المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة سبإ سورة (سبأ) مكية بالإجماع، وهي أربع وخمسون آية، وثمانمائة، - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٧

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة سبإ سورة (سبأ) مكية بالإجماع، وهي أربع وخمسون آية، وثمانمائة،

‌سورة سبإ

سورة (سبأ) مكية بالإجماع، وهي أربع وخمسون آية، وثمانمائة، وثلاث وثلاثون كلمة، وألف وخمسمائة واثنا عشر حرفا. انتهى. خازن. وسميت سورة (سبأ) لأن الله تعالى ذكر فيها قصة سبأ، كما ستعرفه مفصلا بعونه تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)}

الشرح: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ:} معناه: أن كل نعمة، فهو الحقيق بأن يحمد، ويثنى عليه من أجلها. ولما قال: الحمد لله؛ وصف ملكه، فقال:{الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي: ملكا، وخلقا، وعبيدا. {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} أي: كما له الحمد في الدنيا؛ إذ النعم في الدارين منه جلت قدرته؛ غير أن الحمد في الدنيا واجب؛ لأنها دار تكليف، وفي الآخرة غير واجب لعدم التكليف، لذا فإن في الكلام حذفا، التقدير: وله الحمد في الدنيا. وهذا الحذف لدلالة الآخرة عليها، وإنما يحمده أهل الجنة سرورا بالنعيم، وتلذذا بما نالوا من الأجر العظيم؛ حيث يقولون بعد دخولهم الجنة:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ..} . إلخ الآية رقم [74] من سورة (الزمر)، ويقولون:{الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} الآية رقم [34] من سورة (فاطر). هذا؛ والآخرة: الحياة الثانية الأبدية، التي تكون بعد الموت، ثم البعث، والنشور، والحساب، والجزاء، وهي في الجنة لمن آمن وعمل صالحا، أو في النار لمن كفر، وعمل سيئا. ورحم الله من يقول:[البسيط]

الموت باب وكلّ النّاس داخله

فليت شعري بعد الباب ما الدّار؟

ورحم الله من أجابه بقوله: [البسيط]

الدّار جنّة عدن إن عملت بما

يرضي الإله، وإن خالفت فالنّار

هما محلاّن ما للناس غيرهما

فانظر لنفسك ماذا أنت مختار؟

ص: 553

{الْحَكِيمُ:} بتدبير ما في السماء والأرض، والحكيم في أمره، وتدبير شئون عباده؛ وهو الحكيم في جميع أفعاله. {الْخَبِيرُ:} بكل ما كان، وما يكون، والخبير بشئون عباده، وما ببواطنهم، وأسرارهم، وأحوالهم. وفي الآية دليل واضح على أنه سبحانه يحب الحمد والمدح لنفسه؛ لأنه حمد نفسه في هذه الآية، وفي غيرها كثير. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة، أو هو بدل منه، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، وأن يكون في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، تقديره: أعني، أو أمدح. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر.

{فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، التقدير: له الذي يوجد في السموات، والجملة الاسمية هذه صلة الموصول، لا محل لها. {وَما فِي الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله عطف مفرد على مفرد وإعرابه مثله، وإن قدرت: وله ما في الأرض؛ فالعطف يكون عطف جملة اسمية على مثلها. {وَلَهُ:} الواو: حرف عطف. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْحَمْدُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {فِي الْآخِرَةِ:} متعلقان بالحمد؛ لأنه مصدر، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه على رأي من يجيز مجيء الحال من المبتدأ. {وَهُوَ:} الواو: حرف عطف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ:} خبران للمبتدإ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، واعتبارها حالا من الضمير المجرور محلا باللام غير مستبعد، والرابط: الواو، والضمير. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)}

الشرح: {يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي: يدخل في الأرض من المطر، والكنوز، والأموات، والدفائن. {وَما يَخْرُجُ مِنْها} أي: من النبات، والشجر، والعيون، والمعادن، والأموات؛ إذا بعثوا يوم القيامة. {وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ} أي: من المطر، والثلج، والبرد، والصواعق والأرزاق، والمقادير، والبركات، والملائكة، والكتاب؛ التي أنزلها على الرسل. {وَما يَعْرُجُ فِيها} أي: صعد في السماء من الملائكة، وأعمال العباد، والأبخرة، والأدخنة، والغبار، وغير ذلك. {وَهُوَ الرَّحِيمُ:} بعباده حيث خلق من الأرض، أو أنزل من السماء ما يحتاجون إليه في معاشهم، وتأمين حاجياتهم. {الْغَفُورُ:} للمذنبين، والمقصرين في شكر نعمته مع كثرتها، أو: هو يغفر لهم ذنوبهم في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفائتة للحصر، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها} .

ص: 554

هذا؛ و {يَلِجُ} أصله: يولج، وماضيه: ولج، فحذفت الواو من مضارعه لوقوعها بين عدوتيها، وهما: الياء، والكسرة في مضارع الغائب، وتحذف من مضارع المتكلم، والمخاطب قياسا عليه، والمصدر: الولوج، وانظر شرح {السَّماءِ} وإعلاله في الآية رقم [24] من سورة (الروم). والفعل:{يَعْلَمُ} من المعرفة، لا من العلم اليقيني، فلذا اكتفى بمفعول واحد، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [6] من سورة (الروم) أيضا، وينبغي أن تعلم: أن {ما} في هذه الآية وسابقتها واقعة على العاقل، وغيره، وأصل استعمالها لغير العاقل، ففي استعمالها في الآيتين تغليب غير العاقل على العاقل.

الإعراب: {يَعْلَمُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله). {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به. {يَلِجُ:} فعل مضارع، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى {ما،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{يَعْلَمُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من لفظ الجلالة، أو هي في محل رفع خبر ثالث ل:(هو) في الآية السابقة، والرابط: الضمير فقط، وجملة:{وَما يَخْرُجُ مِنْها} معطوفة على ما قبلها، وإعرابها مثلها بلا فارق، وأيضا:{وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ} معطوفة على ما قبله، وأيضا {وَما يَعْرُجُ فِيها} معطوف على ما قبله، وإعراب {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} مثل إعراب {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} إفرادا، وجملا.

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا:} المراد: أهل مكة. وقال مقاتل: قال أبو سفيان لكفار مكة:

واللات، والعزّى! لا تأتينا الساعة أبدا، ولا نبعث. وقيل: استبطئوا ما وعدوه من قيام الساعة على سبيل اللهو، والاستهزاء، والسخرية. {قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ:} فهذا رد لكلامهم، وإثبات لما نفوه من إتيان الساعة. وهذه الآية هي الآية الثالثة التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه على وقوع المعاد، والأولى في سورة (يونس) رقم [53]:{قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ،} والثانية في سورة (التغابن) رقم [7]: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ} . {عالِمِ الْغَيْبِ:} لا يفوت علمه شيء من الخفيات، وإذا كان كذلك؛ دخل في علمه وقت قيام الساعة، وهي واقعة لا محالة. هذا؛ ويقرأ بجر {عالِمِ} ورفعه. هذا؛ و {الْغَيْبِ} ما غاب عن الإنسان، ولم تدركه حواسه، قال الشاعر:[الطويل]

وبالغيب آمنّا، وقد كان قومنا

يصلّون للأوثان قبل محمّد

ص: 555

{لا يَعْزُبُ عَنْهُ:} لا يغيب عن علمه، ويقرأ بضم الزاي، وكسرها. {مِثْقالُ ذَرَّةٍ:} وزن ذرة، وهي النملة الصغيرة، وتقال لكل جزء من أجزاء الهباء المنتشر في الفضاء، وهي لا ترى إلا في ضوء الشمس الداخل إلى مكان مظلم. {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ} أي: من مثقال ذرة. {وَلا أَكْبَرُ} أي: أكبر منها. {إِلاّ فِي كِتابٍ} أي: في اللوح المحفوظ. {مُبِينٍ} أي: واضح، لا خفاء فيه، وإعلاله مثل إعلال {مُهِينٌ} في الآية رقم [6] من سورة (لقمان)، وانظر شرح {السّاعَةُ} في الآية رقم [14] من سورة (الروم)، وشرح {السَّماواتِ} في الآية رقم [22] منها.

أما {بَلى؛} فهي إثبات لما نفوه من إتيان الساعة قطعا، و {بَلى:} حرف جواب، كنعم، وجير، وأجل، وإي، إلا أنّ {بَلى} جواب لنفي متقدم؛ أي: إبطال، ونقض، وإيجاب له، سواء دخله الاستفهام، أم لا؟ فتكون إيجابا له، نحو قول القائل: ما قام زيد، فتقول: بلى.

أي: قد قام. وقوله: أليس زيد قائما؟ فتقول: بلى؛ أي: هو قائم. قال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى} قال ابن عباس-رضي الله عنهما: لو قالوا: نعم لكفروا. وخذ ما يلي:

قال محمد علي الصابوني: ظل الاعتقاد السائد حتى القرن التاسع عشر: أن الذرة هي أصغر جزء يمكن أن يوجد في عنصر من العناصر، وأنها غير قابلة للتجزئة؛ لأنها الجزء الذي لا يتجزأ، وقد مضت قرون على هذا الاعتقاد، ومنذ عشرات السنين الماضية حول العلماء اهتمامهم إلى مشكلة الذرة، فأمكنهم تجزئتها، وتقسيمها، وقد وجدوا أنها تحتوي على الدقائق الآتية: البروتون، النيترون الإلكترون، وبواسطة هذه التجزئة اخترعوا القنبلة الذرية، والقنبلة الهيدروجينية، ونعوذ بالله من قيام الساعة، ومن شر إبليس اللعين، استمع إلى قوله تعالى عند الإخبار عن الذرة:{وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ..} . إلخ.

فكلمة: {أَصْغَرُ} من الذرة في الآية القرآنية تصريح جلي بإمكان تجزئتها. وفي قوله:

{وَلا فِي السَّماءِ} بيان بأن خواص الذرات في الأرض هي نفس خواص الذرات الموجودة في الشمس، والنجوم، والكواكب فهل درس محمد صلى الله عليه وسلم خواصّ الذرة، وأمكنه تجزئتها، والوقوف على خواصها في الأرض، والسماء، إنها لدليل قوي على أن القرآن وحي إلهي.

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لا:} نافية. {تَأْتِينَا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، و (نا): ضمير متصل في محل نصب مفعول به. {السّاعَةُ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {بَلى:} حرف جواب في محل نصب مقول القول. {وَرَبِّي:}

الواو: حرف قسم وجر. (ربي): مقسم به مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على ما قبل ياء

ص: 556

المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم بربي. {لَتَأْتِيَنَّكُمْ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (تأتينكم):

مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، التي هي حرف لا محل له، والفاعل يعود إلى {السّاعَةُ} تقديره:«هي» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، والقسم، وجوابه في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{عالِمِ:} بالجر صفة: (ربي)، أو بدل منه، ويقرأ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، التقدير: هو عالم. أو: هو مبتدأ، خبره الجملة بعده، فعلى هذا يوقف على:{لَتَأْتِيَنَّكُمْ،} وعلى قراءة الجر لا يوقف، و {عالِمِ} مضاف، و {الْغَيْبِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لا:} نافية. {يَعْزُبُ:} فعل مضارع. {عَنْهُ:} متعلقان به. {مِثْقالُ:} فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر ب:{عالِمِ} وهذا على قراءته بالجر، وهي في محل رفع خبره على قراءته بالرفع، واعتباره مبتدأ، أو هي في محل نصب حال من الضمير المستتر فيه، واعتباره خبرا لمبتدإ محذوف. و {مِثْقالُ} مضاف، و {ذَرَّةٍ} مضاف إليه. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {ذَرَّةٍ} . وقيل: متعلقان بمحذوف حال ولا وجه له. {وَلا:} الواو: حرف عطف. {لا:} صلة لتأكيد النفي {الْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي أيضا. {أَصْغَرُ:} بالرفع عطفا على:

{مِثْقالُ،} وبالجر عطفا على {ذَرَّةٍ،} ولم يرتض هذا البيضاوي تبعا للزمخشري؛ بل قال: هو مبتدأ على رفعه، واسم (لا) على اعتبارها نافية للجنس على نصبه. وقال البيضاوي: ولا يجوز عطف المرفوع على {مِثْقالُ} والمفتوح على {ذَرَّةٍ} بأنه فتح في موضع الجر، لامتناع الصرف؛ لأن الاستثناء يمنعه، اللهم إلا أن يجعل الضمير في {عَنْهُ} للغيب، وجعل المثبت في اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له، فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شيء إلا مسطورا في اللوح. هذا؛ ونقل الجمل عن السمين تجويز ما قاله أبو البقاء، وما قاله البيضاوي.

{مِنْ:} حرف جر. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل جر ب: {مِنْ،} والجار والمجرور متعلقان ب: {أَصْغَرُ} على جميع الوجوه المتقدمة في الإعراب، إلا إذا اعتبرناه مبتدأ، أو اسما ل:(لا) فالجار والمجرور يتعلقان بمحذوف خبر للمبتدإ، أو ل:(لا)، وذلك على قول البيضاوي الأول، وحذف مثلها بعد:{أَكْبَرُ} . واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {أَكْبَرُ:} معطوف على {أَصْغَرُ} على القراءتين. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي كِتابٍ:} متعلقان بمحذوف خبر: {أَصْغَرُ} و {أَكْبَرُ} على اعتبارهما مبتدأ.

وهما في محل نصب حال على اعتبار {أَصْغَرُ} و {أَكْبَرُ} معطوفين على ما قبلهما.

{مُبِينٍ:} صفة {كِتابٍ} .

ص: 557

{لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}

الشرح: المعنى: إن الساعة آتية لا ريب فيها؛ ليثيب المؤمنين الصادقين، ويجزي الصالحين على أعمالهم التي عملوها في الدنيا. {أُولئِكَ:} الإشارة ل: {الَّذِينَ آمَنُوا} . {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي: لذنوبهم. {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ:} في الجنة، وانظر الآية رقم [31] من سورة (الأحزاب) ولا تنس الاحتراس، وانظره في الآية رقم [15] من سورة (الروم).

الإعراب: {لِيَجْزِيَ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى (ربي)، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر ب:(اللام)، والجار والمجرور متعلقان بالفعل:{لَتَأْتِيَنَّكُمْ} . {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: ما يستحقون من مثوبة وأجر. {آمَنُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف، تقديره:

آمنوا بالله

إلخ، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {الصّالِحاتِ:} صفة لمفعول محذوف، التقدير: عملوا الأعمال الصالحات، فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسرة في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَغْفِرَةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أُولئِكَ،} والجملة الاسمية هذه مستأنفة، لا محل لها. {وَرِزْقٌ:} معطوف على {مَغْفِرَةٌ،} {كَرِيمٌ} صفة: (رزق).

{وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)}

الشرح: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا} أي: عملوا جاهدين في إبطال أدلتنا، والتكذيب بآياتنا، وتزهيد الناس فيها. {مُعاجِزِينَ:} مسابقين، يحسبون: أنهم يفوتوننا، وأننا لا نقدر على بعثهم في الآخرة للحساب، والجزاء، وظنوا: أنا نهملهم. وقرئ: «(معجزين)» وفسر بمثبطين عن الإيمان من أراده. هذا؛ وعاجزه: سابقه؛ إذا كان واحد منهما يسعى في طلب إعجاز الآخر عن اللّحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه، وعجّزه؛ ويقرأ «(معجّزين)» بتشديد الجيم، ومعنى:{سَعَوْا:}

اجتهدوا، وعملوا بجد، واجتهاد. {أُولئِكَ:} الإشارة إلى: {(الَّذِينَ سَعَوْا

)} إلخ. {لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ:} الرجز: سوء العذاب، وقد قال تعالى في أنواع العذاب الذي حل بفرعون، وقومه:{وَلَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ..} . إلخ الآية رقم [134] من سورة (الأعراف). وانظر مقابلة الإيمان بالكفر في الآية رقم [38] الآتية.

ص: 558

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): معطوف على مثله في الآية السابقة.

{سَعَوْا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {فِي آياتِنا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها.

{مُعاجِزِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. وفاعله مستتر فيه، والمفعول الثاني محذوف، تقديره: عقابا شديدا، وذلك ليقابل المحذوف في الآية السابقة. {أُولئِكَ:} مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر {أُولئِكَ}. {مِنْ رِجْزٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {عَذابٌ} . {أَلِيمٌ:} صفة: {عَذابٌ،} ويقرأ بالجر على أنه صفة {رِجْزٍ،} والجملة الاسمية: {أُولئِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)}

الشرح: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي: يعلم، ويعتقد أولو العلم من الصحابة، ومن تبعهم، وسار على طريقتهم من الأمة، وأيضا من أسلم من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين. {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي: القرآن الكريم. {هُوَ الْحَقَّ} أي:

إنه من عند الله. {وَيَهْدِي:} يدل، ويقود. {إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي: إلى دين الإسلام؛ الذي هو دين الله. هذا؛ والصراط في الأصل: الطريق، استعير لدين الإسلام في كثير من الآيات، وهو يذكر، ويؤنث، والأول أكثر. و {الْعَزِيزِ:} القوي الغالب؛ الذي لا يغلب.

و {الْحَمِيدِ:} المحمود بكل لسان، والممجد في كل مكان على كل حال.

الإعراب: {وَيَرَى:} الواو: حرف استئناف، والفعل:(يرى) مرفوع. وقيل: بل هو منصوب بالعطف على (يجزي) وعلامة رفعه، أو نصبه ضمة، أو فتحة مقدرة على الألف للتعذر.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية مستأنفة على الاعتبار الأول، لا محل لها، وهي في تأويل مصدر على عطف الفعل على سابقه. {أُوتُوا:}

فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول، والألف للتفريق. {الْعِلْمَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الَّذِي:}

اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به أول للفعل: (يرى). {أُنْزِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى (الذي) وهو العائد. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور

ص: 559

متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ رَبِّكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من نائب الفاعل المستتر، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيه، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له. {الْحَقَّ:} مفعول به ثان. هذا؛ ويقرأ برفعه، فيكون الضمير مبتدأ، و {الْحَقَّ} خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مفعول به ثان للفعل (يرى)، والجملة الفعلية:{أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} صلة الموصول، لا محل لها. {وَيَهْدِي:} الواو: حرف عطف. (يهدي): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل يعود إلى:{الَّذِي،} ومفعوله محذوف، التقدير: ويهدي الناس، والجملة الفعلية معطوفة على {الْحَقَّ،} أو على الجملة الاسمية: {هُوَ الْحَقَّ} فهي في محل نصب على الاعتبارين. وقيل: هي مستأنفة. وقيل: هي في محل نصب حال من: {الَّذِي} على تقدير: وهو يهدي. {إِلى صِراطِ:} متعلقان بما قبلهما، و {صِراطِ} مضاف، و {الْعَزِيزِ} مضاف إليه. {الْحَمِيدِ:} بدل من: {الْعَزِيزِ} .

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: كفار قريش، قال بعضهم لبعض. {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ} أي: هل نرشدكم إلى رجل يخبركم ويقول لكم: إنكم تبعثون بعد البلى في القبور، وتمزيق لحومكم، وتفريق شعوركم، وتقطيع أوصالكم، يريدون بالرجل: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو-عليه الصلاة والسلام-علم مشهور في قريش، وكان إخباره بالبعث شائعا عندهم، ولكنهم نكّروه بقولهم:{رَجُلٍ} استهزاء، وسخرية، فأخرجوه مخرج التحلّي ببعض الأحاجي، التي يتحاجى بها للضحك، والتلهّي، متجاهلين به، وبأمره. قاتلهم الله أنى يؤفكون! {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي:

إنكم تخرجون من قبوركم، وتنشئون خلقا جديدا بعد أن تمزّق أجسادكم كل تمزيق، وتفرق عظامكم وأوصالكم كل تفريق، بحيث تصير ترابا، ورفاتا. هذا؛ و {جَدِيدٍ} فعيل بمعنى: فاعل عند البصريين، وبمعنى: مفعول عند الكوفيين، من: جددته، أي قطعته. وعلى الأول يقال: جد الشيء، فهو جاد، وجديد. هذا؛ وانظر شرح الكفر في الآية رقم [34] من سورة (الروم).

الإعراب: (قال): فعل ماض. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَقالَ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {هَلْ:}

حرف استفهام. {نَدُلُّكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به.

{عَلى رَجُلٍ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية:{هَلْ نَدُلُّكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {يُنَبِّئُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{رَجُلٍ} تقديره: «هو» ، والكاف مفعول به

ص: 560

أول، والمفعول الثاني المجرور بالحرف محذوف، التقدير: بأنكم تبعثون إذا مزقتم

إلخ، والجملة الفعلية في محل جر صفة {رَجُلٍ} .

{إِذا:} ظرف زمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: «تبعثون» الذي تراه مقدرا. {مُزِّقْتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله. {كُلَّ:}

نائب مفعول مطلق، وأجاز الزمخشري اعتباره ظرف مكان، التقدير: كل مكان تمزيق من القبور، وبطون الوحش، والطير، فهو متعلق بالفعل قبله. و {كُلَّ} مضاف، و {مُمَزَّقٍ} مضاف إليه، و «أنّ» المقدرة، واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل جر بحرف جر محذوف، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني.

{إِنَّكُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمه. {لَفِي:} اللام: هي المزحلقة. (في خلق):

جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (إنّ). {جَدِيدٍ:} صفة {خَلْقٍ،} والجملة الاسمية:

{إِنَّكُمْ..} . إلخ فيها معنى التأكيد لما قدرته محذوفا، أو هي بدل منه، وكسرت الهمزة بسبب لام الابتداء، التي زحلقت إلى الخبر. هذا؛ وأجيز اعتبار:{إِذا} شرطية، وجوابها محذوف، التقدير: إذا مزقتم كل ممزق؛ بعثتم. وعليه فالجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة ل: {يُنَبِّئُكُمْ؛} لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق؛ تبعثون، ثم أكد ذلك بقوله:

{إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} . ويحتمل أن يكون: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} معلقا ل: {يُنَبِّئُكُمْ} سادا مسد المفعولين، ولولا اللام؛ لفتحت (إنّ) وعلى هذا فجملة الشرط اعتراض. وعلى جميع الاعتبارات؛ فجملة:{مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} في محل جر بإضافة {إِذا} إليها.

{أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8)}

الشرح: {أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ:} يحتمل أن يكون هذا من تمام قول الكافرين أولا، أي من كلام القائلين:{هَلْ نَدُلُّكُمْ..} . إلخ، ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل:{هَلْ نَدُلُّكُمْ} كأن القائل لما قال له: {هَلْ نَدُلُّكُمْ} أجابه، فقال: هو يفتري على الله كذبا

إلخ، و {جِنَّةٌ} بمعنى: جنون؛ أي: خبل، وذهاب عقل. وهو أيضا جمع: جني قال تعالى في سورة (الناس): {مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وهو بفتح الجيم: الحديقة، ذات الأشجار، وجمعها: جنات، وهو بضم الجيم: كل ما استترت به، وكل ما وقيت به نفسك من السلاح، والرماح، ومنه: المجن، والمجنة بكسر الميم فيهما، وهو الترس؛ الذي كان يتخذ للوقاية من ضربات السيوف، والرماح، وخذ قوله تعالى في سورة (المجادلة) وسورة (المنافقون) وهو من باب الاستعارة:

{اِتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ} .

ص: 561

{بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ..} . إلخ: هذا جواب عن ترديدهم الوارد على طريقة الاستفهام بالإضراب عن شقيه، وإبطالهما، وإثبات قسم ثالث كاشف عن حقيقة الحال، مناد عليهم بسوء حالهم، وبطلان ما قالوا في حقه. كأنه قيل: ليس الأمر كما زعموا؛ بل هم في كمال اختلال العقل، وغاية الضلال عن الفهم، والإدراك؛ الذي هو الجنون حقيقة، وفيما يؤدي إليه ذلك من العذاب، ولذلك يقولون ما يقولون. انتهى. جمل نقلا من أبي السعود.

هذا؛ والضلال: مصدر: ضل الثلاثي، ومصدر الرباعي: الإضلال، فهو مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضلالا، أو هو مجاز عقلي على حد: جد جده؛ لأن البعيد في الحقيقة إنما هو الضال؛ لأنه هو الذي يتباعد الطريق، فوصف به فعله، وانظر الآية رقم [11] من سورة (لقمان).

وأخيرا فالهمزة بقوله: {أَفْتَرى} همزة الاستفهام، واستغنى بها عن همزة الوصل، فحذفتها، والأصل «أافترى» فحذفت الألف الثانية؛ لأنها ألف الوصل. فإن قيل: فهلا أتوا بمدة بعد الألف، فقالوا: آفترى، كقوله تعالى:{آللهُ خَيْرٌ،} وقوله جل ذكره: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ..} . إلخ قيل له: كان الأصل في هذا «أالله؟» «أالذّكرين» فأبدلوا من الألف الثانية مدة؛ ليفرقوا بين الاستفهام، والخبر، وذلك أنهم لو قالوا:«الله خير؟» بلا مدّ لالتبس الاستفهام بالخبر. ولم يحتاجوا إلى هذه المدة في قوله: {أَفْتَرى} . {أَطَّلَعَ} لأن ألف الاستفهام مفتوحة، وألف الخبر مكسورة، وذلك: أنك تقول في الاستفهام «أطّلع؟ أفترى؟ أصطفى؟ أستغفرت؟» بفتح الألف، وتقول في الخبر:«اطلع، افترى، اصطفى، استغفرت لهم» بالكسر، فجعلوا الفرق بالفتح والكسر ولم يحتاجوا إلى فرق آخر. انتهى. قرطبي.

الإعراب: {أَفْتَرى:} الهمزة: حرف استفهام. (افترى): فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف، والفاعل تقديره:«هو» يعود إلى {رَجُلٍ} . {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما قبلهما. {كَذِباً:}

مفعول به، وجملة:{أَفْتَرى..} . إلخ في محل نصب مقول القول؛ إن كان من تمام قول الكافرين، ومستأنفة؛ إن كانت من كلام السامع. {أَمْ:} حرف عطف. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {جِنَّةٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {بَلِ:} حرف عطف، وإضراب. {الَّذِينَ:} مبتدأ. {لا:} نافية.

{يُؤْمِنُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {بِالْآخِرَةِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الْعَذابِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. (الضلال):

معطوف على ما قبله. {الْبَعِيدِ:} صفة له، والجملة الاسمية:{بَلِ الَّذِينَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، انظر تقديره في الشرح.

ص: 562

{أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}

الشرح: {أَفَلَمْ يَرَوْا..} . إلخ: أعلم الله تعالى الكفار: أن الذي قدر على خلق السموات، والأرض، وما فيهن قادر على البعث، وعلى تعجيل العقوبة لهم، فاستدل بقدرته عليهم، وأن السموات والأرض ملكه، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب؛ فكيف يأمنون الخسف، والكسف، كما فعل بقارون، وأصحاب الأيكة قوم شعيب، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. والمعنى: أعموا، فلم ينظروا إلى السماء والأرض، وأنهما حيثما كانوا، وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم، لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما، وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله عز وجل، ولم يخافوا أن يخسف الله بهم، أو يسقط عليهم كسفا؛ لتكذيبهم الآيات، وكفرهم بالرسول صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به، كما فعل بقارون، وأصحاب الأيكة؟

{إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: النظر إلى السماء، والأرض، والتفكر فيهما، وما تدلان عليه من قدرة الله تعالى. {لَآيَةً:} لدلالة، وعلامة. {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي: راجع إلى ربه، مطيع له؛ إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث، والحساب، ومن عقاب من يكفر به. وخص المنيب بالذكر؛ لأنه هو الذي ينتفع بالتفكر في حجج الله، وآياته.

هذا؛ والتعبير عن الأمام، والخلف بقوله تعالى:{ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} كثير في القرآن الكريم، وإن اختص كل موضع بتفسير حسب مقتضيات الأحوال، واختلافها، فمثلا قوله تعالى:

{يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} في الآية رقم [28] من سورة (الأنبياء) يفسر بغير ما في هذه الآية، وكذلك الآية رقم [110] من سورة (طه) وكلتاهما تخالفان معنى قوله تعالى:{لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا} الآية رقم [64] من سورة (مريم) على نبينا، وحبيبنا، وعليها ألف صلاة، وألف سلام.

وهكذا، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. وليعلم: أن الأفعال «نشأ، نخسف، نسقط» تقرأ بالنون، والياء، و {كِسَفاً} يقرأ بفتح السين، وسكونها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [48] من سورة (الروم).

الإعراب: {أَفَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام. الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف. (لم):

حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَرَوْا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف النون، لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، والفعل بصري، فلذا اكتفى بالجار والمجرور بعده. {إِلى:} حرف جر. {ما:} اسم موصول مبني على السكون في محل جرّ ب: {إِلى} والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محلّ نصب مفعوله. {بَيْنَ:} ظرف

ص: 563

مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَيْدِيهِمْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الياء، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما):

معطوف على ما قبله، وهو في محل جر أيضا. {خَلْفَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول. {مِنَ السَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: (ما)، و {مِنَ} بيان لما أبهم في (ما). {وَالْأَرْضِ:} معطوف على {السَّماءِ،} وجملة: {أَفَلَمْ..} . إلخ معطوفة على محذوف، التقدير: أعموا، فلم ينظروا على رأي الزمخشري، ومستأنفة على رأي غيره.

{إِنْ:} حرف شرط جازم. {نَشَأْ:} فعل مضارع فعل الشرط، والفاعل مستتر، تقديره:

«نحن» ، أو تقديره:«هو» يعود إلى الله، ومفعوله محذوف، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {نَخْسِفْ:} فعل مضارع جواب الشرط، وفاعله تقديره:«نحن» ، أو «هو» ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها لم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية. {بِهِمُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْأَرْضِ:} مفعول به. {أَوْ:} حرف عطف. {نُسْقِطْ:} معطوف على ما قبله. وفاعله مستتر أيضا، تقديره:«نحن» أو: «هو» .

{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {كِسَفاً:} مفعول به. {مِنَ السَّماءِ:} متعلقان بمحذوف صفة: {كِسَفاً،} والجملة الشرطية: {إِنْ نَشَأْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {إِنْ:}

حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِنْ،} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآيَةً:} اللام: لام الابتداء. (آية): اسم {إِنْ} مؤخر. {لِكُلِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة (آية)، وكل مضاف، و {عَبْدٍ} مضاف إليه.

{مُنِيبٍ:} صفة {عَبْدٍ،} والجملة الاسمية: {إِنْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)}

الشرح: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنّا فَضْلاً} أي: مزية على سائر الأنبياء، وهو ما ذكر في هاتين الآيتين، أو مزية على سائر الناس، فيدخل فيه النبوة، والزبور، والملك، والصوت الحسن. فقد كان عليه الصلاة والسلام ذا صوت حسن، ووجه حسن، وقد أعطي من حسن الصوت ما يتزاحم الوحوش من الجبال على حسن صوته، وكان الماء الجاري ينقطع عن الجري، وقوفا لصوته. وحسن الصوت هبة من الله تعالى، وتفضل منه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه:«لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود» . قال العلماء: المزمار والمزمور:

الصوت الحسن، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. {يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي: سبحي معه. قال أبو ميسرة: هو التسبيح بلسان الحبشة، ومعنى تسبيح الجبال: هو أن الله تعالى خلق فيها تسبيحا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود، على

ص: 564

نبينا، وعليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم. وقيل: المعنى سيري معه حيث شاء، من: التأويب الذي هو سير النهار أجمع، وينزل الليل، قال ابن مقبل:[الطويل]

لحقنا بحيّ أوّبوا السّير بعد ما

دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح

وقرأ الحسن، وقتادة وغيرهما:(أوبي معه) أي: ارجعي معه، من آب، يؤوب: إذا رجع، أوبا، وأوبة، وإيابا. وقيل: المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار، فكان إذا قرأ الزبور صوتت معه الجبال، وأصغت إليه الطير، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبه:

المعنى: نوحي معه، والطير تساعده على ذلك، فكان إذا نادى بالنياحة؛ أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه. وصريح قوله تعالى في الآية رقم [79] من سورة (الأنبياء):{وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ،} وصريح قوله تعالى في الآية رقم [18] من سورة (ص): {إِنّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ} يؤيد التسبيح لا غيره. {وَالطَّيْرَ} أي: كانت تسبح معه، عليه الصلاة والسلام. قيل: كان إذا وجد فترة في الذكر؛ أمر الجبال، والطير، فسبحت؛ حتى ينشط؛ ويشتاق للتسبيح. وفيه ما فيه من الفخامة، والدلالة على عظم شأنه، وكبرياء سلطانه؛ حيث جعل الله الجبال، والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها. {وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ:} أي جعلناه له ليّنا، كالطين والعجين، والشمع، يصرفه بيده كيف يشاء، من غير نار، ولا ضرب بمطرقة.

هذا؛ وداود: هو ابن إيشا، وكان في عسكر طالوت، وهو من سبط الملوك، وهو سبط يهوذا بن يعقوب. أما سبط النبوة فهو سبط لاوي بن يعقوب. وقد بارز جالوت، وقتله، كما رأيت في الآية رقم [251] من سورة (البقرة). فلما قتل جالوت زوجه طالوت بنته، وأشركه معه في الحكم، وقد دام ملك طالوت أربعين سنة، فلما استقل داود بالحكم، وأعطاه الله النبوة، كما قال تعالى:{وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} وذلك بعد موت النبي شمويل، وبعد موت طالوت، ولم يجتمع الملك، والنبوة لغير داود، وابنه سليمان، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. وكانت مدة ملك داود بعد طالوت سبع سنين، وفي عهد داود وقعت حادثة أهل السبت، التي رأيت تفصيلها في الآية رقم [163] وما بعدها من سورة (الأعراف) وعاش داود مائة سنة، وبينه وبين موسى خمسمائة وتسع وستون سنة. وقيل: وتسع وسبعون، وعاش سليمان تسعا وخمسين سنة، وبينه وبين مولد نبينا، وحبيبنا عليه، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام نحو ألف وسبعمائة سنة. انتهى. جمل. نقلا من التحبير للسيوطي.

هذا؛ وقيل: إنه عاش ثلاثا وخمسين سنة، وملك؛ وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقي في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع سنين من ملكه.

تنبيه: روي: أن سبب ذلك: أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل لقي ملكا، وداود يظنه إنسانا، وداود متنكر خرج يسأل الناس عن نفسه، وسيرته في بني إسرائيل في خفاء، فقال

ص: 565

داود لذلك الشخص الذي تمثل له: ما قولك في هذا الملك داود؟ فقال له الملك: نعم العبد لولا خلة فيه! قال داود: وما هي؟ قال: يرتزق من بيت المال، ولو أكل من عمل يده لتمت فضائله، فرجع، فدعا الله تعالى أن يعلمه صنعة، ويسهلها عليه، فعلمه صنعة الدروع، كما قال تعالى في الآية رقم [80] من سورة (الأنبياء):{وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ..} . إلخ فألان له الحديد، فصنع الدروع، فكان يصنع الدرع فيما بين يومه، وليلته يساوي ألف درهم؛ حتى ادّخر منها كثيرا، وتوسعت معيشة أهل بيته، وكان يتصدق على الفقراء والمساكين، وكان ينفق ثلث المال في مصالح قومه، وهو أول من اتخذ الدروع، وصنعها، وكانت قبل ذلك صفائح.

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وأن التحرف بها لا ينقص من مناصبهم، بل ذلك زيادة في فضلهم، وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم، وكسب الحلال الخليّ عن الامتنان، إلا للواحد المنان، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنّ خير ما أكل المرء من عمل يده، وإن نبيّ الله داود كان يأكل من عمل يده» . انتهى. هذا؛ وخذه من الترغيب والترهيب، كما يلي: عن المقدام بن معد يكرب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما أكل أحد طعاما قطّ خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبيّ الله داود-عليه الصلاة، والسّلام-كان يأكل من عمل يده» . رواه البخاري وغيره.

الإعراب: {وَلَقَدْ:} الواو: حرف قسم وجر، والمقسم به محذوف، التقدير: والله، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، تقديره: أقسم. اللام: واقعة في جواب القسم. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {آتَيْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [23] من سورة (السجدة). {داوُدَ:} مفعول به أول.

{مِنّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من {فَضْلاً} كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة؛ إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . {فَضْلاً:} مفعول به ثان، والكلام:{وَلَقَدْ آتَيْنا..} . إلخ مستأنف لا محل له. (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو.

(جبال): منادى نكرة مقصودة مبني على الضم في محل نصب ب: (يا). {أَوِّبِي:} فعل أمر مبني على حذف النون، وياء المخاطبة فاعله، والجملة الفعلية والجملة الندائية بدل من:{آتَيْنا} التقدير: قلنا: يا جبال، أوبي، أو بدل من:{فَضْلاً} التقدير: قلنا: يا جبال، أوبي، انتهى.

من الكشاف. وهذا يعني: أن الجملتين في محل نصب مقول القول المقدر، فعلى الأول هو فعل، وعلى الثاني المقدر مصدر، وأرى أن اعتبار الجملتين تفسيرا ل:{فَضْلاً} جيد، ولا بأس به. {مَعَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَالطَّيْرَ:} يقرأ بالنصب، والرفع، فالنصب فيه أربعة أوجه: الأول: هو معطوف على موضع (جبال). والثاني: هو مفعول معه، والواو واو المعية. والثالث: هو معطوف على

ص: 566

{فَضْلاً} على معنى: وآتيناه تسبيح الطير. قاله الكسائي. والرابع: هو منصوب بفعل محذوف، التقدير: وسخرنا له الطير. وأما الرفع؛ ففيه وجهان: أحدهما هو معطوف على لفظ (جبال).

والثاني: هو معطوف على ياء المخاطبة في {أَوِّبِي،} وأغنت (مع) عن توكيد الضمير المتصل بضمير الرفع المنفصل. {وَأَلَنّا:} والواو: حرف عطف. (ألنا): فعل، وفاعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْحَدِيدَ:} مفعول به، وجملة:{وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ} معطوفة على جملة {آتَيْنا..} . إلخ لا محل لها مثلها.

{أَنِ اِعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاِعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}

الشرح: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} أي: أمرناه بأن اصنع دروعا سابغات؛ أي: كاملات، واسعات طوالا، تسحب في الأرض. هذا؛ ويقرأ:«(صابغات)» بالصاد، ورأيت في الآية السابقة: أنه هو أول من اتخذ الدروع بهذا الشكل. {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي: وقدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها.

وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: التقدير الذي أمر به هو في المسمار؛ أي: لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق، أي لا يستقر في مكانه، ولا غليظا فيفصم الحلق. أو المعنى: اجعل الدرع متوسطة، لا ثقيلة تتعب حاملها، ولا رقيقة خفيفة لا ترد عن صاحبها ضربات السيوف. هذا؛ والسرد: نسج حلق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السّراد، والزرّاد بإبدال السين زايا، والسرد: الخرز، ويقال: سرد الحديث، والصوم؛ أي: أتى بهما ولاء في نسق واحد، ومنه: سرد الكلام. قالت عائشة-رضي الله عنها: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدّث الحديث لو أراد العادّ أن يعدّه؛ لأحصاه. {وَاعْمَلُوا صالِحاً:} هذا أمر لداود، وأهل بيته. {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فأجازيكم به، إن خيرا؛ فخير، وإن شرا فشر. وفي الكلام التفات من خطاب الواحد إلى خطاب الجماعة، كما هو ظاهر.

الإعراب: {أَنِ:} مفسرة، أو مصدرية. {اِعْمَلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه تقديره:

«أنت» . {سابِغاتٍ:} صفة لمفعول به محذوف، فهو منصوب مثله، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية:{أَنِ اعْمَلْ..} . إلخ مفسرة للفعل المقدر ب: أمرنا. وعلى اعتبار {أَنِ} مصدرية تؤول مع الفعل بمصدر في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير: أمرناه بعمل سابغات. {وَقَدِّرْ:} الواو: حرف عطف. (قدر): فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» . {فِي السَّرْدِ:} متعلقان به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الاعتبارين فيها. (اعملوا): فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {صالِحاً:}

مفعول به، وهو صفة لموصوف محذوف، التقدير: اعملوا عملا صالحا، لذا قيل: صفة لمفعول مطلق محذوف، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها.

ص: 567

{إِنِّي:} حرف مشبه بالفعل، و (يا) المتكلم اسمه. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {بَصِيرٌ} بعدهما، و:(ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو بشيء تعملونه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملكم. {بَصِيرٌ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:

{إِنِّي..} . إلخ تعليل للأمر، لا محل لها.

{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)}

الشرح: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} أي: وسخرنا لسليمان الريح. ويقرأ برفع الريح. {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} أي: جريها بالغداة، أي في الصباح مسيرة شهر، وجريها بالعشي مسيرة شهر آخر، فكانت تسير به في كل يوم واحد مسيرة شهرين. قيل: كان يغدو من دمشق، فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر، ثم يروح من إصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (الأنبياء) الآية رقم [81]:{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ..} . إلخ وقال في سورة (ص) الآية رقم [36]: {فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ} .

قال وهب بن منبه: كان سليمان عليه السلام؛ إذا خرج إلى مجلسه؛ حلقت عليه الطير، وقام له الإنس، والجن؛ حتى يجلس على سريره، وكان امرءا غزاء قلّما يقعد عن الغزو، ولا يسمع بناحية من الأرض بملك إلا أتاه؛ حتى يذله. وكان فيما يزعمون: أنه إذا أراد الغزو؛ أمر بخشب فمدت، ورفع عليها الناس والدواب، وآلة الحرب، فإذا حمل معه ما يريد؛ أمر العاصف من الريح، فمرت تحت الخشب، فاحتملته حتى إذا استقلت به؛ أمر الرخاء، فمرت به شهرا في روحته، وشهرا في غدوته إلى حيث أراد. انتهى. وهذا يعني: أن العاصف للإقلاع، والرخاء للسير بهدوء؛ لئلا يضطرب الناس الذين هم على بساط الريح. قال أحمد محشي الكشاف: وهذا كما ورد وصف عصا موسى تارة بأنها جان، وتارة بأنها ثعبان، والجان الرقيق من الحيات، والثعبان العظيم الجافي منها، ووجه ذلك: أنها جمعت الوصفين، فكانت في خفتها، وفي سرعة حركتها كالجان، وكانت في عظم خلقها كالثعبان، ففي كل واحد من الريح، والعصا على هذا التقرير معجزتان. والله سبحانه، وتعالى أعلم.

{وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ:} {الْقِطْرِ:} النحاس، فعن ابن عباس، وغيره: أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة:

ص: 568

أسال له الله عينا يستعملها فيما يريد، وقد أسال الله لسليمان النحاس، وأجراه له، كما ألان الحديد لوالده داود، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام. وقيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، وسبب ذوبانه-والله أعلم-أن الأرض التي فتحت فيها العين مصطهرة بالنار فالنحاس المختلط بصخور تلك الأرض يصهر، ويقذف من فوهة تلك العين سائلا، فيأتي عمّال سليمان، ويأخذونه للانتفاع به في الصناعات، ونحوها مما يحتاج إليه سليمان.

{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي: بأمر ربه. وقال ابن عباس-رضي الله عنهما: سخر الله الجن لسليمان، عليه الصلاة والسلام، وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به. {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا:} ومن يعدل ويخالف الذي أمرناه به من طاعة سليمان. {نُذِقْهُ:} من عذاب السعير: قيل: هذا في الآخرة. وقيل: في الدنيا، وذلك: أن الله تعالى وكل بهم ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ منهم عن طاعة سليمان ضربه بذلك السوط ضربة أحرقته.

هذا؛ وقد ذكر في سفر الملوك الأول العمائر التي قام بعملها سليمان، منها: سور أورشليم، وحاصور، ومجد، وجازر، وبيت حوران السفلى، وبعله، وتدمر في البرية، كل ذلك عدا المخازن، ومدن المركبات، ومدن الفرسان، وما بناه في لبنان، وغيرها من سائر مملكته، ومن نظر إلى هذه الأعمال، وفخامتها، وضخامة أحجارها؛ لم يستبعد أن يكون للجن عمل عظيم في ذلك، وخاصة تدمر، وبعض آثارها ماثل إلى اليوم، وقد ذكر النابغة الذبياني تسخير الجن لسليمان في شعره الذي يعتذر به إلى النعمان؛ إذ يقول:[البسيط]

ولا أرى فاعلا في النّاس يشبهه

ولا أحاشي من الأقوام من أحد

إلاّ سليمان إذ قال الإله له

قم في البريّة فاحددها عن الفند

وخيّس الجنّ إنّي قد أذنت لهم

يبنون تدمر بالصّفّاح والعمد

هذا من قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار-رحمه الله تعالى-باختصار. وهذه الأبيات من معلقة النابغة رقم [21] وما بعد. انظرها بشرحنا، وإعرابنا لها.

الإعراب: {وَلِسُلَيْمانَ:} الواو: حرف عطف. (لسليمان): جار ومجرور متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وسخرنا لسليمان، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون. {الرِّيحَ:} مفعول به للفعل المحذوف، والجملة الفعلية معطوفة على جملة:{آتَيْنا داوُدَ..} . إلخ لا محل لها مثلها، وعلى قراءة «(الريح)» بالرفع فهو مبتدأ مؤخر، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{غُدُوُّها:} مبتدأ، والتقدير: مسير غدوها شهر، ومسير رواحها شهر. و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {شَهْرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من:

ص: 569

{الرِّيحَ،} والرابط: الضمير فقط، وجملة:{وَرَواحُها شَهْرٌ} معطوفة عليها، فهي في محل نصب حال مثلها. {وَأَسَلْنا:} الواو: حرف عطف. (أسلنا): فعل، وفاعل. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {عَيْنَ:} مفعول به، و {عَيْنَ} مضاف، و {الْقِطْرِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها. {وَمِنَ:} الواو: حرف عطف. {(مِنَ الْجِنِّ)} : متعلقان بفعل محذوف، التقدير: وسخرنا له من الجن. (من): اسم موصول مبني على السكون في محل نصب مفعول به للفعل المقدر. هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور {(مِنَ الْجِنِّ)} متعلقين بمحذوف خبر مقدم، و {مِنَ:} مبتدأ مؤخر على مثال: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} والجملة سواء أكانت فعلية، أم اسمية معطوفة على ما قبلها. {يَعْمَلُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {مِنَ}. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {بِإِذْنِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {يَعْمَلُ،} و (إذن) مضاف، و {رَبِّهِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{يَعْمَلُ} صلة الموصول، لا محل لها.

{وَمِنَ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَزِغْ:} فعل مضارع فعل الشرط، وفاعله مستتر فيه، يعود إلى:(من)، تقديره:«هو» .

{مِنْهُمْ:} متعلقان بمحذوف حال من فاعل {يَزِغْ} المستتر. و (من) بيان لما أبهم في (من).

{عَنْ أَمْرِنا:} متعلقان بما قبلهما، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {نُذِقْهُ:} فعل مضارع جواب الشرط، وفاعله مستتر، تقديره:«نحن» ، والهاء مفعول به. {مِنْ عَذابِ:}

متعلقان بالفعل قبلهما، و {عَذابِ:} مضاف، و {السَّعِيرِ} مضاف إليه. هذا؛ وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، فقيل: هو جملة الشرط. وقيل: هو جملة الجواب. وقيل: هو الجملتان، وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)}

الشرح: {يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ} أي: مساجد. وقيل: هي الأبنية المرتفعة، والقصور، والمجالس الشريفة، المصونة عن الابتذال، سميت بذلك؛ لأنها يذب عنها، ويحارب عليها، وكان مما عملوا له بيت المقدس، وذلك: أن داود-عليه السلام-ابتدأه، ورفعه قامة رجل، فأوحى الله إليه: لم أقض ذلك على يدك، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان، أقضي إتمامه على يديه، فلما توفي داود؛ استخلف سليمان، على نبينا، وعليهما ألف صلاة، وألف سلام، فأراد سليمان إتمام بناء

ص: 570

بيت المقدس، فجمع الجن، والشياطين، وقسم عليهم الأعمال، وخص كل طائفة منهم بعمل، فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والبلور من معادنهما، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفائح، وجعلها اثني عشر ربضا، وأنزل على كل ربض سبطا من الأسباط.

فلما فرغ من بناء المدينة؛ أخذ في بناء المسجد، فوجه الشياطين فرقا منهم من يستخرج الذهب والفضة من معادنهما، ومنهم من يستخرج الجواهر، واليواقيت، والدر الصافي من أماكنها، ومنهم من يأتيه بالمسك، والعنبر، والطيب من أماكنها، فأتي بشيء كثير، لا يحصيه إلا الله تعالى، ثم أحضر الصناع، وأمرهم بنحت تلك الأحجار، وتصييرها ألواحا، وإصلاح تلك الجواهر، وثقب اليواقيت، واللآلي، فبني المسجد بالرخام الأبيض، والأصفر، والأخضر، وعمده بأساطين البلور الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر الثمينة، وقصص سقوفه، وحيطانه باللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن على وجه الأرض يومئذ أبهى، ولا أنور من ذلك المسجد، فكان يضيء بالظلمة، كالقمر ليلة البدر.

قال تعالى في سورة (الأنبياء) رقم [82]: {وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ،} وقال في سورة (ص): {وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنّاءٍ وَغَوّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ} .

فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل، وأعلمهم: أنه بناه لله تعالى، وأن كل شيء فيه خالص له، واتخذ ذلك اليوم عيدا، فعن عبد الله بن عمرو-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أنّ سليمان بن داود لمّا بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل حكما يوافق حكمه، فأوتيه، وسأل الله تعالى ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد، لا ينهزه إلا الصلاة فيه، إلا أخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه» . أخرجه النسائي.

وعن أبي الدرداء-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصّلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة بمسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة» .

رواه الطبراني وبقي بيت المقدس على ما بناه سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-حتى غزاه بختنصر، فخرب المدينة، وهدم المسجد، وأخذ ما فيه من الذهب والفضة وسائر أنواع الجواهر، وحمله إلى دار ملكه بالعراق. انظر ذلك مفصلا في الآية رقم [4] وما بعدها من سورة (الإسراء) تجد أن ذلك كان بسبب فساد بني إسرائيل، وفسقهم، وخروجهم عن طاعة ربهم. و:(تماثيل) جمع: تمثال، قال امرؤ القيس:[الطويل]

ويا ربّ يوم قد لهوت وليلة

بآنسة كأنّها خطّ تمثال

والتماثيل: صور للملائكة، والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس، فيعبدوا نحو عبادتهم. وقيل: كانوا يصورون السباع، والطيور، وغيرها. وقيل: كانوا يصورون صور الملائكة، والأنبياء، والصالحين في المساجد ليراها الناس، فيزدادوا عبادة، ويصورون ما ذكر

ص: 571

من نحاس، ورخام، وزجاج. روي: أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط له الأسدان ذراعيهما، وإذا قعد؛ أظله النسران بأجنحتهما، وكان التصوير مباحا يومئذ؛ أما في شريعتنا؛ فالتصوير حرام. وخذ ما يلي: عن عمر-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الذين يصنعون هذه الصّور يعذّبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم» . رواه البخاري. وعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة المصوّرون» . رواه البخاري، ومسلم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: «ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرّة، وليخلقوا حبّة، وليخلقوا شعيرة» . رواه البخاري، ومسلم.

كما حرم الإسلام اقتناء الصور، فعن ابن عمر-رضي الله عنهما-قال: واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل أن يأتيه، فراث عليه حتّى اشتدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج فلقيه جبريل عليه السلام، فشكا إليه، فقال:«إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا صورة» . رواه البخاري. وعن علي-رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال جبريل: «إنّا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا صورة» . رواه البخاري.

{وَجِفانٍ:} جمع: جفنة، وهي القصعة؛ التي يوضع فيها الطعام. {كَالْجَوابِ:} جمع:

جابية، وهي حفيرة، كالحوض، وقال مجاهد: كحياض الإبل، وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل. قال الأعشى:[الطويل]

تروح على آل المحلّق جفنة

كجابية الشّيخ العراقيّ تفهق

هذا {وَجِفانٍ} جمع كثرة، وجمع القلة: جفنات، ولذا عيب على حسان-رضي الله عنه قوله:[الطويل]

لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ويروى: أن الخنساء-رضي الله عنها-قالت: قللت جفناتك، ولو قلت: الجفان؛ لكان أولى. وقلت: الغر، ولو قلت: البيض؛ لكان أولى. وقلت: يلمعن، ولو قلت: يشرقن؛ لكان أولى، وقلت: بالضحى، ولو قلت: بالدجى؛ لكان أولى، وقلت: أسيافنا، ولو قلت: سيوفنا؛ لكان أولى، وقلت: يقطرن، ولو قلت: يسلن؛ لكان أولى، وقلت: دما؛ ولو قلت: دماء لكان أولى.

هذا؛ وقال الكسائي: أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها، تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم المئكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحيفة تشبع الرجل. هذا؛ وحذفت الياء من الجوابي تخفيفا، وبعضهم يقرأ بإثباتها. {وَقُدُورٍ راسِياتٍ} أي: ثابتات على أثافيها لا تحمل ولا تحرّك عن أماكنها لعظمها، وكان يصعد إليها بالسلالم، وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان التيمي في الجاهلية.

ص: 572

{اِعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} أي: اعملوا بطاعة الله شكرا على نعمه. روي: أن داود-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-قال: يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك، وإلهامي، وقدرتي على شكرك نعمة لك؟! فقال: يا داود الآن عرفتني. هذا؛ وحقيقة الشكر: الاعتراف بالنعمة للمنعم، واستعمالها في طاعته. والكفران استعمالها في المعصية، وقليل من يفعل ذلك؛ لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية بحسب سابق التقدير. قال ثابت البناني: كان داود نبي الله-على نبينا، وعليه الصلاة والسّلام-: قد جزأ ساعات الليل، والنهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من ليل، أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن داود كان يصوم يوما، ويفطر يوما. ومن المؤكد: أن الصلاة، والصيام، والعبادات كلها هي في نفسها الشكر؛ إذ سدت مسده، ويبين هذا قوله تعالى في الآية رقم [24] من سورة (ص):{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ} وهو المراد بقوله الآتي: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} وظاهر القرآن، والسنة: أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان، فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان.

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} أي: الموفق على أداء الشكر بقلبه، ولسانه، وجوارحه في أكثر أوقاته، ومع ذلك لا يوفي حقه؛ لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر، إلى ما لا نهاية له، ولذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر. وسمع الفاروق-رضي الله عنه-رجلا يقول: «اللهم اجعلني من القليل» ، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} فقال عمر-رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وانظر مثله في الآية رقم [24] من سورة (ص)، وانظر ما ذكرته بشأن الحمد والشكر في الآية [15] من سورة (النمل).

الإعراب: {يَعْمَلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يعملون له الذي، أو: شيئا يشاؤه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي في محل نصب حال من {الْجِنِّ،} والرابط: الضمير فقط، أو هي مفسرة لجملة (يعمل)، أو هي بدل منها اعتبارات أربعة. {مِنْ مَحارِيبَ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في {ما،} وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع. {وَتَماثِيلَ:} معطوف عليه، وهو مجرور مثله

إلخ. {وَجِفانٍ:} معطوف على ما قبله. {كَالْجَوابِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: (جفان)، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الياء المحذوفة، أو الثابتة على القراءة

ص: 573

الثانية. هذا؛ وإن اعتبرت الكاف اسما، فهي صفة جفان، وتكون مضافة، و (الجواب) مضاف إليه، {وَقُدُورٍ:} معطوف على ما قبله. {راسِياتٍ:} صفة (قدور).

{اِعْمَلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {آلَ:}

منادى حذفت منه أداة النداء، أو هو مفعول بفعل محذوف، التقدير: أعني آل، و {آلَ} مضاف، و {داوُدَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والعجمة. {شُكْراً:} مفعول لأجله، أو هو صفة لمفعول مطلق، التقدير:

اعملوا آل داود عملا شكرا، أو اشكروا شكرا. وقيل: هو حال بمعنى: شاكرين، والكلام:

{اِعْمَلُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير: وقلنا: يا آل داود اعملوا

إلخ. والجملة الفعلية هذه معطوفة على جملة: {يَعْمَلُونَ..} . إلخ. وقيل: جملة:

{اِعْمَلُوا..} . إلخ مستأنفة، والأول أولى. {وَقَلِيلٌ:} الواو: حرف استئناف. (قليل): خبر مقدم.

{مِنْ عِبادِيَ:} متعلقان ب: (قليل) لأنه صفة مشبهة. وقيل: متعلقان بمحذوف صفة (قليل) وليس بشيء، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة. {الشَّكُورُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من:{آلَ داوُدَ} فالرابط الواو فقط.

{فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)}

الشرح: {فَلَمّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ:} حكمنا عليه بالموت. قال العلماء: كان سليمان-على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام-يتجرد للعبادة في بيت المقدس السنة، والسنتين، والشهر، والشهرين، فيدخل فيه، ومعه طعامه وشرابه، فدخله المرة التي مات فيها، فأعلمه الله بوقت موته، فقال: اللهم أخف عن الجن موتي؛ حتى تعلم الإنس: أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تخبر الإنس بأنهم يعلمونه، فقام في المحراب على عادته يصلي، متكئا على عصاه قائما، وكان للمحراب طاقات من بين يديه، ومن خلفه، فكان الجن ينظرون إليه، ويحسبون أنه حي، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطوله منه قبل ذلك، فمكثوا يعملون حولا كاملا حتى أكلت الأرضة عصاه، فخر ميتا، فعلموا بموته. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: فشكرت الجن الأرضة، فهم يأتونها بالماء، والطين في جوف الخشب، وقالوا لها: لو كنت تأكلين الطعام والشراب؛ لأتيناك بهما. انتهى. خازن بتصرف. ومثله في الكشاف، والقرطبي، فذلك قوله تعالى:

{ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ} أي: ما دل الجن، أو ما دل آل سليمان على موته. {إِلاّ دَابَّةُ الْأَرْضِ} أي: الأرضة، وهي دويبة، يقال لها: سرفة، والأرض فعلها، فأضيفت إليه، يقال: أرضت

ص: 574

الخشبة أرضا: إذا أكلتها. {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ:} يقرأ بتسكين الهمزة تخفيفا، قال الشاعر في ترك الهمزة:[البسيط]

إذا دببت على المنساة من كبر

فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وقال آخر، فهمز، وفتح:[المتقارب]

ضربنا بمنسأة وجهه

فصار بذاك مهينا ذليلا

هذا؛ والمنسأة: العصا، من: نسأت البعير: إذا طردته؛ لأنه يطرد بها، فهو اسم آلة، كالمكنسة والمكسحة. {فَلَمّا خَرَّ:} سقط على الأرض ميتا لا حراك به. {تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ:} علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم، وجلى لهم، وظهر، وانكشف.

{أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ} أي: لو أنهم كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون؛ لعلموا موت سليمان حيثما وقع ما أقاموا بعد موته حولا في تسخيرهم بالأعمال الشاقة، وذلك: أن الله عز وجل أعلمه بقرب أجله، فأراد أن يعمي على الجن موته، فدعاهم، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس فيه باب، فقام يصلي متكئا على عصاه، فقبض روحه، وهو متكئ عليها، فبقي عليها حتى أكلتها الأرضة، فخر، ثم فتحوا عنه، وأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوما وليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): حرف وجود لوجود عند سيبويه، وبعضهم يقول: حرف وجوب لوجوب، وهي ظرف بمعنى:«حين» عند ابن السراج، والفارسي، وابن جني وجماعة، تتطلب جملتين مرتبطتين ببعضهما ارتباط فعل الشرط بجوابه، وصوب ابن هشام الأول، والمشهور الثاني. {قَضَيْنا:} فعل، وفاعل. {عَلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {الْمَوْتَ:} مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار:(لما) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لما) إليها على اعتبارها ظرفا. {فَلَمّا:} نافية. {دَلَّهُمْ:} فعل ماض، والهاء مفعول به.

{عَلى مَوْتِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{إِلاّ:} حرف حصر. {دَابَّةُ:} فاعل: {دَلَّهُمْ،} والجملة الفعلية جواب (لما)، لا محل لها، و {دَابَّةُ} مضاف، و {الْأَرْضِ} مضاف إليه. {تَأْكُلُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى:

{دَابَّةُ الْأَرْضِ،} تقديره: «هي» . {مِنْسَأَتَهُ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:

{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} في محل نصب حال من {دَابَّةُ الْأَرْضِ،} والرابط: الضمير فقط. هذا؛ وأجيز اعتبارها مستأنفة، لا محل لها، و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لما): مثل سابقتها. {خَرَّ:} فعل ماض، والفاعل يعود على (سليمان)، والجملة الفعلية يقال فيها ما قيل بسابقتها. {تَبَيَّنَتِ:} فعل ماض، والتاء

ص: 575

للتأنيث. {الْجِنُّ:} فاعله، والجملة الفعلية جواب:(لما)، لا محل لها. {أَنْ:} حرف مشبه بالفعل مخفف من الثقيلة، واسمه ضمير الشأن محذوف، التقدير: أنه. {لَوْ:} حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق.

{يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {الْغَيْبَ:} مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب خبر:(كان)، وجملة:{كانُوا..} .

إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَلَمّا:} نافية. {لَبِثُوا:}

ماض، وفاعله. {فِي الْعَذابِ:} متعلقان به. {الْمُهِينِ:} صفة: {الْعَذابِ،} وجملة: {ما لَبِثُوا..} . إلخ جواب {لَوْ،} لا محل لها، و {لَوْ} ومدخولها في محل رفع خبر {أَنْ،} و {أَنْ} واسمها المحذوف، وخبرها في تأويل مصدر في محل رفع بدلا من:{الْجِنُّ،} وقدر أبو البقاء مضافا محذوفا، وقال: لأن المعنى تبينات الإنس جهل الجن، وقال: ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي تبينات الجن جهلها، وزاد مكي قوله: وقيل: هي في موضع نصب على حذف اللام:

أي لأن، والمعتمد الأول. والله أعلم، وأجل، وأكرم. و (لما) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له أيضا.

{لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاُشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}

الشرح: {لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} أي: علامة دالة على قدرة الله تعالى على أن لهم خالقا خلقهم، ثم فسر الآية فقال تعالى:{جَنَّتانِ} أي: بستانان. {عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ} أي: عن يمين الوادي، وعن شماله، والمراد مجموعتان من البساتين كل واحدة منهما في تقاربها، وتضامها كأنها جنة واحدة، أو المراد: بستانا كل منهم عن يمين مسكنه، وعن شماله. {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ} أي: من ثمار الجنتين. وقيل: كانت المرأة تحمل مكتلها على رأسها، وتمر بالجنتين، فيمتلئ المكتل من أنواع الفواكه من غير أن تمس بيدها شيئا. وهذا الأمر للإباحة، وليس للوجوب. {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} أي: أرض مأرب، وهي سبأ بلدة طيبة فسيحة، ليست بسبخة، قيل: لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا حية، ولا عقرب، ولا قملة، ولا غيرها من الهوام، وكان الرجل يمر ببلدتهم، وفي ثيابه القمل، فيموت القمل من طيب الهواء، وقد فسر عبد الرحمن بن زيد-رحمه الله تعالى-الآية التي في مسكنهم بذلك، والجنتان بعض هذه النعم.

{وَرَبٌّ غَفُورٌ:} قال وهب: أي وربكم إن شكرتم على ما رزقكم غفور لمن شكره.

هذا؛ ويقرأ: «(مساكنهم)» بالجمع، وهي قراءة العامة؛ لأن لهم مساكن كثيرة، وليس بمسكن واحد، وقرأ حفص موحدا، إلا أنه فتح الكاف. وقرأه يحيى، والأعمش، والكسائي موحدا

ص: 576

كذلك، إلا أنهم كسروا الكاف. قال النحاس: و (مساكن) في هذا أبين؛ لأنه يجمع اللفظ، والمعنى، و (مسكن) بكسر الكاف خارج عن القياس، مثل مسجد، ولا يوجد مثله إلا سماعا.

أما (سبأ) فقد قرأه الجمهور بالصرف، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بفتح الهمزة، ومنع الصرف، فالأول على أنه اسم رجل، نسب إليه قوم، وعليه قول الشاعر:[البسيط]

الواردون وتيم في ذرا سبأ

قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس

المعنى: الواردون هم، وتيم في ذرا أرض سبأ مغلولين بأغلال من جلد الجواميس، بحيث يعض أعناقهم. ومن لم يصرفه اعتبره اسما للقبيلة، أو للمدينة، وأنشد للنابغة الجعدي:[المنسرح] من سبأ الحاضرين مأرب إذ

يبنون من دون سيله العرما

فهو يمدح رجلا، ويقول: هو من قبيلة سبأ الحاضرين مدينة مأرب؛ الذين بنوا السد دون السيل، فالعرم: هو السد، ومأرب: اسم المدينة. وقيل: اسم قصر. هذا؛ وسبأ: اسم رجل، وهو سبأ بن يشجب، بن يعرب، بن قحطان أخي عدنان. فعن فروة بن مسيك المرادي قال: لما أنزل الله في سبأ ما أنزل، قال رجل: يا رسول الله! وما سبأ؟ أرض، أو امرأة؟ قال:«ليس بأرض، ولا امرأة، ولكنه رجل ولد له عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم، وجذام، وغسان، وعاملة. وأما الذين تيامنوا فالأزد، والأشعريون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار» . فقال رجل: يا رسول الله! وما أنمار؟ قال: «الذين منهم خثعم، وبجيلة» . أخرجه الترمذي.

تنبيه: قال الليث: البلد: كل موضع من الأرض، عامر، أو غير عامر، خال، أو مسكون، والطائفة منه: بلدة، والجمع: بلاد، زاد غيره: والمفازة تسمى بلدة؛ لكونها مسكن الوحش، والجن، قال الأعشى:[البسيط]

وبلدة مثل ظهر التّرس موحشة

للجنّ بالليل في حافاتها زجل

وقال جران العود: [الرجز]

وبلدة ليس بها أنيس

إلاّ اليعافير وإلاّ العيس

الإعراب: {لَقَدْ:} اللام: لام الابتداء، أو هي واقعة في جواب قسم محذوف، التقدير:

والله. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لِسَبَإٍ:}

متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ،} تقدم على اسمها. {فِي مَسْكَنِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، وبعضهم يعلقهما بمحذوف حال من {آيَةٌ} ولا وجه له؛ لأن الحال تبين هيئة فاعل، أو مفعول. وقال الجمل: في محل نصب حال من (سبأ) ولا بأس به؛ لأنه علم كما

ص: 577

رأيت، والهاء في محل جر بالإضافة. {آيَةٌ:} اسم (كان) مؤخر، وجملة:{لَقَدْ كانَ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، أو جواب القسم المقدر. {جَنَّتانِ:} بدل من {آيَةٌ،} أو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: الآية جنتان، والجملة الاسمية مفسرة ل:{آيَةٌ،} أو هي مستأنفة، لا محل لها، ويقرأ بالنصب:(جنتين) على المدح بفعل محذوف. {عَنْ يَمِينٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {جَنَّتانِ} . {وَشِمالٍ:} معطوف على ما قبله.

{كُلُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف للتعميم، التقدير: كلوا ما تشاءون. {مِنْ رِزْقِ:} متعلقان بمحذوف حال من المفعول المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم فيه، و {رِزْقِ} مضاف، و {رَبِّكُمْ} مضاف إليه من إضافة المصدر لفاعله، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{كُلُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، أي: قيل لهم بلسان الحال، أو بلسان المقال من نبي لهم، أو من ملك، وجملة:{وَاشْكُرُوا لَهُ} معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول. {بَلْدَةٌ:} خبر لمبتدإ محذوف، التقدير:

البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة. (رب): خبر لمبتدإ محذوف أيضا، التقدير: وربكم رب {غَفُورٌ:} صفة (رب)، والجملتان الاسميتان مستأنفتان، لا محل لهما.

{فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}

الشرح: {فَأَعْرَضُوا} أي: عن الإيمان، وعن طاعة الله تعالى. قال وهب-رحمه الله تعالى-: أرسل الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فدعوهم إلى الله تعالى، وذكروهم نعمه عليهم، وأنذروهم عقابه، فكذبوهم، وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة، فقولوا لربكم: فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع. فذلك إعراضهم. انتهى. خازن. وقال القشيري: وكان لهم رئيس يلقب بالحمار، وكانوا في الفترة بين عيسى ومحمد صلّى الله عليهما وسلم. وقيل: كان له ولد، فمات، فرفع رأسه إلى السماء، فبزق، وكفر؛ ولهذا يقال: أكفر من حمار. انتهى. قرطبي.

{فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ:} العرم: الذي لا يطاق. قيل: كان ماء أحمر، أرسله الله تعالى عليهم من حيث شاء. وقيل: العرم: السكر الذي يحبس الماء. وقيل: العرم: الوادي. قال ابن عباس ووهب وغيرهما: كان لهم سد بنته لهم بلقيس، وذلك: أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم، فسد بالصخر والقار بين الجبلين، وجعلت لهم ثلاثة أبواب، بعضها فوق بعض، وبنت دونه بركة عظيمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجا على عدة أنهارهم، يفتحونها، إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا عنها؛ سدوها، فإذا جاءهم المطر، اجتمع إليهم

ص: 578

ماء أودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السد، فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه إلى البركة، فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الثالث الأسفل، فلا ينفذ الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك.

فبقوا بعدها مدة، فلما طغوا، وكفروا؛ سلط الله عليهم جرذا يسمى الخلد، فنقب السد من أسفله، فأغرق الله جنانهم، وأخرب أرضهم. وقال وهب: رأوا فيما يزعمون، ويجدون في علمهم: أن الذي يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التفريق، أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر، فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة، فدخلت في الفرجة، التي كانت عندها، فتوغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل، وهم لا يعلمون بذلك، فلما جاء السيل وجد خللا، فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم، فأغرقها، ودفن بيوتهم الرمل، فغرقوا، ومزقوا كل ممزق حتى صاروا مثلا عند العرب، يقولون: ذهبوا أيدي سبأ.

وتفرقوا أيادي سبأ. قال كثير عزة: [الطويل]

أيادي سبا-يا عزّ-ما كنت بعدكم

فلن يحل للعينين بعدك منظر

وهذا هو الشاهد رقم [521] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» . وخذ قول محمد اليمني الملقب بنجم الدين. [الطويل]

ولا تحتقر كيد الضعيف فربّما

تموت الأفاعي من سموم العقارب

وقد هدّ قدما عرش بلقيس هدهد

وخرّب حفر الفأر سدّ مأرب

{وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ:} المذكورتين. {جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ:} قيل: هو شجر الأراك، وثمره البرير. وقيل: كل نبت أخذ طعما من المرارة، حتى لا يمكن أكله فهو خمط. وقيل: هو ثمر شجر، يقال له: فسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك، ولا ينتفع به. {وَأَثْلٍ:} قيل:

هو الطرفاء. وقيل: هو شجر يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا، ومنه اتخذ منبر النّبي صلى الله عليه وسلم، وللأثل أصول غليظة، يتخذ منه الأبواب، وورقه كورق الطرفاء، الواحدة: أثلة، والجمع أثلات. وقيل: هو شجر السّمر.

{وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ:} هو شجر معروف ينتفع بورقه في الغسل، وثمره النبق، ولم يكن السدر الذي بدلوه مما ينتفع به؛ بل كان سدرا بريا لا يصلح لشيء. قيل: كان شجرهم من خير الشجر، فصيره الله من شر الشجر بسبب سوء أعمالهم.

هذا؛ وما أبدلهم الله به من الجنتين لا يسمى جنة، وبستانا، ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق عليهما لفظ الجنة للمشاكلة، وازدواج الكلام كقوله تعالى:{وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها} وقد مر معنا كثير من ذلك، وقد نبهت عليه في محاله. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

ص: 579

الإعراب: {فَأَعْرَضُوا:} الفاء: حرف استئناف. (أعرضوا): فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق، والمتعلق محذوف انظر تقديره في الشرح، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {فَأَرْسَلْنا:} الفاء: حرف عطف. (أرسلنا): فعل، وفاعل. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {سَيْلَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْعَرِمِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. (بدلناهم): ماض، وفاعله، ومفعوله الأول، والجملة الفعلية معطوفة أيضا على ما قبلها، لا محل لها. {بِجَنَّتَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما، وعلامة الجر الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة. {جَنَّتَيْنِ:}

مفعول به. {ذَواتَيْ:} صفة له، وعلامة النصب فيهما الياء

إلخ، وحذفت النون من الثاني للإضافة، و {ذَواتَيْ} مضاف، و {أُكُلٍ} مضاف إليه. {خَمْطٍ:} صفة له، وقرئ بالإضافة، وعدم التنوين. {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ:} معطوفان على {أُكُلٍ} . {مِنْ سِدْرٍ:} متعلقان بمحذوف صفة (شيء). {قَلِيلٍ:} صفة: {سِدْرٍ،} أو هو صفة ثانية ل: {سِدْرٍ،} وإن علقت الجار والمجرور ب: {قَلِيلٍ} فالمعنى يؤيده، ولا يأباه. وقرئ بنصب:«(أثل وشيء)» عطفا على جنتين.

{ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17)}

الشرح: {ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا} أي: فعلنا بهم ما ذكر من تبديل النعمة بنقمة بسبب كفرهم. {وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ:} المعنى لا نجازي مثل الجزاء المتقدم إلا من كفر النعمة، ولم يشكرها، وهذا جار مجرى المثل، وهو ما يسمى في علم البلاغة فن التذييل. هذا؛ وقرئ «(وهل يجازى)» بالبناء للمجهول، ورفع «(الكفور)» ، وقرئ:«(هل يجزي)» ، وقرئ:«(هل يجزي)» .

وانظر شرح الكفر في الآية رقم [34] من سورة (الروم).

تنبيه: في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه، وهو أن يقال: لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور، ولم يذكر أصحاب المعاصي؟ فتكلم العلماء في ذلك، فقال قوم: ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإهلاك والاستئصال إلا من كفر. وقال مجاهد: {نُجازِي} بمعنى نعاقب، وذلك: أن المؤمن يكفّر الله عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله، فالمؤمن يجزى، ولا يجازى؛ لأنه يثاب. وقال طاوس: هو المناقشة في الحساب، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب: خلاف هذا، فجعلها في أهل المعاصي غير الكفار، وقال:

المعنى على من كفر بالنعم، وعمل بالمعاصي والكبائر. قال النحاس: وأولى ما قيل في هذه الآية، وأجلّ ما روي فيها أن الحسن قال: مثلا بمثل. انتهى. قرطبي باختصار.

الإعراب: {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان مقدم. أي:

جزيناهم ذلك التبديل لا غيره. {جَزَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول أول. {بِما:} الباء: حرف

ص: 580

جر. (ما): مصدرية. {كَفَرُوا:} فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق، و (ما) والفعل في تأويل مصدر في محل جر بالباء، والجار والمجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَهَلْ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (هل): حرف استفهام بمعنى النفي. {نُجازِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {إِلاَّ:} حرف حصر. {الْكَفُورَ:} مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، ومثله قراءة «(نجزي إلا الكفور)» ، وأما قراءة «(يجازى)» أو «(يجزى)» فهو مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، و «(الكفور)» نائب فاعله، وعلى قراءة:«(يجزي إلا الكفور)» فالفاعل يعود إلى: (الله) و (الكفور) مفعول به، والجملة على جميع القراءات لا محل لها، سواء عطفتها، أو استأنفتها.

{وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ (18)}

الشرح: {وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها:} المراد بها قرى بلاد الشام وأرضها، والبركة حصلت فيها من كثرة الأنبياء؛ الذين بعثوا فيها، فانتشرت في العالمين شرائعهم، التي هي مبدأ الكمالات، والخيرات الدينية، والدنيوية. وقيل: مباركة لكثرة خصبها، وثمارها، وأنهارها، ولأنها معادن الأنبياء. والبركة: ثبوت الخير، ومنه: برك البعير: إذا لزم مكانه، فلم يبرح. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [35] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. هذا؛ وهناك أحاديث كثيرة في فضل بلاد الشام، والترغيب في سكناها موجودة في كتاب الترغيب والترهيب للحافظ المنذري-رحمه الله تعالى-.

{قُرىً ظاهِرَةً} أي: متواصلة تظهر الثانية من الأولى لقربها منها، قيل: كان متجرهم من اليمن إلى الشام، فكانوا يبيتون بقرية، ويقيلون بأخرى، وكانوا لا يحتاجون إلى حمل زاد وماء من اليمن إلى الشام. وقيل: كانت القرى أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام.

{وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ} أي: جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل، فكان سيرهم في الغدو، والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم وصلوا إلى قرية ذات مياه، وأشجار. {سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيّاماً آمِنِينَ} أي: وقلنا لهم:

سيروا

إلخ: أي لا تخافون جوعا ولا عطشا، ولا عدوا، فبطروا النعمة، وسئموا الراحة، وطغوا، ولم يشكروا على العافية، فقالوا: لو كانت حياتنا أبعد مما هي لكان أجدر أن نشتهيها، وطلبوا الكد، والتعب في الأسفار، وهو ما في الآية التالية.

ص: 581

هذا؛ وقال الجمل: مجموع ما في الآية والتي بعدها معطوف على مجموع ما قبله عطف قصة على قصة، فذكر أولا ما أنعم به عليهم من الجنتين، ثم تبديلهما بما مر، ثم ذكر هنا ما كان أنعم به عليهم أيضا قبل هلاكهم بالسيل من جعل بلادهم متواصلة، ثم عاقبهم بجعلها متفاصلة. انتهى. نقلا من الشهاب. هذا؛ وانظر شرح (بين) في الآية رقم [38] من سورة (الفرقان) وشرح القرية في الآية رقم [56] من سورة (النمل).

الإعراب: {وَجَعَلْنا:} الواو: حرف عطف. (جعلنا): فعل، وفاعله. {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بما قبله. وقيل: متعلق بمحذوف مفعول به ثان ل: (جعلنا) وهو ضعيف، والهاء في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَ:} معطوف على ما قبله، و (بين) مضاف، و {الْقُرَى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {الْقُرَى} . {بارَكْنا:} فعل، وفاعل. {فِيها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {الْقُرَى:} مفعول به ل: (جعلنا) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والثابتة دليل عليها، وليست عينها.

{ظاهِرَةً:} صفة: {الْقُرَى،} وجملة: (جعلنا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا، وجملة:{وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ} معطوفة أيضا على ما قبلها، لا محل لها. {سِيرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {لَيالِيَ:} ظرف زمان متعلق بما قبله. {وَأَيّاماً:} معطوف عليه. {آمِنِينَ:} حال منصوب

إلخ، وجملة:{سِيرُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، التقدير:

وقلنا لهم: سيروا

إلخ، وهذه معطوفة على ما قبلها.

{فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ (19)}

الشرح: {فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا:} أشروا النعمة، وملوا العافية، كبني إسرائيل، فطلبوا الكد، والتعب، كما طلب بنو إسرائيل الثوم، والبصل مكان المن، والسلوى، وقالوا: لو كان جنى جناننا أبعد كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز، ليركبوا الرواحل فيها، ويتزودوا الأزواد، فجعل الله لهم الإجابة. هذا؛ ويقرأ الفعل:{باعِدْ} بقراءات كثيرة. {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: بكفرهم، وبطرهم، وطغيانهم.

{فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ} أي: عبرة لمن بعدهم يتحدثون بأمرهم، وشأنهم تعجبا من أحوالهم، ويقولون: ذهبوا أيدي سبأ، انظر الآية رقم [16]. {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي: لمّا لحقهم ما

ص: 582

لحقهم من الوبال؛ تفرقوا، وتمزقوا. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة. انتهى. وكان الذي قدم المدينة عمرو بن عامر، وهو جد الأوس والخزرج، ولحق آل خزيمة بالعراق. {إِنَّ فِي ذلِكَ} أي: فيما ذكر من قصة سيل العرم.

{لَآياتٍ} أي: لعبر، ودلالات، وعظات. {لِكُلِّ صَبّارٍ:} عن المعاصي. فهو صيغة مبالغة.

{شَكُورٍ:} لله على نعمه، فالمؤمن صابر على البلاء، شاكر للنعماء؛ لأن الإيمان نصفان: نصفه صبر، ونصفه شكر، والمؤمن إذا ابتلي؛ صبر، وإذا أعطي؛ شكر. هذا؛ وانظر شرح (النفس) في الآية رقم [28] من سورة (الروم)، و {أَحادِيثَ} مفرده: حديث، انظر ما ذكرته في شرح (الباطل) في الآية رقم [52] من سورة (العنكبوت). فهو مثله.

الإعراب: {فَقالُوا:} الفاء: حرف عطف. (قالوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق.

{رَبَّنا:} منادى حذف منه أداة النداء، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {باعِدْ:} فعل دعاء، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» .

{بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بما قبله، و {بَيْنَ} مضاف، و {أَسْفارِنا} مضاف إليه. و (نا): في محل جر بالإضافة، والجملتان {رَبَّنا باعِدْ..}. إلخ في محل نصب مقول القول. وجملة:

{فَقالُوا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَظَلَمُوا:} الواو: حرف عطف.

(ظلموا): ماض وفاعله، والألف للتفريق. {أَنْفُسَهُمْ:} مفعول به، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} معطوفة على ما قبلها لا محل لها. {فَجَعَلْناهُمْ:} الفاء:

حرف عطف. (جعلناهم): ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {أَحادِيثَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {وَمَزَّقْناهُمْ:} ماض، وفاعله، ومفعوله. {كُلَّ:} نائب مفعول مطلق، و {كُلَّ} مضاف، و {مُمَزَّقٍ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها. هذا؛ وأجيز اعتبار {مُمَزَّقٍ} اسم مكان، فيكون:{كُلَّ} ظرف مكان متعلق بما قبله.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {فِي ذلِكَ:} متعلقان بمحذوف خبر: {إِنَّ} تقدم على اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {لَآياتٍ:} اللام: لام الابتداء. (آيات): اسم {إِنَّ} مؤخر منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {لِكُلِّ:}

متعلقان بمحذوف صفة (آيات)، و (كل) مضاف، و {صَبّارٍ} مضاف إليه. {شَكُورٍ:} صفة ثانية لموصوف محذوف، والصفة الأولى {صَبّارٍ} إذ التقدير: لكل شخص، أو لكل إنسان صبار شكور، وهو يشمل الذكر، والأنثى بإذن الله تعالى. والجملة الاسمية:{إِنَّ فِي ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وانظر مثل هذه الجملة في الآية رقم [31] من سورة (لقمان) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 583

{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)}

الشرح: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ:} فيه أربع قراءات بتخفيف الدال، ورفع {إِبْلِيسُ،} ونصب {ظَنَّهُ،} وقرئ كذلك مع تشديد الدال، وقرئ بتخفيف الدال، ونصب {إِبْلِيسُ،} ورفع «(ظنّه)» ، وقرئ بتخفيف الدال ورفع:{إِبْلِيسُ} و «(ظنّه)» ، على أن يكون:«(ظنّه)» بدلا من {إِبْلِيسُ} بدل الاشتمال. ثم قيل: إن هذا في أهل سبأ خاصة؛ أي: كفروا، وغيروا، وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين، إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل: هذا عام في بني آدم قاطبة؛ أي: صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى، وذلك ما نطق به اللعين حين أبى أن يسجد لآدم، حيث قال:{قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ..} . إلخ الآية رقم [16] من سورة (الأعراف) وما بعدها، وقال:{قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ..} . إلخ الآية رقم [39] من سورة (الحجر) وما بعدها. وقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} الآية رقم [82] من سورة (ص) والآية التي بعدها. وقال: {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً..} . إلخ الآية رقم [118] من سورة (النساء).

وقيل: إنه ظن ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكة: أنه يجعل فيها من يفسد، ويسفك الدماء، أو سمع من الملائكة ذلك، حيث قالوا ذلك حينما أخبرهم ربهم بقوله:{إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . {إِلاّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وهؤلاء هم المؤمنون الذين لم يتبعوه، أو المعنى: إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان وهم المخلصون، وهذا يعني: أن المراد بعض المؤمنين؛ لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب، وينقاد لإبليس في بعض المعاصي.

هذا؛ و {إِبْلِيسُ:} اسم مأخوذ من: أبلس، يبلس؛ إبلاسا، بمعنى: سكت غما، وأيس من رحمة الله، وخاب، وخسر. وهو من الملائكة؛ كذا قال علي، وابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين-. ولأن الأصل في الاستثناء أن يكون من جنس المستثنى منه، ولهذا قال الله تعالى:{قالَ ما مَنَعَكَ أَلاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ،} وقال تعالى: {كانَ مِنَ الْجِنِّ،} وقال:

{فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أي صار من المغرقين. وقيل: الاستثناء منقطع؛ لأنه لم يكن من الملائكة؛ بل كان من الجن بالنص، وهو قول الحسن وقتادة، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأنه أبى وعصى، واستكبر، والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ولا يستكبرون عن عبادته، ولأنه قال الله تعالى:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ولا نسل للملائكة. وعن الجاحظ: إن الجن، والملائكة جنس واحد، فمن طهر منهم؛ فهو ملك، ومن خبث منهم؛ فهو شيطان، ومن كان بين بين؛ فهو جني. انتهى. وقول الجاحظ مردود بما قاله الحسن، وقتادة، رضي الله عنهما.

ص: 584

هذا؛ وقال ابن كثير وغيره: لما ذكر الله قصة سبأ، وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى، والشيطان؛ أخبر عنهم، وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس، والهوى، وخالف الرشاد، والهدى، فقال:{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} .

الإعراب: {وَلَقَدْ صَدَّقَ..} . إلخ: انظر الآية رقم [10] فعلى قراءة التشديد ف: {إِبْلِيسُ} فاعل {صَدَّقَ،} و {ظَنَّهُ} مفعول به، وعلى قراءة التخفيف ف:{ظَنَّهُ} منصوب بنزع الخافض، التقدير: صدق إبليس في ظنه، وعلى قراءتهما بالرفع ف {إِبْلِيسُ} فاعل، و:(ظنّه) بدل اشتمال منه. {فَاتَّبَعُوهُ:} ماض، وفاعله، ومفعوله، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {إِلاّ:} أداة استثناء. {فَرِيقاً:} مستثنى ب: {إِلاّ} . {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {فَرِيقاً} .

{وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)}

الشرح: {وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ} أي: على الذين اتبعوه. {مِنْ سُلْطانٍ} أي: من قوة، وتسلط، وحجة، وبرهان، وإنما كان له الوسوسة، والتزيين. قال الحسن-رحمه الله تعالى-:

إنه لم يسلّ عليهم سيفا، ولا ضربهم بسوط، وإنما وعدهم، ومنّاهم، فاغتروا. انتهى. وهو صريح قول اللعين لأتباعه يوم القيامة ما أخبرنا به الله تعالى:{وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} الآية رقم [22] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، وانظر شرح {سُلْطانٍ} في الآية رقم [35] من سورة (الروم).

{إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ} أي: لنرى، ونميز المؤمن من الكافر، والمراد: علم الوقوع، والظهور؛ لأن كل شيء معلوم عند الله تعالى، فهو عالم الغيب، والشهادة. قال تعالى في سورة (البقرة) رقم [143]:{وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} .

{مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ} أي: يشك بيوم القيامة، وما فيه من الحساب، والجزاء، والجنة، والنار.

{وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ:} رقيب، وحافظ لأعمال العباد صغيرها، وكبيرها، سرها، وعلانيتها.

{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . وقيل: المعنى: ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس، وبحفظه، وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {كانَ} تقدم على اسمها.

{عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال

ص: 585

من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {مِنْ:} حرف جر صلة. {سُلْطانٍ:} اسم كان مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. هذا؛ وأجيز اعتبار {كانَ} زائدة، فتكون الجملة اسمية، والجملة سواء أكانت فعلية، أو اسمية معطوفة على جواب القسم، أو مستأنفة، ولا محل لها على الاعتبارين. {إِلاّ:}

حرف حصر. {لِنَعْلَمَ:} مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«نحن» ، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف، يدل عليه الكلام السابق، التقدير: إنما سلطناه عليهم؛ ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة، والحساب، والجزاء فيحسن عبادة ربه في الدنيا ممن هو منها في شك. أو الجار والمجرور متعلقان بمحذوف في محل نصب على الاستثناء؛ إذ المعنى: وما كان له عليهم من سلطان إلا امتحانا للناس، وابتلاء؛ لنعلم. {مِنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به. {يُؤْمِنُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر يعود إلى:{مِنْ،} وهو العائد، أو الرابط، والجملة الفعلية صلة:{مِنْ،} أو صفتها. {بِالْآخِرَةِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مِمَّنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: (نعلم).

{هُوَ:} مبتدأ. {مِنْها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: {شَكٍّ} كان صفة له، فلما قدم عليه؛ صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا تقدم عليها؛ صار حالا» . {فِي شَكٍّ:} متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في:{مِنْها} أي: من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، والجملة الاسمية:{هُوَ..} . إلخ صلة {مِنْ،} لا محل لها، والعائد: الضمير.

هذا؛ وأجاز أبو البقاء اعتبار {مِنْ} اسم استفهام، وجملة:{يُؤْمِنُ..} . إلخ في محل رفع خبره. وعليه فالجملة الاسمية في محل نصب مفعول به للفعل (نعلم) الذي علق عن العمل لفظا بسبب الاستفهام، وهو غير مسلم له. {وَرَبُّكَ:} الواو: حرف استئناف. (ربك): مبتدأ، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {عَلى كُلِّ:}

متعلقان بحفيظ بعدهما. و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {حَفِيظٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{قُلِ اُدْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)}

الشرح: {قُلِ} أي: قل يا محمد للمشركين. {اُدْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: ادعوا الذين ادعيتم: أنهم آلهة ليكشفوا عنكم ضرا، أو ليجلبوا لكم نفعا؛ لعلهم يستجيبون لكم؛ إن

ص: 586

صحت دعواكم: أنهم آلهة من دون الله. {لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ:} من خير، أو شر، أو نفع، أو ضر، وانظر الآية رقم [3]. {فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} أي: في أمر ما

وذكرهما للعموم العرفي؛ لأنهما يشملان ما في الدنيا، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية، كالملائكة، والكواكب. وبعضها أرضية، كالأصنام. أو لأن الأسباب القريبة للخير، والشر، سماوية، وأرضية. انتهى. بيضاوي. {وَما لَهُمْ} أي: للأصنام، وغيرها من المعبودات الباطلة. {فِيهِما:}

في السموات، والأرض. {مِنْ شِرْكٍ} أي: من شركة لهم مع الله، لا خلقا، ولا ملكا، ولا تدبيرا؛ بل هو المنفرد بالإيجاد، والتدبير، والإحياء، والإماتة، فهو الذي يستحق العبادة، وهو الجدير بالتقديس، والتعظيم. {وَما لَهُ} أي: لله. {مِنْهُمْ} أي: من المعبودات الباطلة.

{مِنْ ظَهِيرٍ} أي: معين يعينه على تدبير أمر السموات، والأرض، وتدبير شئون الخلق.

هذا؛ وإنما جمع الأصنام، والمعبودات الباطلة جمع المذكر السالم؛ لأن الكفار كانوا يخاطبونها مخاطبة العقلاء، فنزلت منزلتهم في الكلام. وهذا كثير في القرآن الكريم، وقد ذكرته في محاله كثيرا. والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل؛ إذا عاملوه معاملته، وأنزلوه منزلته، وإن كان خارجا عن الأصل.

الإعراب: {قُلِ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه، تقديره:«أنت» . {اُدْعُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، لاتصاله بواو الجماعة، التي هي فاعله، والألف للتفريق. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {زَعَمْتُمْ:} فعل ماض مبني على السكون؛ والتاء فاعله، ومفعولاه محذوفان: حذف الأول لطول الموصول بصلته، والثاني لقيام صفته مقامه، التقدير: زعمتموهم آلهة، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {مِنْ دُونِ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: «آلهة» الذي رأيت تقديره، و {دُونِ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، وجملة:{اُدْعُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{لا:} نافية. {يَمْلِكُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله. {مِثْقالَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {ذَرَّةٍ} مضاف إليه. {فِي السَّماواتِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة {ذَرَّةٍ،} أو هما متعلقان بالفعل قبلهما. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {فِي الْأَرْضِ:} معطوفان على ما قبلهما، وجملة:{لا يَمْلِكُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وأجيز اعتبارها حالا، وهو ضعيف. {وَما:} الواو: حرف عطف.

(ما): نافية. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {فِيهِما:} جار ومجرور متعلقان بالخبر المحذوف، أو بمحذوف خبر ثان، أو بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف، ويجيز بعضهم تعليقهما بمحذوف حال من:{شِرْكٍ} . {مِنْ:} حرف جر

ص: 587

صلة. {شِرْكٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والجملة الاسمية:{وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} معطوفة عليها، لا محل لها أيضا، وإعرابها مثلها بلا فارق.

{وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)}

الشرح: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي: لعظمته، وجلاله، وكبريائه، لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء؛ إلا بعد إذنه له في الشفاعة، كما قال عز وجل:

{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ،} وقال جل وعلا: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى،} وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} .

ولهذا ثبت في الصحيحين من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم-وهو سيد ولد آدم، وأكبر شفيع عند الله تعالى-أنه حين يقوم المقام المحمود؛ ليشفع في الخلق كلهم، قال: «فأسجد لله تعالى، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن، ثمّ يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفّع

». الحديث بتمامه موجود في كتاب:

«الترغيب والترهيب» .

{حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ} وهذا أيضا مقام رفيع في العظمة، وهو: أنه تعالى إذا تكلم بالوحي، فسمع أهل السموات كلامه؛ أرعدوا؛ حتى يلحقهم مثل الغشي، قال ابن مسعود-رضي الله عنه {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} أي: زال الفزع عنها. وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة-رضي الله عنهم-في قوله عز وجل:{حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ..} . إلخ يقول: خلّي عن قلوبهم الفزع، فإذا كان كذلك؛ سأل بعضهم بعضا:{ماذا قالَ رَبُّكُمْ} فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم؛ حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى:{قالُوا الْحَقَّ} أي: أخبروا بما قال من غير زيادة، ولا نقصان {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} .

وقال آخرون: بل معنى قوله تعالى: {حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني: المشركين عند الاحتضار، ويوم القيامة إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا، قالوا: ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم: الحق، وأخبروا بما كانوا عنه لاهين في الدنيا. قال مجاهد:{حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ:} كشف عنها الغطاء يوم القيامة. وقال الحسن: {حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني: ما

ص: 588

فيها من الشك، والتكذيب. وقال ابن أسلم:{حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} يعني: ما فيها من الشك. قال: فزع الشيطان عن قلوبهم، وفارقهم، وأمانيهم، وما كان يضلهم. هذا؛ و (فزع عنه) بالبناء للمعلوم، وبالتشديد: أذهب عنه الفزع، و (الفزع) بفتحتين: الذعر، والمخافة، والإغاثة.

وفي كتاب اللغة: وفزع عن قلبه: كشف عنه الفزع، فالتضعيف هنا للسلب، كما قال: قردت البعير؛ أي: أزلت عنه قراده.

{قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} قال: وهذا في بني آدم-هذا عند الموت- أقروا حين لا ينفعهم الإقرار. وقد اختار ابن جرير القول الأول: أن الضمير عائد على الملائكة، وهذا هو الحق، الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه، والآثار.

قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في صحيحه: عن سفيان، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء؛ ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا} للذي قال: {الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع، هكذا بعضه فوق بعض-ووصف سفيان بكفّه، فحرفها، ونشر بين أصابعه-فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر، أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا، وكذا: كذا، وكذا، فيصدّق بتلك الكلمة التي سمع من السماء» . أخرجه البخاريّ، ورواه أبو داود، والترمذي. وعن النواس بن سمعان-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يوحي بأمره؛ تكلّم بالوحي، فإذا تكلّم؛ أخذت السموات منه رجفة، -أو قال: رعدة-شديدة من خوف الله تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السموات؛ صعقوا، وخرّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل عليه الصلاة والسلام، فيكلّمه من وحيه بما أراد، فيمضي به جبريل-عليه الصلاة، والسّلام-على الملائكة، كلما مرّ بسماء يسأله ملائكتها: ماذا قال ربّنا يا جبريل! فيقول: قال الحقّ، وهو العلي الكبير. فيقولون كلّهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء، والأرض» . أخرجه ابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن خزيمة عن النواس بن سمعان مرفوعا. انتهى. مختصر ابن كثير. ومثله في القرطبي، وزاد القرطبي ما يلي:

وذكر البيهقي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى: {حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} قال: كان لكل قبيلة من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي، وكان إذا نزل الوحي؛ سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصّفوان، فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا، فإذا فزع عن قلوبهم؛ قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير، ثم يقول: يكون العام كذا، ويكون كذا، فتسمعه الجنّ، فيخبرون به الكهنة، والكهنة الناس، يقولون: يكون العام كذا

ص: 589

وكذا، فيجدونه كذلك، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا بالشهب، فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن بذلك: هلك من في السماء، فجعل صاحب الإبل ينحر كلّ يوم بعيرا، وصاحب البقر ينحر كلّ يوم بقرة، وصاحب الغنم ينحر كلّ يوم شاة، حتى أسرعوا في أموالهم، فقالت ثقيف، وكانت أعقل العرب: أيها الناس! أمسكوا على أموالكم، فإنه لم يمت من في السماء، وإن هذا ليس بانتثار، ألستم ترون معالمكم من النجوم كما هي، والشمس، والقمر، والليل، والنهار؟ قال فقال إبليس: لقد حدث اليوم في الأرض حدث، فائتوني من تربة كل أرض، فأتوه بها، فجعل يشمها، فلما شم تربة مكة؛ قال: من هاهنا جاء الحدث، فنصتوا، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث. انتهى.

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {تَنْفَعُ:} مضارع. {الشَّفاعَةُ:}

فاعله، ومفعوله محذوف لفهمه من المقام. {عِنْدَهُ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة: {(لا تَنْفَعُ

)} إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِلاّ:} حرف حصر. {لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {تَنْفَعُ،} أو ب: {الشَّفاعَةُ} قاله أبو البقاء. قال السمين: وفيه نظر؛ لأنه يلزم عليه أحد أمرين: إمّا زيادة اللام في المفعول في غير موضعها، وإما حذف مفعول {تَنْفَعُ،} وكلاهما خلاف الأصل. والوجه الثالث الذي اعتمده: أنه استثناء مفرغ من مفعول الشفاعة المقدر؛ أي: لا تنفع الشفاعة لأحد إلا لمن أذن له. انتهى. جمل. {أَذِنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، ويقرأ الفعل بالبناء للمجهول، فيكون الجار والمجرور {لَهُ} في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية صلة (من) أو صفة لها، إن اعتبرتها نكرة موصوفة. {حَتّى:} حرف ابتداء. {إِذا:} ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه، صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب.

{فُزِّعَ:} فعل ماض مبني للمجهول. {عَنْ قُلُوبِهِمْ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} في محل جر بإضافة {إِذا} إليها.

{قالُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ماذا:} (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. و (ذا) صلة، لا محل لها، ودليل ذلك نصب {الْحَقَّ} ب:{قالُوا؛} لأنه جواب للسؤال، وكذلك يجب أن يكون السؤال. هذا؛ وعلى قراءة:«(الحقّ)» بالرفع. ف: (ما): اسم استفهام مبتدأ؛ و (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول ب:{قالُوا،} وجملة: {قالَ رَبُّكُمْ} صلة:

(ذا)، لا محل لها، والعائد محذوف، وتقدير الكلام: قالوا: ما الذي قاله ربكم؟ وجملة:

{قالُوا..} . إلخ جواب: {إِذا} لا محل لها من الإعراب. {قالُوا:} ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {الْحَقَّ:} مفعول به لفعل محذوف، التقدير: قال الحق. وهذه الجملة في محل نصب

ص: 590

مقول القول، وعلى قراءته بالرفع فهو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: قالوا: مقوله الحق.

والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. و {إِذا} ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

هذا؛ ويعتبر الأخفش {حَتّى} في مثل هذه الآية جارة ل: {إِذا} . ورده ابن هشام في المغني. وفحوى كلام الزمخشري يؤيد الأخفش هنا، فإنه قال: فإن قلت: بأي شيء اتصل قوله: {حَتّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ؟} وأي شيء وقعت {حَتّى} غاية له؟ قلت: بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظارا، وتوقفا، وتمهلا، وفزعا من الراجين للشفاعة، والشفعاء: هل يؤذن لهم، أو لا يؤذن لهم؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان، وطول من التربص. انتهى.

جمل. {وَهُوَ:} الواو: حرف استئناف. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَلِيُّ:} خبر أول. {الْكَبِيرُ:} خبر ثان، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)}

الشرح: {قُلْ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى أن يسأل المشركين الذين يأكلون رزق الله، ويعبدون غيره؛ مع أنهم لا يملكون مثقال ذرة مما يقدر عليه الرب القادر القاهر؛ حيث قال:{مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ} أي: من المطر، والشمس، والقمر، والنجوم، وما فيها من المنافع. و (الأرض) أي: الخارج من الأرض، كالماء والنبات. وهذا تقرير قوله تعالى:

{لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} .

{قُلِ اللهُ} أي: فإن قالوا: لا ندري، أو إن لم يقولوا: إن رازقنا هو الله، فقل أنت: إن رازقكم هو الله؛ إذا لا جواب سواه. وفيه إشعار بأنهم إن سكتوا، أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام؛ فهم مقرّون به في قلوبهم.

{وَإِنّا أَوْ إِيّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} معناه: ما نحن، وأنتم على أمر واحد؛ بل أحد الفريقين مهتد؛ والآخر ضال، وهذا ليس على طريق الشك؛ بل على جهة الإلزام والإنصاف في الحجاج، كما يقول القائل: أحدنا كاذب، وهو يعلم: أنه صادق، وصاحبه كاذب، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الهدى بلا شك، ومن خالفه في ضلال مبين، فكذبهم بأحسن من التصريح بالتكذيب، فالمستعار هنا حرف. ويقال في إجرائها: شبّه مطلق ارتباط بين مهدي، وهدى بمطلق ارتباط بين مستعل، ومستعلى عليه، بجامع التمكن في كلّ، فسرى التشبيه من الكليين للجزئيات، ثم استعيرت (على) من جزئي من جزئيات المشبه به لجزئي من جزئيات المشبه على طريق الاستعارة التصريحية التبعية. ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (ن):{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . وخذ قول الشاعر أيضا: [السريع]

ص: 591

لسنا وإن أحسابنا كرمت

يوما على الأحساب نتّكل

و «أو» عند البصريين على بابها، وليست للشك؛ لكنها على ما تستعمله العرب في مثل هذا إذا لم يرد المخبر أن يبين، وهو عالم بالمعنى. وقال أبو عبيدة، والفراء: هي بمعنى الواو، وتقديره: وإنا على هدى، وأنتم في ضلال مبين. انظر شواهد:«أو» في كتابنا فتح القريب المجيب تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

تنبيه: خولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى، والضلال؛ لأن صاحب الهدى متمكن منه، كأنه مستعل على فرس جواد، يركضه حيث شاء، والضال متخبط، كأنه ينغمس في ظلام لا يعرف أين توجه، ولا يهتدي إلى طريق السلامة. وفي الكلام استعارة تصريحية واضحة غير خافية. ومن هذه المشكاة قول حسان-رضي الله عنه-يخاطب أبا سفيان قبل إسلامه:[الوافر] أتهجوه ولست له بكفء

فشرّكما لخيركما الفداء

ولذلك لما سمعه الناس؛ قالوا: هذا أنصف بيت قالته العرب.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {مَنْ:} اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَرْزُقُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} تقديره:

«هو» ، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {مِنَ السَّماواتِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {قُلْ:}

فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» . {اللهُ:} مبتدأ، وخبره محذوف، التقدير: الله يرزقكم. أو التقدير: قل: الله الخالق الرازق للعباد. والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة (قل الله يرزقكم). مستأنفة، لا محل لها، وهي في المعنى والتقدير في محل جزم جواب الشرط، انظر الشرح. {وَإِنّا:} الواو: واو الحال. (إنا): حرف مشبه بالفعل، و (نا):

اسمها، حذفت نونها، وبقيت الألف دليلا عليها. {أَوْ:} حرف عطف. {إِيّاكُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب معطوف على اسم (إنّ). {لَعَلى:} اللام: هي المزحلقة. (على هدى): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر: {إِيّاكُمْ،} وخبر الأول محذوف لدلالة الثاني عليه، وهذا اختيار المبرد، وسيبويه يرى: أن {لَعَلى هُدىً} خبر للأول، وخبر الثاني محذوف، لدلالة الأول عليه. {أَوْ:} حرف عطف. {فِي ضَلالٍ:} جار ومجرور معطوفان على ما قبلهما. {مُبِينٍ:} صفة {ضَلالٍ} .

قال أبو البقاء-رحمه الله تعالى-: والكلام على المعنى غير الإعراب؛ لأن المعنى: إنا على هدى من غير شك، وأنتم على ضلال من غير شك، ولكن خلطه في اللفظ على عادتهم في نظائره، كقولهم: أخزى الله الكاذب مني، ومنك!

ص: 592

تنبيه: من حذف الأول لدلالة الثاني عليه قول الشاعر، وهو الشاهد رقم [857] من كتابنا:

«فتح القريب المجيب» : [الطويل] خليليّ، هل طبّ فإنّي وأنتما

وإن لم تبوحا بالهوى-دنفان

ومن حذف الثاني لدلالة الأول عليه قول ضابئ بن الحارث البرجمي، وهو الشاهد رقم [858] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [الطويل] فمن يك أمسى بالمدينة رحله

فإنّي وقيّار بها لغريب

{قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمّا تَعْمَلُونَ (25)}

الشرح: {قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمّا أَجْرَمْنا} أي: اكتسبنا من الذنوب، والآثام، ولا تؤاخذون به. (لا تسئل عما تعملون) أي: ولا نؤاخذ، ولا نسأل عن عملكم. ومعنى الآية الكريمة:

التبري من المشركين، وقطع وشائج القربى، والصلة معهم. فصار المعنى: لستم منا، ولا نحن منكم؛ بل ندعوكم إلى الله تعالى، وإلى توحيده، وإفراد العبادة له، فإن أجبتم؛ فأنتم منا، ونحن منكم، وإن كذبتم؛ فنحن براء منكم، وأنتم براء منا، كما قال تعالى في الآية رقم [41] من سورة (يونس) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ} ففي الآيتين مهادنة، ومتاركة، وهما منسوختان بآية السيف. والخطاب بقوله:{قُلْ} للنبي صلى الله عليه وسلم.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {لا:} نافية. {تُسْئَلُونَ:}

فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله. {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (عن)، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: لا تسألون عن الذي، أو: عن شيء أجرمناه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير: لا تسألون عن إجرامنا، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وما بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.

{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتّاحُ الْعَلِيمُ (26)}

الشرح: {قُلْ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. {يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا} أي: يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد. {ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ} أي: يحكم

ص: 593

بيننا بالعدل، فيجزي كل عامل بعمله، إن خيرا؛ فخير، وإن شرّا؛ فشرّ، وستعلمون يومئذ لمن العزة، والنصرة والسعادة الأبدية. قال تعالى:{وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} الآية رقم [14] من سورة (الروم) انظر شرحها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَهُوَ الْفَتّاحُ:} الحاكم العادل، الفيصل في القضايا المنغلقة بأن يدخل أهل الحق الجنة، وأهل الباطل، والظلم، والطغيان النار. {الْعَلِيمُ:} بحقائق الأمور، وخفاياها، وهذه الآية كسابقتها منسوخة بآية السيف، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» ، ومتعلقه محذوف. انظر الشرح. {يَجْمَعُ:} فعل مضارع. {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {رَبُّنا:} فاعله، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {ثُمَّ:} حرف عطف.

{يَفْتَحُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:{رَبُّنا} . {بَيْنَنا:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، و (نا): في محل جر بالإضافة. {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. {وَهُوَ:}

الواو: واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْفَتّاحُ:} خبر أول. {الْعَلِيمُ:} خبر ثان. والجملة الاسمية في محل نصب حال من فاعل: {يَفْتَحُ} المستتر، والرابط: الواو، والضمير، والجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

تنبيه: يقال: أجمع الأمر: إذا عزم عليه، والأمر مجمع. ويقال أيضا: اجمع أمرك، ولا تدعه منتشرا. هذا؛ وقال تعالى حكاية عن قول فرعون، وأشياعه:{فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} . ولا يقال: أجمع أعوانه، وشركاءه، وإنما يقال: جمع أعوانه، وأصدقاءه، وهذا مبني على قاعدة:«يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان، هذا هو الأكثر والمستعمل» . وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر، قال تعالى:{فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى} . انظرها برقم [60] من سورة (طه) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك، حيث تجدها مؤولة. وقال تعالى في سورة (يونس) حكاية عن قول نوح على نبينا، وحبيبنا، وعليه، وعلى يونس، وعلى جميع الأنبياء، والمرسلين ألف صلاة، وألف سلام:{فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ} وهي مؤولة، فإن التقدير:

فأجمعوا أمركم، وادعوا شركاءكم.

تنبيه: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: ما كنت أدري ما معنى قوله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا} حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول: تعال أفاتحك. تعني: أقاضيك، وهذا قول قتادة، والسدي وابن جريج، وجمهور المفسرين: أن الفاتح هو القاضي، والحاكم، سمي بذلك؛ لأنه يفتح أغلاق الإشكال بين الخصوم، ويفصلها.

ص: 594

{قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)}

الشرح: {قُلْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. {أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ} أي:

عرفوني، واشرحوا لي هذه الأصنام، والأوثان؛ التي جعلتموها آلهة مع الله: هل شاركت في خلق شيء في هذا الكون، فبينوا ما هو؟ وبأي سبب ألحقتموهم بالله في استحقاق العبادة؟ وهو استفسار عن شبههم بعد إلزام الحجة عليهم، زيادة في تبكيتهم. {كَلاّ:} ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة. والمعنى: ليس له نظير، ولا شريك، ولا نديد، فارتدعوا عن ما تدعون، وارجعوا عن غيكم، وضلالكم. {بَلْ هُوَ اللهُ} أي: المنفرد بالإيجاد، والإعدام، والإحياء، والإماتة

إلخ.

{الْعَزِيزُ:} القوي، القادر، القاهر، الغالب على أمره. {الْحَكِيمُ:} في صنعه، وتدبير شئون خلقه، فلا شريك له في خلقه، تبارك، وتعالى عما يقولون علوا كبيرا. هذا؛ ومعنى قوله:

{أَرُونِيَ} وكان يراهم، أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله، وأن يطلعهم على حالة الإشراك به. هذا؛ وأطلق على الأصنام اسم الشركاء لأحد أمرين: أحدهما: أن المشركين يشركونها مع الله في العبادة، والتعظيم، والتقديس. وثانيهما: أنهم كانوا يشركونها في الأموال، والأنعام، والزروع. انظر الآية رقم [138] من سورة (الأنعام) وما بعدها.

أما القول في {كَلاّ،} فإني أنقله لك بحروفه من مغني اللبيب لابن هشام، طيب الله ثراه؛ لتكون على بصيرة من أمرك. قال-رحمه الله تعالى-: وهي عند سيبويه، والخليل، والزجاج، وأكثر البصريين حرف معناه الردع والزجر، لا معنى لها عندهم إلا ذلك، حتى إنهم يجيزون أبدا الوقف عليها، والابتداء بما بعدها، وحتى قال جماعة منهم: متى سمعت: {كَلاّ} في سورة؛ فاحكم بأنها مكية؛ لأن فيها معنى التهديد، والوعيد، وأكثر ما نزل ذلك بمكة؛ لأن أكثر العتو كان بها. وفيه نظر؛ لأن لزوم المكية إنما يكون عن اختصاص العتوّ بها، لا عن غلبته؛ ثم لا تمتنع الإشارة إلى عتو سابق، ثم لا يظهر معنى الزجر في {كَلاّ} المسبوقة بنحو قوله تعالى:

{فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ،} وقوله جل شأنه: {يَوْمَ يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ،} وقوله جل ذكره:

{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} .

وقولهم: المعنى: انته عن ترك الإيمان بالتصوير في أي صورة ما شاء الله، وبالبعث، وعن العجلة بالقرآن تعسّف؛ إذ لم يتقدم في الأوليين حكاية نفي ذلك عن أحد، ولطول الفصل في الثالثة بين {كَلاّ،} وذكر العجلة، وأيضا فإن أول ما نزل خمس آيات من سورة (العلق)، ثم نزل قوله تعالى:{كَلاّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى،} فجاءت في افتتاح الكلام، والوارد منها في التنزيل ثلاثة وثلاثون موضعا، كلها في النصف الأخير، «وذلك في خمس عشرة سورة منه، وكلها مكية» .

ص: 595

ويرى الكسائي، وأبو حاتم، ومن وافقهما: أن معنى الردع، والزجر ليس مستمرا فيها، فزادوا فيها معنى ثانيا، يصح أن يوقف دونها، ويبتدأ بها، ثم اختلفوا في تعيين ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها للكسائي ومتابعيه، قالوا: تكون بمعنى: حقّا. والثاني لأبي حاتم، ومتابعيه، قالوا: تكون بمعنى: «ألا» الاستفتاحية. والثالث للنضر بن شميل، والفراء ومن وافقهما، قالوا:

تكون حرف جواب بمنزلة: إي، ونعم، وحملوا عليه قوله تعالى:{كَلاّ وَالْقَمَرِ} فقالوا: معناه:

إي والقمر.

وقول أبي حاتم عندي أولى من قولهما؛ لأنه أكثر اطرادا، فإن قول النضر لا يتأتى في آيتي:(المؤمنون) و (الشعراء) على ما سيأتي، وقول الكسائي لا يتأتّى في نحو قوله تعالى:{كَلاّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ،} وقوله: {كَلاّ إِنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفِي سِجِّينٍ،} وقوله جل شأنه: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ،} لأن «إنّ» تكسر بعد ألا الاستفتاحية، ولا تكسر بعد: حقّا، ولا بعد ما كان بمعناها، ولأن تفسير حرف بحرف أولى من تفسير حرف باسم. وأما قول مكي: إن {كَلاّ} على رأي الكسائي اسم؛ إذا كانت بمعنى: حقّا؛ فبعيد؛ لأن اشتراك اللفظ بين الاسمية والحرفية قليل، ومخالف للأصل، ومحوج لتكلف دعوى علة لبنائها، وإلاّ فلم لا نوّنت؟.

وإذا صلح الموضع للردع، ولغيره جاز الوقف عليها، والابتداء بها على اختلاف التقديرين.

والأرجح حملها على الردع؛ لأنه الغالب فيها، وذلك نحو قوله تعالى:{أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ..} . إلخ، وقوله جل شأنه:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ..} . إلخ.

وقد تتعين للردع، أو الاستفتاح، نحو قوله جل شأنه:{رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ} إلخ؛ لأنها لو كانت بمعنى: حقا؛ لما كسرت همزة (إنّ)، ولو كانت بمعنى: نعم لكانت للوعد بالرجوع؛ لأنها بعد الطلب، كما يقال: أكرم فلانا، فتقول: نعم، ونحو قوله جل ذكره:{قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} وذلك لكسر (إنّ) ولأن نعم بعد الخبر للتصديق، وقد يمتنع كونها للزجر، نحو قوله تعالى:{وَما هِيَ إِلاّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاّ وَالْقَمَرِ} إذ ليس قبلها ما يصح رده. وقول الطبري، وجماعة: إنه لما نزل في عدد خزنة جهنم قوله تعالى: {عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ} قال بعضهم: اكفوني اثنين، وأنا أكفيكم سبعة عشر، فنزل:{كَلاّ} زاجرا له تعسف؛ لأن الآية لم تتضمن ذلك انتهى.

أقول: ويتلخص من هذا: أن الأكثر في {كَلاّ} أن تكون حرف ردع، وزجر، وذلك إذا سبقها كلام يستدعي ذلك، ولا ردع في سورة (الانفطار)، ولا في سورة (العلق)، ولا في سورة (المطففين) وما جرى مجراهن، وإنما هي للتنبيه، والاستفتاح، وكم هو واضح! وتكون حرف جواب بمعنى: إي، كما في قوله تعالى:{كَلاّ وَالْقَمَرِ} ولا تكون بمعنى: حقّا، كما بينه ابن

ص: 596

هشام لعدم فتح همزة (إنّ) بعدها. ونقل الجمل عن السمين للنحويين فيها ستة مذاهب، والمعتمد ما لخصته لك، والوارد منها في القرآن الكريم ثلاثة وثلاثون موضعا، كلها في النصف الأخير، قال الديربي في تفسيره المنظوم:[الطويل] وما نزلت كلاّ بيثرب فاعلمن

ولم تأت في القرآن في نصفه الأعلى

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر، تقديره:«أنت» ، ومتعلقه محذوف. {أَرُونِيَ:}

فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به أول.

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به ثان. {أَلْحَقْتُمْ:} فعل، وفاعل. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذين ألحقتموهم به. {شُرَكاءَ:} مفعول به ثالث، أو حال من الضمير المحذوف، العائد على:{الَّذِينَ،} والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول.

وجملة: {قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {كَلاّ:} حرف ردع، وزجر، لا محل له. {بَلْ:}

حرف إضراب. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {اللهُ:} مبتدأ ثان.

{الْعَزِيزُ:} خبر أول. {الْحَكِيمُ:} خبر ثان، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{هُوَ اللهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28)}

الشرح: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ:} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى:

أرسلناك إلى جميع الخلائق من المكلفين، كقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في الآية رقم [158] من سورة (الأعراف):{قُلْ يا أَيُّهَا النّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} قال محمد بن كعب القرظي:

يعني إلى الناس عامة. وقال قتادة: أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب، والعجم، فأكرمهم على الله تبارك وتعالى، أطواعهم لله عز وجل. وقال ابن أبي حاتم عن عكرمة، قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما-يقول: إن الله فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على أهل السماء، وعلى الأنبياء. قالوا: يا بن عباس! فبم فضله على الأنبياء؟ قال-رضي الله عنه: إن الله تعالى قال: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ} فأرسله الله تعالى إلى الجن، والإنس. وهذا كما ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة؛ فليصلّ. وأحلّت لي الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى

ص: 597

قومه خاصّة، وبعثت إلى الناس عامّة». وفي الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«بعثت إلى الأحمر، والأسود» . قال مجاهد: يعني: الجن، والإنس. وقال غيره: يعني العرب، والعجم.

والكل صحيح. {بَشِيراً} أي: لمن آمن بالجنة. {وَنَذِيراً} أي: لمن كذب، وكفر بالنار. هذا؛ وبين {بَشِيراً} و (نذيرا) طباق، وهو من المحسنات البديعية. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ:}

انظر الآية رقم [6] من سورة (الروم) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

(الناس): اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل قوم ورهط

إلخ، واحده: إنسان من غير لفظه، وهو يطلق على الإنس، والجن، لكن غلب استعماله في الإنس، قال تعالى:{مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ} وأصله:

الأناس، حذفت منه الهمزة تخفيفا على غير قياس، وحذفها مع لام التعريف كاللازم، لا يكاد يقال: الأناس، وقد نطق القرآن الكريم بهذا الأصل، ولكن بدون لام التعريف، قال تعالى:

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ} الآية رقم [71] من سورة (الإسراء). وقيل: إن أصله: النّوس، ولم يحذف منه شيء، وإنما قلبت الواو ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. {إِلاّ:} حرف حصر. {كَافَّةً:} حال من الكاف، قال أبو البقاء: والهاء زائدة للمبالغة. {لِلنّاسِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {كَافَّةً} أي: وما أرسلناك إلا كافا للناس عن الكفر، والمعاصي. وقيل: هو حال من الناس إلا أنه ضعيف عند الأكثرين؛ لأن صاحب الحال مجرور. ويضعف هنا من وجه آخر، وذلك: أن اللام على هذا تكون بمعنى: إلى؛ إذ المعنى:

أرسلناك إلى الناس، ويجوز أن يكون التقدير: من أجل الناس. انتهى.، واعتبره الزمخشري في الكشاف صفة لمصدر محذوف، التقدير: إلا إرسالة كافة. وقد رده ابن هشام في المغني أقبح رد. هذا؛ وذكر الجمل الأقوال الثلاثة. {بَشِيراً:} حال من الكاف. {وَنَذِيراً:} معطوف عليه، والجملة الفعلية:{أَرْسَلْناكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف.

(لكن): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ:} اسمها، و {أَكْثَرَ} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه. {إِلاّ:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكن)، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

{وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29)}

الشرح: {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا..} . إلخ: يقول الكافرون بطريق الاستهزاء، والسخرية: متى هذا الوعد؟! يعنون به المبشر به، والمنذر عنه، أو الموعود بقوله تعالى:{يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ}

ص: 598

{يَفْتَحُ بَيْنَنا..} . إلخ. {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ:} في ما تبشرون، وفي ما تنذرون. يريدون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وينبغي أن تعلم: أن هذه الآية تكررت بحروفها في كثير من السور، وفيها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أينما كانت.

الإعراب: {وَيَقُولُونَ:} الواو: حرف استئناف. (يقولون): فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {مَتى:} اسم استفهام مبني على السكون في محل نصب على الظرفية الزمانية متعلق بمحذوف خبر مقدم. {هذَا:} الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ مؤخر. {الْوَعْدُ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {إِنْ:} حرف شرط جازم. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء اسمه. {صادِقِينَ:} خبره منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب الشرط محذوف، لدلالة (ما) قبله عليه، التقدير: إن كنتم صادقين؛ فمتى يتحقق صدقكم؟! والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:

{وَيَقُولُونَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30)}

الشرح: {قُلْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الطالبين تعجيل العذاب. {لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ..} . إلخ: أي: لكم ميعاد مؤجل، لا يزيد، ولا ينقص، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة، ولا يقدم، كما قال تعالى:{إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ} أي: ولا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال، ولا التقدم إليه بالاستعجال. ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم: أنهم سألوا عن ذلك؛ وهم منكرون له تعنتا، لا استرشادا، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقا للسؤال على الإنكار، والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخرا عنه، ولا تقدما عليه. انتهى. نسفي. هذا؛ وفي سورة (الأعراف) رقم [34] ومثلها في (يونس) رقم [49]{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} .

هذا؛ وميعاد أصله: «موعاد» قلبت الواو ياء لمناسبة الكسرة، وانظر شرح (الساعة) في الآية رقم [14] من سورة (الروم) ولا تنس المقابلة، والطباق بين. {تَسْتَأْخِرُونَ} و {تَسْتَقْدِمُونَ،} وهو من المحسنات البديعية.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» ، ومتعلقه محذوف، انظر الشرح.

{لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {مِيعادُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {يَوْمٍ} مضاف إليه من إضافة المصدر للمفعول فيه. هذا؛ وقرئ برفع «(يوم)» على أنه

ص: 599

بدل مما قبله، وقرئ بنصبه منونا على أنه ظرف له، والجملة الاسمية:{لَكُمْ مِيعادُ..} . إلخ في محل نصب مقول القول. {لا:} نافية. {تَسْتَأْخِرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {عَنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع صفة:{مِيعادُ،} أو هي في محل جر صفة {يَوْمٍ} وذلك على حسب عود الضمير. {ساعَةً:} ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، وجملة:{وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} معطوفة على ما قبلها، على الوجهين المعتبرين فيها، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ (31)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أبو جهل الخبيث، ومن على شاكلته، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم:

{لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ} الذي ينزل عليك يا محمد. {وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} من الكتاب السابقة:

التوراة، والإنجيل، والزبور؛ بل نكفر بالجميع. وقيل: المراد بالذي بين يديه: يوم القيامة، وما يذكر فيه من الحساب، والجزاء. والمعتمد الأول، وليس للقرآن يدان، وإنما هو استعارة لما سبقه من الكتاب السماوية المنزلة من عند الله.

وسبب ذلك: أن أهل الكتاب قالوا للمشركين: إن صفة محمد في كتبنا كذا، وكذا، فاسألوه! فلما سألوه أجاب بما قال أهل الكتاب موافقا لهم، فقال المشركون عندئذ: لا نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه، وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب، ويستشيرونهم في أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتجون بقولهم، فظهر بذلك تناقضهم، وسفه عقولهم.

{وَلَوْ تَرى إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ:} محبوسون في موقف الحساب. {عِنْدَ رَبِّهِمْ:} ينتظرون أمره تعالى فيهم، وهم ذليلون وجلون، لا يرتد إليهم طرفهم، وأفئدتهم هواء. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتّى منه الرؤية. {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ:} يتراجعون الكلام فيما بينهم، ويلوم بعضهم بعضا. ويوبخ بعضهم بعضا على ما اقترفوه من كفر، وهذا بعد أن كانوا في الدنيا متعاونين متناصرين. {يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} أي: الذين كانوا فقراء مستضعفين، والذين تبعوا الرؤساء، وانقادوا لهم في الكفر، ومعاندة الحق، وهذا يكون في الآخرة حينما يعاينون العذاب، وغضب الواحد الجبار. {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا:} وهم القادة والرؤساء. {لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ} أي: لولا أنتم تصدونا عن الإيمان؛ لكنا اتبعنا الرسول، وآمنا بما جاءنا به، ولكنكم أغويتمونا وأضللتمونا.

ص: 600

الإعراب: {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لَنْ:} حرف نفي، ونصب، واستقبال. {نُؤْمِنَ:} فعل مضارع منصوب ب: {لَنْ،} والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره: نحن. {بِهذَا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {الْقُرْآنِ:} بدل من اسم الإشارة، أو عطف بيان عليه.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {بِالَّذِي:} جار ومجرور معطوفان على قوله:

{بِهذَا} واسم الإشارة، والاسم الموصول كلاهما مبنيان على السكون في محل جر بحرف الجر. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء، نيابة عن الفتحة؛ لأنه مثنى لفظا، وحذفت النون للإضافة، والهاء في محل جر بالإضافة، وجملة:{لَنْ نُؤْمِنَ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {تَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:

«أنت» ، ومفعوله محذوف، التقدير: ولو ترى حال الظالمين وقت وقوفهم

إلخ. {إِذِ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ:} مبتدأ وخبر مرفوعان، وعلامة رفعهما الواو نيابة عن الضمة؛ لأنهما جمعا مذكر سالم، والنون فيهما عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية في محل جر بإضافة {إِذِ} إليها. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق ب: {مَوْقُوفُونَ،} و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:

{تَرى إِذِ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب:(لو) محذوف، التقدير: لرأيت أمرا هائلا وفظيعا، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{يَرْجِعُ:} فعل مضارع. {بَعْضُهُمْ:} فاعله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المستتر ب:{مَوْقُوفُونَ،} والرابط: الضمير فقط. {إِلى بَعْضٍ:} متعلقان بالفعل {يَرْجِعُ} . {الْقَوْلَ:} مفعول به ل: {يَرْجِعُ} . {يَقُولُ:}

هذا الفعل بدل من: {يَرْجِعُ} . {الَّذِينَ:} فاعله. وقيل: الجملة مفسرة لجملة: {يَرْجِعُ..} .

إلخ. {اُسْتُضْعِفُوا:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل {يَقُولُ،} وجملة: {اِسْتَكْبَرُوا} مع متعلقه المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لَوْلا:}

حرف امتناع لوجود. {أَنْتُمْ:} مبتدأ، خبره محذوف وجوبا، التقدير: لولا أنتم صددتمونا عن الهدى. بدليل ما بعده. {لَكُنّا:} اللام: واقعة في جواب {لَوْلا} . (كنا): فعل ماض ناقص،

ص: 601

مبني على السكون، و (نا): اسمها. {مُؤْمِنِينَ:} خبر (كان) منصوب، وعلامة نصبه الياء

إلخ، وجملة:{لَكُنّا مُؤْمِنِينَ} جواب: {لَوْلا} لا محل لها، و {لَوْلا} ومدخولها في محل نصب مقول القول. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قالَ الَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32)}

الشرح: {قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} أي: عن الإيمان، وهم الرؤساء، والعظماء، والأشراف.

{لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} أي: الأتباع، الذين تبعوهم، وقلدوهم في الكفر. {أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى} أي: منعناكم من الإيمان واتباع الرسل؟! فالاستفهام إنكاري، توبيخي بمعنى النفي. {بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ} أي: الهدى والإيمان، وذلك بدعوة الرسل إليه، والترغيب فيه. {بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} أي:

بل أنتم كفرتم باختياركم بسبب أنكم كنتم مجرمين راسخين في الإجرام.

تنبيه: الآية الكريمة والتي بعدها تتحدثان عن ما يقع من المحاورة بين الرؤساء والأتباع، وبين الأشراف، والضعفاء يوم القيامة، والتعبير بالماضي عن المستقبل إنما هو لتحقق وقوعه؛ لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان، ووجد؛ لتحققه، وهو كثير في القرآن الكريم، وهو فن بلاغي.

تنبيه: المراد ب: {مُجْرِمِينَ:} الكافرون، وكثيرا ما يعبر القرآن الكريم عن الكافرين بالظالمين والمجرمين، والمعتدين، والفاسقين، والمسرفين، وغير ذلك، ويتهددهم بالعذاب الأليم، ويتوعّدهم بالعقاب الشديد. وإننا نجد الكثير من المسلمين، يتصفون بهذه الصفات، فهل يوجه إليهم هذا التهديد وهذا الوعيد؟ الحق أقول: نعم يتوجه إليهم ما ذكر، وهم أحق بذلك، لا سيما من قرأ القرآن منهم، واطلع على أحوال الأمم السابقة، وما جرى لهم مع رسلهم، وكيف نكل الله بهم، وجعلهم عبرة للمعتبرين، وما يتذكر إلا أولو الألباب.

هذا؛ وصد بمعنى: منع، وصرف، والمضارع:«يصد» بضم الصاد، ويأتي بمعنى: يعرض، ويميل، ومنه قوله تعالى:{رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} ويأتي المضارع بضم الصاد، وكسرها، كما يأتي بمعنى: يضجون فرحا، وهو بكسر الصاد كما في قوله تعالى:{وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} ومصدر الأولين: صد، وصدود، ومصدر الأخير: صديد، وقد فك الإدغام هنا على القاعدة:«إذا اتصل بالمضعف ضمير رفع متحرك؛ فك الإدغام» .

أما {كُنْتُمْ} فأصله: «كونتم» فقل في إعلاله: تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفا، فصار:«كانتم» فالتقى ساكنان: الألف وسكون النون، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار:

«كنتم» بفتح الكاف، ثم أبدلت الفتحة ضمة لتدل على الواو المحذوفة، فصار:{كُنْتُمْ،} وهناك

ص: 602

إعلال آخر، وهو أن تقول: أصل الفعل: «كون» فلما اتصل بضمير رفع متحرك، نقل إلى باب:

فعل، فصار:«كونت» ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبلها، فصار:«كونت» فالتقى ساكنان:

العين المعتلة، ولام الفعل، فحذفت العين، وهي الواو لالتقائها ساكنة مع النون، فصار:«كنت» وهكذا قل في إعلال كل فعل أجوف واوي مسند إلى ضمير رفع متحرك، مثل: قلت، وقمنا، وقمن

إلخ.

الإعراب: {قالَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{اِسْتَكْبَرُوا} مع متعلقه المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {قالَ} . {اُسْتُضْعِفُوا:}

فعل ماض مبني للمجهول مبني على الضم، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {أَنَحْنُ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي.

(نحن): ضمير منفصل مبني على الضم في محل رفع مبتدأ. {صَدَدْناكُمْ:} فعل ماض، و (نا):

فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {عَنِ الْهُدى:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على الألف للتعذر. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بالفعل: {صَدَدْناكُمْ} . وقيل: متعلق بمحذوف حال. و {بَعْدَ} مضاف، و:{إِذْ} ظرف لما مضى من الزمان، مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وإنما وقعت {إِذْ} مضافا إليها، وإن كانت من الظروف الملازمة للظرفية؛ لأنه يتوسع في الزمان ما لا يتوسع في غيره، فأضيف إليه الزمان. هذا؛ وأجيز اعتبار:{إِذْ} مصدرية بمعنى «أن» ، وعليه فتؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بإضافة {بَعْدَ} إليه.

{جاءَكُمْ:} ماض، والكاف مفعول به، والفاعل يعود إلى {الْهُدى،} تقديره: هو، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{إِذْ} إليها. {بَلْ:} حرف عطف، وإضراب. {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {مُجْرِمِينَ:} خبر (كان) منصوب

إلخ.

وجملة: {كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول. هذا؛ ومجرمين صفة لموصوف محذوف، التقدير: بل كنتم قوما مجرمين، بدليل التصريح به في كثير من الآيات، وجملة:{قالَ الَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَقالَ الَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اِسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)}

الشرح: {وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا:} جاء بالعاطف هنا، ولم يأت به في الآية السابقة لأن الذين استضعفوا ذكر أول كلامهم في الآية رقم [31] فجيء بالجواب محذوف

ص: 603

العاطف على طريق الاستئناف، ثم جيء في هذه الآية بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأول. هذا؛ ولا تنس المقابلة، والمطابقة بين {اُسْتُضْعِفُوا} و {اِسْتَكْبَرُوا} في هذه الآية، وفي الآيتين السابقتين، وهي من المحسنات البديعية، التي تزيد الكلام حسنا، وجمالا، وروعة، وجلالا.

{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ:} المكر أصله في لسان العرب: الاحتيال، والخديعة، وقد مكر به، يمكر فهو ماكر، ومكّار، قال الشاعر:[الطويل] قهرت العدا لا مستعينا بعصبة

ولكن بأنواع الخديعة والمكر

وقال زياد بن يسار: [الطويل] تعلّم شفاء النّفس قهر عدوّها

فبالغ بلطف في التّحيّل والمكر

وهذا هو الشاهد رقم [1021] من كتابنا فتح القريب المجيب. قال الأخفش: هو على تقدير: هذا مكر الليل، والنهار. قال النحاس: والمعنى: -والله أعلم-: بل مكركم في الليل، والنهار. قال قتادة: بل مكركم بالليل والنهار صدنا. فأضيف المكر إلى الليل، والنهار لوقوعه فيهما، وهو كقوله تعالى:{إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ} فأضاف الأجل إلى نفسه، وهذا من قبيل قولك: ليله قائم ونهاره صائم، وقال المبرد مثله، وأنشد لجرير:[الطويل] لقد لمتنا يا أمّ غيلان في السّرى

ونمت وما ليل المطيّ بنائم

ونظيره قوله تعالى في كثير من الآيات: {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} إذ المعنى: مبصرا فيه بالضوء؛ لأن النهار لا يبصر؛ بل يبصر فيه. هذا؛ وقرئ: «(بل مكر الليل والنهار)» بالتنوين ونصب الظرفين، وقرئ:«(بل مكر الليل والنهار)» بنصب (مكر) ورفعه، وتشديد الراء، فهي قراءات ثلاث. وانظر الإعراب لإيضاح المعنى، وروي عن سعيد بن جبير-رضي الله عنهما: أنه قال:

المعنى مرّ الليل، والنهار عليهم، فغفلوا. وقيل: طول السلامة فيهما، كقوله تعالى:{فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} . {إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً} أي: أشباها، وأمثالا، قال محمد بن يزيد:

فلان ند فلان؛ أي: مثله، ويقال: نديد، وأنشد:[الوافر] أيا من تجعلون إليّ ندّا

وما أنتم لذي حسب نديد

والمعنى: أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم: {أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى} بأن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين، وأثبتوا ذلك بقولهم:{بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ:} أن ذلك بكسبهم، واختيارهم؛ كرّ عليهم المستضعفون بقولهم:{بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ} فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: ما كان الإجرام من جهتنا؛ بل من جهة مكركم لنا دائبا ليلا، ونهارا، وحملكم إيانا على الشرك، واتخاذ الأنداد.

ص: 604

{وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ:} أخفوها فيما بينهم، والمراد: الظالمون المحبوسون يوم القيامة، يندم المستكبرون على ضلالهم، وإضلالهم، ويندم المستضعفون على ضلالهم، واتباعهم المضلين.

هذا؛ ويفسر (أسروا) بأظهروا الندامة، وجهروا بها، فهو من الأضداد يكون بمعنى الإخفاء، والإبداء، قال امرؤ القيس:[الطويل] تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا

عليّ حراصا لو يسرّون مقتلي

وقيل: المعنى: تبينات الندامة في أسرار وجوههم. وقيل: الندامة لا تظهر، وإنما تكون في القلب، والذي يظهر ما يتولد عنها. هذا؛ والندم: ضرب من الغم، وهو أن تغتم على ما وقع منك، تتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام ولزام؛ لأنه كلما تذكر المتندّم عليه، راجعه. من: الندام، وهو لزام الشريب، ودوام صحبته. ومن مقلوباته: أدمن الأمر:

أدامه، ومدن بالمكان: أقام به. ومنه: المدينة. وقد تراهم يجعلون الهم صاحبا، ونجيا، وسميرا، وضجيعا، وموصوفا بأنه لا يفارق صاحبه انتهى. كشاف. {لَمّا رَأَوُا الْعَذابَ:} لما عاينوا عذاب النار. هذا؛ وإعلال {رَأَوُا} مثل إعلال: {دَعَوْا} في الآية رقم [33] من سورة (الروم). {وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ:} جمع: غلّ. يقال: في رقبته غل من حديد. ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق: غل قمل، وأصله أن الغل كان يتخذ من جلد، وعليه شعر فيقمل. والغل، والغلة:

حرارة العطش، وكل ذلك بضم الغين، وهو بكسرها بمعنى الحقد، ورحم الله من قال:[البسيط] يا طالب العيش في أمن وفي دعة

رغدا بلا قتر صفوا بلا رنق

خلّص فؤادك من غلّ ومن حسد

الغلّ في القلب مثل الغلّ في العنق

{فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: وضعت الأغلال في أعناق الكافرين التابعين والمتبوعين، المستضعفين، والمستكبرين. وانظر شرح الكفر في الآية رقم [34] من سورة (الروم). هذا؛ وإنما صرح ب:{الَّذِينَ كَفَرُوا} وكان مقتضى القياس أن يقول «في أعناقهم» تنويها بذمهم، وإشعارا بموجب إغلالهم. {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي: لا يجزون إلا بأعمالهم، كل بحسبه للقادة عذاب بحسبهم، وللأتباع عذاب بحسبهم. هذا؛ وقال التيمي: لو أن غلاّ من أغلال جهنم وضع على جبل؛ لوهصه حتى يبلغ الماء الأسود.

الإعراب: {وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا:} إعراب هذا الكلام مثل إعراب سابقه بلا فارق. {بَلْ:} حرف إضراب. {مَكْرُ:} مبتدأ، وهو مضاف، و {اللَّيْلِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لمفعوله، فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، وإضافة المكر إليه، وخبره محذوف، التقدير: بل مكركم سبب ذلك. أو هو خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: بل سبب ذلك مكركم. وقيل: هو فاعل بفعل محذوف: التقدير: بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار،

ص: 605

وهذه الأقوال الثلاثة تجري في حالة رفع {مَكْرُ،} منونا، وغير منون، وعلى قراءة التنوين يكون {اللَّيْلِ} ظرفا متعلقا ب:{مَكْرُ} أو بمحذوف صفة له، وعلى قراءة:«(مكر)» بالنصب، فهو مفعول به لفعل محذوف، أو هو مفعول مطلق لهذا المحذوف، التقدير: تمكرون الإغواء مكر الليل، والنهار. وقيل: هو مصدر مضاف لمرفوعه، ولا وجه له، والجملة على جميع الاعتبارات في محل نصب مقول القول.

{إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق ب: {مَكْرُ} على اعتباره مصدرا ميميا. {تَأْمُرُونَنا:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، و (نا):

مفعوله الأول. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {نَكْفُرَ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل مستتر، تقديره:«نحن» ، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به ثان، أو هو منصوب بنزع الخافض، على اعتبار الفعل يتعدى إلى الثاني بحرف الجر.

{بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {وَنَجْعَلَ:} معطوف على ما قبله، والفاعل تقديره:«نحن» .

{بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما على أنهما مفعوله الثاني. وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. {أَنْداداً:} مفعول به أول.

{وَأَسَرُّوا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (أسروا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {النَّدامَةَ:} مفعول به. {لَمّا:} ظرف بمعنى: «حين» مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {رَأَوُا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والواو فاعله، وحركت الواو بالضمة دون غيرها ليفرق بين واو الجماعة، والواو الأصلية في نحو قولك: لو اجتهدت؛ لنجحت. وقيل: ضمت لأن الضمة أخف من الكسرة؛ لأنها من جنس الواو. وقيل: حركت بحركة الواو المحذوفة. وقيل: غير ذلك. والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{لَمّا} إليها. {الْعَذابَ:} مفعول به، والجملة الفعلية: (أسروا

) إلخ مستأنفة، أو في محل نصب حال من:{الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} و: (الذين استكبروا) والرابط: الواو، والضمير، وعلى الاستئناف لا محل لها.

{وَجَعَلْنَا:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (جعلنا): فعل، وفاعل. {الْأَغْلالَ:}

مفعول به. {فِي أَعْناقِ:} متعلقان بمحذوف مفعول ثان، أو بمحذوف حال من {الْأَغْلالَ،} و {أَعْناقِ} مضاف، و {الَّذِينَ} اسم موصول مبني على الفتح في محل جر بالإضافة، وجملة:

{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{وَجَعَلْنَا..} . إلخ معطوفة على جملة: (أسروا

) إلخ على الوجهين المعتبرين فيها، أو هي مستأنفة، لا محل لها. {هَلْ:} حرف استفهام بمعنى النفي. {يُجْزَوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع

إلخ، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {إِلاّ:} حرف حصر. {لَمّا:} تحتمل

ص: 606

الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: لا يجزون إلا جزاء الذي، أو: جزاء شيء كانوا يعملونه. وعلى اعتبار: {لَمّا} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل نصب مفعول به، التقدير: لا يجزون إلا جزاء عملهم، ولا بد من تقدير مضاف محذوف. وفيه ضعف كما ترى. {كانُوا:} ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْمَلُونَ} في محل نصب خبره، وجملة:{هَلْ يُجْزَوْنَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وقيل: في محل نصب حال. وهو ضعيف. تأمل، وتدبر، وربك أعلم.

{وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34)}

الشرح: {وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ..} . إلخ: هذا شروع في تسلية النبي صلى الله عليه وسلم وبيان له بأن الله تعالى لم يبعث رسولا في قرية؛ إلا كذبه أغنياؤها، وعظماؤها، واتبعه الفقراء، والمستضعفون؛ سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنته تحويلا، فقد حكى القرآن عن قوم نوح قولهم:{قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ،} وقال تعالى: {وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها} سورة (الأنعام) رقم [123].

{إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها:} هم أولو النعمة، والثروة، والرئاسة. وقال قتادة: هم جبابرتهم، وقادتهم، ورؤساؤهم في الشر. وترف، يترف: تنعم، وترفعه في دنياه، وتمتّع بملاذها. قال تعالى في سورة (الواقعة) في حق أصحاب الشمال:{إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ} . {إِنّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ} أي: لا نؤمن به، ولا نتبعه. وقد افتخر المترفون بكثرة الأموال، والأولاد.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {فِي قَرْيَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نَذِيرٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {قالَ:} فعل ماض. {مُتْرَفُوها:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، وحذفت النون للإضافة، و (ها): في محل جر بالإضافة، وجملة:{قالَ..} . إلخ في محل نصب حال من {قَرْيَةٍ،} وهي على تقدير «قد» قبلها، وساغ مجيء الحال من النكرة لتقدم النفي عليها. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل، و (نا):

اسمها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {كافِرُونَ،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر بالباء. {أُرْسِلْتُمْ:} فعل ماض مبني للمجهول، مبني على السكون، والتاء نائب فاعله. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية صلة (ما)، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: الضمير المجرور محلا بالباء. {كافِرُونَ:} خبر (إنّ)

ص: 607

مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية:{إِنّا بِما..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)}

الشرح: {وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً} أي: قال المترفون للرسل، ولأتباعهم الفقراء المستضعفين: فضلنا عليكم بالأموال، والأولاد، ولو لم يكن ربكم راضيا بما نحن فيه من الدين، والفضل؛ لم يخولنا ذلك. أرادوا: أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم، نظرا إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم الله الأموال، والأولاد، والجاه العظيم، والمقام الكريم، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه؛ لما حرمهم متاع الدنيا، ومنعهم من التلذذ بنعيمها، فأبطل الله ظنهم بأن الرزق من فضل الله تعالى يقسمه كيف يشاء، فربما وسّع على العاصي، وضيّق على المطيع، وربما عكس، وربما وسع عليهما، أو ضيق عليهما، فلا ينقاس عليهما أمر الثواب في الآخرة.

وفي حديث ابن مسعود-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يعطي الدنيا من يحبّ ومن لا يحبّ، ولا يعطي الدين إلاّ لمن أحبّ، فمن أعطاه الدين؛ فقد أحبّه» . رواه الإمام أحمد، وعن أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله عز وجل ليحمي عبده المؤمن من الدّنيا، وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام، والشراب» . رواه الحاكم.

وما درى هؤلاء الكافرون، والفاسدون، والمجرمون أن ما يعطيهم الله من نعيم الدنيا إنما هو على سبيل الاستدراج. قال تعالى:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} .

وقال جل ذكره: {مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا} . وقال جل شأنه، وتعالت حكمته:

{أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} من سورة (المؤمنون)، والأولى من سورة (الأعراف)، والثانية من سورة (مريم)، انظر شرح هذه الآيات في محالها؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ:} لأن من أحسن الله إليه في الدنيا فلا يعذبه في الآخرة، وهذا على فرض، وتقدير الآخرة منهم؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون بالبعث، والحساب، والجزاء.

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض، وفاعله، والألف للتفريق. {نَحْنُ أَكْثَرُ:} مبتدأ، وخبر، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {أَمْوالاً:} تمييز.

{وَأَوْلاداً:} معطوف عليه. {وَما:} الواو: حرف عطف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» .

{نَحْنُ:} اسمها. {بِمُعَذَّبِينَ:} الباء: حرف جر صلة. (معذبين): خبر (ما) مجرور لفظا، منصوب محلا، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي مثلها في محل نصب مقول القول، وجملة:

(قالوا

) إلخ معطوفة على جملة {قالَ مُتْرَفُوها} فهي في محل نصب حال مثلها.

ص: 608

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)}

الشرح: {قُلْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المتفاخرين بكثرة أموالهم، وأولادهم. {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ:} يغني، ويوسع الرزق، ويعطي المال. {لِمَنْ يَشاءُ:} التوسيع عليه.

{وَيَقْدِرُ:} يضيق الرزق، ويقلله على من يشاء من عباده، وله الحكمة التامة البالغة، والحجة القاطعة الدامغة، ولذا قال جل شأنه في الآية رقم [30] من سورة (الإسراء):{إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} أي: ذو خبرة بعباده، وبمن يصلحه التوسيع في الرزق، ومن يفسده ذلك، وبمن يصلحه الضيق، والإقتار في الرزق، ومن يهلكه ذلك، وهو ذو بصر، ومعرفة بتدبير عباده، وسياستهم، فمن العباد من لا يصلح له إلا الغنى، ولو أفقره الله؛ لفسد، ومنهم من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغناه؛ لفسد. هذا؛ وبين:{يَبْسُطُ} و (يقدر) مقابلة، ومطابقة وهي من المحسنات البديعية. {وَلكِنَّ أَكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ:} انظر الآية رقم [6] من سورة (الروم)، ففيها بحث قيم.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي:} اسم: {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَبْسُطُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {رَبِّي} تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {الرِّزْقَ:} مفعول به.

{لِمَنْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل: {يَبْسُطُ،} و (من) تحتمل الموصولة، والموصوفة، فهي مبنية على السكون في محل جر باللام، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط: محذوف؛ إذ التقدير: يبسط الرزق للذي، أو: لشخص يشاؤه. {وَيَقْدِرُ:} الواو:

حرف عطف. (يقدر): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {رَبِّي} ومتعلقه محذوف، تقديره: له.

والجملة الفعلية معطوفة على جملة: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ..} . إلخ، فهي في محل رفع مثلها.

{وَلكِنَّ:} الواو: حرف عطف. (لكنّ): حرف مشبه بالفعل. {أَكْثَرَ:} اسم: (لكن)، و {أَكْثَرَ:} مضاف، و {النّاسِ} مضاف إليه. {لا:} نافية. {يَعْلَمُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، ومفعوله محذوف للتعميم، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (لكنّ)، والجملة الاسمية معطوفة على جملة {إِنَّ رَبِّي..}. إلخ فهي في محل نصب مقول القول مثلها. وقيل: في محل نصب حال. ولا وجه له، فهو ضعيف.

وجملة: {قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 609

{وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37)}

الشرح: {وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى} أي: تقربكم عندنا قربى، وترفع مكانتكم عندنا لا في الدنيا، ولا في الآخرة، والزلفى: القربى. والزلفة: القربة. ومعنى الآية:

لا تزيدكم الأموال، والأولاد عندنا رفعة، ودرجة، ولا تقربكم تقريبا. هذا؛ وأخبر ب:(التي) عن الأموال، والأولاد؛ لأن الجمع المكسر عقلاؤه، وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، والإفراد، والجمع. وقرئ:«(بالذي)» . ويجوز في غير القرآن أن تقول: باللتين، وباللاتي، وباللواتي، وباللّذين، وبالذين للأولاد خاصة. هذا؛ وقدم الله ذكر الأموال على الأولاد؛ لأنها أول عدة يفزع إليها عند نزول الخطوب.

{إِلاّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً:} قال سعيد بن جبير-رضي الله عنهما: المعنى: إلا من آمن وعمل صالحا، فلن يضره ماله، وولده في الدنيا. وروى ليث عن طاوس: أنه كان يقول: اللهم ارزقني الإيمان، والعمل، وجنبني المال، والولد، فإني سمعت فيما أوحيت:{وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ..} . إلخ. ومعنى قول طاوس هذا؛ -والله أعلم-: اللهم جنبني المال، والولد المطغيين، أو: اللذين لا خير فيهما. فأما المال الصالح، والولد الصالح للرجل الصالح، فنعم هذا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص:«نعم المال الصالح للرجل الصّالح» . واعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم الولد الصالح من النعم العظيمة، ومن أسباب الخير للإنسان بعد موته وتكثير حسناته بسبب دعاء الولد الصالح له. هذا؛ وفي عطف العمل الصالح على الإيمان في الآية الكريمة وغيرها إيحاء بأن العمل قرين الإيمان، وقد لا يجدي الإيمان بلا عمل، وهو ما أفاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم:

«الإيمان والعمل قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه» . كما أن الإيمان مشروط لقبول العمل الصالح، وهذا يسمى في علم البديع احتراسا، وينبغي أن تعلم: أن الأموال لا تقرب أحدا إلى الله إلا المؤمن الصالح، الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحدا، ولا تنفعه إلا من علمهم الخير، وفقههم في الدين، ودربهم على الصلاح وطاعة الله عز وجل.

{فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا:} فالضعف: الزيادة، أي لهم جزاء التضعيف، أي يضعف الله لهم حسناتهم، فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا، إلى سبعين، إلى سبعمائة، وانظر الضعف، والتضعيف في الآية رقم [30] من سورة (الأحزاب). {وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ} أي:

من عذاب الله، وسخطه، وانتقامه، و {الْغُرُفاتِ} جمع: غرفة، ويقرأ بفتح الراء، وضمها، وسكونها، وتجمع غرفة على: غرف أيضا، انظر الآية رقم [58] من سورة (العنكبوت) تجد ما يسرّك، ويثلج صدرك. وانظر شرح «المال» في الآية رقم [27] من سورة (الأحزاب). ولا تنس

ص: 610

الالتفات من الغيبة في الآية السابقة، إلى الخطاب في هذه الآية، انظر الالتفات، وفوائده في الآية رقم [34] من سورة (الروم). هذا؛ ولا تنس مراعاة لفظ {مَنْ} بإرجاع الفاعل إليها، ومراعاة معناها باسم الإشارة، وما بعده.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل: «ليس» ، أو: هي مهملة لا عمل لها. {أَمْوالُكُمْ:} اسم (ما)، أو مبتدأ. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة لتأكيد النفي. {أَوْلادُكُمْ:} معطوف على ما قبله، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{بِالَّتِي:} الباء: حرف جر صلة. (التي): اسم موصول مبني على السكون في محل جر لفظا، وفي محل نصب محلا على أنه خبر (ما)، أو على أنه خبر المبتدأ على إهمال (ما). هذا؛ وقال الفراء -وهو مذهب أبي إسحاق الزجاج-: المعنى: وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا، ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى، ثم حذف خبر الأول لدلالة الثاني، وأنشد الفراء قول قيس بن الخطيم الأوسي وهو الشاهد رقم [1053] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [المنسرح] نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأي مختلف

{تُقَرِّبُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى التي، وهو العائد، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {عِنْدَنا:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله. وقيل:

متعلق بمحذوف حال. ولا وجه له، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {زُلْفى:}

مفعول مطلق، عامله من غير لفظه، وهو قوله:{تُقَرِّبُكُمْ} . {إِلاّ:} أداة استثناء. {مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل نصب على الاستثناء من كاف الخطاب، وقال الزجاج: بدل منه. وهو غير معتمد. {آمَنَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. وجملة:{وَعَمِلَ صالِحاً} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {فَأُولئِكَ:} الفاء حرف تفريع، واستئناف. (أولئك): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {لَهُمْ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{جَزاءُ:} مبتدأ مؤخر، و {جَزاءُ} مضاف، و {الضِّعْفِ} مضاف إليه من إضافة المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، والجملة الاسمية في محل رفع خبر:(أولئك). هذا؛ وإن اعتبرت: {جَزاءُ الضِّعْفِ} خبر، (أولئك)، فالجار والمجرور يكونان متعلقين ب:{جَزاءُ الضِّعْفِ} بعدهما، والجملة الاسمية: (أولئك

) إلخ لا محل لها؛ لأنها مفرعة ومستأنفة، وهذا الإعراب يجعل هذه غير مرتبطة بما قبلها، لذا فالوجه اعتبار:{مَنْ} شرطا جازما، و:{آمَنَ} فعل شرطه، وجوابه جملة:{فَأُولئِكَ..} . إلخ، وخبره: جملتا الشرط، والجواب على المعتمد عند المعاصرين.

وهذا؛ وإن اعتبرت {مَنْ} اسما موصولا مبتدأ؛ فالجملة الاسمية: {فَأُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبره، وتكون الفاء زائدة في خبر الموصول؛ لأنه يشبه الشرط في العموم، وعلى الوجهين،

ص: 611

فمضمون الجملة الاسمية: {مَنْ..} . إلخ في محل نصب على الاستثناء من مضمون الكلام السابق. هذا؛ وقرئ برفع الاسمين على أن {الضِّعْفِ} بدل من {جَزاءُ} كما قرئ: «(جزاء الضعف)» على اعتبار (جزاء) حالا، من الضمير المستتر في الخبر المحذوف وهو متعلق:{لَهُمْ} و (الضّعف) مبتدأ، و {لَهُمْ} الخبر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر (أولئك). {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {جَزاءُ؛} لأنه مصدر، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: بالذي، أو: بشيء عملوه. وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بعملهم. {وَهُمْ:} الواو: واو الحال. (هم):

ضمير منفصل مبني على السكون في محلّ رفع مبتدأ. {فِي الْغُرُفاتِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {آمِنُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، أو هي معطوفة على ما قبلها.

{وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)}

الشرح: {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا:} في إبطال أدلتنا، وحجتنا، وكتابنا، وذلك بالرد، والطعن فيها. {مُعاجِزِينَ:} معاندين، يظنون: أنهم يفوتوننا بأنفسهم، وأننا لا نقدر عليهم، ولا على بعثهم في الآخرة للحساب والجزاء، أو ظنوا أنا نهملهم. {أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ} أي: في جهنم تحضرهم الزبانية فيها، لا يفلتون منها أبدا.

تنبيه: لما ذكر الله تعالى الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وما أعد لهم من النعيم المقيم، والخير العميم؛ ذكر الذين كفروا، وما أعد لهم من العذاب الأليم، والعقاب الشديد، وتلك سنة الله في كتابه الكريم، حيث اقتضت حكمته ورحمته، فلا يذكر التصديق من المؤمنين؛ إلا ويذكر التكذيب من الكافرين، ولا يذكر الإيمان؛ إلا ويذكر الكفر، ولا يذكر الجنة؛ إلا ويذكر النار، ولا يذكر الرحمة؛ إلا ويذكر الغضب والسخط؛ ليكون المؤمن راغبا راهبا، راجيا خائفا. والمراد بعمل الصالحات: الأعمال الصالحات على اختلافها، وتفاوت درجاتها، ومراتبها.

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبتدأ. {يَسْعَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي آياتِنا:} متعلقان بالفعل قبلهما، و (نا): في محل جر بالإضافة. {مُعاجِزِينَ:} حال من واو الجماعة منصوب

إلخ، وفاعله ضمير مستتر فيه.

{أُولئِكَ:} اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ، والكاف حرف خطاب لا محل له.

{فِي الْعَذابِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُحْضَرُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع، وعلامة

ص: 612

رفعه الواو نيابة عن الضمة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد، والجملة الاسمية:{أُولئِكَ..} . إلخ في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ والكثير اقتران مثل هذه الجملة بالفاء؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم، وقد مر معنا كثير منه، والجملة الاسمية:

{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وهو أقوى من العطف على ما قبلها.

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ (39)}

الشرح: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ:} تقدم هذا في الآية [36] مستوفى ولكن ما في هذه الآية في شخص واحد باعتبار وقتين، وما سبق في حق شخصين، فلا تكرير، ولا تكرار. وقيل: بل هو توكيد. وقيل: كررت الآية لاختلاف القصد؛ فإن القصد بالأول الكفار، والقصد هنا ترغيب المؤمنين في الإنفاق.

{وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي: مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم الله به؛ فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل، وفي الآخرة بحسن المثوبة وعظم الجزاء، وكريم الثواب، وما في الدنيا يكون عاجلا، أو آجلا، كما ثبت في الحديث القدسي عن أبي هريرة-رضي الله عنه-أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: «يا عبدي أنفق أنفق عليك» . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة، سحّاء بالليل، والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما بيده، وكان عرشه على الماء، وبيده الميزان يخفض، ويرفع» . رواه البخاري ومسلم.

وعن أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنها-قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا توكي فيوكى عليك» . وفي رواية: «أنفقي، أو انفحي، أو انضحي، ولا تحصي، فيحصي الله عليك، ولا توعي، فيوعي الله عليك» . رواه البخاري، ومسلم. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» . أخرجه مسلم. فهذه أحاديث صحيحة صريحة، ترغب في إنفاق المال في وجوه الخير، وخذ ما يلي:

روى الدارقطني، وأبو أحمد بن عدي عن عبد الحميد الهلالي: عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله-رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلّ معروف صدقة، ما أنفق الرجل على نفسه، وأهله؛ كتاب له صدقة، وما وقى به الرجل عرضه؛ فهو له صدقة، وما أنفق الرجل من نفقة؛ فعلى الله خلفها، إلا ما كان من نفقة في بنيان، أو معصية» . قال عبد الحميد:

قلت لابن المنكدر: ما وقى الرجل به عرضه؟ قال: يعطي الشاعر وذا اللسان.

ص: 613

قال القرطبي-رحمه الله تعالى-: أما ما أنفق في معصية؛ فلا خلاف: أنه غير مثاب عليه، ولا مخلوف له. وأما البنيان فما كان منه ضروريا، يكنّ الإنسان، ويحفظه؛ فذلك مخلوف عليه، ومأجور ببنيانه، وكذلك حفظ أسرته، وستر عورته، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ليس لابن آدم حقّ في سوى هذه الخصال: بيت يسكنه، وثوب يواري عورته، وجلف الخبز والماء» . انتهى.

قال مجاهد-رحمه الله تعالى-: من كان عنده من هذا المال؛ فليقتصد، فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه، فينفق جميع ما في يده، ثم يبقى طول عمره في فقر، ولا يتأولنّ {وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} فإن هذا في الآخرة، ومعنى الآية: ما كان من خلف؛ فهو منه. انتهى. خازن.

أقول: المعيار، والميزان القسط قوله تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} الآية رقم [29] من سورة (الإسراء)، وقوله جل وعلا:{وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} الآية رقم [67] من سورة (الفرقان).

{وَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ} أي: خير من يعطي، ويرزق؛ لأن كل ما رزق غيره: من سلطان يرزق جنده، أو سيد يرزق مملوكه، أو رجل يرزق عياله، فهو من رزق الله، أجراه الله على أيدي هؤلاء، وهو الرزاق الحقيقي، الذي لا رازق سواه، وهو خالق الأسباب التي ينتفع بها المرزوق بالرزق. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني، وجعلني ممن يشتهي، فكم من مشته لا يجد، وواجد لا يشتهي، فسبحان من خزائنه لا تفنى، ولا تتناهى. ومن أخرج من عدم إلى الوجود؛ فهو الرازق حقيقة، كما قال جل ذكره:{إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} وينبغي أن تعلم: أنّ (الرّزّاق) صيغة مبالغة لم يسم به أحد غيره تعالى، وأما الرازق؛ فقد يطلق على غيره من العباد مجازا؛ كما قدمت آنفا. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ:} انظر إعراب هذا الكلام في الآية رقم [36] ما عدا قوله: {مِنْ عِبادِهِ} فهما جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من مفعول:

{يَشاءُ} المحذوف. و (من) بيان لما أيهم في: (من) وما عدا قوله: {لَهُ} فهما جار ومجرور متعلقان بالفعل: (يقدر)، وجملة:{قُلْ إِنَّ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم. {أَنْفَقْتُمْ:}

فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله. {مِنْ شَيْءٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: (ما)، و {لِمَنْ} بيان لما أبهم فيها. {فَهُوَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يُخْلِفُهُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» ، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{فَهُوَ يُخْلِفُهُ} في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول:

ص: 614

لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) موصولة؛ فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: الذي أنفقتموه، ويكون الجار والمجرور:{مِنْ شَيْءٍ} متعلقين بمحذوف حال من الضمير المحذوف، والجملة الاسمية:{فَهُوَ يُخْلِفُهُ:} في محل رفع خبره، ودخلت الفاء على خبر الموصول؛ لأنه يشبه الشرط في العموم، والجملة:{وَما أَنْفَقْتُمْ..} . إلخ على جميع الاعتبارات مستأنفة، لا محل لها. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو):

مبتدأ. {خَيْرُ:} خبره، وهو مضاف، و:{الرّازِقِينَ} مضاف إليه مجرور

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المستتر في:{يُخْلِفُهُ،} والرابط: الواو، والضمير.

وقيل: معطوفة على ما قبلها. وهو ضعيف جدا.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40)}

الشرح: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أي: المستضعفين، والمستكبرين. ويقرأ الفعل بالياء، والنون. والحشر: الجمع، والمراد: بعثهم للحساب، والجزاء. {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ..} .

إلخ: هذا السؤال للملائكة مضمونه التقريع، والتوبيخ للكفار، وارد على المثل السائر:«إياك أعني، واسمعي يا جارة» . ونحوه قوله تعالى في الآية رقم [116] من سورة (المائدة): {يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} .

تنبيه: قال الزمخشري، -رحمه الله تعالى-: فإن قلت: فالله قد سبق في علمه المسئول عنه، فما فائدة هذا السؤال؟ قلت: فائدته: أن يجيبوا بما أجابوا به؛ حتى يبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم، فيبهتوا، ويتخذلوا، وتزيد حسرة الكافرين العابدين للملائكة، وغيرهم في الدنيا، ويكون ذلك نوعا مما يلحقهم من غضب الله وعقابه، ويغتبط المؤمنون، ويفرحوا بحالهم، وإيمانهم، ونجاتهم من فضيحة أولئك، وليكون حكاية ذلك في القرآن لطفا للمكلفين، وفيه كسر بيّن لقول من يزعم: أنه يضل عباده على الحقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه:

{أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} بأنفسهم، فيتبرءون من إضلالهم، ويستعيذون بالله أن يكونوا مضلين، ويقولون: أنت تفضلت على هؤلاء وآبائهم من غير سابقة تفضّل جواد كريم، فجعلوا النعمة-التي حقها أن تكون سبب الشكر-سبب الكفر، ونسيان الذكر، وكان ذلك سبب هلاكهم، فإذا برأت الملائكة، والرسل أنفسهم من نسبة الإضلال؛ الذي هو عمل الشياطين إليهم، واستعاذوا منه، فهم لربهم الغني العدل أشدّ تبرئة، وتنزيها منه، ولقد نزهوه حين أضافوا إليه التفضل بالنعمة، والتمتيع بها، وأسندوا نسيان الذكر، والتسبب به للبوار إلى الكفرة، فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله إلى ذاته في قوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} ولو كان هو المضل على الحقيقة؛ لكان الجواب العتيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم. انتهى. كشاف

ص: 615

في سورة (الفرقان) رقم [17] وهذا مبني على مذهبه في الاعتزال، وهو أن العبد يخلق أفعال نفسه، وأما مذهب أهل السنة، فإن الله خالق للعبد، ولعمله، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [8] من سورة (فاطر).

الإعراب: {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف. (يوم): مفعول به لفعل محذوف، تقديره: اذكر، أو هو ظرف زمان متعلق به. {يَحْشُرُهُمْ:} فعل مضارع، والهاء ضمير متصل في محل نصب مفعول به، والفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى (الله) أو تقديره:«نحن» على قراءته بالنون، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة (يوم) إليها. {جَمِيعاً:}

حال من الضمير المنصوب، وفيها معنى التوكيد. {ثُمَّ:} حرف عطف. {يَقُولُ:} فعل مضارع، وفاعله تقديره:«هو» ، أو:«نحن» . {لِلْمَلائِكَةِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{أَهؤُلاءِ:} الهمزة: حرف استفهام. الهاء: حرف تنبيه لا محل له. (أولاء): اسم إشارة مبني على الكسر في محل رفع مبتدأ. {إِيّاكُمْ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، وفيه دليل على جواز تقديم خبر (كان) عليها؛ لأن تقديم معمول الخبر يؤذن بصحة تقديم الخبر. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْبُدُونَ} مع مفعوله المقدم في محل نصب خبر (كان)، وجملة:«كانوا يعبدون إياكم» في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{أَهؤُلاءِ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{يَقُولُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل جر مثلها، وجملة:

«اذكر يوم

» إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)}

الشرح: {قالُوا} أي: قال الملائكة. {سُبْحانَكَ} أي: تعاليت، وتقدست، وتنزهت عن أن يكون معك إله. {أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ} أي: نحن نتولاك بالعبادة، والتقديس، ولا نتولاهم، فبينوا بإثبات موالاة الله، ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم. {بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} أي: الشياطين؛ حيث أطاعوهم في عبادة غير الله. قال القرطبي-رحمه الله تعالى-:

وفي التفاسير أن حيّا يقال لهم: «بنو مليح» من خزاعة كانوا يعبدون الجن، ويزعمون: أن الجن تتراءى لهم، وأنهم ملائكة، وأنهم بنات الله، وهو قوله تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً..} .

إلخ الآية رقم [158] من سورة (الصافات) انظر شرحها هناك. {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ:} الضمير الأول للإنس، أو للمشركين، والأكثر بمعنى الكل، والثاني للجن.

قال الخازن: فإن قلت: قد عبدوا الملائكة، فكيف وجه قوله:{بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} قلت: أراد أن الشياطين زينوا لهم عبادة الملائكة، فأطاعوهم في ذلك، فكانت طاعتهم

ص: 616

للشياطين عبادة لهم. وقيل: صوروا لهم صورا، وقالوا لهم: هذه صور الملائكة، فاعبدوها، فعبدوها. وقيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام، فيعبدون بعبادتها. انتهى.

الإعراب: {قالُوا:} ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {سُبْحانَكَ:} مفعول مطلق لفعل محذوف، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر، أو اسم المصدر لفاعله، فيكون المفعول محذوفا، أو من إضافته لمفعوله فيكون الفاعل محذوفا. {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {وَلِيُّنا:} خبر المبتدأ، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {مِنْ دُونِهِمْ:} متعلقان ب: (ولي) وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له. والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملتان {سُبْحانَكَ أَنْتَ..}. إلخ في محل نصب مقول القول. {بَلْ:} حرف عطف وانتقال.

{كانُوا:} ماض ناقص، والواو اسمه، والألف للتفريق، وجملة:{يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} في محل نصب خبر (كان)، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول مثلها. {أَكْثَرُهُمْ:} مبتدأ، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {مُؤْمِنُونَ:} خبر المبتدأ مرفوع

إلخ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط الضمير فقط، أو هي مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها بدلا من جملة:

{يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} فلست مفندا، وجملة:{قالُوا..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر.

{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)}

الشرح: {فَالْيَوْمَ} أي: ففي يوم الحساب، والجزاء. {لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا:}

لا ينفع العابدون، ولا المعبودون بعضهم بعضا بشفاعة، ولا بنجاة، ولا بدفع هلاك، وعذاب؛ إذ الأمر كله لله الواحد القهار؛ لأن الدار دار جزاء، وهو المجازي وحده. قال أبو السعود في تفسيره: يخاطبون بذلك على رءوس الأشهاد إظهارا لعجزهم، وقصورهم عن نفع عابديهم، وإظهارا لخيبة رجائهم بالكلية. ونسبة عدم النفع، والضر إلى البعض للمبالغة في المقصود، كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة، كنفع العبدة لهم. انتهى.

{وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: ظلموا أنفسهم بالكفر، فأدخلوها العذاب الأليم، وسببوا لها العقاب الشديد. {ذُوقُوا عَذابَ النّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ:} قال الجمل: وقع الموصول هنا وصفا للمضاف إليه، وفي (السجدة) رقم [20] وقع وصفا للمضاف، فقيل: لأنهم ثمة كانوا ملابسين للعذاب، كما صرح به في النظم، فوصف لهم ما لابسوه، وما هنا عند رؤية النار عقب الحشر، فوصف لهم ما عاينوه. وكونه هنا وصفا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب تكلف. انتهى. نقلا من الشهاب. وانظر ما ذكرته في آية (السجدة).

ص: 617

الإعراب: {فَالْيَوْمَ:} الفاء: حرف عطف لترتيب الأخبار. (اليوم): ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، ولو رفع لكان مبتدأ. {لا:} نافية. {يَمْلِكُ:} فعل مضارع. {بَعْضُكُمْ:} فاعله، والكاف في محل جر بالإضافة. {لِبَعْضٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما، ويجوز تعليقهما ب:{نَفْعاً} بعدهما؛ لأنه مصدر. {نَفْعاً:} مفعول به. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، ويقال: صلة لتأكيد النفي. {ضَرًّا:} معطوف على ما قبله، وجملة:{فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {قالُوا..} . إلخ لا محل لها مثلها، ولا تنس الالتفات من الغيبة في الآية السابقة إلى الخطاب في هذه الآية. {وَنَقُولُ:} الواو: حرف عطف. (نقول): فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {لِلَّذِينَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{ظَلَمُوا} مع المفعول المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {ذُوقُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {عَذابَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {النّارِ} مضاف إليه، من إضافة اسم المصدر لمفعوله، وفاعله محذوف، وجملة:{ذُوقُوا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَنَقُولُ..} . إلخ معطوفة على جملة {لا يَمْلِكُ..} . إلخ لا محل لها مثلها. {الَّتِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة: {النّارِ} . {كُنْتُمْ:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، والتاء اسمه. {بِها:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {تُكَذِّبُونَ} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب خبر (كان)، وجملة:{كُنْتُمْ..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها.

{وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43)}

الشرح: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ:} وإذا قرئ القرآن على كفار قريش، وتليت آياته واضحات المعاني، بينات الإعجاز، وسمعوها غضة طرية من لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {قالُوا ما هذا إِلاّ رَجُلٌ} يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. {يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ} أي: يريد أن يصرفكم عن معبودات آبائكم التي هي الحجارة، والأوثان، فاحذروه، وتمسكوا بتلك المعبودات، وعضوا عليها بالنواجذ.

{وَقالُوا ما هذا إِلاّ إِفْكٌ مُفْتَرىً:} فهم يريدون أن ما يقرؤه النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الله البينات، إنما هو مختلق اختلقه النبي من تلقاء نفسه. {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمّا جاءَهُمْ:} المراد بالحق:

نور الإسلام، أو نور القرآن، أو هو نور محمد سيد الأنام. {إِنْ هذا} أي: الحق الذي جاءهم. {إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ:} فقد تحيروا، فتارة قالوا: سحر، وتارة قالوا: إفك، ويحتمل أن

ص: 618

يكون منهم من قال: شعر، ومنهم من قال: إفك، وفي تكرير الفعل:(قالوا) والتصريح بذكر الكفرة، وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين، والمقول فيه، وما في {لَمّا} من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له، وتعجيب بليغ منه، وانظر شرح (السحر) في الآية رقم [34] من سورة (الشعراء). والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَإِذا:} الواو: حرف استئناف. (إذا): انظر الآية رقم [23]. {تُتْلى:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {آياتُنا:} نائب فاعل، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {بَيِّناتٍ:} حال منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{تُتْلى..} . إلخ في محل جر بالإضافة: (إذا) إليها على المشهور المرجوح.

{قالُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق. {ما:} نافية. {هذا:}

اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {إِلاّ:} حرف حصر. {رَجُلٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {يُرِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {رَجُلٌ}. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {يَصُدَّكُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} والفاعل يعود إلى: {رَجُلٌ،} والكاف مفعول به، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية:{يُرِيدُ..} . إلخ في محل رفع صفة {رَجُلٌ} . {عَمّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {يَعْبُدُ:} فعل مضارع. {آباؤُكُمْ:} تنازعه الفعلان قبله، فالأول يطلبه اسما له، والثاني يطلبه فاعلا، والثاني أولى عند البصريين لقربه، والأول أولى عند الكوفيين لسبقه، وعلى المذهبين يضمر في أحدهما، والظاهر للآخر، وجملة:{يَعْبُدُ آباؤُكُمْ} في محل نصب خبر: {كانَ،} والجملة الفعلية صلة (ما) أو صفتها على الاعتبارين الأولين فيها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: عن الذي، أو: عن شيء كان يعبده آباؤكم، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب:(عن) التقدير:

يصدكم عن عبادة آبائكم. وجملة: {(قالُوا: ما هذا

)} إلخ جواب (إذا) لا محل لها، و (إذا) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض وفاعله. والألف للتفريق، والجملة الاسمية:

{ما هذا إِلاّ إِفْكٌ} في محل نصب مقول القول، وإعرابها مثل إعراب سابقتها. {مُفْتَرىً:} صفة:

{إِفْكٌ} مرفوع مثله، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، وجملة:{وَقالُوا..} . إلخ معطوفة على جواب (إذا) لا محل لها مثلها. {وَقالَ:} الواو: حرف استئناف. (قال): فعل ماض. {الَّذِينَ:} فاعله، وجملة:{كَفَرُوا}

ص: 619

مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لِلْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان ب: (قال).

{لَمّا:} ظرف بمعنى حين مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل: (قال)، أو هو متعلق بمحذوف حال من (الحق) والمعنى: لا يأباه. {جاءَهُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى الحق، والهاء مفعول به، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:{لَمّا} إليها. {أَنْ:} حرف نفي بمعنى:

«ما» . {هذا:} مبتدأ. {إِلاّ} حرف حصر. {سِحْرٌ:} خبر المبتدأ. {مُبِينٌ:} صفة له، والجملة الاسمية:{إِنْ هذا..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وكذا إن اعتبرتها معطوفة على ما قبلها لا محل لها.

{وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)}

الشرح: {وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها} أي: وما أعطيناهم كتبا يقرءونها فيها برهان على صحة معتقداتهم، وعبادتهم الحجارة، والأوثان، ولا أرسلنا إليهم قبلك يا محمد نذيرا ينذرهم بالعقاب؛ إن لم يشركوا، كما قال الله عز وجل:{أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} الآية رقم [35] من سورة (الروم)، أو وصفهم الله بأنهم قوم أميون أهل جاهلية، لا ملة لهم، ولا عهد لهم بإنزال كتاب، ولا بعثة رسول، كما قال جل ذكره:{أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} الآية رقم [21] من سورة (الزخرف) فليس لتكذيبهم وجه، ولا متشبث؛ ولا شبهة يتعلقون بها، كما يقول أهل الكتاب، وإن كانوا مبطلين: نحن أهل كتاب وشرائع، ومستندون إلى رسول من رسل الله. قال الطبري: أي ما أنزل الله على العرب كتابا قبل القرآن، ولا بعث إليهم نبيا قبل محمد صلى الله عليه وسلم، أي: فكيف يحق لهم معاداته؟ وانظر ما ذكرته في سورة (يس) رقم [6] تجد ما يسرك.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {آتَيْناهُمْ:} فعل ماض، وفاعله، ومفعوله الأول. {مِنْ:} حرف جر صلة. {كُتُبٍ:} مفعول به ثان منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {يَدْرُسُونَها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية في محل جر صفة {كُتُبٍ} على اللفظ، والجملة الفعلية:{وَما آتَيْناهُمْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. وقيل: في محل نصب حال، وهو وجه ضعيف. {وَما:} الواو: حرف عطف.

(ما): نافية. {أَرْسَلْنا:} فعل، وفاعل. {إِلَيْهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {قَبْلَكَ:}

ظرف زمان متعلق بالفعل قبله، أو هو متعلق بما بعده، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ:} حرف جر صلة. {نَذِيرٍ:} مفعول به منصوب مثل: {كُتُبٍ} . وجملة: {وَما أَرْسَلْنا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها.

ص: 620

{وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)}

الشرح: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كذب قبل أهل مكة أقوام، كانوا أشد من هؤلاء بطشا، وأكثر أموالا، وأولادا، وأوسع عيشا، فأهلكتهم، كقوم فرعون، والنمرود، وكثمود، وعاد، فما أغنى عنهم قوتهم، ولا أموالهم، كما قال تعالى:{فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} الآية رقم [8] من سورة (الزخرف). {وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ} أي: ما بلغ كفار قريش عشر ما أوتي جبابرة الأمم السابقة من القوة، وعلو المكانة في الدنيا، والنعمة، وطول الأعمار. و (المعشار) كالمرباع، وهما: العشر، والربع.

{فَكَذَّبُوا رُسُلِي:} وإنما قال: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} وهو مستغنى عنه بقوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ؛} لأنه لما كان معنى قوله: {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ:} وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه؛ جعل تكذيب الرسل مسببا عنه، وهو كقول القائل: أقدم فلان على الكفر، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.

{فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} أي: عقابي للمكذبين الأولين، فليحذر كفار قريش من مثله! أي: فحين كذبوا رسلهم؛ جاءهم إنكاري بالتدمير، والإهلاك، والاستئصال، ولم تغن عنهم قوتهم، ولا أموالهم، ولا أولادهم شيئا، فما لكفار قريش لا يهتدون، ولا يرتدعون عما هم عليه من الكفر، والعصيان، والطغيان؟! هذا؛ والاستفهام معناه التعجب، ومفاده: التغيير؛ أي: فانظر كيف كان تغييري ما كانوا فيه من النعيم، والرخاء بالعذاب، والهلاك، فكذلك أفعل بالمكذبين من قريش. قال الجوهري: النكير، والإنكار: تغيير المنكر، ولا معنى له هنا. والكلام فيه تهديد، ووعيد.

الإعراب: {وَكَذَّبَ:} الواو: حرف عطف. (كذب): فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل. {مِنْ قَبْلِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{وَكَذَّبَ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها. {وَما:} الواو: واو الحال. (ما): نافية. {بَلَغُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الواو، والضمير. {مِعْشارَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة.

{آتَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعوله الأول، والجملة الفعلية صلة:{ما،} أو صفتها، والرابط، أو العائد محذوف، التقدير: معشار الذي، أو: شيء آتيناهموه. {فَكَذَّبُوا:} الفاء: حرف عطف. (كذبوا): فعل ماض وفاعله، والألف للتفريق. {رُسُلِي:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة،

ص: 621

والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَكَذَّبُوا رُسُلِي} معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها. {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف عطف. (كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر: {كانَ،} تقدم عليها، وعلى اسمها. ومفاد الاستفهام الإنكار، والتعجب معا.

{كانَ:} فعل ماض ناقص. {نَكِيرِ:} اسم {كانَ} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} معطوفة على جملة محذوفة، التقدير: فأهلكتهم، فكيف كان نكيري؟! وقدر البيضاوي المحذوف بقوله: فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير، فكيف كان نكيري؟!

{قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)}

الشرح: {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ:} أرشدكم، وأنصح لكم بخصلة واحدة، وأحذركم سوء عاقبة ما أنتم عليه. والخصلة الواحدة هي قوله تعالى:{أَنْ تَقُومُوا لِلّهِ مَثْنى وَفُرادى:} ليس المراد بالقيام حقيقته، الذي هو الانتصاب على القدمين؛ بل المراد به النهوض بالهمة، والاعتناء، والاشتغال بالتفكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به، وطلب القرآن من كفار قريش أن يتفكروا في أمره صلى الله عليه وسلم مثنى، وفرادى، ففيهما طباق بديع؛ لأن الاثنين يتفكران، ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه لينظر فيه، وأما الواحد فيفكر في نفسه أيضا بعدل ونصفة، فيقول: هل رأينا في هذا الرجل جنونا، أو جربنا عليه كذبا قط؟ وقد علمتم أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما به من جنون؛ بل علمتموه أرجح قريش عقلا، وأرزنهم حلما، وأحدّهم ذهنا، وأرضاهم رأيا، وأصدقهم قولا، وأزكاهم نفسا، وأجمعهم لما يحمد عليه الرجال، ويمدحون به، وإذا علمتم بذلك؛ كفاكم أن تطالبوه بآية، وإذا جاء بها؛ تبين أنه نبي صادق فيما جاء به. انتهى. خازن. وهذا فحوى قوله تعالى:{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} والتعبير ب: (صاحبكم) للإيماء إلى أن حال النبي صلى الله عليه وسلم مشهور بينهم؛ لأنه تربى في أحضانهم، وترعرع فيما بينهم، ويعرفون خلقه، وصدقه، وأمانته وعفته

إلخ، ولذلك سماه قومه: الأمين، وانظر شرح:{جِنَّةٍ} في الآية رقم [8].

{إِنْ هُوَ إِلاّ نَذِيرٌ لَكُمْ..} . إلخ: عن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم، فقال: يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم: أن العدو يصبحكم، أو يمسيكم، أما كنتم تصدقوني؟!» . قالوا: بلى! قال صلى الله عليه وسلم: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» . فقال أبو لهب: تبا لك! ألهذا جمعتنا؟! فأنزل الله عز وجل:

{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} . رواه البخاري. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [94] من سورة (الحجر) و (الشعراء)[214].

ص: 622

وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه-رضي الله عنه-قال:«خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فنادى ثلاث مرات، فقال: «أيها الناس تدرون ما مثلي ومثلكم؟» . قالوا:

الله ورسوله أعلم، قال صلى الله عليه وسلم:«إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدوا يأتيهم، فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك؛ أبصر العدوّ، فأقبل لينذرهم، وخشي أن يدركه العدوّ قبل أن ينذر قومه، فأهوى بثوبه، أيّها الناس! أوتيتم. أيها الناس! أوتيتم» . ثلاث مرات. هذا؛ وفي قوله: {بَيْنَ يَدَيْ..} . إلخ استعارة، حيث استعير لفظ اليدين لما يكون من الأهوال، والشدائد أمام الإنسان يوم القيامة، وفي قوله:{مَثْنى وَفُرادى} مقابلة، ومطابقة بينهما، وهذا من المحسنات البديعية.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنت» . {إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {أَعِظُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنا» ، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِواحِدَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {أَنْ:} حرف مصدري، ونصب. {تَقُومُوا:} فعل مضارع منصوب ب: {أَنْ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق، و {أَنْ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بدلا من:(واحدة)، أو في محل رفع خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هي قيامكم، أو في محل نصب مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني قيامكم. ومذهب الزجاج: في محل نصب على نزع الخافض. وأقواها أولها، وقال الزمخشري: عطف بيان على: (واحدة) ورده ابن هشام في المغني بقوله: البيان لا يخالف متبوعه في تعريفه، وتنكيره. {لِلّهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {مَثْنى وَفُرادى:} حالان من واو الجماعة منصوبان، وعلامة نصبهما فتحة مقدرة على الألف للتعذر. {ثُمَّ:} حرف عطف. {تَتَفَكَّرُوا:} معطوف على: {تَقُومُوا} منصوب مثله.

{إِنَّما:} نافية، معلقة للفعل:{تَتَفَكَّرُوا} عن العمل. {بِصاحِبِكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {جِنَّةٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، علامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية في محل نصب سدت مسد مفعول الفعل: تتفكروا، وقال أبو حاتم: الوقف على {تَتَفَكَّرُوا} والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. وقيل:{إِنَّما} استفهامية، والمعنى: ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون، وعليه فالجار والمجرور:{مِنْ جِنَّةٍ} متعلقان بمحذوف حال من:

(صاحبكم)، وهو ضعيف معنى، وتركيبا كما ترى. {أَنْ:} حرف نفي. {هُوَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {نَذِيرٌ:} خبر المبتدأ. {لَكُمْ:}

جار ومجرور متعلقان ب: {نَذِيرٌ،} أو بمحذوف صفة له. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق ب: {نَذِيرٌ،} أو صفة أخرى له، أو هو متعلق بمحذوف حال من الضمير المستتر في {لَكُمْ} .

ص: 623

و {بَيْنَ} مضاف، و {يَدَيْ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى صورة، وحذفت النون للإضافة، و {يَدَيْ} مضاف، و {عَذابٍ} مضاف إليه. {شَدِيدٍ:} صفة:

{عَذابٍ،} والجملة الاسمية: {إِنْ هُوَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الفعلية:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها أيضا.

{قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. {ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ:} أيّ شيء سألتكم من أجر على تبليغ الرسالة {فَهُوَ لَكُمْ:} والمراد: نفي السؤال عنه فإنه جعل التنبي مستلزما لأحد الأمرين: إما الجنون، وإما توقع نفع دنيوي عليه؛ لأنه إما أن يكون لغرض، أو لغيره، وأيا ما كان يلزم أحدهما، ثم نفى كلا منهما. وقيل:{ما} موصولة مراد بها:

ما سألهم بقوله: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً،} وقوله تعالى:

{لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} واتخاذ السبيل ينفعهم، وقرباه قرباهم. انتهى. بيضاوي.

{إِنْ أَجْرِيَ إِلاّ عَلَى اللهِ} أي: ما ثوابي، وأجري إلا على الله فهو الذي يثيبني، {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ:} حفيظ مهيمن يعلم: أني لا أطلب الأجر على نصيحتكم، ودعائكم إليه إلا منه، ولا أطمع منكم في شيء.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به ثان مقدم. {سَأَلْتُكُمْ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والكاف مفعول به أول. {مِنْ أَجْرٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها. {فَهُوَ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (هو) مبتدأ. {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها. هذا؛ وعلى اعتبار {ما} موصولة، فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير:

الذي سألتكموه. و {مِنْ أَجْرٍ} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المحذوف، والجملة الاسمية:

(هو لكم) في محل رفع خبر المبتدأ، ودخلت الفاء عليه لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

{إِنْ:} حرف نفي بمعنى (ما). {أَجْرِيَ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {إِلاّ:} حرف حصر. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَهُوَ:} الواو: واو الحال. (هو): مبتدأ. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {شَهِيدٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {شَهِيدٌ:} خبر المبتدأ، والجملة

ص: 624

الاسمية في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والرابط: الواو، والضمير. والكلام كله في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاّمُ الْغُيُوبِ (48)}

الشرح: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ:} القذف، والرمي تصويب السهم، ونحوه بدفع، واعتماد، وقوة، ويستعاران من حقيقتهما لمعنى الإلقاء، ومنه قوله تعالى:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ،} وقوله تعالى: {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} . ومعنى {يَقْذِفُ بِالْحَقِّ:} يلقيه، وينزله إلى أنبيائه، أو يرمي به الباطل فيدفعه، ويزهقه، كقوله تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ} وهو قول ابن عباس. أو: يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعدا بإظهار الإسلام، وإفشائه.

وانظر شرح الحق في الآية رقم [30] من سورة (لقمان)، وانظر شرح {يَقْذِفُ} في الآية رقم [53].

{عَلاّمُ الْغُيُوبِ:} صيغة مبالغة: عالم. و {الْغُيُوبِ:} الأمر الذي غاب، وخفي جدا، وهو يقرأ بتثليث الغين، فالضم، كالشعور، والفتح، كالصبور، والكسر، كالبيوت (بكسر الباء).

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبِّي:} اسم: {إِنَّ} منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {يَقْذِفُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر فيه، ومفعوله محذوف، التقدير: يقذف الباطل بالحق، أي: يدفعه. {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، أي: ملتبسا بالحق، وأجيز اعتبار الباء زائدة، والحق مفعوله، أو الفعل يضمن معنى: يقضي، ويحكم، فيكون لازما. {عَلاّمُ:} بدل من محل اسم: {إِنَّ،} أو صفة له، أو هو بدل من الضمير المستكن بالفعل:{يَقْذِفُ،} أو هو خبر ثان ل: {إِنَّ،} أو هو خبر لمبتدإ محذوف. وقرئ بالنصب على أنه صفة ل: {رَبِّي،} أو بدل منه، أو هو على إضمار:

أعني، و {عَلاّمُ} مضاف، و {الْغُيُوبِ} مضاف إليه، من إضافة مبالغة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وجملة:{يَقْذِفُ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49)}

الشرح: {قُلْ جاءَ الْحَقُّ} أي: الإسلام، والقرآن، وذهب الباطل، واضمحل، ولهذا لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة؛ جعل

ص: 625

يطعن الصنم منها بعود كان في يده، ويقرأ قوله تعالى:{وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً} الآية رقم [81] من سورة (الإسراء). ويقرأ: {قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ} .

أخرجه البخاري، ومسلم، والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه. أي: لم يبق للباطل مقالة، ولا رئاسة، ولا كلمة. وزعم قتادة، والسدي: أن المراد بالباطل هنا: إبليس؛ أي: إنه لا يخلق أحدا، ولا يعيده على ذلك. وهذا؛ وإن كان حقا، ولكن ليس هو المراد هاهنا، والله أعلم. انتهى. مختصر ابن كثير. وانظر شرح:{الْباطِلُ} في العنكبوت [52]. وفي البيضاوي تبعا للزمخشري: {الْباطِلُ:} الشرك ذهب بحيث لم يبق له أثر، مأخوذ من هلاك الحي، فإنه إذا هلك لم يبق إبداء ولا إعادة أي: فإنه كناية عن هلاكه، وذهابه، وفي {يُبْدِئُ} و {يُعِيدُ} طباق أيضا. ومنه قول عبيد بن الأبرص:[الرجز] أأقفر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله تقديره:«أنت» . {جاءَ الْحَقُّ:} ماض، وفاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {وَما:}

الواو: حرف عطف. (ما): نافية. {يُبْدِئُ:} فعل مضارع. {الْباطِلُ} فاعله، ومفعوله محذوف، التقدير: ما يبدئ الباطل لأهله خيرا. {وَما يُعِيدُ:} مثله في حذف المفعول، والفاعل يعود إلى {الْباطِلُ،} التقدير: وما يعيد لأهله خيرا. وقيل: الفعلان منزلان منزلة اللازم، والجملة الفعلية:{وَما يُبْدِئُ..} . إلخ معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب مقول القول.

هذا؛ وإن اعتبرتها في محل نصب حال من {الْحَقُّ} فالمعنى لا يأباه، ويكون الرابط الواو فقط.

هذا؛ وقيل: (ما) استفهامية مبنية على السكون في محل نصب مفعول به مقدم، التقدير: وأي شيء يبدئ الباطل؟! وهو غير واضح معنى.

{قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اِهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)}

الشرح: {قُلْ} أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين. {إِنْ ضَلَلْتُ} أي: عن الحق. {فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي} أي: وبال ضلالي عليها، فإنه بسببها؛ إذ هي الجاهلة بالذات، والأمارة بالسوء.

وذلك: أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: تركت دين آبائك، فضللت. وقراءة الجمهور:{ضَلَلْتُ} بفتح اللام، وقرأ يحيى بن وثاب، وغيره بكسر اللام، وفتح الضاد من:«أضلّ» . والضلال، والضلالة: ضد الرشاد. وقد ضللت بفتح اللام، أضل بكسرها، وهي قراءة حفص في هذه الآية، فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون:«ضللت، أضل» بكسر الضاد

ص: 626

فيهما، وانظر شرح (الضلال) في الآية رقم [11] من سورة (لقمان)، و (السجدة) رقم [10].

{وَإِنِ اهْتَدَيْتُ} أي: إلى الحق، والصواب. {فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي:} من القرآن والحكمة، وإن الاهتداء بهدايته، وتوفيقه، قال تعالى:{وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها..} . إلخ الآية رقم [13] من سورة (السجدة).

وكان قياس التقابل أن يقال: وإن اهتدت، فإنما أهتدي لها، كقوله تعالى:{مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} الآية رقم [15] من سورة (الإسراء) ولكن هما متقابلان معنى؛ لأن النفس كل ما هو وبال عليها، وضار لها، فهو بها، وبسببها؛ لأنها الأمارة بالسوء، وما لها مما ينفعها؛ فبهداية ربها، وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه؛ لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة قدره، وسداد طريقته، كان غيره أولى به. انتهى. نسفي. وانظر ما ذكرته في سورة (الشعراء) رقم [80]. {إِنَّهُ سَمِيعٌ:} يسمع قول كل ضال، ومهتد. {قَرِيبٌ:} مني، ومنكم يجازيني بعملي، ويجازيكم بأعمالكم.

هذا؛ وأصل الوحي: الإشارة السريعة، والوحي: الكتاب المنزل على الرسول المرسل لقومه، مثل موسى، وعيسى، ومحمد صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، والوحي أيضا: الكتابة، والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك. وتسخير الطير لما خلق له إلهام، والوحي إلى النحل، وتسخيرها لما خلقها الله له إلهام أيضا، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [68] من سورة (النحل) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {إِنْ:} حرف شرط جازم.

{ضَلَلْتُ:} فعل ماض مبني على السكون في محل جزم فعل الشرط، والتاء فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة ومكفوفة. {أَضِلُّ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:

«أنا» . {عَلى نَفْسِي:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وعلامة الجر كسرة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء: ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة:{فَإِنَّما أَضِلُّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تحل محل المفرد عند الدسوقي، وهي في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور. و (إن) ومدخولها في محل نصب مقول القول. و (إن) الثانية ومدخولها كلام معطوف عليه فهو في محل نصب مقول القول أيضا. {فَبِما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (بما): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: فاهتدائي بما. و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: فبسبب الذي، أو: شيء يوحيه

إلخ، وعلى اعتبارها مصدرية، تؤول مع ما بعدها

ص: 627

بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: فاهتدائي بسبب إيحاء ربي إليّ، والجملة الاسمية على التقديرين في محل جزم جواب الشرط. {يُوحِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {إِلَيَّ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {رَبِّي:} فاعل {يُوحِي} مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم

إلخ، والياء: في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها.

{سَمِيعٌ:} خبر (إن). {قَرِيبٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية تعليل للاهتداء، والجملة الفعلية:

{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)}

الشرح: {وَلَوْ تَرى:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتّى منه الرؤية، والتبصر، والاعتبار. {إِذْ فَزِعُوا:} عند الموت، أو عند البعث، والخروج من القبور. وقال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة، فلم يستطيعوا فرارا، ولا رجوعا إلى التوبة. وقال سعيد بن جبير: هو الجيش الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى منهم رجل واحد، فيخبر الناس بما لقي أصحابه. فيفزعون، وذلك أن ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم، كذا قاله ابن عباس-رضي الله عنهما. وهذا يكون في آخر الزمان.

والمعتمد الأول، و (لو) و {إِذْ} والأفعال التي هي:{فَزِعُوا} و (أخذوا) في هذه الآية، و {(حِيلَ بَيْنَهُمْ)} في الآية الأخيرة كلها للمضي، والمراد بها الاستقبال، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [32].

{فَلا فَوْتَ:} فلا مهرب، ولا محيص؛ بل: ولا ملجأ لهم. {وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ:} من الموقف إلى النار، أو أخرجوا من القبور. وقيل: من حيث كانوا، فهم من الله قريب، لا يعجزون الله، ولا يفوتونه.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{تَرى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنت» ، ومفعوله محذوف. تقديره: الكافرين، أو المجرمين، أو حالهم. {إِذْ:} ظرف لما مضى من الزمان مبني على السكون في محل نصب متعلق بالفعل قبله. {فَزِعُوا:} فعل ماض مبني على الضم، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة {إِذْ} إليها، وجملة:{تَرى..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال:

لأنها جملة شرط غير ظرفي، وجواب (لو) محذوف، التقدير: لرأيت أمرا فظيعا، وهولا عظيما. وأجيز اعتبار:(لو) للتمني، فلا تحتاج إلى جواب حينئذ، والأول أقوى. و (لو) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

ص: 628

{فَلا:} الفاء: حرف استئناف مفيد للاعتراض. (لا): نافية للجنس تعمل عمل: «إنّ» .

{فَوْتَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب، والخبر محذوف، تقديره: لهم، وحذفه هنا واجب عند بني تميم، وعند الطائيين، وجائز عند الحجازيين. قال ابن مالك-رحمه الله تعالى-في ألفيته:[الرجز] وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر

إذا المراد مع سقوطه ظهر

والجملة الاسمية: «فلا فوت لهم» المقدرة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين. {وَأُخِذُوا:}

الواو: حرف عطف. (أخذوا): ماض مبني للمجهول، والواو نائب فاعله، والألف للتفريق.

{مِنْ مَكانٍ:} متعلقان بالفعل قبلهما. {قَرِيبٍ:} صفة: {مَكانٍ،} وجملة: {وَأُخِذُوا..} . إلخ معطوفة على جملة: {فَزِعُوا} فهي في محل جر مثلها.

{وَقالُوا آمَنّا بِهِ وَأَنّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)}

الشرح: {وَقالُوا} أي: الكفار حين يؤخذون من مكان قريب، ويعاينون العذاب، والانتقام، والسخط، وغضب الواحد القهار. {آمَنّا بِهِ} أي: بالقرآن، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لمرور ذكره في قوله تعالى:{ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} . {وَأَنّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} أي:

من أين لهم تناول الإيمان في الآخرة، وقد كفروا به في حال الدنيا. قال ابن عباس، والضحاك: التناوش: الرجعة؛ أي: يطلبون الرجعة إلى الدنيا؛ ليؤمنوا، وهيهات ذلك! ومنه قول الشاعر:[الوافر] تمنّى أن تئوب إليّ ميّ

وليس إلى تناوشها سبيل

وقيل: التناوش: التناول. قال ابن السكيت: يقال للرجل إذا تناول رجلا ليأخذ برأسه، ولحيته: ناشه، ينوشه، نوشا، وأنشد قول ابن حريث:[الرجز] فهي تنوش الحوض نوشا من علا

نوشا به تقطع أجواز الفلا

أي: تناول ماء الحوض من فوق، وتشرب شربا كثيرا، وتقطع بذلك الشرب فلوات، فلا تحتاج إلى ماء آخر، فهو يصف إبلا. وقال عنترة في معلقته رقم [51]:[الكامل] فتركته جزر السّباع ينشنه

ما بين قلّة رأسه والمعصم

وقرئ: «(وأنّى لهم التّناؤش)» بالهمز، فهو من نأشت: إذا تأخرت، وقد نأشت الأمر، أناشه، نأشا: أخرته، ويقال: فعله نئيشا؛ أي: أخيرا. قال الشاعر: [الطويل] تمنّى نئيشا أنّ يكون أطاعني

وقد حدثت بعد الأمور أمور

ص: 629

يقول: إن صاحبي تمنى أخيرا أن يكون أطاعني فيما نصحته، وأشرت إليه أولا، والحال:

أنه قد حدثت أمور بعد أمور دلت على رشادي، وصدق رأيي. وقال آخر:[الطويل] قعدت زمانا عن طلابك للعلا

وجئت نئيشا بعد ما فاتك الخبر

وقال الفراء: الهمز، وترك الهمز في التناوش متقارب، مثل ذمت الرجل وذأمته أي عبته.

{مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} أي: من الآخرة؛ لأن الإيمان في الدنيا، وقد بعد عنهم، وهو تمثيل حالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات منهم، وبعد عنهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة سهم تناوله من ذراع في الاستحالة، فهو استعارة تمثيلية، أو تشبيه تمثيلي. وما أكثر ما ذكر القرآن عنهم مثل ذلك! كقوله تعالى:{رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ} الآية رقم [12] من سورة (السجدة)، وقوله تعالى في سورة (المؤمنون) رقم [108]. {رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنّا ظالِمُونَ} . وغير ذلك كثير.

فإن قيل: كيف قال في كثير من المواضع: إن الآخرة من الدنيا قريبة، وسمى الساعة قريبة، فقال:{اِقْتَرَبَتِ السّاعَةُ..} . إلخ، وقال:{اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ،} وقال: {لَعَلَّ السّاعَةَ قَرِيبٌ؟} الجواب: إن الماضي كالأمس الدابر، وهو أبعد ما يكون؛ إذ لا وصول إليه، والمستقبل وإن كان بينه، وبين الحاضر سنون؛ فإنه آت، فيوم القيامة؛ الدنيا بعيدة منه؛ لمضيها، ويوم القيامة في الدنيا قريب؛ لإتيانه. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق.

{آمَنّا:} فعل ماض مبني على السكون، و (نا): فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب مقول القول. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {وَأَنّى:} الواو: حرف عطف. (أنى):

اسم استفهام بمعنى: كيف، أو: من أين، فهو مبني على السكون في محل رفع خبر مقدم.

{لَهُمُ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال منه. {التَّناوُشُ:}

مبتدأ مؤخر. هذا؛ وأجيز تعليق {لَهُمُ} بمحذوف خبر: (أنى) على اعتباره مبتدأ. واعتبار {التَّناوُشُ} فاعلا بالجار والمجرور، قال السمين: وفيه بعد، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{وَقالُوا..} . إلخ المعطوفة بدورها على ما قبلها لا محل لها مثلها. {مِنْ مَكانٍ:} جار ومجرور متعلقان ب: {التَّناوُشُ} . {بَعِيدٍ} صفة: {مَكانٍ} .

{وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53)}

الشرح: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ} أي: بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بالقرآن، أو بالعذاب. بمعنى: لم يصدقوا، ولم يقروا به. {مِنْ قَبْلُ} أي: من قبل أن يعاينوا العذاب، أو في الدنيا، أو في أوان التكليف، وطلب الإيمان منهم، فكيف يقبل منهم الإيمان في الآخرة؟ {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ}

ص: 630

أي: ويرجمون بالظن، ويتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول صلى الله عليه وسلم من المطاعن، كقولهم:

شاعر، كاهن، مجنون

إلخ، أو في العذاب من البت على نفيه. {مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ:} من جانب بعيد من أمره، وهو الشّبه التي تمحلوها في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وحال الآخرة، كما حكاه من قبل، ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئا لا يراه. {مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ:}

لا مجال للظن في لحوقه. انتهى. بيضاوي. وهذا استعارة تمثيلية تقريرها: أنه شبه حالهم في ذلك؛ أي: في قولهم: {آمَنّا بِهِ} حيث لا ينفعهم الإيمان بحال من رمى شيئا من مكان بعيد، وهو لا يراه، فإنه لا يتوهم إصابته، ولا لحوقه لخفائه عنه، وغاية بعده. فالباء في {بِالْغَيْبِ} بمعنى: في، أي في محل غائب عن نظرهم، أو للملابسة. انتهى. جمل نقلا من الشهاب، وقوله تعالى:{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} مثل قوله تعالى في الآية رقم [22] من سورة (الكهف): {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ} . وانظر شرح (كفروا) في الآية رقم [34] من سورة (الروم). وانظر الآية رقم [3] ورقم [48] من هذه (السورة).

الإعراب: {وَقَدْ:} الواو: واو الحال. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال.

{كَفَرُوا:} فعل ماض، والواو فاعله، والألف للتفريق. {بِهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من واو الجماعة، أو من الضمير المجرور محلا بالباء، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه عن الإضافة لفظا، لا معنى. {وَيَقْذِفُونَ:} الواو: حرف عطف. (يقذفون): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله. {بِالْغَيْبِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مِنْ مَكانٍ:} متعلقان به أيضا.

{بَعِيدٍ:} صفة: {مَكانٍ،} وجملة: {وَيَقْذِفُونَ..} . إلخ معطوفة على جملة: {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ..} . إلخ فهي في محل نصب حال مثلها، وساغ ذلك؛ لأنه على حكاية الحال الماضية.

{وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)}

الشرح: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ} أي: حيل بينهم، وبين النجاة من العذاب. وقيل:

حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم، وأهليهم. ومذهب قتادة: أن المعنى: أنهم كانوا يشتهون لما رأوا العذاب أن يقبل منهم أن يطيعوا الله عز وجل، وينتهوا إلى ما يأمرهم به الله، فحيل بينهم، وبين ذلك؛ لأن ذلك إنما كان في الدنيا، وقد زالت في ذلك الوقت. انتهى. قرطبي. وقال ابن كثير: الصحيح: أنه لا منافاة بين القولين، فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا، وبين ما طلبوه في الآخرة، فمنعوا منه. انتهى. هذا؛ وإعلال (حيل) مثل إعلال (قيل) انظر الآية رقم [21] من سورة (لقمان).

ص: 631

{كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} أي: كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل، لما جاءهم بأس الله؛ تمنوا أن لو آمنوا، فلم يقبل منهم، كما قال الله تعالى في الآية رقم [85] من سورة (غافر):{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} هذا؛ والمراد ب (أشياعهم) أشباههم من كفرة الأمم الماضية، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [32] من سورة (الروم) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

{إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} أي: في شك، وريبة، أي: من أمر الرسل، والجنة، والنار، والحساب، والجزاء بعد الموت، يقال: أراب الرجل؛ أي: صار ذا ريبة، فهو مريب. ومن قال: هو من الريب الذي هو الشك، والتهمة؛ قال: يقال شك مريب، كما يقال: عجب عجيب، وشعر شاعر في التأكيد. قال قتادة-رحمه الله تعالى-: إياكم والشك، والريبة، فإنه من مات على شك؛ بعث عليه. ومن مات على يقين؛ بعث عليه، وانظر شرح (الريب) في الآية رقم [2] من سورة (السجدة) تجد ما يسرك. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَحِيلَ:} الواو: حرف عطف. (حيل): فعل ماض مبني للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى المصدر المفهوم من الفعل، التقدير: وحيل هو؛ أي: الحول، وقال الأخفش: نائب الفاعل هو: (بين) وبني على الفتح لإضافته لمبني، وكان حقه الرفع. ورد ابن هشام عليه في المغني، وأورد قول علقمة الفحل:[الطويل] وقالت متى يبخل عليك ويعتلل

يسوؤك وإن يكشف غرامك تدرب

وهذا هو الشاهد رقم [909] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» ، وقول صخر أخي الخنساء:[الطويل] أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه

وقد حيل بين العير والنّزوان

وهذا هو الشاهد رقم [910] من كتابنا المذكور، ومثله قول طرفة بن العبد البكري:[الطويل] فيا لك من ذي حاجة حيل دونها

وما كلّ ما يهوى امرؤ هو نائله

ومثل هذه الآية قوله تعالى في سورة (الكهف) رقم [42]: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ..} . إلخ، والآية رقم [19] من سورة (الأحزاب). {بَيْنَهُمْ:} ظرف مكان متعلق بالفعل قبله، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَبَيْنَ:} الواو: حرف عطف. (بين): معطوف على ما قبله، و (بين) مضاف، و {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: وبين الذي، أو شيء يشتهونه، وعلى اعتبار {ما} مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالإضافة، التقدير: وبين مشتهاهم، وجملة: (حيل

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا.

ص: 632

{كَما:} الكاف: حرف تشبيه وجر. (ما): اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمصدر محذوف يقع مفعولا مطلقا، التقدير:

وحيل بينهم، وبين الذي يشتهونه حولا كائنا مثل الذي

إلخ، وهذا ليس مذهب سيبويه، وإنما مذهبه في مثل هذا التركيب أن يكون منصوبا على الحال من المصدر المضمر المفهوم من الفعل المتقدم. وإنما أحوج سيبويه إلى هذا؛ لأن حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، لا يجوز إلا في مواضع معينة، وليس هذا منها. انتهى. جمل نقلا عن السمين في غير هذا الموضع.

{فُعِلَ:} فعل ماض مبني للمجهول، ونائب فاعله يعود إلى:{ما،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {بِأَشْياعِهِمْ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من:

(أشياعهم)، وبني {قَبْلُ} على الضم لقطعه على الإضافة لفظا، لا معنى.

{إِنَّهُمْ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء ضمير متصل في محل نصب اسمها. {كانُوا:} فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {فِي شَكٍّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (كان). {مُرِيبٍ:} صفة: {شَكٍّ،} وجملة: {كانُوا..} . إلخ في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:{إِنَّهُمْ..} . إلخ تعليل للحيلولة بينهم وبين ما يشتهون.

انتهت سورة (سبأ) تفسيرا وإعرابا، بحمد الله وتوفيقه.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 633