات الموت ثمّ يزورها

فإنه استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها، أي:

لا يكشف الخصلة الشديدة إلا رجل كريم يرى غمرات الموت، ثم يتوسطها ولا يعدل عنها، وإنما قال: ابن حرة؛ ليثير حميته، وشجاعته، وإقدامه. {إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ:} لم يقل:

منه؛ لأنه إذا جعله أعظم من كل ظالم، ثم وعد المجرمين عامة بالانتقام منهم، فقد دل على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة. انتهى. نسفي.

ص: 413

بعد هذا خذ آية الكهف رقم [57] فإنها أبلغ في الزجر، وآلم في التقريع، والتوبيخ:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} .

الإعراب: {وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَظْلَمُ:} خبره، وفاعله مستتر فيه، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَظْلَمُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب:(من). {ذُكِّرَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله مستتر تقديره:«هو» يعود إلى: (من)، وهو العائد، أو الرابط. {بِآياتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (آيات) مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه. والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية:{ذُكِّرَ..} . إلخ صلة: (من) أو صفتها، وجملة:{أَعْرَضَ عَنْها} معطوفة عليها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {مِنَ الْمُجْرِمِينَ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما.

{مُنْتَقِمُونَ:} خبر: (إن) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23)}

الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ:} التوراة. {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ:} في ريب، وشك.

{مِنْ لِقائِهِ:} من لقاء كتاب موسى، ومعناه: إنا آتينا موسى-عليه السلام-مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله، ولقيت نظيره، كقوله تعالى في سورة (يونس) رقم [94]:{فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ} .

أو المعنى: فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب. أو المعنى: فلا تكن في شك من لقائك موسى، عليك يا محمد، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وهذا اللقاء كان في ليلة الإسراء والمعراج. قاله ابن عباس-رضي الله عنهما-فعنه-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا، كأنّه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى رجلا مربوعا، مربوع الخلق إلى الحمرة، وإلى البياض، سبط الشعر، ورأيت مالكا خازن النار، والدجّال في آيات أراهنّ الله إيّاه» . متفق عليه. {وَجَعَلْناهُ:} في هذا الضمير وجهان، كما في سابقه: أحدهما:

ص: 414

جعلنا الكتاب. قاله الحسن، والثاني: جعلنا موسى. قاله قتادة. هذا؛ وقيل: الضمير يعود إلى ملك الموت لتقدم ذكره. وقيل: يعود على الرجوع المفهوم من قوله: {ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} .

وقيل: يعود على ما يفهم من سياق الكلام مما ابتلي به موسى من البلاء، والامتحان؛ أي: لا بد أن تلقى ما لقي موسى من قومه. وهذه أقوال ضعيفة ذكرتها للتنبيه على ضعفها، وأظهرها: أن الضمير إما لموسى، وإما للكتاب. انتهى. جمل نقلا عن السمين بتصرف مني.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، تقديره: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. هذا؛ وبعضهم يعتبر الواو عاطفة، وبعضهم يعتبرها حرف استئناف، ويعتبر: أن الجملة الآتية جوابا لقسم محذوف ولا أسلمه أبدا؛ لأنه على هذا يكون قد حذف واو القسم، والمقسم به، ويصير التقدير: وو الله أقسم، أو: وأقسم والله. اللام: واقعة في جواب القسم المحذوف، وبعضهم يقول: موطئة للقسم، والموطئة معناها: المؤذنة، وهذه اللام إنما تدخل على «إن» الشرطية لتدل على القسم المتقدم على الشرط، وتكون الجملة الآتية جوابا للقسم المدلول عليه باللام، والمتقدم على الشرط حكما، كما في قوله تعالى:{لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ..} . إلخ الآية رقم [12] من سورة (الحشر) افهم هذا؛ واحفظه، فإنه جيد. فإن قيل: ما ذكرته من إعراب يؤدي إلى حذف المقسم به، وبقاء حرف القسم. فالجواب: أنه قد حذف المقسم به حذفا مطردا في أوائل السور، مثل قوله تعالى:

{وَالضُّحى} . {وَالسَّماءِ وَالطّارِقِ} وغير ذلك فإن التقدير: ورب الضحى! ورب السماء!

إلخ، والدليل: التصريح به في قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ..} . إلخ الآية رقم [23] من سورة (الذاريات)، وحذف المقسم به ظاهر في قوله تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها..} . إلخ الآية رقم [71] من سورة (مريم). وأظهر منه في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} الآية رقم [73] من سورة (المائدة)، فالواو في الآيتين حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف بلا ريب. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{آتَيْنا:} فعل، وفاعل. {مُوسَى:} مفعول به أول منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {الْكِتابَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية {(لَقَدْ آتَيْنا

)} إلخ جواب القسم، لا محل لها، والقسم، وجوابه كلام مستأنف، لا محل له.

{فَلا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفصيحة؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك واقعا؛ فلا

إلخ. (لا): ناهية. {تَكُنْ:} فعل مضارع ناقص مجزوم ب: (لا)، واسمه ضمير مستتر فيه تقديره: أنت. {فِي مِرْيَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {تَكُنْ} . {مِنْ لِقائِهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {مِرْيَةٍ،} أو بمحذوف صفة لها، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف. وقيل: من إضافة المصدر

ص: 415

لفاعله، وجملة:{فَلا تَكُنْ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء؛ لأنها معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. {وَجَعَلْناهُ:} الواو: حرف عطف. (جعلناه): فعل، وفاعل، ومفعول به أول. {هُدىً:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها. {لِبَنِي:} جار ومجرور متعلقان ب: {هُدىً،} أو بمحذوف صفة له، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و (بني) مضاف، و {إِسْرائِيلَ} مضاف إليه، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة، وجملة:{وَجَعَلْناهُ..} . إلخ معطوفة على جملة: (قد آتينا

) إلخ لا محل لها مثلها.

{وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)}

الشرح: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} أي: قادة يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات، و {أَئِمَّةً:} جمع: إمام، سمي بذلك؛ لأنه يؤتم به في الأفعال، فهنيئا لمن كان إماما في الخير! وويل لمن كان إماما في الشر! قال تعالى في حق فرعون، وأشياعه:{وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ..} . إلخ الآية رقم [41] من سورة (القصص).

هذا؛ ويقال: أئمة، وأيمّة، والثاني جائز عربية لا قراءة، وشرحه: أنّ أصله «أأممة» ولكن لما اجتمع المثلان، وهما الميمان، أدغمت الأولى في الثانية، ونقلت حركتها على الهمزة، فصار أئمة بهمزتين، فأبدل من الهمزة المكسورة ياء كراهة اجتماع الهمزتين.

{يَهْدُونَ بِأَمْرِنا} أي: يدعون الناس إلى التوحيد، وعبادة الإله الحميد المجيد بما أنزلنا عليهم من الوحي المتضمن للأمر، والنهي. ثم قيل: المراد: الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام.

وقيل: المراد: الفقهاء، والعلماء من بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ومعنى بأمرنا بتوفيقنا إياهم لما نأمرهم به.

{لَمّا صَبَرُوا:} على طاعة الله، وعلى البلاء؛ الذي أصابهم، يقرأ بفتح اللام، وتشديد الميم، ويقرأ بكسر اللام، وتخفيف الميم. {وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ:} المراد بالآيات: التوراة، أو ما تضمنته من الأحكام، ومعنى {يُوقِنُونَ:} يؤمنون إيمانا صادقا، ويعلمون علما يقينا، لا يخالجه شك.

وأخيرا: أما الصبر: فهو حبس النفس عن الجزع عند المصيبة، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو مر المذاق، يكاد لا يطاق، إلا أنه حلو العواقب، يفوز صاحبه بأسنى المطالب، كما قال القائل:[البسيط]

ص: 416

الصّبر مثل اسمه مرّ مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

وبالجملة فنفع الصبر مشهور، والحض عليه في الكتاب، والسنة مقرر مسطور، وهو على ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر على المعصية، وصبر على البلاء. ولا تنس: أن من أسماء الله تعالى: الصبور، وفسر بالذي لا يعجل بالعقوبة على من عصاه. هذا؛ وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} أي: طلبا لمرضاته، وهذا هو الصبر المحمود، وهو أن يكون الإنسان صابرا لوجه الله تعالى، راضيا بما نزل به من الله، طالبا بذلك الصبر ثواب الله تعالى، محتسبا أجره على الله، فهذا هو الصبر الذي يدخل صاحبه رضوان الله، وأما إذا صبر الإنسان؛ ليقال: ما أكمل صبره! وما أشد قوته على تحمل النوائب! أو يصبر؛ لئلا يعاب على الجزع، أو يصبر؛ لئلا تشمت به الأعداء، فهذا كله مذموم، لا ينيل صاحبه الدرجات العلى، والمقام الرفيع عند الله، وقد يعرضه لشديد غضب الله، ونقمته.

ثم اعلم: أن الصبر ذكر في القرآن الكريم في خمسة وتسعين موضعا، ومن أجمعها آية (البقرة) وهي قوله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ..} . إلخ الآية رقم [155] وما بعدها من سورة (البقرة)، ومن آنقها قوله تعالى في سورة (ص) في حق أيوب-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-:{إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً} قرن هاء الصبر بنون العظمة، ومن أبهجها قوله تعالى في سورة (الرعد):{وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} .

فائدة: قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً،} وقال: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ،} وقال:

{وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} . فقالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكاية معه، والصفح الجميل هو الذي لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذية معه، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [10] من سورة (الزمر).

الإعراب: {وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {أَئِمَّةً} كان نعتا له، فلما قدم عليه صار حالا على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليه صار حالا» وقيل: الجار والمجرور مفعول به ثان تقدم على الأول، وهو غير وجيه. {أَئِمَّةً:} مفعول به. {يَهْدُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {أَئِمَّةً}. {بِأَمْرِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {لَمّا:} ظرف بمعنى حين متعلق بالفعل: {يَهْدُونَ،} وقال الجمل: وجوابها محذوف دل عليه: {وَجَعَلْنا مِنْهُمْ،} أو هو نفسه الجواب، والتقدير: ولما صبروا؛ جعلنا منهم أئمة، وأرى أن لا جواب لها.

ص: 417

هذا؛ وعلى قراءة كسر اللام، فاللام حرف جر، و (ما): مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر باللام، التقدير: لصبرهم، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{يَهْدُونَ،} وجملة: {وَجَعَلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَكانُوا:} الواو: حرف عطف. (كانوا): فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {بِآياتِنا:}

متعلقان بالفعل بعدهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يُوقِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان)، وجملة:

{وَكانُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {صَبَرُوا} على الاعتبارين فيها.

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}

الشرح: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ..} . إلخ: أي يقضي، ويحكم بين المؤمنين، والكافرين، فيجازي كلا بما يستحق. وقيل: المعنى يميز الحق من الباطل بتمييز المحق من المبطل. {فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: من أمر الدين، وأمر الواحد القهار، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل عاقل من بني آدم، وقول الله تعالى في الآية رقم [14] من سورة (الروم){وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} يوضح معنى هذه الآية، وأمثالها.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّكَ:} اسم: {إِنَّ،} والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هُوَ:} فيه ثلاثة، أوجه: أحدها: كونه ضمير فصل لا محل له من الإعراب. وثانيها: كونه توكيدا لاسم: {إِنَّ} على المحل، وعليهما فالجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . وثالثها: كونه مبتدأ، والجملة الفعلية في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {يَفْصِلُ:} فعل مضارع، والفاعل ضمير مستتر، تقديره: هو يعود إلى: {رَبَّكَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر: {إِنَّ،} أو في محل رفع خبر المبتدأ، الذي هو الضمير، كما رأيت. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {يَوْمَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله أيضا، وقيل: متعلق بمحذوف حال ولا وجه له قطعا. و {يَوْمَ} مضاف، و {الْقِيامَةِ} مضاف إليه. {فِيما:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {يَفْصِلُ} أيضا، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر ب (في). {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما. {يَخْتَلِفُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كانُوا..} . إلخ صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط الضمير المجرور محلا ب (في).

ص: 418

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ..} . إلخ: أي: أولم يتبين لأهل مكة خبر من أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم؛ إذا سافروا، وخرجوا في التجارة لطلب المعيشة، فيرون بلاد الأمم الماضية، والقرون الخالية خاوية من أهلها، كقوم عاد، وثمود، وقوم لوط، أفلا يخافون أن يحل بهم ما حل بالمكذبين قبلهم من الهلاك، والانتقام. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ:} لدلالات واضحة، وبراهين ساطعة على قدرتنا، ووحدانيتنا. {أَفَلا يَسْمَعُونَ:} سماع قبول، وسماع تدبر، واتعاظ.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الواو: عاطفة على محذوف، تقديره:

أغفلوا، ولم يتبين لهم. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَهْدِ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها. وفي الفاعل أقوال كثيرة، قال ابن هشام في مغنيه بعد أن رد قول ابن عصفور: إن {كَمْ} فاعل:

مردود بأن {كَمْ} لها الصدر، فقال: وإنما الفاعل ضمير اسم الله تعالى، أو ضمير العلم، أو الهدى المدلول عليهما بالفعل، أو جملة:{أَهْلَكْنا} على القول بأن الفاعل يكون جملة، وجوز أبو البقاء كونه ضمير الإهلاك المفهوم من الجملة، وليس هذا من المواطن التي يعود الضمير فيها على المتأخر. انتهى.

هذا؛ واعتبر الجلال الفاعل المصدر المأخوذ من: {أَهْلَكْنا} واعتذر عن ذلك بقوله:

وما ذكر من أخذ إهلاك من فعله الخالي عن حرف مصدري لرعاية المعنى لا مانع منه. {لَهُمْ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {كَمْ:} خبرية بمعنى: كثير مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. هذا؛ ويقرأ الفعل: (نهد) بالنون، فيكون الفاعل مستترا وجوبا تقديره:

«نحن» . {أَهْلَكْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية في محل نصب مفعول به للفعل {يَهْدِ} وقد علق عن العمل فيها لفظا بسبب {كَمْ؛} لأنها تعلق خلافا لأكثرهم. قاله ابن هشام في المغني. أو في محل رفع فاعل على حسب ما رأيت في الفاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من:{الْقُرُونِ،} وهو أولى، وأقوى.

{مِنَ الْقُرُونِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {كَمْ،} و (من) بيان لما أبهم فيها. وقيل: متعلقان بمحذوف صفة تمييز {كَمْ} المحذوف، فإن التقدير: كم قرنا من القرون أهلكنا. {يَمْشُونَ:}

فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:{الْقُرُونِ} فهي حال متداخلة. {فِي مَسْكَنِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، ومثل هذه الآية الآية رقم [128] من سورة (طه).

ص: 419

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء.

(آيات): اسم (إن) مؤخر منصوب وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {أَفَلا:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الفاء: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَسْمَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَرَوْا} أي: أولم ينظروا، ويتفكروا بدلائل قدرتنا، ووحدانيتنا من ذلك:

{أَنّا نَسُوقُ الْماءَ} أي: بواسطة السحاب المسخر بين السماء والأرض، ثم بواسطة الرياح التي تسوق السحاب. {إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} أي: الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها، وقال الزمخشري، وتبعه البيضاوي، والنسفي: حيث قالوا: التي جرز نباتها، أي: قطع، وأزيل، لا التي لا تنبت كالسباخ بدليل الجملة الآتية. هذا؛ وإذا رجعنا إلى قوله تعالى في الآية رقم [8] من سورة (الكهف):{وَإِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً} لعرفنا: أن المعنى هناك التي لا تنبت شيئا، وبالجملة: فإن المعنى: هي التي لا تنبت، أو: التي أكل نباتها، وهو ما في القاموس المحيط، وجمعها: أجراز، ويقال: سنة جرز، وسنون أجراز؛ أي: لا مطر فيها، وتكون فيها جدوبة، ويبس، وشدة، قال ذو الرمة يصف إبلا:[الطويل] طوى النّحز والأجراز ما في بطونها

فما بقيت إلاّ الضّلوع الجراشع

والجروز: المرأة الأكول، قال الراجز:[الرجز] إنّ العجوز خبّة جروزا

تأكل كلّ ليلة قفيزا

ويستشهد بهذا البيت على نصب «إنّ» لاسمها وخبرها. ورجل جروز: إذا كان لا يبقي شيئا إلا أكله، قال الراجز:[الرجز] خبّ جروز وإذا جاع بكى

ويأكل التمر ولا يلقي النّوى

هذا؛ والجرز، والجرز، والجرز بمعنى واحد. وبالجملة فإن معنى الجروز هي: التي لا تنبت، أو التي أكل نباتها، وهو ما في «القاموس المحيط». هذا؛ وجرزه الزمان: اجتاحه، قال تبع:[الكامل] لا تسقني بيديك إن لم ألقها

جرزا كأنّ أشاءها مجروز

ص: 420

{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} أي: بالماء. {تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ} أي: تأكل مواشيهم من الزرع، كالتبن، والقصل، والورق، وبعض الحبوب المخصوصة بها. {وَأَنْفُسُهُمْ} أي: يأكلون منه كالحبوب التي يعتادها الإنسان، وأنواع الخضار، ومختلف أنواع الفواكه، والثمار، وقدم الأنعام؛ لأن انتفاعها مقصور على النبات، ولأن أكلها منه مقدم؛ لأنها تأكله قبل أن يثمر، ويخرج سنبله، وختمت الآيات هنا بقوله:{أَفَلا يُبْصِرُونَ} لأن الزرع مرئي، وختمت الآية السابقة بقوله:{أَفَلا يَسْمَعُونَ} لأن ما قبله مسموع، أو ترقيا من الأدنى إلى الأعلى في الاتعاظ مبالغة في التذكير، ودفع العذر. انتهى. جمل نقلا من الشهاب. ومعنى:{أَفَلا يُبْصِرُونَ} فيستدلون به على كمال قدرته، وفضله وكرمه وجوده.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام توبيخي. الواو: حرف استئناف، أو هي حرف عطف. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَوْا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق. {أَنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا): اسمها، حذفت نونها، وبقيت ألفها دليلا عليها. {نَسُوقُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {الْماءَ:} مفعول به. {إِلَى الْأَرْضِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْجُرُزِ:} صفة: {الْأَرْضِ،} وجملة: {نَسُوقُ..} . إلخ في محل رفع خبر (أنّ)، و (أنّ) واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول الفعل قبله، وجملة:{أَوَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ مستأنفة، أو معطوفة على جملة {أَوَلَمْ يَهْدِ..}. إلخ لا محل لها على الاعتبارين. {فَنُخْرِجُ:} الفاء: حرف عطف. (نخرج): فعل مضارع، والفاعل تقديره:«نحن» . {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {زَرْعاً:} مفعول به، والجملة الفعلية:{فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} معطوفة على جملة: {نَسُوقُ..} . إلخ فهي في محل رفع مثلها.

{تَأْكُلُ:} فعل مضارع. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْعامُهُمْ:} فاعل، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَأَنْفُسُهُمْ:} الواو: حرف عطف. (أنفسهم):

معطوف على ما قبله، وجملة:{تَأْكُلُ..} . إلخ في محل نصب صفة زرعا. {أَفَلا يُبْصِرُونَ} إعرابها مثل إعراب: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} إفرادا، وجملا، ومحلا.

{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28)}

الشرح: {وَيَقُولُونَ} أي: الكفار. {مَتى هذَا الْفَتْحُ} أي: النصر، أو الفصل بالحكومة.

وقيل: المراد به: فتح مكة. وقال مجاهد: المراد به يوم القيامة، وهو الأصح، حيث يروى: أن المؤمنين قالوا للمشركين: سيحكم الله عز وجل بيننا يوم القيامة، فيثيب المحسن، ويعاقب المسيء. فقال الكفار على سبيل التهزي: متى يوم الفتح؟ وقيل: كان المسلمون يقولون: إن الله

ص: 421

سيفتح لنا على المشركين، ويفصل بيننا وبينهم، وكان أهل مكة إذا سمعوه يقولون بطريق الاستعجال تكذيبا، واستهزاء:{مَتى هذَا الْفَتْحُ} أي: النصر، والفصل في الحكومة. وفي كثير من السور قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} وهو قريب من معنى هذه الآية، ومعنى:{صادِقِينَ} أي: فيما تعدوننا به، وإنما جاء بلفظ الجمع؛ لأن كل أمة قالت لرسولها كذلك، أو المعنى: إن كنت صادقا أنت، وأتباعك يا محمد!.

الإعراب: {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يقولون): فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {مَتى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب ظرف زمان متعلق بمحذوف خبر مقدم. {هذَا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {الْفَتْحُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، وجملة:{كُنْتُمْ صادِقِينَ} لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: إن كنتم صادقين فيما تقولون؛ فأتونا به. والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة: (يقولون

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ..} . إلخ: أي يوم القيامة، وهو يوم الفصل بين المؤمنين، وأعدائهم، ويوم نصرهم عليهم، أو: يوم بدر، أو: يوم فتح مكة.

{لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ: وهذا الكلام لا ينطبق جوابا على سؤالهم ظاهرا، ولكن لما كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالا منهم على وجه التكذيب، والاستهزاء؛ أجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم، فقيل لهم: لا تستعجلوا به، ولا تستهزءوا، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم، وآمنتم، فلا ينفعكم الإيمان، أو استنظرتم في إدراك العذاب، فلم تنظروا. ومن فسره بيوم الفتح، أو بيوم بدر؛ فهو يريد المقتولين منهم، فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند الغرق. انتهى. نسفي. هذا؛ ولما فتحت مكة هرب قوم من بني كنانة، فلحقهم خالد بن الوليد، رضي الله عنه، فأظهروا الإسلام، فلم يقبله منهم خالد، وقتلهم، فذلك قوله تعالى:{لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ} .

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {يَوْمَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، وأجاز الفراء رفعه على الابتداء، ولا وجه له؛ لأنه لم يقرأ برفعه، ولا مسوغ

ص: 422

لبنائه على الفتح، ولأنه لا يوجد رابط في الجملة الفعلية الآتية التي تقع خبرا عنه، و {يَوْمَ} مضاف، و {الْفَتْحِ} مضاف إليه. {لا:} نافية. {يَنْفَعُ:} فعل مضارع. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {إِيمانُهُمْ:} فاعل {يَنْفَعُ،} والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية:{يَوْمَ الْفَتْحِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {إِيمانُهُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يُنْظَرُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَاِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)}

الشرح: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ:} هذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: أعرض عن سفههم، ولا تجبهم، إلا بما أمرت به، ولا تبال بتكذيبهم. وقيل: إن هذا منسوخ بآية السيف بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الآية رقم [5] من سورة (براءة). {وَانْتَظِرْ} أي: موعدي لك بالنصر عليهم. {إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} أي: ينتظرون بك حوادث الزمن. هذا؛ وقرئ بفتح الظاء، فيكون معناه: أنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، أو أن الملائكة ينتظرونه، ويكثر ذكر مثل هذه الجملة في سور القرآن، مثل قوله تعالى في سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام رقم [102]{فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ،} وفي سورة (الأنعام) رقم [158]: {قُلِ انْتَظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ} وكثير غيرها، وفي هذا المعنى، وهو كثير أيضا قوله تعالى:{قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} .

خاتمة: فعن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ:

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ

،} و {تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ..} . أخرجه الترمذي، وقال طاوس:

«تفضلان عن كلّ سورة في القرآن بسبعين حسنة» . أخرجه الترمذي، وعن النبي صلى الله عليه وسلم:«من قرأ {الم (1) تَنْزِيلُ..}. في بيته؛ لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيّام» . والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَأَعْرِضْ:} الفاء: هي الفصيحة. (أعرض): فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:

«أنت» . {عَنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، التقدير: وإذا كان ذلك حاصلا؛ فأعرض عنهم. وهذا الكلام مستأنف،

ص: 423

لا محل له، وجملة:{وَانْتَظِرْ..} . معطوفة على ما قبلها لا محل لها مثلها. {إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {مُنْتَظِرُونَ:} خبر: (إنّ) مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (السجدة)، بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين

ص: 424