المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة فاطر سورة (فاطر) وتسمى سورة الملائكة، وهي مكية بالإجماع، وهي - تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه - الدرة - جـ ٧

[محمد علي طه الدرة]

الفصل: ‌ ‌سورة فاطر سورة (فاطر) وتسمى سورة الملائكة، وهي مكية بالإجماع، وهي

‌سورة فاطر

سورة (فاطر) وتسمى سورة الملائكة، وهي مكية بالإجماع، وهي خمس وأربعون آية، وتسعمائة وسبعون كلمة، وثلاثة آلاف ومائة وثلاثون حرفا، وسميت سورة (فاطر)، لذكر هذا الاسم الجليل، والنعت الجميل في طليعتها؛ لما في هذا الوصف من الدلالة على الإبداع، والاختراع، والإيجاد لا على مثال سبق، ولما فيه من التصوير الدقيق المشير إلى عظمة ذي الجلال، وباهر قدرته، وعجيب صنعه، فهو الذي خلق الملائكة، والسموات، والأرض، وأبدع خلقهم بهذا الخلق العجيب، وقد ورد هذا اللفظ في كثير من آيات القرآن.

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم

{الْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}

الشرح: {الْحَمْدُ لِلّهِ} أي: الثناء الكامل، والذكر الحسن مع التعظيم، والتبجيل لله جل، وعلا، وانظر شرح {الْحَمْدُ} في الآية رقم [15] من سورة (النمل). {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي:

خالقهما، ومبتدعهما على غير مثال سبق. هذا؛ والفطر: الشّق عن الشيء، يقال: فطرته، فانفطر. قال تعالى:{السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} . ومنه فطر ناب البعير: طلع، فهو بعير فاطر، وتفطّر الشيء: تشقق، وسيف فطار، أي: فيه تشقق، قال عنترة:[الوافر] وسيفي كالعقيقة فهو كمعي

سلاحي لا أفلّ، ولا فطارا

والفطر: الابتداء، والاختراع. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: كنت لا أدري ما {فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: أنا ابتدأتها. والفطر: حلب الناقة بالسبابة والإبهام. والمراد بذكر السموات، والأرض العالم كله.

ونبه بهذا على أنّ من قدر على الابتداء قادر على الإعادة، وانظر الآية رقم [22] من سورة (الروم)، وقد جمع بعضهم معاني هذه المادة على اختلافها، فقال:[الرجز] الابتدا والابتداع فطر

والصدع والغمز وأمّا الفطر

فترك صوم بعض كمّ فطر

وما بدا من عنب في الشّجر

ص: 634

{جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} أي: إلى الأنبياء، والمراد: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، على نبينا، وعليهم ألف صلاة، وألف سلام. {أُولِي أَجْنِحَةٍ} أي: ذوي أجنحة بمعنى: أصحاب.

و {أُولِي:} جمع لا واحد له من لفظه، وإنما واحده:«ذو» المضاف إذا كان مرفوعا، و «ذا» المضاف إذا كان منصوبا، و «ذي» المضاف إذا كان مجرورا، ومؤنثه «ذات» انظر الآية رقم [38] الآتية.

{مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} أي: جعل الله الملائكة ذوي أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها، ويعرجون إلى السماء، أو يسرعون بها نحو ما وكّلهم الله عليه، ويتصرفون فيه حسب ما أمرهم به. والمعنى: بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة أجنحة لعل الثالث يكون وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة، وبعضهم له أربعة، ولعله لم يرد خصوصية الأعداد، ونفي ما زاد عليها؛ لما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج، وله ستمائة جناح. هذا؛ وينبغي أن تعلم: أن الأعداد: {مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ} معدولة عن اثنين اثنين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، فكل جنس منفرد بعدد، وليس المراد الجمع بين هذه الأعداد، ومثل هذه الآية الآية رقم [3] من سورة (النساء) فالواو فيهما ليست لمطلق الجمع، وإنما هي لسرد الجنس، وعطف مثله عليه. وقيل: هي بمعنى: «أو» . ورده ابن هشام في المغني.

{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} أي: إن تفاوتهم في الأجنحة مقتضى مشيئته، ومؤدى حكمته؛ لا أنه أمر تستدعيه ذواتهم. وقيل: الزيادة في الخلق هي: الوجه الحسن، والصوت الحسن، والشعر الحسن. عزاه في الكشاف للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال الزمخشري: والآية مطلقة، تتناول كل زيادة في الخلق: من طول قامة، واعتدال صورة، وتمام في الأعضاء، وقوة في البطش، وحصافة في العقل، وجزالة في الرأي، وجراءة في القلب، وسماحة في النفس، وذلاقة في اللسان، ولباقة في التكلم، وحسن تأت في مزاولة الأمور، وما أشبه ذلك مما لا يحيط به الوصف.

{إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: مما يريد أن يخلقه من الزيادة، والنقصان. وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض، إنما هو من جهة الإرادة. والمعنى: أن الله تعالى قادر على ما يريد، له الأمر والسلطان، لا يمتنع عليه فعل شيء أراده، ولا يتأبّى عليه خلق شيء أراده، فقد وصف تعالى نفسه في هذه الآية بصفتين جليلتين، تحمل كل منهما صفة القدرة، وكمال الإنعام:

الأولى: أنه تعالى فاطر السموات، والأرض؛ أي: خالقهما، ومبدعهما من غير مثال يحتذيه، ولا قانون ينتحيه. وفي ذلك دلالة على كمال قدرته، وشمول نعمته، فهو الذي رفع السموات بغير عمد، وجعلها مستوية من غير أود، وزينها بالكواكب، والنجوم، وهو الذي بسط الأرض، وأودعها الأرزاق، والأقوات، وشق فيها البحار، والأنهار، وفجر فيها العيون، والآبار، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة، وآثار صنعته البديعة، وعبر عن ذلك كله بقوله:{فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} .

ص: 635

والثانية: أنه اختار الملائكة؛ ليكونوا رسلا بينه وبين أنبيائه. وقد أشار إلى طرف من عظمته وكمال قدرته-جل، وعلا-بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة، وصور غريبة، وأجنحة عديدة، فمنهم من له جناحان، ومنهم له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما هو وصف جبريل، على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. ومنهم من لا يعلم حقيقة خلقته، وضخامة صورته إلا الله تعالى. انتهى. صفوة التفاسير للصابوني.

وفي الكشاف-روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل-عليه الصلاة والسلام-أن يتراءى له في صورته، فقال: إنك لن تطيق ذلك. قال: إني أحب أن تفعل. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مقمرة، فأتاه جبريل في صورته، فغشي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أفاق، وجبريل-عليه السلام مسنده، وإحدى يديه على صدره، والأخرى بين كتفيه، فقال: سبحان الله ما كنت أرى أن شيئا من الخلق هكذا! فقال جبريل-عليه السلام: فكيف لو رأيت إسرافيل؛ له اثنا عشر جناحا، جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب، وإنّ العرش على كاهله، وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله؛ حتى يعود مثل الوصع؟! وهو العصفور الصغير. انتهى. كشاف.

هذا؛ ووصف جبريل بأنه له ستمائة جناح أخرجه مسلم عن ابن مسعود-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم. ووصف إسرافيل أخرجه الزهري. انتهى. قرطبي. هذا؛ وانظر شرح {الْمَلائِكَةِ} في الآية رقم [43] من سورة (الأحزاب)، وشرح (شيء) في الآية رقم [55] منها. وانظر شرح {الْحَمْدُ} في أول سورة (سبأ). والله الموفق، والمعين، وبه أستعين، وسترى شيئا من ذلك في سورة (النجم) إن شاء الله تعالى.

الإعراب: {الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية ابتدائية، لا محل لها من الإعراب. وقيل: هي في محل نصب مقول القول لقول محذوف، تقديره: قولوا: الحمد لله. وعليه فالجملة الفعلية ابتدائية لا محل لها. {فاطِرِ:} صفة لفظ الجلالة، ويجوز فيه الرفع على إضمار مبتدأ، والنصب على تقدير فعل قبله، ولم يقرأ بغير الجر. وقال الزمخشري: وقرئ: «(الذي فطر السموات، والأرض، وجعل الملائكة)» . و {فاطِرِ} مضاف، و {السَّماواتِ} مضاف إليه. واعتبر الإضافة محضة؛ لأن {فاطِرِ} بمعنى الماضي، والماضي لا يعمل. وقيل: الإضافة غير محضة، فتكون الإضافة من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. (الأرض): معطوف على ما قبله. {جاعِلِ:} يجوز فيه ما جاز ب: {فاطِرِ} من الأوجه، و {جاعِلِ} مضاف، و {الْمَلائِكَةِ} مضاف إليه مثل سابقه. {رُسُلاً:} مفعول به ثان، على اعتبار {جاعِلِ} عاملا في:{الْمَلائِكَةِ،} أو هو مفعول به لفعل محذوف على اعتباره غير عامل، وأجيز اعتباره حالا من:{الْمَلائِكَةِ} على اعتبار {جاعِلِ} بمعنى: خالق.

ص: 636

{أُولِي:} صفة رسلا، وقال أبو البقاء: بدل من (رسل) أو نعت له، منصوب مثله، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، وحذفت النون للإضافة، و {أُولِي} مضاف، و {أَجْنِحَةٍ} مضاف إليه. {مَثْنى:} صفة ل: {أَجْنِحَةٍ} مجرور مثله، وعلامة جره الفتحة المقدرة على الألف منع من ظهورها التعذر نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للصفة، والعدل. {وَثُلاثَ وَرُباعَ:} معطوفان على {مَثْنى} مجروران مثله. وقيل: {مَثْنى} بدل من {أَجْنِحَةٍ} والأول أقوى. {يَزِيدُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى (الله)، والمفعول الأول محذوف اقتصارا، أغنى عنه الجار والمجرور:{فِي الْخَلْقِ} فهما متعلقان به. {ما:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به ثان، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: الذي، أو: شيئا يشاؤه، وجملة:{يَزِيدُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَلى كُلِّ:} متعلقان ب: {قَدِيرٌ} بعدهما، و {كُلِّ} مضاف، و {شَيْءٍ} مضاف إليه. {قَدِيرٌ:} خبر {إِنَّ،} والجملة الاسمية تعليل للزيادة، لا محل لها.

{ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}

الشرح: {ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها} أي: أي شيء يمنحه الله لعباده، ويتفضل به عليهم من خزائن رحمته: من نعمة، وصحة، وأمن، وعلم، وحكمة، ورزق، وإرسال رسل لهداية الخلق، وغير ذلك من صنوف نعمائه، التي لا يحيط بها عدد، فلا يقدر أحد على إمساكه، ومنعه، وحرمان خلق الله منه، فهو المعطي الوهاب، الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. {وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أي: وأيّ شيء يمنعه، ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخرة فلا يقدر أحد على منحه للعباد بعد أن منعه الله تعالى، وهذه الآية مثل قوله تعالى في الآية رقم [17] من سورة (الأنعام):{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ومثلها كثير.

فعن المغيرة بن شعبة-رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة:

«لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . أخرجه البخاري، ومسلم. والجدّ: الغنى، والحظ، وحسن البخت، وهو بفتح الجيم؛ أي: لا ينفع المبخوت، والغني حظه، وغناه؛ لأنهما من الله تعالى، إنما ينفعه الإخلاص، والعمل بطاعته تعالى. وعن

ص: 637

أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول:

«سمع الله لمن حمده، اللهمّ ربّنا لك الحمد ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم أهل الثناء والمجد، أحقّ ما قال العبد، وكلّنا لك عبد، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» .

{وَهُوَ الْعَزِيزُ:} الغالب على كل شيء. {الْحَكِيمُ:} في صنعه الذي يمسك، ويرسل، ويعطي، ويمنع حسب ما تقتضيه الحكمة إرسالا، وإمساكا. وخذ ما يلي: فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه-يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم، ويعظّم برّهم فاجرهم، وتعن قرّاؤهم أمراءهم على معصية الله، فإذا فعلوا ذلك؛ نزع الله يده عنهم» .

وأخيرا في قوله تعالى: {ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها} استعارة تمثيلية شبه فيها إرسال النعم بفتح الخزائن للإعطاء، وكذلك حبس النعم بالإمساك، واستعير الفتح للإطلاق، والإمساك للمنع، وأيضا الطباق، والمقابلة بين {يَفْتَحِ} و:{يُمْسِكْ} وهو من المحسنات البديعية، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {ما:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل نصب مفعول به مقدم لفعل شرطه. {يَفْتَحِ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وحرك بالكسرة لالتقاء الساكنين. {اللهُ:}

فاعله. {لِلنّاسِ:} متعلقان بما قبلهما. {مِنْ رَحْمَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {ما،} و {مِنْ} بيان لما أبهم فيها، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية بمفردها. {فَلا:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (لا): نافية للجنس تعمل عمل: «إن» . {مُمْسِكَ:} اسم (لا) مبني على الفتح في محل نصب. {لَها:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر (لا)، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد، والجملة الشرطية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛ ويجوز في غير القرآن رفع الفعل:«يفتح» ، واعتبار:«ما» موصولة مبتدأ، والجملة الفعلية صلتها، وجملة:{فَلا مُمْسِكَ لَها} في محل رفع خبرها، وقد مر معنا كثير من هذا.

وجملة: {وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ:} معطوفة على ما قبلها، وهي مثلها في إعرابها. {مِنْ بَعْدِهِ:}

جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المستتر في الخبر المحذوف. {وَهُوَ:} الواو:

واو الحال. (هو): ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ:} خبران للمبتدإ، والجملة الاسمية في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط:

الواو، والضمير، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

ص: 638

{يا أَيُّهَا النّاسُ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ (3)}

الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ:} قال النسفي: وهي التي تقدمت: من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل لبيان السبيل، دعوة إليه، وزلفة لديه، والزيادة في الخلق، وفتح أبواب الرزق. والمراد من هذا التذكير: طلب الشكر؛ أي: اشكروا ربكم على نعمه؛ التي أنعم بها عليكم، وهي لا تعد، ولا تحصى. قال الزمخشري: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن به، وبالقلب، وحفظها من الكفران، والغمط، وشكرها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وطاعة موليها، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أياديّ عندك! يريد: حفظها، وشكرها، والعمل على موجبها. والخطاب عام للجميع؛ لأن جميعهم مغمورون في نعمة الله. وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: يريد أهل مكة: {اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} حيث أسكنكم حرمه، ومنعكم من جميع العالم؛ والناس يتخطفون من حولكم. وعنه أيضا نعمة الله: العافية.

{هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ:} استفهام بمعنى النفي؛ أي: لا خالق غير الله سبحانه وتعالى! لا ما تعبدون من الحجارة، والأوثان. قال حميد الطويل: قلت للحسن: من خلق الشر؟ فقال:

سبحان الله، هل من خالق غير الله عز وجل؟ خلق الخير والشر. {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ:}

يرزقكم مما ينبت من الأرض بسبب ما ينزل من السماء من ماء. {لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} أي: لا رب ولا معبود إلا الله الواحد الأحد. {فَأَنّى تُؤْفَكُونَ} أي: فكيف تصرفون بعد هذا البيان، ووضوح البرهان إلى عبادة الحجارة، والأوثان؟ والغرض من ذلك: تذكير الناس بنعم الله تعالى، وإقامة الحجة على المشركين. قال ابن كثير، وغيره: نبه الله تعالى عباده، وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده بوجوب إفراد العبادة له، فكما أنه مستقل بالخلق، والرزق، فكذلك يجب أن يفرد بالعبادة، ولا يشرك به غيره من الأصنام، والأوثان. انتهى. هذا؛ وانظر شرح {يُؤْفَكُونَ} في الآية رقم [61] من سورة (العنكبوت).

الإعراب: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} انظر إعراب مثلها في الآية رقم [1] من سورة (الأحزاب).

{اُذْكُرُوا:} فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق. {نِعْمَتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. {عَلَيْكُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {نِعْمَتَ اللهِ،} أو بمحذوف حال منه، والجملة الندائية، والفعلية كلتاهما ابتدائيتان، لا محل لهما. {هَلْ:} حرف استفهام إنكاري توبيخي. {مِنْ:} حرف جر صلة. {خالِقٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، وفي الخبر قولان:

أحدهما: هو جملة {يَرْزُقُكُمْ..} . إلخ، والثاني: أنه محذوف، تقديره: لكم، ونحوه. {غَيْرُ:}

ص: 639

بالرفع، والجر، والنصب، فالرفع فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر المبتدأ. والثاني: أنه صفة ل: {خالِقٍ} على الموضع، وخبره أحد وجهين ذكرتهما. والثالث: أنه مرفوع باسم الفاعل على جهة الفاعلية؛ لأن اسم الفاعل قد اعتمد على أداة الاستفهام، فيكون قد سد مسد خبره. وعلى هذا الوجه؛ فجملة {يَرْزُقُكُمْ..} . إلخ إما صفة، أو مستأنفة، ورجح هذا، وأما الجر؛ فهو صفة:

{خالِقٍ} على اللفظ، وأما النصب؛ فهو على الاستثناء. وخبر المبتدأ أحد وجهين رأيتهما آنفا.

و {غَيْرُ} مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه.

{يَرْزُقُكُمْ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر تقديره:«هو» يعود إلى {خالِقٍ،} والكاف مفعوله الأول. {مِنَ السَّماءِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، وهما في محل نصب مفعوله الثاني. و (الأرض): معطوف على ما قبله، وجملة:{يَرْزُقُكُمْ..} . إلخ رأيت ما فيها من أوجه الإعراب فيما قبلها. {لا:} نافية: للجنس تعمل عمل: «إن» . {إِلهَ:} اسم: {لا} مبني على الفتح في محل نصب، وخبرها محذوف، تقديره: موجود. {إِلاّ:} حرف حصر. {هُوَ:}

ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: اعتباره بدلا من اسم:

{لا} على المحل؛ إذ محله الرفع على الابتداء. والثاني: اعتباره بدلا من: {لا} واسمها؛ لأنها وما بعدها في محل رفع بالابتداء. والثالث: اعتباره بدلا من الضمير المستكن في الخبر المحذوف. وهو الأولى، والأقوى، والجملة الاسمية:{لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} مستأنفة، لا محل لها مسوقة لتقرير النفي المستفاد مما قبلها. {فَأَنّى:} الفاء: حرف استئناف. (أنى): اسم استفهام مبني على السكون، وفيه معنى التعجب، والإنكار، والتوبيخ في محل نصب حال، عامله ما بعده. {تُؤْفَكُونَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع نائب فاعله، والجملة الفعلية مستأنفة. هذا؛ وإن اعتبرت الفاء الفصيحة؛ فلا محل لها؛ لأنها جواب للشرط المقدر؛ إذ التقدير: وإذا كان ما ذكر حاصلا وواقعا فأنى تؤفكون.

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)}

الشرح: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} أي: وإن يكذبك هؤلاء المشركون يا محمد؛ فاصبر، وتأسّ بمن سبقك من الرسل. {فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} أي: رسل ذوو عدد كثير، وأولو آيات بينات، وأهل أعمار طوال، وأصحاب صبر، وعزم، فلك بهم أسوة، فإنهم كذلك جاءوا أقوامهم بالبينات، وأمروهم بالتوحيد، وعبادة الله تعالى، فكذبوهم، وخالفوهم. وتنكير (رسل) للتعظيم، والإشارة إلى كثرتهم المقتضية زيادة التسلية، والحث على المصابرة. وانظر شرح:«الرسول» في الآية رقم [1] من سورة (الأحزاب). {وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ:} فيجازيك على صبرك، ويجازيهم

ص: 640

على تكذيبك، ومعاداتك. هذا؛ والفعل:«رجع» يكون متعديا، ولازما، ويقرأ:{تُرْجَعُ} بالبناء للمجهول من المتعدي، وبالبناء للمعلوم من اللازم.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف: (إن): حرف شرط جازم. {يُكَذِّبُوكَ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير جازم، وجواب الشرط محذوف، التقدير: فاصبر، فحذف، وأقيم جملة:{فَقَدْ كُذِّبَتْ..} . إلخ مقامه استغناء عن المسبب بالسبب. و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {فَقَدْ:} الفاء: حرف تعليل. (قد):

حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كُذِّبَتْ:} فعل ماض مبني للمجهول، والتاء للتأنيث حرف لا محل له. {رُسُلٌ:} نائب فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها تعليلية. {مِنْ قَبْلِكَ:}

متعلقان بمحذوف صفة {رُسُلٌ،} والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {وَإِلَى:} الواو:

حرف استئناف. (إلى الله): متعلقان بما بعدهما. {تُرْجَعُ الْأُمُورُ:} فعل مضارع، ونائب فاعله، أو:

فاعله والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على ما قبلها، والأول أولى.

{يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (5)}

الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} هذا النداء يشمل المؤمن، والكافر، والصالح، والطالح، والمحسن، والمسيء. وانظر شرح باقي الكلام في الآية رقم [33] من سورة (لقمان) ففيها الكفاية.

الإعراب: (يا): أداة نداء تنوب مناب: أدعو، أو: أنادي. (أيها): نكرة مقصودة مبنية على الضم في محل نصب بأداة النداء، و (ها): حرف تنبيه لا محل له، أقحم للتوكيد، وهو عوض من المضاف إليه. {النّاسُ:} بعضهم يعرب هذا؛ وأمثاله نعتا، وبعضهم يعربه بدلا، والقول الفصل أن الاسم الواقع بعد:«أي» وبعد اسم الإشارة. إن كان مشتقا فهو نعت، وإن كان جامدا كما هنا فهو بدل، أو عطف بيان، والمتبوع؛ أعني «أي» منصوب محلا، وكذا التابع، أعني:(الناس) وأمثاله؛ فهو منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الإتباع اللفظية

إلخ، وانظر الآية رقم [1] من سورة (الأحزاب).

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. و {وَعْدَ:} اسمها، وهو مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه، من إضافة المصدر لفاعله. {حَقٌّ:} خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية كالجملة الندائية قبلها. {فَلا:} الفاء: حرف عطف على رأي من يجيز عطف الإنشاء على الخبر، وابن هشام يعتبرها للسببية المحضة، وأراها الفاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن شرط مقدر، التقدير: وإذا كان ذلك-أي ما ذكر-حاصلا، وواقعا؛ فلا

إلخ. (لا): ناهية جازمة. {تَغُرَّنَّكُمُ:} فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة في محل جزم

ص: 641

ب: (لا) الناهية، والنون حرف لا محل له، والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به.

{الْحَياةُ:} فاعله. {الدُّنْيا:} صفة: {الْحَياةُ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم، وجملة:{وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وإعرابها مثلها بلا فارق، ولا خفاء فيه.

{إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6)}

الشرح: {إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ:} بيّن العداوة، وهي قديمة من عهد آدم على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. فلذا عداوته لا تزول؛ لأنه أخرج أباكم من الجنة. {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا:}

فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه، وكذبوه فيما يغركم، ويخدعكم به، وإذا فعلتم فعلا؛ فتفطنوا له، فإنه ربما يدخل عليكم فيه الرياء، ويزين لكم القبائح، وكان الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى-يقول: يا كذاب! يا مفتر! اتق الله، ولا تسب الشيطان في العلانية؛ وأنت صديقه في السر. وقال ابن السماك-رحمه الله تعالى-: يا عجبا لمن عصا المحسن بعد معرفته بإحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته!

{إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ:} أشياعه وأتباعه. وجمع (حزب): أحزاب، وانظر الآية رقم [20] من سورة (الأحزاب). {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ} أي: ليكونوا معه في نار جهنم المعبر عنها بالسعير، وانظر شرح {السَّعِيرِ} في الآية رقم [21] من سورة (لقمان)، وشرح (الشيطان) في البسملة أول سورة (السجدة)، وشرح:«صاحب» في الآية رقم [15] من سورة (العنكبوت).

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الشَّيْطانَ:} اسم {إِنَّ} . {لَكُمْ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما. {عَدُوٌّ:} خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {فَاتَّخِذُوهُ:} الفاء: هي الفصيحة. (اتخذوه): فعل أمر، مبني على حذف النون، والواو فاعله، والهاء مفعوله الأول. {عَدُوًّا:} مفعوله الثاني، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب شرط غير جازم؛ إذ التقدير: وإذا كانت عداوة الشيطان ثابتة، وقديمة؛ فاتخذوه

إلخ.

{إِنَّما:} كافة، ومكفوفة. {يَدْعُوا:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو للثقل، والفاعل يعود إلى:{الشَّيْطانَ} .. {حِزْبَهُ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية تعليل للأمر، لا محل لها. {لِيَكُونُوا:} فعل مضارع ناقص منصوب ب:

«أن» مضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو اسمه، والألف للتفريق. {مِنْ أَصْحابِ:} متعلقان بمحذوف خبر: (يكونوا)، و {أَصْحابِ} مضاف، و {السَّعِيرِ} مضاف إليه، و «أن» المضمرة والفعل:(يكونوا) في تأويل مصدر في محل جر بلام التعليل، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يَدْعُوا} فهو تعليل من تعليل.

ص: 642

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}

الشرح: {الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالله، وعادوا نبيه. {لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ:} دائم، لا يعرف قدره، ولا يوصف هوله. {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ:} انظر الاحتراس في الآية رقم [37] من سورة (سبأ)، ومقابلة الإيمان بالكفر في الآية رقم [38] منها. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ:} لذنوبهم. {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ:}

في الآخرة، وهو الجنة، وما فيها من النعيم المقيم؛ الذي لا ينفد. هذا؛ وفي الآية وعيد لمن أجاب الشيطان، واتبع زخارفه، ووساوسه، ووعد لمن خالفه، وقطع للأماني الفارغة، وبناء الأمر كله على الإيمان والعمل الصالح، وكونهما لا يفترقان.

الإعراب: {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح، وفي محله ثلاثة أوجه: أحدها: رفعه من وجهين: أقواهما: أن يكون مبتدأ، والجملة الاسمية بعده خبره. والأحسن: أن يكون {لَهُمْ} متعلقين بمحذوف خبره، و {عَذابٌ} فاعل بالجار والمجرور، أي بمتعلقهما، والثاني أنه بدل من واو الجماعة في:{لِيَكُونُوا} . والثاني: نصبه من أوجه: البدل من {حِزْبَهُ،} أو: النعت له، أو إضمار فعل ك:«أذمّ» ونحوه. والثالث: جره من وجهين: النعت، أو البدلية من {أَصْحابِ} وأحسن الوجوه الأول لمطابقة التقسيم، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {شَدِيدٌ:}

صفة {عَذابٌ} والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، وانظر ما ذكرته من أوجه الإعراب السابقة. {وَالَّذِينَ:} معطوف على ما قبله على جميع الاعتبارات فيه، وجملة:{آمَنُوا} مع المتعلق المحذوف صلته، وجملة:{وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. وجملة:

{لَهُمْ مَغْفِرَةٌ:} قل فيها ما قلته من أوجه بجملة: {لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ} . {وَأَجْرٌ:} معطوف على (مغفرة). {كَبِيرٌ:} صفة: (أجر). تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم.

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)}

الشرح: قال ابن عباس-رضي الله عنهما: نزلت الآية في أبي جهل، ومشركي مكة.

وقيل: نزلت في أصحاب الأهواء، والبدع، ومنهم الخوارج، الذين ظهروا في عهد الإمام علي، رضي الله عنه، والذين يستحلون دماء المسلمين، وأموالهم، وليس أصحاب الكبائر من الذنوب منهم؛ لأنهم لا يستحلون ما ذكر، ويعتقدون تحريمها، مع ارتكابهم إياها، ومعنى:{زُيِّنَ لَهُ:}

شبه له، وموه عليه قبيح عمله. انتهى. خازن، وغيره.

ص: 643

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} أي: أفمن زين له سوء عمله؛ بأن غلب وهمه، وهواه على عقله؛ حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا، والقبيح حسنا كمن لم يزين له؛ بل وفق؛ حتى عرف الحق، واستحسن الأعمال الحسنة، واستقبح القبيحة منها على ما هي عليه. فحذف خبر المبتدأ لدلالة الكلام الآتي عليه.

{فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ:} يضل من شاء إضلاله، فلا ينفعه نزول الآيات، وكثرة المعجزات؛ إن لم يهده الله عز وجل، وذلك؛ لأن الآيات الباهرة، التي ظهرت على يد الرسول صلى الله عليه وسلم بلغت في الكثرة، وقوة الدلالة إلى حالة يستحيل فيها أن تصير مشتبهة على عاقل، فطلب آيات أخرى بعد ذلك لا يفيد شيئا. ويهدي من يشاء هدايته وتوفيقه إلى الإيمان والطاعة.

هذا؛ ومصدر الفعل {يُضِلُّ:} الإضلال، وهو: خلق فعل الضلال في العبد. والهداية: خلق فعل الاهتداء في العبد. هذا هو الحقيقة عند أهل السنة، وقد يعترض بعض الناس على خلق فعل الضلال في العبد، فيقول: إذا لا مؤاخذة على العبد، فكيف يعذبه الله؟ والجواب أن معنى خلق الضلال

إلخ: تقدير ضلاله، وهذا التقدير مبني على علم الله الأزلي بأن هذا العبد لو ترك وشأنه لم يختر سوى الكفر، والضلال، ولذا قدره الله عليه. هذا بالإضافة إلى اختياره الضلال، بعد أن بين الله لكل واحد الخير، والشر، والحسن، والقبيح، كما قال الله عز وجل:

{وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} أي: بيّنا له طريق الخير، وطريق الشر.

هذا؛ وقال علماء التوحيد: ليس معنى إضلال الله لفريق من الناس، وهدايته لفريق آخر: أنه تعالى يجبر كلاّ منهما على الضلالة، والهدى، ولا أنه يكرههم على سلوك سبيلي: الخير، والشر، كلاّ فإن هذا الإكراه مناف للعدل الإلهي؛ بل مناف لحكمة التشريع السماوي، ولا يتفق مع نصوص الشريعة المتواترة القاطعة، الدالة على أن العبد له إرادة، واختيار، هما مناط التكليف، والمؤاخذة، وكذلك فهم الصحابة والسلف الصالح. سأل رجل عليا، رضي الله عنه، فقال: أكان مسيرك إلى الشام-يعني: لقتال أهلها-بقضاء الله، وقدره؟ فقال له: ويحك، لعلك ظننت قضاء لازما، وقدرا حاتما، ولو كان كذلك؛ لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد، والوعيد. إن الله سبحانه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، فكلف يسيرا، ولم يكلف عسيرا، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثا، ولا خلق السموات، والأرض وما بينهما باطلا. {ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ} . انتهى. وعلى ضوء هذا يفهم معنى الهداية، والإضلال. انتهى. صابوني.

{فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ:} والمعنى: فلا تهلك نفسك عليهم للتحسر على كفرهم، وضلالهم، وإصرارهم على تكذيبك، ومثل هذه الآية قوله تعالى في الآية رقم [176] من سورة (آل عمران):{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ،} وفي الآية رقم [6] من سورة (الكهف):

{فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً،} وفي الآية رقم [3] من سورة

ص: 644

(الشعراء): {لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} . {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ:} هذا الفعل أبلغ من قوله: {يَعْمَلُونَ} من حيث إن الصنع عمل الإنسان، بعد تدرب فيه، وتروّ، وتحري إجادة، ولذلك ذم الله به خواص اليهود في الآية رقم [63] من سورة (المائدة)، بينما ذم عوامهم بقوله تعالى:{لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} رقم [62] منها.

تنبيه: الفعل {زُيِّنَ} مبني للمجهول، وهو يحتمل أن يكون المزين الله عز وجل، ويحتمل أن يكون المزين هو الشيطان، وقد صرحت الآية رقم [4] من سورة (النمل) أن المزين هو الله تعالى، بينما صرحت الآية رقم [24] منها بأن المزين هو الشيطان، وفي ذلك قال الزمخشري -رحمه الله تعالى-: فإن قلت: كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته؛ أي: في الآية رقم [4] من سورة (النمل) أي: في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ..} . إلخ، وأسنده إلى الشيطان في قوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ..} . إلخ رقم [24] منها؟ قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة، وإسناده إلى الله عز وجل مجاز، وله طريقان في علم البيان: أحدهما: أنه من المجاز الذي يسمى استعارة. والثاني: أنه من المجاز الحكمي.

فالطريق الأول: أنه لما متعهم بطول العمر، وسعة الرزق، وجعلوا إنعام الله عليهم، وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم، وبطرهم، وإيثارهم الراحة، والترف، ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة، والمشاق المتعبة، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم، وإليه أشارت الملائكة -صلوات الله وسلامه عليهم-في قوله تعالى، حكاية عن قولهم:{وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً} الآية رقم [18] من سورة (الفرقان).

الطريق الثاني: أن إمهاله الشيطان، وتخليته؛ حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه؛ لأن المجاز الحكمي يصححه بعض الملابسات. وقيل: إن الأعمال التي وجب عليهم أن يعملوها زينها الله لهم، فعموا عنها، وضلوا. ويعزى إلى الحسن. انتهى. كشاف. هذا؛ وقد بينات في آية (النمل) رقم [24] أن المزين في الحقيقة هو الله تعالى، وهذا مذهب أهل السنة، وإنما جعل الشيطان آلة بإلقاء الوسوسة في قلوب الكافرين، وليس له قدرة أن يضل، أو يهدي أحدا، وإنما له الوسوسة فقط، فمن أراد الله شقاوته سلطه عليه؛ حتى يقبل وسوسته. وهذا مبني على أن العبد لا يخلق أفعال نفسه، وإنما يخلقها الله تعالى، كما قال:{وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} وما قاله الزمخشري مبني على مذهبه في الاعتزال من أن العبد يخلق أفعال نفسه، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {أَفَمَنْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري. الفاء: حرف عطف، أو حرف استئناف.

(من): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {زُيِّنَ:} ماض مبني للمجهول.

{لَهُ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {سُوءُ:} نائب فاعله، وهو مضاف، و {عَمَلِهِ} مضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فَرَآهُ:} الفاء: حرف عطف. (رآه):

ص: 645

فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، والفاعل يعود إلى (من) تقديره:«هو» ، والهاء مفعول به. {حَسَناً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وخبر المبتدأ محذوف تقديره: كمن لم يزين له

إلخ، وقد صرح به في قوله تعالى:{أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى} الآية رقم [19] من سورة (الرعد)، والجملة الاسمية معطوفة على جملة محذوفة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. هذا؛ واعتبر بعضهم (من) اسم شرط، وجواب الشرط محذوف، تقديره: ذهبت نفسك عليهم حسرة. وهو ضعيف، كما ترى.

{فَإِنَّ:} الفاء: حرف استئناف. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُضِلُّ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {فَمَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: يضل الذي، أو: شخصا يشاء إضلاله، وجملة:{وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها، وإعرابها مثلها أيضا، والجملة الاسمية:{فَإِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَلا:} الفاء: هي الفصيحة، وانظر الآية رقم [5]. (لا): ناهية جازمة. {تَذْهَبْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لا). {نَفْسُكَ:} فاعله، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. هذا؛ ويقرأ بضم التاء وكسر الهاء من الرباعي، ونصب:{نَفْسُكَ} على أنه مفعول به، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» . {عَلَيْهِمْ:} متعلقان بما قبلهما. {حَسَراتٍ:} مفعول لأجله، أو حال.

وقيل: مفعول مطلق، وهو ضعيف، كما قيل: تمييز، وهو ضعيف أيضا، فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، والجملة الفعلية:{فَلا تَذْهَبْ..} . إلخ لا محل لها على جميع الوجوه المعتبرة بالفاء. {فَإِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها.

{عَلِيمٌ:} خبرها. {بِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {عَلِيمٌ،} و (ما): تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية. فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير: عليم بالذي، أو: بشيء يصنعونه، وعلى اعتبارها مصدرية تؤول مع ما بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: عليم بصنعهم.

{يَصْنَعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله.

{وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)}

الشرح: {وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ} أي: والله تعالى بقدرته هو الذي أرسل الرياح مبشرة بنزول المطر، كما قال تعالى في الآية رقم [63] من سورة (النمل):{وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ}

ص: 646

{رَحْمَتِهِ،} ومثلها في الآية رقم [57] من سورة (الأعراف)، و (الفرقان) رقم [48]. وقال في (الروم) رقم [46]:{وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ} . هذا؛ وقرئ: «(الريح)» ، ونص الآية هنا مثلها في الآية رقم [48] من سورة (الروم) أيضا.

{فَتُثِيرُ سَحاباً:} انظر الآية رقم [48] من سورة (الروم) ففيها الكفاية. {فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ} أي: لا نبات فيه، وانظر شرحه في الآية رقم [15] من سورة (سبأ). {فَأَحْيَيْنا بِهِ} أي: بالمطر النازل منه، وذكر السحاب كذكره، أو بالسحاب، فإنه سبب السبب، أو الصائر مطرا. {الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها:} بعد يبسها، فإن الأرض تكون هامدة، لا نبات فيها، فإذا أراد الله إحياءها بالنبات؛ أنزل عليها المطر، بواسطة نقل السحاب له حيث أراد الله تعالى، كما قال جل ذكره في الآية رقم [5] من سورة (الحج):{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} .

{كَذلِكَ النُّشُورُ} أي: مثل إحياء الأرض الموات نشور الأموات في صحة قدرة الله تعالى.

روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة عن أبي رزين العقيلي، قال: قلت: يا رسول الله! كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا، ثمّ مررت به يهتزّ خضرا؟» . قلت: نعم يا رسول الله! قال: «فكذلك يحيي الله الموتى، وتلك آيته في خلقه» .

هذا؛ وفي هذه الجملة تشبيه التمثيل. ووجه التشبيه من وجوه: أحدها: أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها، كذلك الأعضاء تقبل الحياة. وثانيها: كما أن الريح تجمع القطع السحابية، كذلك تجمع أجزاء الأعضاء، وأبعاض الأشياء. وثالثها: كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت، كذلك نسوق الروح إلى الجسد الميت. انتهى. جمل نقلا عن كرخي.

تنبيه: قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: لم جاء {فَتُثِيرُ} على المضارعة دون ما قبله، وما بعده؟ قلت: ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعة، الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، أو تهمّ المخاطب، أو غير ذلك كما قال تأبط شرّا:[الوافر] فمن ينكر وجود الغول إني

أخبر عن يقين بل عيان

بأني قد لقيت الغول تهوي

بسهب كالصحيفة صحصحان

فأضربها بلا دهش فخرّت

صريعا لليدين وللجران

لأنه قصد أن يصور لقومه الحالة التي تشجع فيها بزعمه على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها، ويطلعهم على كنهها مشاهدة للتعجب من جرأته على كل هول، وثباته عند كل شدة، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت، وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر لما كانا من الدلائل

ص: 647

على القدرة الباهرة، قيل:(فسقنا) و (أحيينا) معدولا بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص، وأدل عليه. انتهى. وانظر شرح (ميت) في الروم رقم [19].

الإعراب: (الله): مبتدأ. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره.

{أَرْسَلَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد. {الرِّياحَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والجملة الاسمية: (الله الذي

) إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{فَتُثِيرُ:} الفاء: حرف عطف، وسبب. (تثير): فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {الرِّياحَ} تقديره:«هي» . {سَحاباً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والعائد في الأولى عائد في هذه بسبب العطف. {فَسُقْناهُ:} الفاء: حرف عطف. (سقناه):

فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {إِلى بَلَدٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مَيِّتٍ:} صفة {بَلَدٍ} .

(أحيينا): فعل، وفاعل. {بِهِ:} متعلقان بما قبلهما. {الْأَرْضَ:} مفعول به. {بَعْدَ:} ظرف زمان متعلق بمحذوف حال من الأرض، و {بَعْدَ} مضاف، و {مَوْتِها} مضاف إليه، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة: (أحيينا

) إلخ معطوفة على ما قبلها، لا محل لها أيضا. {كَذلِكَ:} الكاف: حرف تشبيه وجر، وذا: اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {النُّشُورُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)}

الشرح: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ:} الشرف، والمنعة، والمجد، والسيادة. والمعنى: من كان يريد علم العزة التي لا ذلة معها؛ لأن العزة إذا كانت تؤدي إلى ذلة، فإنما هي تعرض للذلة، والعزة التي لا ذل معها لله عز وجل. انتهى. قرطبي. {فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً:} المعنى: من كان يريد العزة، ويرغب فيها؛ فليتعزز بطاعة الله؛ أي: فليطلب العزة من عند الله بطاعته. وذلك: أن الكفار عبدوا الأصنام، وطلبوا التعزز بها، كما قال جل ذكره:{أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً،} وقال تعالى: {وَلِلّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} فمن أراد العزة؛ فليقصد بالعزة الله سبحانه، والاعتزاز به، فإنه من اعتز بغير الله؛ أذله الله، ومن اعتز بالله أعزه الله. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«من أراد عزّ الدّارين فليطع العزيز» . ولقد أحسن من قال: [الكامل] وإذا تذلّلت الرّقاب تواضعا

منها إليك فعزّها في ذلّها

وانظر الآية رقم [15] الآتية، وانظر الآية رقم [180] من سورة (الصافات) ففيها فضل بيان.

ص: 648

{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ:} هذا يتناول الذكر، والدعاء، وتلاوة القرآن. روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى: إن العبد المسلم إذا قال: «سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله» أخذهن ملك، فجعلهن تحت جناحه، ثم صعد بهن إلى السماء، فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الله، عز وجل، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ} وأنشدوا: [الكامل] لا ترض من رجل حلاوة قوله

حتّى يزيّن ما يقول فعال

فإذا وزنت فعاله بمقاله

فتوازنا فإخاء ذاك جمال

{وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ:} قال ابن عباس، ومجاهد، وغيرهما: المعنى: والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب. وفي الحديث الشريف: «لا يقبل الله قولا إلاّ بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنّة» . وقال ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. وفيه قيل:[الخفيف] لا يكون المقال إلاّ بفعل

كلّ قول بلا فعال هباء

إنّ قولا بلا فعال جميل

ونكاحا بلا وليّ سواء

هذا؛ وصعود الكلم الطيب والعمل الصالح إلى الله تعالى كناية عن قبولهما عنده، أو المراد: صعود الكتبة بصحيفتهما. قال القرطبي: والظاهر: أن العمل الصالح شرط في قبول القول الطيب، وقد جاء في الآثار: أن العبد إذا قال: لا إله إلا الله بنية صادقة؛ نظرت الملائكة إلى عمله، فإن كان العمل موافقا لقوله؛ صعدا جميعا، وإن كان عمله مخالفا؛ وقف قوله؛ حتى يتوب من عمله. فعلى هذا العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله، وهذا قول ابن عباس، وشهر بن حوشب، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وأبي العالية، والضحاك-رضي الله عنهم أجمعين-. وعليه فالعمل الصالح هو السبب في رفع الكلم الطيب. هذا؛ وعلى أن الكلم الطيب هو التوحيد، فهو الرافع للعمل الصالح؛ لأنه لا يقبل العمل الصالح إلا مع الإيمان والتوحيد، أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب، فالضمير المنصوب يعود على:{(الْعَمَلُ الصّالِحُ)} . وروي هذا القول عن شهر بن حوشب. وقيل: الفاعل يعود إلى (الله) أي: إن العمل الصالح يرفعه الله على الكلم الطيب؛ لأن العمل تحقيق الكلم، والعامل أكثر تعبا من القائل. وهذا هو حقيقة الكلام؛ لأن الله هو الرافع، الخافض، والثاني والأول مجاز، ولكنه سائغ جائز.

قال النحاس: القول الأول أولاها، وأصحها؛ لعلو من قال به، وأنه في العربية أولى؛ لأن القراء على رفع العمل، ولو كان المعنى: والعمل الصالح يرفعه، أو العمل الصالح

ص: 649

يرفعه الكلم الطيب؛ لكان الاختيار نصب العمل، ولا نعلم أحدا قرأه منصوبا، إلا شيئا روي عن عيسى بن عمر أنه قال: قرأه أناس: «(والعمل الصالح يرفعه الله)» . وقيل: والعمل الصالح يرفع صاحبه، وهو الذي أراد العزة، وعلم أنها تطلب من الله تعالى. ذكره القشيري. انتهى.

قرطبي بتصرف.

أقول: مضمون القول الأول والثاني هو ما ذكرته من الاحتراس كثيرا؛ لأن الإيمان، والعمل الصالح قرينان، لا يقبل الله أحدهما بدون صاحبه. والله الموفق والمعين.

{وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ..} . إلخ: قال ابن عباس، وشهر بن حوشب الأشعري، ومجاهد، وقتادة-رضي الله عنهم أجمعين-: هم المراءون بأعمالهم؛ أي: يمكرون بالناس، يوهمون:

أنهم في طاعة الله تعالى، وهم بغضاء إلى الله عز وجل، يراءون بأعمالهم، {وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاّ قَلِيلاً} . وقال أبو العالية، وابن أسلم: هم المشركون الذين مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعوا في دار الندوة. والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال تعالى:{لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ} أي: يفسد، ويبطل، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر، والنهى، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشرّ، فالمرائي لا يروج أمره، ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون، فلا يروج ذلك عليهم؛ بل ينكشف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية. انتهى. مختصر ابن كثير.

هذا؛ وقصر الزمخشري القول على أن المراد بالذين يمكرون السيئات هم مشركون قريش؛ ولذا قال: ومكر أولئك الذين مكروا تلك المكرات الثلاث هو خاصة يبور، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة، وقتلهم، وأثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعا، وحقق فيهم قوله:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ،} وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} . انتهى. وانظر المكر في الآية رقم [33] من سورة (سبأ).

هذا؛ {وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ:} يهلك، ويضيع، ويفسد، ويبطل. وقوله تعالى:{وَكانُوا قَوْماً بُوراً} أي: هلكى، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: مأخوذ من البوار، وهو الهلاك. وقال بعضهم: الواحد: بائر، والجمع: بور، كما يقال: عائذ، وعوذ. وقيل: بورا: عميا عن الحق.

وفي المصباح: بار الشيء، يبور، بورا بالضم: هلك، وبار الشيء، بورا: كسد على الاستعارة؛ لأنه إذا ترك؛ صار غير منتفع به، فأشبه الهالك من هذا الوجه. ورجل بائر: فاسد، لا خير فيه.

وفي الأساس: «وفلان له نوره، وعليك بوره» أي: هلاكه. ونزلت بوار على الكفار، أي: هلاك.

ومن المجازات: بارت البياعات: كسدت. وسوق بائرة: لا رواج فيها. وبارت الأيّم: إذا لم يرغب فيها أحد. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتعوذ من بوار الأيّم، وبارت الأرض: إذا لم تزرع، وأرض

ص: 650

بوار، وأرضون بوار. ودار البوار: جهنم، قال تعالى في حق زعماء الكفار:{وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ} الآية رقم [28] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {مَنْ:} اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كانَ:} فعل ماض ناقص مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، واسمه ضمير مستتر فيه، تقديره:«هو» يعود إلى {مَنْ} . {يُرِيدُ:} فعل مضارع، وفاعله يعود إلى {مَنْ} أيضا، والجملة الفعلية في محل نصب خبر كان. {الْعِزَّةَ:} مفعول به، وجواب الشرط محذوف تقديره: من كان يريد العزة؛ فليطلبها من الله بطاعته، وخبر المبتدأ الذي هو {مَنْ} مختلف فيه، فقيل: جملة الشرط.

وقيل: جملة الجواب، وقيل: الجملتان. وهو المرجح لدى المعاصرين، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {فَلِلّهِ:} الفاء: حرف تعليل. (لله): متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{الْعِزَّةَ:} مبتدأ مؤخر. {جَمِيعاً:} حال من: {الْعِزَّةَ} وجاز ذلك؛ لأن العزة أنواع كثيرة.

والجملة الاسمية تعليل للأمر المقدر جوابا للشرط، كما رأيت. {إِلَيْهِ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل بعدهما، والتقدير أفاد الاختصاص. {يَصْعَدُ:} فعل مضارع. {الْكَلِمُ:} فاعله.

{الطَّيِّبُ:} صفة {الْكَلِمُ،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: في محل نصب حال من لفظ الجلالة، والاستئناف أقوى. {وَالْعَمَلُ:} الواو: حرف عطف. (العمل): مبتدأ.

{الصُّلْحُ:} صفة له. {يَرْفَعُهُ:} فعل مضارع، والهاء مفعول به، والفاعل يعود إلى {الْكَلِمُ الطَّيِّبُ،} أو هو يعود إلى: {(الْعَمَلُ الصّالِحُ)} ، أو لله تعالى، انظر الشرح، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الفعلية قبلها لا محل لها مثلها.

{وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {يَمْكُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {السَّيِّئاتِ:} مفعول به على اعتباره متعديا بمعنى: يعملون، أو هو صفة لمفعول مطلق محذوف، التقدير: يمكرون المكرات السيئات. وقيل: هو مفعول مطلق؛ لأن {يَمْكُرُونَ} بمعنى: يسيئون السيئات، فهو منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجملة:{يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ} صلة الموصول، لا محل لها. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {عَذابٌ:} مبتدأ مؤخر. {شَدِيدٌ:} صفة له، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ. هذا؛ ويجوز اعتبار الجار والمجرور {لَهُمْ} متعلقين بمحذوف خبر المبتدأ، و {عَذابٌ} فاعل بالجار والمجرور؛ أي:

بمتعلقهما، وعلى كل فالجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَمَكْرُ:} الواو: حرف عطف.

(مكر): مبتدأ، وهو مضاف، و {أُولئِكَ} اسم إشارة مبني على الكسر في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر الميمي لفاعله، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له، أو هو مبتدأ، وجملة:{يَبُورُ} خبره، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، وعلى اعتبار الضمير فصلا؛ فجملة {يَبُورُ} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

ص: 651

{وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (11)}

الشرح: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ} أي: خلق أصلكم (وهو آدم) من تراب، وقد صرحت الآيات بسورة (الحجر) وسورة (الرحمن) وغيرهما بذلك. {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي:{ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} وهو المني؛ الذي يصب في رحم المرأة. هذا؛ وذكرت في سورة (الحج) وغيرها أن هذا الخلق من التراب على تأويلين: أحدهما غير مباشر، والثاني مباشر؛ فالأول خلق أبينا آدم من تراب، كما رأيت في سورة (الحجر) رقم [26]. والثاني: كل واحد منّا خلق من التراب، وذلك إذا نظرنا إلى المادة التي يتخلق منها الإنسان، فإنها من الدم بلا ريب، والدم مصدره من الطعام، والشراب، وأنواع الغذاء، وكل ذلك مخرجه من التراب، كما هو معروف. {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ:} وهو المني سمي نطفة لقلته، وفي آية الحج رقم [5] زيادة:{ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} .

{ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً:} ذكرانا، وإناثا لطفا منه، ورحمة أن جعل لكم أزواجا من جنسكم لتسكنوا إليها، وزوج بعضكم من بعض؛ ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضائها، وانظر شرح:{ثُمَّ} في الآية رقم [11] من سورة (الروم). {وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} أي: هو عالم بذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء، قال تعالى في سورة (الرعد) رقم [8]:{اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ} .

{وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتابٍ} أي: وما يطول عمر أحد من الخلق، فيصبح هرما، ولا ينقص من عمر أحد، فيموت وهو صغير، أو شاب، إلا وهو مسجل في اللوح المحفوظ، لا يزاد فيما كتاب الله، ولا ينقص. وروي عن ابن عباس-رضي الله عنهما:

أنه قال في هذه الجملة: المعنى: ليس أحد قضيت له بطول العمر، والحياة، إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر، وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب؛ الذي قدرت، لا يزاد عليه.

وليس أحد قدرت له بأنه قصير العمر والحياة ببالغ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله تعالى:{وَلا يُنْقَصُ..} . إلخ. وقد فسر قول ابن عباس هذا بأن للعبد أجلين: أحدهما ثابت، والثاني معلق على فعل شيء، واستدل له بما رواه أنس-رضي الله عنه-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه» . رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، واللفظ له. وقد مر هذا مفصلا بحمد الله عند قوله تعالى:{يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ..} . إلخ الآية رقم [39] من سورة (الرعد) فلا حاجة إلى المزيد هنا على ما ذكرته هناك. {إِنَّ ذلِكَ} أي: ما ذكر في هذه الآية من دلائل على قدرته. {عَلَى اللهِ يَسِيرٌ:} هين

ص: 652

سهل؛ لأنه تعالى لا يفتقر في فعل ذلك إلى معاون، ولا إلى مساعد؛ لأنه إذا أراد شيئا؛ فإنما يقول له: كن فيكون. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَاللهُ:} الواو: حرف استئناف. (الله): مبتدأ. {خَلَقَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {مِنْ تُرابٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من الفاعل المستتر، التقدير: مبتدئا خلقكم من تراب. {ثُمَّ:} حرف عطف.

{مِنْ نُطْفَةٍ:} معطوفان على ما قبلهما. {جَعَلَكُمْ:} ماض، والفاعل يعود إلى (الله) والكاف مفعول به أول. {أَزْواجاً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {تَحْمِلُ:} فعل مضارع. {مِنْ:}

حرف جر صلة. {أُنْثى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بالكسرة المقدرة على الألف للتعذر، ويقال: مجرور لفظا، مرفوع محلا، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الفاعل المستتر في:{جَعَلَكُمْ} فالرابط يكون الواو، والضمير المتصل ب:(علمه)؛ لأن الجملتين المتعاطفتين كالجملة الواحدة. هذا؛ ومفعول {تَحْمِلُ} محذوف للتعميم.

{وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {تَضَعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى:

{أُنْثى،} ومفعوله محذوف أيضا، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها. {إِلاّ:} أداة حصر. {بِعِلْمِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من فاعل {تَضَعُ} المستتر، التقدير: إلا معلومة بعلمه.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {يُعَمَّرُ:} فعل مضارع مبني للمجهول.

{مِنْ:} حرف جر صلة. {مُعَمَّرٍ:} نائب فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُنْقَصُ:} فعل مضارع مبني للمجهول، ويقرأ بالبناء للمعلوم. {مِنْ:} حرف جر صلة. {عُمُرِهِ:} نائب فاعل، أو فاعل مرفوع على الاعتبارين، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وهي عائدة على (المعمر) أو على معمّر آخر. {إِلاّ:} حرف حصر. {فِي كِتابٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من عمره، التقدير: إلا مسجلا ذلك في كتاب. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل نصب اسمها، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له. {عَلَى اللهِ:}

متعلقان بما بعدهما. {يَسِيرٌ:} خبر (إنّ)، والجملة الاسمية تعليل، أو مستأنفة، لا محل لها، والجملة الفعلية قبلها مستأنفة أيضا، لا محل لها.

ص: 653

{وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)}

الشرح: {وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ:} هذا مثل ضربه الله للمؤمن، والكافر. وانظر شرح:

{يَسْتَوِي} في الآية رقم [19] الآتية. {هذا عَذْبٌ:} حلو. {فُراتٌ:} شديد العذوبة، قاطع لحرارة العطش لشدة عذوبته. وفي القاموس: فرت، ككرم، فروتة: عذب. {سائِغٌ شَرابُهُ:} سهل انحداره في الحلقوم لعذوبته. {وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ:} شديد الملوحة، ولشدة ملوحته فيه مرارة، وفي القاموس: أج الماء أجوجا بالضم، يأجج، كسمع وضرب، ونصر: إذا اشتدت ملوحته. انتهى.

{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً..} . إلخ: فهو إما استطراد لبيان صفة {الْبَحْرانِ} وما فيهما من النعم، والمنافع، وإما تكملة للتمثيل، على معنى: أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد؛ لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات، فكذلك المؤمن، والكافر، وإن اشتركا في بعض الصفات، كالشجاعة، والسخاوة، ونحوهما؛ لا يتساويان في الخاصية العظمى؛ لبقاء أحدهما على فطرته الأصلية. انتهى. جمل نقلا من أبي السعود.

هذا؛ وقد عد هذا الكلام من الاستعارة التمثيلية. وهو تركيب استعمل في غير موضعه لعلاقة المشابهة. هذا؛ وأما الاستطراد؛ فهو أن يبني الشاعر، أو الكاتب كلاما كثيرا على كلام من غير ذلك النوع، يقطع عليه الكلام وهو مراده، دون جميع ما تقدم. ويعود إلى كلامه الأول، وجل ما يأتي تشبيها؛ فقد استطرد في الآية إلى ذكر البحرين: المالح، والعذب، وما علق بهما من نعمته، وعطائه، وهو ما يلي في بقية الآية، واعتبر أحمد محشي الكشاف من الاستطراد البديع، قول الشاعر:[الطويل] إذا ما اتّقى الله الفتى وأطاعه

فليس به بأس، وإن كان من جرم

وقول حسان-رضي الله عنه-في هجاء الحارث بن هشام، وهزيمته يوم بدر:[الكامل] إن كنت كاذبة الّتي حدّثتني

فنجوت منجى الحارث بن هشام

ترك الأحبّة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرّة ولجام

{وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها:} كما قال جل ذكره في سورة (الرحمن) رقم [22]: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ} لأجل الزينة، والتحلّي بهما، ولبس الحلية بحسبها، فالخاتم يجعل في الإصبع، والسوار في الذراع، والقلادة في العنق، والخلخال في الرّجل. {وَتَرَى:} خطاب لكل من

ص: 654

ينظر، ويبصر، ويتفكر، ويعتبر. {الْفُلْكَ:} السفن، وانظر شرحه في الآية رقم [119] من سورة (الشعراء). {مَواخِرَ:} تمخر الماء؛ أي: تشقه بحيزومها، وهو مقدمها المسنم، الذي يشبه جؤجؤ الطير، وهو صدره. {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي: بسبب السفر في البواخر، والسفن، ونقل البضائع على متنها من بلد إلى بلد، ومن إقليم إلى إقليم، وذلك في مدة قريبة، وقصيرة، ولو كانت المسافات بعيدة. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ:} الله على فضله، وإنعامه. وقيل: على ما أنجاكم من هوله؛ إذا كنتم في لجته، وانظر شرح: البر والبحر في الآية رقم [64] من سورة (الشعراء).

تنبيه: وقد ذكر الله من منافع البحرين الأكل؛ لأنه أعظم المقصود؛ لأن به قوام البدن، وفي ذكر الطري مزيد فائدة دالة على كمال قدرة الله تعالى، وذلك: أن السمك لو كان كله مالحا لما كان فيه فائدة للإنسان، ووصفه بالطري؛ لأنه أرطب اللحوم، فيسرع إليه الفساد، فيسارع من يصيده إلى أكله.

وثنى بالصيد من البحر، وإخراج الحلية منه، كاللؤلؤ، والمرجان، ونحوهما. وأسند لبس الحلية للرجال، وهي من زينة النساء؛ لأنهن من جملة الرجال، ولأنهن يتزيّن بها من أجلهم، وثلث بنعمة جريان السفن في البحار؛ لما في ذلك من الفوائد العظيمة، والأرباح الجسيمة، التي يجنيها ابن آدم من ذلك بقوله:{لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي: تطلبوا الأرباح بالتجارة، ثم عقب ذلك بطلب الشكر على إسداء هذه النعم لبني آدم.

هذا؛ و (الحلية) بكسر الحاء، والجمع: حلى بالقصر، وتضم الحاء، وتكسر، وحلية السيف: زينته. قال ابن فارس: ولا تجمع. وتحلت المرأة: لبست الحلي، أو اتخذته. وحليتها (بالتشديد): ألبستها الحلي، أو اتخذته لها لتلبسه. هذا؛ وقد قال تعالى في سورة (النحل) رقم [14]:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {يَسْتَوِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء للثقل. {الْبَحْرانِ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه الألف نيابة عن الضمة؛ لأنه مثنى، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {هذا:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والهاء حرف تنبيه لا محل له. {عَذْبٌ:} خبر المبتدأ.

{فُراتٌ:} صفة له. {سائِغٌ:} خبر مقدم. {شَرابُهُ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان. هذا؛ وأجيز اعتبار سائغ خبرا ثانيا، فيكون شرابه فاعلا به، والجملة الاسمية:{هذا..} . إلخ في محل نصب حال من: {الْبَحْرانِ} والرابط: اسم الإشارة، والضمير، وإن كان مفردا، وصاحب الحال مثنى، فعطف جملة:

{وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ} يجعله مثنى. تأمل. وإن اعتبرت الجملة الأولى مستأنفة؛ فالمعنى لا يأباه،

ص: 655

وهو سائغ، فالجملة الاسمية لا محل لها، والثانية معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، والجملة الفعلية:{وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ} مستأنفة، لا محل لها أيضا.

{وَمِنْ:} الواو: حرف استئناف. (من كلّ): جار ومجرور متعلقان بما بعدهما، والتنوين عوض من المضاف إليه. {تَأْكُلُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله. {لَحْماً:}

مفعول به. {طَرِيًّا:} صفة له، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {تَلْبَسُونَها:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، والجملة الفعلية في محل نصب صفة:{حِلْيَةً} . {وَتَرَى:} الواو: حرف استئناف. (ترى): فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» . {الْفُلْكَ:} مفعول به. {فِيهِ:} جار ومجرور متعلقان بما بعدهما؛ لأنه جمع: ماخرة. {مَواخِرَ:} حال من الفلك، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {لِتَبْتَغُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» المضمرة بعد لام التعليل، وعلامة نصبه حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان ب:{مَواخِرَ} .

{مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والضمير يعود إلى الله تعالى. وقيل: يعود إلى البحر.

{وَلَعَلَّكُمْ:} الواو: حرف عطف. (لعلكم): حرف مشبه بالفعل، والكاف اسمها، وجملة:

{تَشْكُرُونَ} مع المفعول المحذوف في محل رفع خبر (لعل)، والجملة الاسمية معطوفة على {لِتَبْتَغُوا..} . إلخ فهي مفيدة للتعليل مثلها.

{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)}

الشرح: {يُولِجُ اللَّيْلَ}

{لِأَجَلٍ مُسَمًّى:} انظر الآية رقم [45] الآتية، ففيها الكفاية، والله ولي التوفيق. {ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} أي: هذا الذي من صنعه ما تقرر هو الخالق المدبر، والقادر المقتدر، فهو الحقيق بالعبادة، والتنزيه، والتقديس، وهو العظيم الشأن، الذي له الملك، والسلطان، والتصرف الكامل في هذا الكون الواسع المترامي الأطراف. {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: والذين تعبدون من دون الله من الأوثان، والأصنام لا يملكون شيئا ولو بمقدار القطمير، وهو القشرة الرقيقة؛ التي تحيط بنواة التمرة. قال المفسرون: وهو مثل يضرب في القلة والحقارة. والأصنام لضعفها، وهوان شأنها، وعجزها عن أي تصرف صارت مضرب المثل في حقارتها بأنها لا تملك فتيلا، ولا قطميرا. ومثل هذه الآية في تحقير الأصنام،

ص: 656

وتصغير شأنها قوله تعالى في الآية رقم [41] من سورة (العنكبوت): {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} . وقوله تعالى في سورة (الحج) رقم [73]: {يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ..} . إلخ.

تنبيه: في نواة التمرة أربعة أشياء يضرب بها المثل في القلة: الفتيل، وهو الخيط الذي يكون في شق النواة. والنقير، وهو النقرة الموجودة في ظهرها. وكلاهما ذكر في سورة (النساء) مرتين.

والقطمير، وهو اللفافة التي تحيط بالنواة. والثفروق، وهو ما بين القمع، والنواة. انتهى. جمل.

الإعراب: {يُولِجُ:} فعل مضارع، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى (الله). {اللَّيْلَ:}

مفعول به. {فِي النَّهارِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وإن اعتبرتها في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، أو من مفعول:{تَشْكُرُونَ} المحذوف العائد على (الله) فلست مفندا، ويكون الرابط الضمير فقط. وقيل: حال من فاعل:

{خَلَقَكُمْ} وهو بعيد، وجملة:{وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} معطوفة عليها على الوجهين المعتبرين فيها. {وَسَخَّرَ:} الواو: حرف عطف. (سخر): ماض، والفاعل يعود إلى الله أيضا.

{الشَّمْسَ:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها على الوجهين المعتبرين فيها، وعلى اعتبار الحالية ف:«قد» قبلها مقدرة، {وَالْقَمَرَ:} معطوف على ما قبله. {كُلٌّ:}

مبتدأ، وجوز الابتداء به الإضافة المقدرة. {يَجْرِي:} مضارع مرفوع

إلخ، والفاعل يعود إلى:{كُلٌّ} . والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {لِأَجَلٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {مُسَمًّى:} صفة: (أجل) مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، والجملة الاسمية:

{كُلٌّ..} . إلخ في محل نصب حال من {الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} والرابط: الضمير المقدر.

{ذلِكُمُ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {اللهُ:} خبر المبتدأ. {رَبُّكُمْ:} خبر ثان، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، وإن اعتبرت {رَبُّكُمْ} بدلا من لفظ الجلالة؛ فلست مفندا. {اللهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم.

{الْمُلْكُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل رفع خبر ثان، أو ثالث، والجملة الاسمية:{ذلِكُمُ..} . إلخ مستأنفة. {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف استئناف. وقيل: واو الحال، وهو ضعيف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {تَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: والذين تدعونهم. {مِنْ دُونِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من

ص: 657

الضمير المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {ما:} نافية. {يَمْلِكُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ. {مِنْ:} حرف جر صلة. {قِطْمِيرٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها..

{إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اِسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}

الشرح: {إِنْ تَدْعُوهُمْ} أي: إن تستغيثوا بهم في النوائب، وتطلبوا معونتهم في الشدائد؛ {لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ:} لأنها جمادات لا تبصر، ولا تسمع، ولا تعي ما يقال لها. {وَلَوْ سَمِعُوا:} على الفرض، والتقدير، والتسليم بأنها تسمع؛ {مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ:} ما أجابوكم بشيء، ولا أعانوكم بشيء قطعا. هذا؛ والسين، والتاء زائدتان في الفعل:(استجاب) لأنه بمعنى: أجاب. قال كعب بن سعد الغنوي في رثاء أخيه: [الطويل] وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي: فلم يجبه، وعند التأمل تجد الفعل في الآية تعدّى بواسطة حرف الجر، وفي البيت تعدى بنفسه. والفرق بين الآية، والبيت: أن الفعل يتعدى إلى الدعاء بنفسه، وإلى الداعي باللام. ويحذف الدعاء إذا عدّي إلى الداعي في الغالب، فيقال: استجاب الله دعاءه، أو استجاب له، ولا يكاد يقال: استجاب الله له دعاءه، وأما البيت فمعناه: لم يستجب دعاءه على حذف المضاف.

وانظر شرح (يسمع) في الآية رقم [23] من سورة (الروم). {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي: يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرءون منكم، كما قال تعالى في الآية رقم [6] من سورة (الأحقاف):{وَإِذا حُشِرَ النّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ} . وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} . الآيتان من سورة (مريم)، والخطاب لكفار قريش الذين عبدوا الحجارة، والأوثان من دون الله. {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور، ومآلها، وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة-رحمه الله:

يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة، والمخاطب بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال النسفي: ولا ينبئك أيها المفتون بأسباب الغرور، كما ينبئك الله الخبير بخبايا الأمور.

وتحقيقه: ولا يخبرك بالأمر مخبر، هو مثل خبير عالم به. يريد: أن الخبير بالأمر وحده هو

ص: 658

الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به، والمعنى: أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق؛ لأني خبير بما أخبرت به. انتهى.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {تَدْعُوهُمْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والهاء مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لا:} نافية. {يَسْمَعُوا:}

فعل مضارع جواب الشرط مجزوم

إلخ، والواو فاعله. {دُعاءَكُمْ:} مفعول به، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلَوْ:} الواو: حرف عطف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {يَسْمَعُوا:}

ماض، وفاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف، لدلالة ما قبله عليه، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي.

{مَا:} نافية. {اِسْتَجابُوا:} ماض وفاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب شرط غير جازم. {لَكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، و (لو) ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله. {وَيَوْمَ:} الواو: حرف عطف، أو حرف استئناف.

(يوم): ظرف زمان متعلق بالفعل بعده، و (يوم): مضاف، و {الْقِيامَةِ:} مضاف إليه. {يَكْفُرُونَ:}

فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية لا محل لها على الوجهين المعتبرين بالفاء. {بِشِرْكِكُمْ:} متعلقان بما قبلهما، والكاف في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. ومفعوله محذوف، التقدير: بشرككم إياهم. {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا):

نافية. {يُنَبِّئُكَ:} فعل مضارع، والكاف مفعول به. {مِثْلُ:} فاعله، و {مِثْلُ} مضاف، و {خَبِيرٍ} مضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها.

{يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)}

الشرح: {يا أَيُّهَا النّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ:} الخطاب لجميع البشر؛ لتذكيرهم بنعم الله الجليلة عليهم؛ أي: أنتم المحتاجون إليه تعالى في بقائكم، وكل أحوالكم، وفي جميع حركاتكم، وسكناتكم. {وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ:} غني عن عباده، غير محتاج إليهم في شيء، ومحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان على كل حال، وهو مستحق للحمد، في ذاته، تحمده الملائكة، وتنطق بحمده ذرات المخلوقات.

قال النسفي-رحمه الله تعالى-: لم يسمهم بالفقراء للتحقير؛ بل للتعريض على الاستغناء، ولهذا؛ وصف نفسه بالغني، الذي هو مطعم الأغنياء، وذكر الحميد ليدل به على أنه الغني،

ص: 659

النافع بغناه خلقه، والجواد المنعم عليهم؛ إذ ليس كل غني نافعا بغناه، إلا إذا كان الغني جوادا منعما، وإذا جاد، وأنعم؛ حمده المنعم عليهم. قال سهل: لما خلق الله الخلق؛ حكم لنفسه بالغنى، ولهم بالفقر، فمن ادعى الغنى؛ حجب عن الله، ومن أظهر فقره؛ أوصله فقره إليه.

فينبغي للعبد أن يكون مفتقرا بالسر إليه، ومنقطعا عن الغير إليه، حتى تكون عبوديته محضة؛ فالعبودية هي الذل والخضوع، وعلامته ألاّ يسأل من أحد.

وقال الواسطي: من استغنى بالله لا يفتقر، ومن تعزز بالله لا يذل. وقال الحسين: على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنيا بالله، وكلما ازداد افتقارا إلى الله؛ ازداد غنى. وقال يحيى:

الفقر خير للعبد من الغنى؛ لأن المذلة في الفقر، والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة، خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال. وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء، وقال الشبلي: الفقر يجر البلاء، وبلاؤه كله عز. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [10]، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {يا أَيُّهَا النّاسُ:} انظر الآية رقم [5]. {أَنْتُمُ:} ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {الْفُقَراءُ:} خبره، والجملة الاسمية لا محل لها كالجملة الندائية قبلها؛ لأنها ابتدائية مثلها. {إِلَى اللهِ:} جار ومجرور متعلقان ب: {الْفُقَراءُ؛} لأنه جمع: فقير، وهو صفة مشبهة. {وَاللهُ:} الواو: حرف عطف. {اللهِ:} مبتدأ. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له، وأجيز اعتباره توكيدا للفظ الجلالة، وعليه:{الْغَنِيُّ:} خبر أول. {الْحَمِيدُ:} خبر ثان، وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، وما بعده خبران له؛ فالجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، وهو أقوى من اعتبارها حالية.

{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (17)}

الشرح: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أي: لو شاء الله تعالى إهلاككم؛ لأهلككم، وأفناكم، وأتى بقوم آخرين غيركم، وفي هذا؛ وعيد، وتهديد. ومثله قوله تعالى في سورة (محمد) صلى الله عليه وسلم رقم [38]:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ} . {وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ} أي: وليس ذلك بصعب، أو ممتنع على الله؛ بل هو سهل يسير عليه سبحانه؛ لأن أمره بين الكاف والنون، إذا قال للشيء: كن؛ فيكون، ومثله في سورة (إبراهيم) رقم [20] على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

الإعراب: {إِنْ:} حرف شرط جازم. {يَشَأْ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» يعود إلى (الله)، ومفعوله محذوف، انظر الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {يُذْهِبْكُمْ:} فعل مضارع جواب الشرط، والفاعل يعود إلى (الله)، والكاف مفعول به، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة

ص: 660

جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا ب:«إذا» الفجائية، و {إِنْ} ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَيَأْتِ:} الواو: حرف عطف. (يأت): فعل مضارع معطوف على جواب الشرط مجزوم مثله، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الياء، والكسرة قبلها دليل عليها، وفاعله يعود إلى (الله) أيضا، ومثل هذا الفعل يجوز رفعه، ونصبه، قال ابن مالك في ألفيته:[الرجز] والفعل من بعد الجزا إن يقترن

بالفا، أو الواو بتثليث قمن

ولكن لم يقرأ الفعل هنا بغير الجزم. {بِخَلْقٍ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{جَدِيدٍ:} صفة له. {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية تعمل عمل «ليس» .

{ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع اسم (ما)، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {عَلَى اللهِ:} متعلقان بما بعدهما. {بِعَزِيزٍ:} الباء: حرف جر صلة.

(عزيز): خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية:{وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. واعتبارها حالا فيه ضعف.

{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكّى فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (18)}

الشرح: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى:} يعني: لا تؤاخذ نفس بإثم أخرى، ولا تحمل نفس حاملة حمل أخرى، ولا يؤاخذ أحد بذنب آخر، وذلك: أن المشركين كانوا يقولون للمسلمين:

{اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ،} بمعنى لنحمل يوم القيامة ما كتاب عليكم من الذنوب والسيئات. هذا؛ وأصل: {تَزِرُ:} (توزر) لأن ماضيه: وزر، فحذفت الواو لوقوعها ساكنة بين عدوتيها، وهما الياء، والكسرة في مضارع الغائب:«يزر» وتحذف من مضارع المتكلم، والمخاطب قياسا عليه، والأمر: زر فيما يظهر، ومصدره: وزر، بفتح الواو وكسرها، وهو بمعنى: الإثم، والثقل أيضا، والوزر بفتح الواو، والزاي: الملجأ، والمستغاث، قال تعالى:

{كَلاّ لا وَزَرَ} . ومن المعنيين يؤخذ اسم وزير السلطان، فإنه يحمل ثقل دولته، ويلجأ إليه السلطان في المهمات، فيستشيره بذلك. ومعنى الآية: يتبرأ كل واحد من أوزار غيره، حتى إن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة، فتقول: يا بني ألم يكن حجري لك وطاء؟ ألم يكن ثديي لك سقاء؟ ألم يكن بطني لك وعاء؟ فيقول: بلى يا أمّه! فتقول: يا بني! إن ذنوبي أثقلتني، فاحمل عني منها ذنبا واحدا، فيقول: إليك عني يا أمّه! فإني بذنبي عنك اليوم مشغول.

ص: 661

خذ قوله تعالى في سورة (المعارج): {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ،} وقوله جل ذكره في سورة (عبس):

{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} .

تنبيه: عن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه» . رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجة، والنسائي؛ إلا أنه قال:«بالنياحة عليه» .

فلا تعارض بين الآية، والحديث، فإن الحديث محمول على ما إذا كان النوح من وصية الميت، وسنته، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة بن العبد البكري وهو من معلقته:[الطويل] إذا متّ فانعيني بما أنا أهله

وشقّي عليّ الجيب يا ابنة معبد

وذهب جماعة من أهل العلم، -منهم داود الظاهري-إلى الأخذ بظاهر الحديث، وأنه إنما يعذب بنوح النساء؛ لأنه أهمل النهي عنه قبل موته، فيعذب بتفريطه بذلك.

{وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى:} المعنى وإن تطلب نفس مثقلة بالأوزار، وتسأل أحدا ليحمل عنها بعض أوزارها؛ لا يتحمل عنها شيئا، ولو كان المدعو المسئول قريبا لها، كالأم، والأب، والولد، والأخ، والصديق، والزوجة

إلخ، وهو صريح الآيات المذكورة آنفا، وقال تعالى في سورة (لقمان) رقم [33]:{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً} .

قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ما الفرق بين معنى قوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} وبين معنى قوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ..} . إلخ؛ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنّه تعالى لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها. والثاني: فإنه لا غياث يومئذ لمن استغاث، حتى إن نفسا قد أثقلتها الأوزار، وبهظتها لو دعت إلى أن يخفف عنها بعض وزرها؛ لم تجب، ولم تغث، وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب، أو ولد، أو أخ. انتهى. كشاف.

وأما قوله تعالى في الآية رقم [13] من سورة (العنكبوت): {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ} فهذا في حق الضالين المضلين، فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، وكان ذلك يعد من أوزارهم، ليس فيه شيء من أوزار غيرهم. انظر تفسيرها هناك؛ تجد ما يسرك، ويثلج صدرك.

هذا؛ و (حمل) بفتح الحاء وسكون الميم، قال ابن السكيت: ما كان في بطن، أو على رأس شجرة، والحمل بالكسر: ما كان على ظهر، أو رأس، قال الأزهري: وهذا هو الصواب، وهو قول الأصمعي، وقال بعضهم:[الرجز] ما كان في بطن فذاك حمل

وإن على ظهر ورأس حمل

ص: 662

وقال القرطبي: وقد حكى يعقوب في حمل النخلة الكسر. وقال أبو سعيد السيرافي: يقال في حمل المرأة: حمل، وحمل، يشبه مرة لاستبطانه بحمل النخلة، ومرة لبروزه، وظهوره بحمل الدابة. وقال الرازي في مختاره: ويقال: امرأة حامل، وحاملة إذا كانت حبلى، فمن قال:

حامل قال: هذا نعت لا يكون إلا للإناث، ومن قال: حاملة بناه على: حملت، فهي حاملة، وأنشد:[الوافر] تمخّضت المنون له بيوم

أتى ولكلّ حاملة تمام

فإذا حملت المرأة شيئا على ظهرها، أو على رأسها، فهي حاملة لا غير؛ لأن الهاء إنما تلحق للفرق، فما لا يكون للمذكر، لا حاجة فيه إلى علامة التأنيث، فإن أتي بها فإنما هو على الأصل، هذا قول أهل الكوفة، وقال أهل البصرة: هذا غير مستمر؛ لأن العرب تقول: رجل أيّم وامرأة أيّم، ورجل عانس وامرأة عانس مع الاشتراك، وقالوا: امرأة مصيبة، وكلبة مجرية مع الاختصاص.

قالوا: والصواب أن يقال: إن قولهم: حامل، وطالق، وحائض، ونحوها، أوصاف مذكرة وصف بها الإناث، كما أن الرّبعة، والرّاوية، والخجأة، أوصاف مؤنثة وصف بها الذكور. انتهى.

{إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي: إنما تخوف الذين يخشون عقاب الله تعالى حالة كونهم غائبين عن عذابه، أو غائبين عن الناس في خلوتهم، أو غائبا عنهم عذاب الله تعالى، فهؤلاء هم الذين ينفعهم الوعظ، والنصح، ويجدي معهم التخويف، والإنذار، فهو كقوله تعالى:

{إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ} الآية رقم [11] من سورة: (يس) والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ويعم كل واعظ، ومرشد، وانظر شرح الغيب في الآية رقم [3] من سورة (سبأ).

قال الزمخشري: فإن قلت: كيف اتصل قوله: {إِنَّما تُنْذِرُ} بما قبله، قلت: لما غضب الله عليهم في قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} أتبعه الإنذار بيوم القيامة، وذكر أهوالها، ثم قال:{إِنَّما تُنْذِرُ} كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعهم ذلك، فلم ينفع، فنزل:{إِنَّما تُنْذِرُ،} أو أخبره الله تعالى بعلمه فيهم. انتهى. ولا تنس الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، وانظر الالتفات في الآية رقم [34] من سورة (الروم) فهو جيد.

{وَأَقامُوا الصَّلاةَ:} انظر الآية رقم [4] من سورة (لقمان). وخصهم بالذكر؛ لأنهم هم المنتفعون بالإنذار؛ لأن من شأن الصلاة أن تهذب النفوس، وتلين الطبائع، وتصلح العمل، وإذا لم تفعل ذلك؛ فهي غير مقبولة عند الله، انظر الآية رقم [45] من سورة (العنكبوت) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَمَنْ تَزَكّى:} ومن طهر نفسه من أدناس المعاصي. {فَإِنَّما يَتَزَكّى لِنَفْسِهِ:} فإن ثمرة تطهير نفسه عائدة عليه، فصلاحه، وتقواه مختص به، لا يتعداه لغيره. {وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ:} إليه المرجع، والمآب، فهو يجازيه على عمله، ويجازي كل إنسان أيضا من ذكر، أو أنثى، وانظر شرح النفس في الآية رقم [28] من سورة (الروم).

ص: 663

الإعراب: {وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {تَزِرُ:} فعل مضارع. {وازِرَةٌ:}

فاعل. {وِزْرَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {أُخْرى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف.

(إن): حرف شرط جازم. {تَدْعُ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الواو، والضمة قبلها دليل عليها. {مُثْقَلَةٌ:} فاعل. {إِلى حِمْلِها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، و (ها): في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لا:} نافية. {يُحْمَلْ:} فعل مضارع جواب الشرط، مبني للمجهول. {مِنْهُ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من: (شيء) كان صفة له، فلما قدم عليه صار حالا. {شَيْءٌ:} نائب فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جملة جواب الشرط، ولم تقترن بالفاء، ولا بإذا الفجائية، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له. {وَلَوْ:}

الواو: حرف عطف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره. {كانَ} فعل ماض ناقص، واسمه مستتر، التقدير: ولو كان المدعو. {ذا:} خبر {كانَ} منصوب، وعلامة نصبه الألف نيابة عن الفتحة؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و {ذا} مضاف، و {قُرْبى} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف للتعذر. هذا؛ وقرئ:«(ولو كان ذو قربى)» على اعتبار {كانَ} تامة، أي:

ولو حضر ذو قربى، نحو قوله تعالى:{وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} قال الزمخشري: ونظم الكلام أحسن ملاءمة للناقصة. قال البيضاوي: وقرئ: «(ذو قربى)» على حذف الخبر، وهو أولى من جعل كان تامة، فإنها لا تلائم نظم الكلام، وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون حالا، و {كانَ} تامة، ولا وجه له قطعا، وجواب (لو) محذوف لدلالة ما قبله عليه، التقدير: ولو كان المدعو ذا قربى لا يحمل من أوزار قريبه شيئا. {وَلَوْ} ومدخولها كلام معطوف على ما قبله لا محل له مثله. وقيل: الواو واو الحال، وهذا لا يصح إلا إذا اعتبرنا (لو) وصلية، ولا جواب لها.

{إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {تُنْذِرُ:} فعل مضارع، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«أنت» .

{الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب مفعول به. {يَخْشَوْنَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله. {رَبَّهُمْ:} مفعول به، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {بِالْغَيْبِ:}

متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول، والجملة الفعلية:{إِنَّما تُنْذِرُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، وجملة:{وَأَقامُوا الصَّلاةَ} في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الواو، والضمير، وهي على تقدير:«قد» قبلها.

{وَمَنْ:} الواو: حرف استئناف. (من): اسم شرط جازم مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {تَزَكّى:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر، وهو في محل جزم فعل

ص: 664

الشرط، والفاعل مستتر، تقديره:«هو» ، يعود إلى (من). {فَإِنَّما:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (إنما): كافة، ومكفوفة. {يَتَزَكّى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر، والفاعل مستتر يعود إلى (من) أيضا. {لِنَفْسِهِ:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [10] وإن اعتبرت (من) موصولة؛ فالإعراب ظاهر، وقد مر معنا كثير مثله، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. {وَإِلَى:} الواو: حرف استئناف. {(إِلَى اللهِ)} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {الْمَصِيرُ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21)}

الشرح: {وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ} أي: الجاهل، والعالم، والكافر، والمؤمن. فهذا مثل ضربه الله لهما. أي: فكما لا يتساوى الأعمى مع البصير، فكذلك لا يتساوى المؤمن المستنير بنور القرآن، والكافر الذي يتخبط في الظلام. ففي الكلام استعارة تصريحية حيث شبه الله الكافر بالأعمى، والمؤمن بالبصير، بجامع ظلام الطريق، وعدم الاهتداء على الكافر، ووضوح الرؤية، والاهتداء للمؤمن، ثم استعار المشبه به، وهو {الْأَعْمى} للكافر، واستعار (البصير) للمؤمن بطريق الاستعارة التصريحية. {وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ} أي: لا يستويان.

والمراد ب: {الظُّلُماتُ:} الكفر، والباطل، والجهل. والمراد ب:{النُّورُ:} الإيمان، والحق، والعلم. ففي الكلام استعارة مثل سابقه. وجمع الظلمات؛ لأن طرق الكفر، والباطل، والجهل متعددة، وأفرد النور؛ لأن الإيمان، والحق، والعلم واحد، لا يتعدد.

{وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} أي: لا يستويان أيضا. والمراد ب: {الظِّلُّ} ظل الجنة ونعيمها الدائم، والمراد ب:{الْحَرُورُ} حر نار جهنم؛ أي: فكما لا يستوي في الدنيا الظل المنعش للأرواح، والأجسام مع الحر الشديد المسمى أحيانا بالسموم لشدته؛ لا تستوي نار جهنم مع الجنة. وبالمناسبة خذ ما يلي:

فعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قالت النار: ربّ أكل بعضي بعضا فائذن لي أتنفّس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشّتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد، أو زمهرير؛ فمن نفس جهنّم، وما وجدتم من حرّ، أو حرور؛ فمن نفس جهنّم» . أخرجه مسلم، لذا يسن في حق المسلم أن يقول في يوم الحر: لا إله إلا الله ما أشد حر هذا اليوم، اللهم أجرني من حرّ نار جهنم! وفي يوم البرد أن يقول: لا إله إلا الله ما أشد برد هذا اليوم، اللهم أجرني من زمهرير جهنم!

ص: 665

وينبغي أن تعلم: أن الفعل: {يَسْتَوِي} من الأفعال التي لا يكتفى فيها بواحد، فلو قلت:

استوى زيد لم يصح فمن ثمّ لزم العطف على الفاعل، أو تعدده. هذا؛ ولا تنس المطابقة، والمقابلة بين الضدين في الآيات الأربع، وهي من المحسنات البديعية. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [58] من سورة (غافر) إن أردت الزيادة.

الإعراب: {وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {يَسْتَوِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء. {الْأَعْمى:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {وَالْبَصِيرُ:} معطوف على ما قبله. {وَلا:}

الواو: حرف عطف. (لا): صلة. {الظُّلُماتُ:} معطوف على ما قبله. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): صلة. {النُّورُ:} معطوف على ما قبله، وأيضا {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} معطوفان على ما قبلهما.

قال الجلال-رحمه الله تعالى-: وزيادة (لا) في الثلاثة تأكيد. قال الجمل: وقد زيدت في الآيات الثلاث خمس مرات: اثنتين في الأولى، واثنتين في الثانية، وواحدة في الثالثة، والكل لتأكيد نفي الاستواء. وقال ابن هشام في المغني: ف: (لا) الثانية، والرابعة، والخامسة زوائد لأمن اللبس. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل من فرق بين هذه الواوات، قلت: بعضها ضمت شفعا إلى شفع، وبعضها وترا إلى وتر. انتهى.

{وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)}

الشرح: {وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ:} تمثيل آخر للمؤمنين، والكافرين أبلغ من الأول، ولذلك كرر الفعل. وقيل: للعلماء، والجهلاء. {إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ:} هدايته، فيوفقه لفهم آياته، والاتعاظ بعظاته. {وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي: الكفار شبههم الله بالأموات في القبور؛ لأنهم لا يجيبون إذا دعوا.

هذا؛ وقد قال ابن كثير: كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة، كالأعمى، والبصير لا يستويان؛ بل بينهما فرق وبون كثير، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظلّ، ولا الحرور، كذلك لا تستوي الأحياء، ولا الأموات. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين، وهم الأحياء، وللكافرين وهم الأموات، كقوله تعالى:{أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها} الآية رقم [122] من سورة (الأنعام)، وقال عز وجل:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً} الآية رقم [24] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام.

ص: 666

فالمؤمن سميع بصير في نور، يمشي على صراط مستقيم في الدنيا، والآخرة؛ حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال، والعيون، والكافر أعمى، وأصم في ظلمات يمشي فيها، لا خروج له منها؛ بل هو يتيه في غيه، وضلاله في الدنيا، والآخرة؛ حتى يفضي به ذلك إلى الحرور، والسموم، والحميم. انتهى. بتصرف.

تنبيه: المراد في الآية الكريمة تشبيه الكفار بالمدفونين في القبور بعدم الانتفاع فيما يقال لهم، لا أنهم لا يسمعون أبدا؛ بل يسمعون، ولكنهم لا يقدرون على الجواب، كيف لا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم قد خاطب قتلى بدر من المشركين، وناداهم بأسمائهم:«يا فلان بن فلان! ويا فلان بن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا» فقال عمر بن الخطاب-رضي الله عنه: يا رسول الله! كيف تكلم أجسادا، لا أرواح فيها؟! فقال:«والله ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا شيئا» . وفي رواية:

«يسمعون كما تسمعون، ولكن لا يجيبون» . وقد ثبت: أن للروح تعلقا بالجسد بعد الدفن، أو بموضع الدفن بعد فناء الجسد، لذا علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أتينا المقبرة أن نقول:«السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أسأل الله العفو لنا، ولكم، ولجميع المسلمين» . وليقرأ الفاتحة، والأحاديث الصحيحة الواردة في سؤال القبر تؤكد هذه الحقيقة.

والله أعلم، وأجل، وأكرم.

الإعراب: {وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ:} إعراب هذه الكلمات مثل الآية رقم [19] بلا فارق.

{إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {يُسْمِعُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهَ}. {مَنْ:} اسم موصول، أو نكرة موصوفة مبنية على السكون في محل نصب مفعول به، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: يسمع الذي، أو: شخصا يشاء الله إسماعه، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية حجازية، تعمل عمل:«ليس» . {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع اسم (ما). {بِمُسْمِعٍ:} الباء: حرف جر صلة. (مسمع):

خبر (ما) منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائدة. هذا؛ وإن اعتبرت (ما) مهملة تميمية، فالضمير مبتدأ، و (مسمع) خبره، زيدت الباء فيه، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا، تقديره:«أنت» . {مَنْ:} مفعول به ل: (مسمع). {فِي الْقُبُورِ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول {مَنْ،} والجملة الاسمية: {وَما أَنْتَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. واعتبارها حالا من لفظ الجلالة لا بأس به، ويكون الرابط: الواو فقط.

ص: 667

{إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ (23) إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)}

الشرح: {إِنْ أَنْتَ إِلاّ نَذِيرٌ} أي: فما عليك يا محمد إلا الإنذار، وأما الإسماع فلا إليك، ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم، وفي الآية قصر موصوف على صفة. {إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ:} محقين، أو محقا، أو: إرسالا مصحوبا بالحق. {بَشِيراً:} بالجنة، والثواب الحسن لمن آمن. {وَنَذِيراً:} بالنار، والعقاب لمن كفر، وعاند، وخرج عن طاعة ربه، وما بينهما مطابقة، ومقابلة، وهي من المحسنات البديعية. {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ:} جماعة من الناس في العصور، والأزمنة الخالية. {إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ} أي: جاءها رسول، فأنذرها عقاب الله، وغضبه، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ} الآية رقم [36] من سورة (النحل)، وقوله تعالى:{إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} رقم [7] من سورة (الرعد). قال ابن جريج: إلا العرب، فإنه لم يبعث فيهم رسولا. انتهى. وقد صح: أن الله بعث فيهم خالد بن صفوان، ونبيا آخر اسمه: حنظلة.

هذا؛ و {أُمَّةٍ} بمعنى الجماعة، كما رأيت، ولا واحد لها من لفظها، وتكون واحدا إذا كان ممن يقتدى به كقوله تعالى:{إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ} . والأمة: الطريقة، والملة في الدين، كقوله تعالى حكاية عن قول المشركين:{إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} وبها فسرت الآية رقم [92] من سورة (الأنبياء): {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} . وقال النابغة الذبياني من قصيدة يخاطب بها النعمان بن المنذر، ويعتذر له مما وشى به الواشون:[الطويل] حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وهل يأثمن ذو أمّة وهو طائع؟

وكل جنس من الحيوان أمة، كقوله تعالى:{وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ} والأمة: الحين، والوقت، كقوله تعالى:{وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي: بعد وقت، وحين.

الإعراب: {إِنْ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {أَنْتَ:} ضمير منفصل مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ. {إِلاّ:} حرف حصر. {نَذِيرٌ:} خبر المبتدأ. والجملة الاسمية ابتدائية لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنّا أَرْسَلْناكَ..} . إلخ بيان، وتفسير لهذه الجملة. {إِنّا:} حرف مشبه بالفعل. و (نا): اسمها، حذفت نونها، بقيت الألف دليلا عليها. {أَرْسَلْناكَ:} فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ). {بِالْحَقِّ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الفاعل، أو من المفعول، انظر الشرح. {بَشِيراً:} حال من الكاف. {وَنَذِيراً:}

معطوف على ما قبله، والجملة الاسمية:{إِنّا..} . إلخ ابتدائية، لا محل لها من الإعراب.

ص: 668

{وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف نفي. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أُمَّةٍ:} مبتدأ مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {إِلاّ:} حرف حصر. {خَلا:} فعل ماض مبني على فتح مقدر على الألف للتعذر.

{فِيها:} متعلقان بما قبلهما. {نَذِيرٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، فلا محل لها على الوجهين.

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25)}

الشرح: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} أي: وإن يكذبك قومك يا محمد؛ فاصبر، وتأس بمن سبقك من الرسل. {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كذبوا رسلهم. وانظر ما ذكرته في الآية رقم [4] ففيها الكفاية. {جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ} أي: بالمعجزات الباهرات، والحجج الدامغات، والبراهين الساطعات، فكذبوهم، وآذوهم أشد الإيذاء، فلك يا محمد أسوة حسنة، وقدوة طيبة بهؤلاء الرسل الكرام. {وَبِالزُّبُرِ} أي: جاءوهم بالزبر، وهي الصحف المنزلة على الأنبياء، كصحف إبراهيم، وهي ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة، وهي عشرة، وكصحف شيث، وهي ستون، وصحف إدريس، وهي عشرة. فجملة الصحف مائة وعشرة، تضم لها الكتاب الأربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن. فجملة الكتاب المنزلة على الأنبياء مائة وأربعة عشر. {وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ} أي: الواضح، والمراد ب:(الكتاب) جنس الكتاب؛ إذ المراد:

التوراة، والإنجيل، والزبور. وقيل: المراد: الصحف والكتاب السماوية على إرادة التفصيل دون الجمع، ويجوز أن يراد بهما واحد، والعطف لتغاير الوصفين لاختلاف اللفظين. هذا؛ والآية الكريمة مذكورة في سورة (آل عمران) مع اختلاف في بعض ألفاظها.

الإعراب: {وَإِنْ:} الواو: حرف استئناف. (إن): حرف شرط جازم. {يُكَذِّبُوكَ:} فعل مضارع فعل الشرط مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والكاف مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {فَقَدْ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (قد): حرف تحقيق يقرب الماضي من الحال. {كَذَّبَ:} فعل ماض. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع فاعل.

{مِنْ قَبْلِهِمْ:} متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء في محل جر بالإضافة، والمفعول محذوف، تقديره: رسلهم، والجملة الفعلية:{فَقَدْ كَذَّبَ..} . إلخ في محل جزم جواب الشرط عند الجمهور، والدسوقي يقول: لا محل لها؛ لأنها لم تحل محل المفرد. هذا؛ وإن اعتبرت

ص: 669

جواب الشرط محذوفا؛ فالجملة الفعلية مفيدة للتعليل، لا محل لها، ويكون التقدير: وإن يكذبوك؛ فلا تحزن؛ لأنه قد كذب

إلخ.

{جاءَتْهُمْ:} ماض، والتاء للتأنيث حرف لا محل له، والهاء مفعول به. {رُسُلُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة. {بِالْبَيِّناتِ:} متعلقان بمحذوف حال من: {رُسُلُهُمْ،} أو هما متعلقان بالفعل قبلهما، وجملة:{جاءَتْهُمْ..} . إلخ في محل نصب حال من الضمير المجرور محلا بالإضافة، والرابط: الضمير فقط، وهي على إضمار:«قد» قبلها. {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ:} معطوفان على: {بِالْبَيِّناتِ} . {الْمُنِيرِ:} صفة (الكتاب)، و (إن) ومدخولها كلام مستأنف لا محل له.

{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)}

الشرح: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا:} عاقبتهم عقابا شديدا، كما قال تعالى في سورة (القمر):

{فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} . {فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ:} استفهام معناه التعجب؛ أي: فانظر كيف كان عقابي لهؤلاء المكذبين، وكذلك أفعل بكفار قريش، فما لكفار قريش لا يهتدون، ولا يرتدعون عما هم عليه من الكفر، والعصيان، والطغيان؟! هذا؛ وقد قرئ:«(نكيري)» بإثبات الياء أيضا، ومثلها الآية رقم [45] من سورة (سبأ). والآية رقم [44] من سورة (الحج)، وانظر شرح {ثُمَّ} في الآية رقم [11] من سورة (الروم)، وشرح الكفر في الآية رقم [34] منها أيضا.

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَخَذْتُ:} فعل، وفاعل. {الَّذِينَ:} مفعول به، وجملة:

{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها، وجملة:{أَخَذْتُ..} . إلخ معطوفة على جملة {جاءَتْهُمْ..} . إلخ فهي في محل نصب حال مثلها. {فَكَيْفَ:} الفاء: حرف عطف.

(كيف): اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها.

{كانَ:} فعل ماض ناقص. {نَكِيرِ:} اسم كان مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة للتخفيف، منع من ظهورها اشتغال المحل بالحركة المناسبة، والياء المحذوفة في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ} معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة.

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27)}

الشرح: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً:} انظر الآية رقم [24] من سورة (الروم) ففيها الكفاية. {فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها:} أجناسها، أو أصنافها على أن كلاّ منها ذو أصناف

ص: 670

مختلفة هيئاتها من الصفرة، والحمرة، والخضرة، ونحوها، والأجناس مثل: الرمان، والتفاح، والتين، والعنب، والرطب، ونحو ذلك، هذا بالإضافة إلى الطعوم المختلفة أيضا، والروائح المتنوعة، كما قال تعالى في الآية رقم [4] من سورة (الرعد):{يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} . وفي قوله: {فَأَخْرَجْنا} التفات من الغيبة إلى التكلم. انظر ما ذكرته في الآية رقم [10] من سورة (لقمان) تجد ما يسرك.

{وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها} أي: وخلق الله الجبال كذلك مختلفة الألوان، كما هو المشاهد أيضا من بيض، وحمر، وفي بعضها طرائق، وهي الجدد، جمع:

جدّة مختلفة الألوان أيضا، قال ابن عباس-رضي الله عنهما: الجدد: الطرائق. انتهى. هذا؛ وهو بضم الجيم وفتح الدال الأولى. وقال الأخفش: ولو كان جمع: جديد؛ لقال: جدد (بضم الجيم، والدال) نحو سرير وسرر، قال زهير بن أبي سلمى المزني:[البسيط] كأنّه أسفع الخدّين ذو جدد

طاو ويرتع بعد الصّيف عريانا

وقرأ الزهري: «(جدد)» بضمتين على أنه جمع: جديدة، وهي الجدة. يقال: جديدة، وجدد، وجدائد. {وَغَرابِيبُ سُودٌ:} قال أبو عبيدة: الغربيب: الشديد السواد، ففي الكلام تقديم، وتأخير. والمعنى: ومن الجبال سود غرابيب، والعرب تقول للشديد السواد؛ الذي لونه كلون الغراب: أسود غربيب. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يبغض الشيخ الغربيب» . أي: الذي يخضب بالسواد. قال امرؤ القيس: [البسيط] العين طامحة واليد سابحة

والرّجل لافحة والوجه غربيب

وقال آخر يصف كرما: [البسيط] ومن تعاجيب خلق الله غاطية

يعصر منه ملاحيّ وغربيب

الغاطية: الشجرة التي طالت أغصانها، وانبسطت على وجه الأرض. ملاحي:

أبيض. انتهى. قرطبي بتصرف. هذا؛ وقال الصابوني: يقول شهيد الإسلام في تفسيره «الظلال» : هذه لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب، تبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان، ثم تنتقل إلى ألوان الجبال، ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار، وتنوعها، وتعددها. واللفتة إلى ألوان الصخور وتنوعها داخل اللون الواحد تهز القلب هزا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي بما يستحق النظر، والالتفات، ثم ألوان الناس، وهي لا تقف عند حد، وكذلك ألوان الدواب، والأنعام. والدابة: كل حيوان.

والأنعام: هي الإبل، والبقر، والغنم، والماعز، ذات الألوان والأصباغ العجيبة، كلها معروضة للأنظار في هذا الكتاب الكوني، الجميل الصفحات، العجيب في التكوين، والتلوين. انتهى.

ص: 671

الإعراب: {أَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام، وتقرير. (لم): حرف نفي، وقلب، وجزم.

{تَرَ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، وعلامة جزمه حذف حرف العلة من آخره، وهو الألف، والفتحة قبلها دليل عليها، والفاعل مستتر، تقديره:«أنت» . {أَنَّ:} حرف مشبه بالفعل.

{اللهَ:} اسمها. {أَنْزَلَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى (الله)، تقديره:«هو» . {مِنَ السَّماءِ:}

متعلقان بما قبلهما، أو هما متعلقان بمحذوف حال من {السَّماءِ} كان صفة له

إلخ. {السَّماءِ:}

مفعول به، وجملة:{أَنْزَلَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {أَنَّ،} و {أَنَّ} واسمها، وخبرها في تأويل مصدر في محل نصب سد مسد مفعول (ترى)، والجملة الفعلية:{أَلَمْ تَرَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَأَخْرَجْنا:} الفاء: حرف عطف. (أخرجنا): فعل، وفاعل. {بِهِ:}

جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما. {ثَمَراتٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مؤنث سالم. {مُخْتَلِفاً:} صفة {ثَمَراتٍ} وهو نعت سببي، يراعى في تذكيره، وتأنيثه ما بعده، وهو:{أَلْوانُها} الواقع فاعلا له، وإنما كان سببيا؛ لأن الاختلاف في المعنى إنما هو لألوانها، و (ها): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{فَأَخْرَجْنا..} .

إلخ معطوفة على ما قبلها، أو هي مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين. {وَمِنَ:} الواو:

حرف استئناف. (من الجبال): متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {جُدَدٌ:} مبتدأ مؤخر. {بِيضٌ:} صفة جدد. (حمر): معطوف على {بِيضٌ} . {مُخْتَلِفٌ:} صفة ثانية لجدد، وفيها معنى التأكيد ل:{بِيضٌ وَحُمْرٌ} . {أَلْوانُها:} فاعل ب: {مُخْتَلِفٌ} . و (ها): في محل جر بالإضافة. {وَغَرابِيبُ:} معطوف على {جُدَدٌ} . {سُودٌ:} صفة له، وانظر الشرح، وما قيل فيه:

إنه من عكس الصفة. وقيل: هو بدل من: (غرابيب)، واعتبره الزمخشري معطوفا على {بِيضٌ} أو {جُدَدٌ،} والجملة الاسمية: {وَمِنَ الْجِبالِ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَمِنَ النّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)}

الشرح: {وَمِنَ النّاسِ وَالدَّوَابِّ..} . إلخ: أي: وخلق الناس، والدواب، والأنعام مختلفة ألوانها مثل اختلاف ألوان الثمرات، والجبال، كما هو مشاهد، فإنك ترى في الجميع الأبيض، والأحمر، والأسود، والأسمر

إلخ، قال تعالى في سورة (الروم):{وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ} هذا؛ و (الدواب) جمع: دابة، وهي تشمل كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان، وحيوان. قال تعالى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} الآية رقم [22] من سورة (الأنفال)، والمراد هنا ما لا يعقل خاصة. والمراد بالأنعام: الإبل، والبقر، والغنم. فهو من ذكر الخاص بعد العام، وانظر شرح:{النّاسِ} في الآية رقم [28] من سورة (سبأ).

ص: 672

{إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} أي: إنما يخافه تعالى العلماء؛ لأنهم عرفوه حق معرفته؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعلي القدير أتم، والعلم به أكمل؛ كان الخوف منه أعظم، وأكثر؛ إذ من دواعي الخوف منه تعالى معرفته، والعلم بصفاته، وأفعاله، فمن كان أعلم به؛ كان أشد خوفا منه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«أنا أخشاكم لله، وأتقاكم له» . ولهذا أتبعه ذكر أفعاله، الدالة على كمال قدرته.

وعن ابن عباس-رضي الله عنهما-في قوله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} قال: هم الذين يعلمون: أن الله على كل شيء قدير. وعنه قال: العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئا، وأحل حلاله، وحرم حرامه، وحفظ وصيته، وأيقن: أنه ملاقيه، ومحاسب بعمله. انتهى. وقال سعيد بن جبير-رضي الله عنه: الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عز وجل. وقال الحسن البصري-رحمه الله: العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغب الله فيه، وزهد فيما سخط لله فيه، ثم تلا الآية الكريمة. وعن ابن مسعود رضي الله عنه-أنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية. وقال مالك-رحمه الله تعالى-: إن العلم ليس بكثرة الرواية، وإنما العلم نور يجعله الله في القلب.

هذا؛ وقرئ برفع «(الله)» ونصب: «(العلماء)» . قال الزمخشري-رحمه الله تعالى-: فإن قلت: ما وجه قراءة من قرأ برفع «(الله)» ونصب «(العلماء)» وهو عمر بن عبد العزيز، ويحكى عن أبي حنيفة، رحمهما الله تعالى؟ قلت: الخشية في هذه الآية استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشي من الرجال بين الناس من بين جميع عباده. انتهى. أقول: ومن هذه الزاوية قول نصيب بن رباح، وهو الشاهد رقم [214] من كتابنا:«فتح رب البرية» : [الطويل] أهابك إجلالا وما بك قدرة

عليّ ولكن ملء عين حبيبها

هذا؛ والآيات التي تثني على الخائفين من الله، والتي تعدهم بحسن المثوبة، وعظيم الجزاء، ورفيع الدرجات كثيرة، كيف وقد جعل الله هذا الخوف صفة من الصفات الثمانية، التي وصف الله بها أولي الألباب في سورة (الرعد)، وذلك في الآية رقم [20] وما بعدها، والرسول صلى الله عليه وسلم رغب في ذلك أيضا، وأثنى على الخائفين، وبشرهم برضا رب العالمين، والنعيم المقيم في جنات النعيم، فعن العباس بن عبد المطلب-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية الله، تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها» .

رواه البيهقي، وغيره. وعن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جل وعلا: أنه قال: «وعزّتي! لا أجمع على عبدي خوفين، وأمنين؛ إذا خافني في الدّنيا؛ أمّنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدّنيا؛ أخفته في الآخرة» . رواه ابن حبان. وحديث السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة تحت ظله مشهور.

ص: 673

{إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ:} غالب على أمره، لا يخرج شيء عن إرادته، ومشيئته. {غَفُورٌ} أي:

لمن تاب، وأناب من عباده، وهو صيغة مبالغة بمعنى: كثير الغفران لعباده المؤمنين؛ إن هم لجئوا إليه بالتوبة، والإنابة. هذا؛ وقال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه اتصال هذا الكلام بما قبله؟ قلت: لما قال: {أَلَمْ تَرَ} بمعنى: ألم تعلم: أن الله أنزل من السماء ماء، وعدد آيات الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعته، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدل به عليه، وعلى صفاته؛ أتبع ذلك:{إِنَّما يَخْشَى اللهَ..} . إلخ، كأنه قال: إنما يخشاه مثلك، ومن على صفتك ممن عرفه حق معرفته، وعلمه كنه علمه. انتهى.

الإعراب: {وَمِنَ:} الواو: حرف عطف. {(مِنَ النّاسِ)} : جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ:} معطوفان على الناس. {مُخْتَلِفٌ:} مبتدأ مؤخر، وهو في الأصل صفة لموصوف محذوف، التقدير: خلق مختلف. {أَلْوانُهُ:} فاعل ب: {مُخْتَلِفٌ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {كَذلِكَ} الكاف: حرف تشبيه، وجر، و (ذا): اسم إشارة مبني على السكون في محل جر بالكاف، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، لا محل له، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله:{مُخْتَلِفٌ} التقدير: مختلف ألوانه اختلافا مثل اختلاف ألوان الثمرات والجبال، والجملة الاسمية:{وَمِنَ النّاسِ..} . إلخ معطوفة على مثلها في الآية السابقة، لا محل لها مثلها.

{إِنَّما:} كافة ومكفوفة. {يَخْشَى:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {اللهَ:} منصوب على التعظيم. {مِنْ عِبادِهِ:} متعلقان بمحذوف حال من {الْعُلَماءُ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {الْعُلَماءُ:} فاعل: {يَخْشَى،} والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عَزِيزٌ:} خبر أول.

{غَفُورٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)}

الشرح: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ:} يداومون على تلاوة القرآن، وهي شأنهم، وديدنهم آناء الليل، وأطراف النهار. وعن مطرف بن عبد الله-رحمه الله تعالى-: هي آية القراء.

وأقول: ينبغي لقارئ القرآن أن يتدبر آياته، وأن يعمل بما فيه؛ ليحوز الأجر المترتب على قراءته، وهو عشر حسنات لكل حرف يقرؤه. فعن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول:

{الم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». رواه الترمذي. وعن جابر بن

ص: 674

عبد الله-رضي الله عنهما-عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق، من جعله أمامه؛ قاده إلى الجنة. ومن جعله خلف ظهره؛ ساقه إلى النّار» . رواه ابن حبان. ومعنى جعله أمامه: عمل بما فيه، واهتدى بهديه. ومعنى جعله خلف ظهره: أعرض عن العمل بما فيه، ولم يهتد بنوره. لذا فقد روي من قول النبي صلى الله عليه وسلم:«ربّ قارئ للقرآن، والقرآن يستغفر له، وربّ قارئ للقرآن، والقرآن يلعنه» . وأكتفي بهذا القدر هنا. وقال الإمام-رحمه الله تعالى-: قد يقرأ القرآن من لا خير فيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ومثل المنافق الّذي يقرأ القرآن مثل الرّيحانة ريحها طيّب، وطعمها مرّ» . فأخبر أن المنافق يقرؤه، وأخبر الله تعالى: أن المنافق في الدرك الأسفل من النار، وكثير من الكفار: اليهود، والنصارى يقرءونه في زماننا هذا، ويعلمون ما فيه.

{وَأَقامُوا الصَّلاةَ:} انظر الآية رقم [4] من سورة (لقمان). {وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ} أي:

تصدقوا في وجوه الخير بعض المال؛ الذي رزقناهم إياه. {سِرًّا} أي: في الخفاء. {وَعَلانِيَةً} العلانية: الجهر، ومثله: العلن، والإعلان، وما أكثر ما يتردد هذان اللفظان في القرآن الكريم، قال الشاعر، وهو الشاهد [612] من كتابنا:«فتح القريب المجيب» : [البسيط] ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه

ونعم من هو في سرّ وإعلان

{يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ} أي: لن تفسد، ولن تهلك، والمراد بالتجارة ما وعد الله من الثواب على أعمال البر، والخير، قال تعالى في سورة (الصف) رقم [10]:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ..} . إلخ، وانظر شرح {يَبُورُ} في الآية رقم [10]. هذا؛ وفي الآية استعارة التجارة للمعاملة مع الله تعالى لنيل ثوابه، وشبهها بالتجارة الدنيوية، وهي معاملة الخلق بعضهم لبعض بالبيع، والشراء لنيل الربح، ثم رشحها بقوله:{لَنْ تَبُورَ} أي: لن يخشى كسادها، وبوارها.

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب اسم {إِنَّ} . {يَتْلُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والجملة الاسمية:{إِنَّ الَّذِينَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها. {وَأَقامُوا:}

الواو: حرف عطف. (أقاموا): فعل ماض، وهو بمعنى المضارع، والواو فاعله، والألف للتفريق، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع مثلها. {الصَّلاةَ:} مفعول به، وجملة:{وَأَنْفَقُوا} معطوفة على ما قبلها، فهي في محل رفع أيضا. {مِمّا:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول به محذوف، التقدير: أنفقوا شيئا كائنا مما

إلخ، و (ما):

تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر ب (من) والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف؛ إذ التقدير: وأنفقوا من الذي، أو: من شيء رزقناهم إياه؛ لأن الفعل: «رزق» ينصب مفعولين، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر ب «من» التقدير: أنفقوا من رزقنا إياهم المال.

ص: 675

{سِرًّا وَعَلانِيَةً:} حالان من واو الجماعة بمعنى: مسرين، ومعلنين. قال أبو البقاء: هما مصدران في موضع الحال. وقيل: هما منصوبان على نزع الخافض. وجملة: {يَرْجُونَ تِجارَةً} في محل رفع خبر {إِنَّ} . وقيل: الخبر الجملة الاسمية: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} وعليه فالجملة الفعلية المذكورة في محل نصب حال ثانية من واو الجماعة أيضا، وجملة:{لَنْ تَبُورَ} في محل نصب صفة: {تِجارَةً} .

{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}

الشرح: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} أي: إن الذين يقرءون القرآن، ويتدبرون آياته، ويعملون بأوامره: من صلاة، وصدقة، وصوم، وبر، وإحسان

إلخ، إنما فعلوا ذلك، ويفعلونه؛ ليعطيهم أجورهم عليها يوم القيامة كاملة غير منقوصة. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي: يمنحهم من كرمه، وجوده ورضوانه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

وفي أبي السعود: أي: يتفضل عليهم بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها، أو بمقاديرها، ولا يخطر ببالهم كيفياتها، ولا كمياتها؛ بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى:

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} الآية رقم [26] من سورة (يونس) على نبينا، وحبيبنا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال، يقول الله تبارك وتعالى:«أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . وغير ذلك من المواعيد الكريمة. انتهى. جمل. خرج الحديث في الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه. وهو ما في القرطبي، وأسنده الخازن إلى أبي هريرة، رضي الله عنه. {إِنَّهُ غَفُورٌ:} كثير الغفران لعباده المؤمنين، المطيعين، المخبتين، إن وقع منهم هفوات.

{شَكُورٌ} لهم على أعمالهم الصالحة، ويفسر في حقه تعالى بالذي يعطي على العمل الصالح في أيام معدودة نعما في الآخرة غير محدودة.

الإعراب: {لِيُوَفِّيَهُمْ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة بعد لام التعليل، والفاعل يعود إلى (الله)، والهاء مفعول به أول، و «أن» المضمرة، والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بالفعل {يَرْجُونَ،} أو بالفعل {تَبُورَ،} أو بفعل محذوف، التقدير: فعلوا ذلك؛ ليوفيهم. {أُجُورَهُمْ:} مفعول به ثان، والهاء في محل جر بالإضافة.

{وَيَزِيدَهُمْ:} معطوف على ما قبله، منصوب مثله، والفاعل يعود إلى الله، والهاء مفعول به أول، والمفعول الثاني محذوف، التقدير: يزيدهم ما يليق بكرمه، وجوده. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {غَفُورٌ شَكُورٌ:} خبر: (إنّ)، والجملة الاسمية مستأنفة، لا محل لها. هذا؛

ص: 676

وأجيز اعتبارها خبرا ل: (إن) في الآية السابقة جوزه الزمخشري على حذف العائد، أي: غفور لهم، وعلى هذا؛ فجملة {يَرْجُونَ..} . إلخ في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير.

{وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)}

الشرح: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ:} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {مِنَ الْكِتابِ} أي: القرآن الكريم.

{هُوَ الْحَقُّ} أي: الذي لا شك فيه، كما قال تعالى:{لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ،} وقال تعالى:

{لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} الآية رقم [42] من سورة (فصلت).

{مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما سبقه من الكتاب المنزلة على الرسل، كالتوراة، التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى، والزبور الذي أنزل على داود-على نبينا، وعليهم جميعا ألف صلاة، وألف سلام-. وذلك أن كتاب الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد، وتصديق الأنبياء، والإيمان بالمعاد، والحشر، والنشر، وجاء هذا الكتاب-وهو القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم-كذلك. فذلك هو تصديقه لما بين يديه من الكتاب؛ أي: لما تقدمه من الكتاب السماوية. قال أبو حيان: وفي الآية إشارة إلى كون القرآن وحيا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا، ولا كاتبا، وأتى ببيان ما في كتاب الله، ولا يكون ذلك، إلا من عند الله تعالى. {إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ:} عليم بخفايا أمورهم، وظواهرها. {بَصِيرٌ} أي: بهم، لا تخفى عليه خافية من شئونهم. وانظر شرح الوحي في الآية رقم [50] من سورة (سبأ).

الإعراب: {وَالَّذِي:} الواو: حرف استئناف. (الذي): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {أَوْحَيْنا:} فعل، وفاعل، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف؛ إذ التقدير: الذي، أوحيناه. {إِلَيْكَ:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{مِنَ الْكِتابِ:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب، العائد على (الذي)، و {مِنَ} بيان لهذا الموصول. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له. {الْحَقُّ:} خبر المبتدأ. هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، والحق خبرا له؛ فتكون الجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: (الذي

) إلخ مستأنفة، لا محل لها. {مُصَدِّقاً:} حال من {الْحَقُّ،} وفاعله مستتر فيه، وهو حال مؤكدة. {لِما:} جار ومجرور متعلقان ب: {مُصَدِّقاً،} ف: (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل جر باللام. هذا؛ وقد اعتبر ابن هشام اللام في مثل ذلك زائدة. وسماها: لام التقوية، أي: تقوية عامل ضعيف ضعف عن العمل فيما بعده، وعليه ف:(ما) مجرورة لفظا، منصوبة محلا ب:{مُصَدِّقاً،} وأورد آيات كثيرة شواهد على ذلك، وأورد قول حاتم الطائي. وقيل: هو لقيس بن عاصم المنقري، رضي الله عنه:[الطويل]

ص: 677

إذا ما صنعت الزّاد فالتمسي له

أكيلا فإنّي لست آكله وحدي

وهذا هو الشاهد رقم [398] من كتابنا فتح القريب المجيب. {بَيْنَ:} ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول، و:{بَيْنَ} مضاف، و:{يَدَيْهِ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء نيابة عن الكسرة؛ لأنه مثنى لفظا. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها.

{بِعِبادِهِ:} متعلقان ب (خبير)، أو ب:{بَصِيرٌ} على التنازع، والهاء في محل جر بالإضافة.

{لَخَبِيرٌ:} اللام: هي المزحلقة. (خبير): خبر أول. {بَصِيرٌ:} خبر ثان، والجملة الاسمية:

{إِنَّ اللهَ..} . إلخ تعليل، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}

الشرح: مناسبة الآية لما قبلها: لما أثنى الله تعالى على الذين يتلون كتاب الله؛ ذكر هنا انقسام الأمة الإسلامية أمام هذا الكنز الثمين، والفضل العظيم إلى ثلاثة أقسام: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، ثم ذكر مآل الأبرار، والفجار، ليظل العبد بين الرجاء، والخوف، والرغبة، والرهبة.

{ثُمَّ أَوْرَثْنَا:} أعطينا. {الْكِتابَ:} القرآن. والمعنى: أوحينا إليك القرآن يا محمد، ثم، أورثناه من بعدك لأمتك؛ ليعملوا بما فيه، ويهتدوا بهديه. هذا؛ وفي قوله:{أَوْرَثْنَا} استعارة تبعية، شبه إعطاء الكتاب إياهم من غير كد، وتعب في وصوله إليهم بتوريث الوارث؛ أوليس من لازم وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته، لقوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ} وفي الشهاب: وتوريث الكتاب للجهال كتوريث بعض الورثة السفهاء المضيعين لما ورثوه. انتهى.

جمل. وأضيف: أن في الآية من المحسنات البديعية فن الجمع مع التقسيم، وهو أن يجمع المتكلم بين شيئين، أو أكثر في حكم، ثم يقسم ما جمعه، أو يقسم أولا، ثم يجمع، فالأول كالآية المذكورة، ومثلها قوله تعالى:{يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} الآية رقم [105] من سورة (هود) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام، والثاني كما في قوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} الآية رقم [90] من سورة (المائدة) وقال الراجز: [الرجز] إنّ الشّباب والفراغ والجده

مفسدة للمرء أيّ مفسده

{الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} أي: اخترنا، واشتقاقه من الصفو، وهو: الخلوص من شوائب الكدر، وأصل الفعل:(اصتفونا) فأبدلت التاء طاء، والواو ياء. والمراد من عبادنا: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. قاله ابن عباس، وغيره. قال النسفي: وهم أمته من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم،

ص: 678

ومن بعدهم إلى يوم القيامة؛ لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم، وجعلهم أمة وسطا؛ ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسله، ثم رتبهم على مراتب، فقال:

{فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ:} وهو المرجأ لأمر الله. {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ:} هو الذي خلط عملا صالحا، وآخر سيئا. {وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ:} يضم إلى العمل التعليم، والإرشاد إلى العمل، وهذا التأويل يوافق التنزيل، فإنه تعالى قال في الآية رقم [101] من سورة (التوبة):{وَالسّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ..} . إلخ. وقال بعده في الآية رقم [103] منها: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا..} . إلخ. وقال بعده في الآية رقم [107] منها: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ..} . إلخ.

ويوافق الحديث، فقد روي عن عمر-رضي الله عنه: أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» . وعنه صلى الله عليه وسلم: «السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حسابا يسيرا، ثم يدخل الجنة، وأما الظالم لنفسه فيحبس؛ حتى يظنّ: أنه لا ينجو، ثم تناله الرحمة، فيدخل الجنة» . رواه أبو الدرداء.

ويوافق الأثر، فعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أنه قال: السابق: المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر بالنعمة غير الجاحد لها؛ لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة.

ويوافق التأويل السابق قول السلف، فقد قال الربيع بن أنس-رحمه الله تعالى-: الظالم:

صاحب الكبائر. والمقتصد: صاحب الصغائر. والسابق: المجتنب لهما. وقال الحسن البصري: الظالم: من رجحت سيئاته. والسابق: من رجحت حسناته. والمقتصد: من تساوت حسناته، وسيئاته. وسئل أبو يوسف عن هذه الآية، فقال: كلهم مؤمنون، وأما صفة الكفار فبعد هذا، وهو قوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا..} . إلخ الآية رقم [36] الآتية.

وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى الله من عباده، فإنه قال:{فَمِنْهُمْ} (ومنهم)، {وَمِنْهُمْ} والكل راجع إلى قوله تعالى:{الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا} وهم أهل الإيمان. وعليه الجمهور، وإنما قدم الظالم؛ للإيذان بكثرة الظالمين لأنفسهم بالمعاصي، والسيئات، وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم، والسابقون أقل من القليل، وقال ابن عطاء: إنما قدم الظالم؛ لئلا ييأس من فضله. وقيل: إنما قدمه؛ ليعرفه: أن ذنبه لا يبعده من ربه، وليس التقديم للتشريف، ولا يقتضيه. قال تعالى:{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ} الآية رقم [20] من سورة الحشر.

وقيل: إن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر؛ قدموا الأدنى كالآية المذكورة، وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية رقم [167] من سورة (الأعراف)، وقوله تعالى:{يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} الآية رقم [49] من سورة (الشورى).

وقيل: إن أول الأحوال معصية، ثم توبة، ثم استقامة. وقال سهل بن عبد الله: السابق: العالم.

والمقتصد: المتعلم. والظالم: الجاهل. وقال أيضا: السابق: الذي اشتغل بمعاده. والمقتصد:

ص: 679

الذي اشتغل بمعاشه، ومعاده، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل: الظالم: الذي يعبده على الغفلة، والعادة. والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة، والرهبة. والسابق: الذي يعبده على الهيبة، والاستحقاق. وقيل: الظالم: من أخذ الدنيا حلالا، أو حراما، والمقتصد: من يجتهد أن لا يأخذها إلا من حلال. والسابق: من أعرض عنها جملة. وقيل: الظالم: طالب الدنيا.

والمقتصد: طالب العقبى. والسابق: طالب المولى. انتهى. نسفي بتصرف بسيط.

هذا؛ وفي القرطبي عن ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والفراء: أن المقتصد:

المؤمن العاصي، والسابق: التقي على الإطلاق، والظالم: الكافر. وقال الحسن: الفاسق.

قالوا: ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة (الواقعة): {وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} وقالوا: بعيد أن يكون ممن يصطفي الله ظالم، وقد روي عن ابن عباس-رضي الله عنهما-قوله: نجت فرقتان. وقد أطال القرطبي بأكثر مما ذكرته عن النسفي.

{بِإِذْنِ اللهِ} أي: بأمر الله، وإرادته، أو بعلمه، وتوفيقه. {ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي:

إيراثهم الكتاب واصطفاؤهم، وتكريمهم فضل من الله عليهم، {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} .

الإعراب: {ثُمَّ:} حرف عطف. {أَوْرَثْنَا:} فعل، وفاعل. {الْكِتابَ:} مفعول به.

{الَّذِينَ:} مفعول به أول، و {الْكِتابَ} مفعوله الثاني، وقدم لشرفه؛ إذ لا لبس في ذلك، وجملة:{اِصْطَفَيْنا} صلة الموصول، والعائد محذوف، التقدير: الذين اصطفيناهم. {مِنْ عِبادِنا:} متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب العائد على الموصول، و (نا): ضمير متصل في محل جر بالإضافة، وجملة:{أَوْرَثْنَا..} . إلخ معطوفة على ما قبلها على وجهين ذكرهما الزمخشري: أحدهما: أن التقدير: إنا أوحينا إليك القرآن، ثم أورثناه من بعدك؛ أي: حكمنا بتوريثه. والوجه الثاني: أنها معطوفة على معنى ما تضمنته الآية رقم [25] وما بعدها.

{فَمِنْهُمْ:} الفاء: حرف عطف، وتفريع، أو حرف استئناف، وتفريع. (منهم): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {ظالِمٌ:} مبتدأ مؤخر. ولا أعتمد هذا، وإنما أعتمد ما ذكرته في الآية رقم [23] من سورة (الأحزاب) والله ولي التوفيق. {لِنَفْسِهِ:} متعلقان ب: {ظالِمٌ،} وفاعله مستتر فيه، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الاسمية لا محل لها على الوجهين المعتبرين بالفاء، وجملة:{وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} معطوفة عليها، وأيضا جملة:{وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ} معطوفة عليها، لا محل لها مثلها. {بِإِذْنِ:} متعلقان ب: {سابِقٌ،} و (إذن) مضاف، و {اللهِ} مضاف إليه. من إضافة المصدر لفاعله. {ذلِكَ:} اسم إشارة مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب لا محل له. {هُوَ:} ضمير فصل، لا محل له. {الْفَضْلُ:} خبر المبتدأ.

هذا؛ وإن اعتبرت الضمير مبتدأ، والفضل خبره؛ فالجملة الاسمية تكون في محل رفع خبر الأول.

{الْكَبِيرُ:} صفة {الْفَضْلُ،} والجملة الاسمية: {ذلِكَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

ص: 680

{جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33)}

الشرح: {جَنّاتُ عَدْنٍ:} جنات إقامة، وخلود، يقال: عدن بالمكان: إذا أقام به، ومنه:

المعدن الموجود في باطن الأرض، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«عدن دار الله، الّتي لم ترها عين قطّ، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها إلا ثلاثة: النبيّون والصديقون والشهداء، يقول الله: طوبى لمن دخلك!» . رواه الطبراني عن أبي الدرداء، رضي الله عنه. وقال عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما: إن في الجنة قصرا، يقال له: عدن، حوله البروج، والمروج، فيه خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حبرة، لا يدخله إلا نبي، أو صدّيق، أو شهيد. والحبرة (بكسر الحاء، وفتحها) ضرب من البرود اليمنية مخطط.

{يَدْخُلُونَها:} الضمير يعود إلى الثلاثة، أو: ل: {الَّذِينَ} أو: للمقتصد، والسابق. انتهى.

بيضاوي. وقال القرطبي: جمعهم في الدخول؛ لأنه ميراث، والعاق، والبار في الميراث سواء؛ إذا كانوا معترفين بالنسب، فالعاصي، والمطيع مقرّون بالرب. انتهى. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه. هذا؛ وقرئ:«(جنات)» بالنصب، وقرئ:«(جنة)» بالإفراد، ولم يقرأ في سورة (الرعد) رقم [23] وفي سورة (النحل) رقم [31] إلا بالرفع، والجمع.

{يُحَلَّوْنَ فِيها} أي: في تلك الجنات. {مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً:} قال سعيد بن جبير -رحمه الله تعالى-: على كل واحد منهم ثلاثة أسورة: واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ، وقد نص القرآن هنا على الذهب، واللؤلؤ، ومثل هذه الآية الآية رقم [23] من سورة (الحج). ونص على الذهب في سورة (الكهف) رقم [31]. ونص على الفضة في قوله تعالى في الآية [21] من سورة (الدهر):{وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} . وفي الحديث الصحيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: «تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء» . رواه ابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه.

هذا؛ ويقرأ بجر (لؤلؤ) ونصبه، ويقرأ بهمز، وبدونه، وبقلب الهمزتين ياء، وغير ذلك.

{وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ} أي: وجميع ما يلبسونه من فرشهم، ولباسهم، وستورهم حرير، وهو أعلى مما في الدنيا بكثير. هذا؛ وروى النسائي عن أبي هريرة-رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لبس الحرير في الدنيا؛ لم يلبسه في الآخرة. ومن شرب الخمر في الدّنيا؛ لم يشربه في الآخرة. ومن شرب في آنية الذهب، والفضة في الدنيا؛ لم يشرب فيها في الآخرة» . ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لباس أهل الجنة وشراب أهل الجنة، وآنية أهل الجنّة» . هذا؛ وذكر الله في سورة (الكهف) وسورة (الإنسان) أن أهل الجنة يلبسون السندس، والإستبرق أيضا. اللهم اجعلنا من أهل جنات عدن بفضلك، وكرمك ومنّك يا أكرم الأكرمين!.

ص: 681

الإعراب: {جَنّاتُ:} بالرفع يجوز أن يكون خبرا ثانيا للمبتدإ {ذلِكَ،} وأن يكون خبرا لمبتدإ محذوف، التقدير: هو جنات، أو مبتدأ، والخبر جملة:{يَدْخُلُونَها} . هذا؛ وقال الزمخشري: بدل من {الْفَضْلُ} ورده ابن هشام في المغني مع عزوه خطأ لمكيّ؛ حيث قال:

والأولى: أنه مبتدأ. هذا؛ وعلى قراءته بالنصب؛ فهو مفعول به لفعل محذوف يفسره المذكور بعده. {يَدْخُلُونَها:} فعل مضارع مرفوع، والواو فاعله، و (ها): مفعوله، وانظر:{لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ} في الآية رقم [53] من سورة (الأحزاب)، والجملة الفعلية في محل رفع خبر {جَنّاتُ} على اعتباره مبتدأ، وصفة له على اعتباره خبرا ثانيا لما قبله، أو خبرا لمبتدإ محذوف، ومفسرة على نصب (جنات) لا محل لها. {يُحَلَّوْنَ:} فعل مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو نائب فاعله، وهو المفعول الأول. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {مِنْ أَساوِرَ:} متعلقان بمحذوف صفة مفعول به ثان، أي: شيئا كائنا من أساور، وعلامة الجر الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف لصيغة منتهى الجموع، وهي علة تقوم مقام علتين من موانع الصرف. هذا؛ ويجوز على مذهب الأخفش اعتبار {مِنْ} زائدة في الإيجاب، فيكون أساور مفعولا ثانيا، مجرورا لفظا، منصوب محلا. {مِنْ ذَهَبٍ:} متعلقان بمحذوف صفة {أَساوِرَ،} وجملة: {يُحَلَّوْنَ فِيها..} . إلخ في محل رفع خبر ثان ل: {جَنّاتُ،} أو في محل صفة لها رفعتها، أو نصبتها، أو في محل نصب حال من واو الجماعة، أو من الضمير المنصوب في {يَدْخُلُونَها} والرابط على الاعتبارين الضمير فقط. {وَلُؤْلُؤاً:} بالنصب معطوف على محل: {مِنْ أَساوِرَ،} أو مفعول به لفعل محذوف، التقدير: ويؤتون لؤلؤا. هذا؛ وعلى قراءته بالجر فهو معطوف على {ذَهَبٍ} فيكون المراد: أساور من ذهب مرصعة باللؤلؤ. {وَلِباسُهُمْ:}

الواو: حرف عطف. (لباسهم): مبتدأ، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {فِيها:} متعلقان بالمصدر، وقيل: متعلقان بمحذوف حال، ولا وجه له؛ لأنه يقال: يلبسون فيها. {حَرِيرٌ:} خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، على جميع الوجوه المعتبرة فيها، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلا محل لها.

{وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)}

الشرح: {وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أي: يقول الذين اصطفاهم الله من عباده بعد دخولهم الجنة: الحمد لله

إلخ. قال ابن عباس-رضي الله عنهما: حزن النار. وقيل: حزن الموت. وقيل: حزن الذنوب، والسيئات، ورد الطاعات، وأنهم لا يدرون ما يصنع بهم. وقيل:

حزن زوال النعم، وتقليب القلوب، وخوف العاقبة. وقيل: حزن أهوال يوم القيامة. وقيل غير ذلك. انتهى. خازن. وقريب منه في الكشاف. روى البغوي بسنده عن ابن عمر-رضي الله عنهما-

ص: 682

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس على أهل لا إله إلاّ الله وحشة في قبورهم، ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلاّ الله يخرجون من قبورهم، وهم ينفضون التراب عن رءوسهم، ويقولون:

الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن». هذا؛ ويقرأ: (الحزن) بضم الحاء وسكون الزاي. وقراءة حفص بفتحتين. {إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ:} انظر الآية رقم [30]. ولا تنس: أن التعبير بالماضي بقوله تعالى: {وَقالُوا..} . إلخ إنما هو لتحقق وقوعه. وانظر سورة (سبأ) رقم [1].

الإعراب: {وَقالُوا:} الواو: حرف عطف. (قالوا): ماض وفاعله، والألف للتفريق.

{الْحَمْدُ:} مبتدأ. {لِلّهِ:} متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول. {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون في محل جر صفة لفظ الجلالة.

{أَذْهَبَ:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي}. {عَنَّا:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما.

{الْحَزَنَ:} مفعول به، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {رَبَّنا:} اسم {إِنَّ،} و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {لَغَفُورٌ:} اللام: هي المزحلقة. (غفور شكور): خبران ل: {إِنَّ،} والجملة الاسمية في محل نصب مقول القول، وجملة:{وَقالُوا الْحَمْدُ لِلّهِ..} . إلخ معطوفة على جملة {يَدْخُلُونَها..} . إلخ، وساغ ذلك؛ لأن الفعل بمعنى:«يقولون» ، وإن اعتبرتها مستأنفة؛ فلست مفندا.

{الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)}

الشرح: {الَّذِي أَحَلَّنا:} أنزلنا. {دارَ الْمُقامَةِ:} الجنة التي جعلها الله لعباده المؤمنين مقرا، ومسكنا لا يتحولون عنها. والمقامة والإقامة، والمقام بمعنى واحد. {مِنْ فَضْلِهِ:} من كرمه، وجوده، ومنّه، وإحسانه، لا بالاستحقاق بالأعمال؛ لأن أعمالنا لا تساوي ذلك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لن يدخل أحدا عمله الجنّة» . قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: «ولا أنا؛ إلاّ أن يتغمّدني الله بفضله، ورحمته، فسدّدوا، وقاربوا

إلخ». أخرجه البخاري بطوله عن أبي هريرة. وهذا الحديث لا يتعارض مع قوله تعالى في الآية رقم [43] من سورة (الأعراف):

{وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ومثلها في (الزخرف) رقم [72] فإن دخول الجنة بفضل الله ورحمته، وانقسام المنازل، والدرجات بالأعمال.

{لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ} أي: لا يصيبنا مشقة، ولا تعب. {وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ} أي: لا ينالنا فيها إعياء، ولا ضعف من التعب، فالله سبحانه وتعالى يبين في هذه الآية: أن الجنة خالية من تعب الأبدان، وكدّ الأذهان، فهم في راحة، واطمئنان، وسرور، لا يكدره هموم، وأحزان، {وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} وانظر سورة (الزمر) رقم [35].

ص: 683

الإعراب: {الَّذِي:} اسم موصول مبني على السكون، وفي محله، أوجه: أحدها: الرفع على أنه خبر لمبتدإ محذوف، التقدير: هو الذي، أو على أنه خبر ثان ل:{إِنَّ} أو على أنه بدل من:

(غفور) أو على أنه بدل من الضمير في {شَكُورٌ} . والثاني: النصب على أنه مفعول به لفعل محذوف، التقدير: أعني، أو أمدح الذي. وأجاز مكي اعتباره نعتا لاسم:{إِنَّ} . والثالث:

الجر على أنه بدل من الموصول قبله. {أَحَلَّنا:} ماض، وفاعله يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، و (نا): مفعول به أول. {دارَ:} مفعول به ثان، و {دارَ} مضاف، و {الْمُقامَةِ} مضاف إليه. {مِنْ فَضْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، وجملة:{أَحَلَّنا..} . إلخ صلة الموصول، لا محل لها. {لا:} نافية. {يَمَسُّنا:} فعل مضارع، و (نا): مفعول به. {فِيها:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما. {نَصَبٌ:} فاعله، والجملة الفعلية في محل نصب حال من:(نا) أو من: {دارَ الْمُقامَةِ،} والأول أقوى، والرابط: الضمير فقط، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، وهي مثلها في محل نصب حال.

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)}

الشرح: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ:} لما ذكر أهل الجنة، وأحوالهم، ومقالتهم؛ ذكر أهل النار، وأحوالهم، ومقالتهم على سبيل المقابلة، وانظر ما ذكرته في الآية رقم [38] من سورة (سبأ). {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا:} مثل قوله تعالى في سورة (الأعلى): {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} أي: لا يحكم عليهم بالموت فيها، فيستريحوا من عذاب النار؛ بل هم أحياء مع أن أسباب الموت محيطة بهم من كل جانب، كما قال تعالى في الآية رقم [17] من سورة (إبراهيم) على نبينا، وعليه ألف صلاة، وألف سلام:{وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ} .

{وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها:} هو مثل قوله تعالى في الآية رقم [56] من سورة (النساء): {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} فهم في عذاب مستمر، لا ينقطع، قال تعالى في الآية رقم [97] من سورة (الإسراء):{كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً} .

{كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي: مثل ذلك العذاب الشديد الفظيع نجازي، ونعاقب كل مبالغ في الكفر، والإفساد، والعصيان، والعناد. هذا؛ ويقرأ:«(يجزى)» ، ويقرأ:«(يجازى)» ورفع (كلّ) كما يقرأ (فيموتون) بالعطف على {لا يُقْضى} مثل قوله تعالى في الآية رقم [36] من سورة المرسلات: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} .

الإعراب: {وَالَّذِينَ:} الواو: حرف عطف. (الذين): اسم موصول مبني على الفتح في محل رفع مبتدأ، وجملة:{كَفَرُوا} مع المتعلق المحذوف صلة الموصول، لا محل لها. {لَهُمْ:}

ص: 684

جار ومجرور متعلقان بمحذوف في محل رفع خبر مقدم. {نارُ:} مبتدأ مؤخر، وهو مضاف، و {جَهَنَّمَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الفتحة نيابة عن الكسرة؛ لأنه ممنوع من الصرف للعلمية، والتأنيث، أو: والعجمة، والجملة الاسمية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية:{وَالَّذِينَ..} . إلخ معطوفة على الجملة الاسمية: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ..} . إلخ، وما بينهما كلام متعلق بالذين يتلون كتاب الله على مثال ما رأيت. {لا:} نافية. {يُقْضى:} مضارع مبني للمجهول مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف للتعذر. {عَلَيْهِمْ:} جار ومجرور في محل رفع نائب فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب حال من واو الجماعة، والرابط: الضمير فقط، وأجيز اعتبارها خبرا ثانيا للمبتدإ. {فَيَمُوتُوا:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد الفاء السببية، وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو فاعله، والألف للتفريق، و «أن» المضمرة والفعل المضارع في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، التقدير: لم يكن، أو: لم يوجد قضاء عليهم، فموت لهم. هذا؛ وعلى قراءة:«(فيموتون)» فالجملة الفعلية معطوفة على جملة: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ} فتكون في محل نصب حال مثلها. {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية. {يُخَفَّفُ:} مضارع مبني للمجهول.

{عَنْهُمْ:} في محل رفع نائب فاعل، وعليه ف:{مِنْ عَذابِها} متعلقان بمحذوف في محل نصب مفعول به، كما يجوز اعتبار:{مِنْ عَذابِها} في محل رفع نائب فاعل، واعتبار:{عَنْهُمْ} متعلقين بمحذوف مفعول به، وإن اعتبرت:{مِنْ} صلة؛ فيتعين اعتبار: {عَذابِها} نائب فاعل مجرور لفظا مرفوع محلا، وجملة:{وَلا يُخَفَّفُ..} . إلخ معطوفة على جملة: {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ} .

{كَذلِكَ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول مطلق محذوف، عامله ما بعده، التقدير: نجزي كل كفور جزاء مثل ذلك الجزاء الذي جزيناه الذين كفروا. {نَجْزِي:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الياء، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» . {كُلَّ:}

مفعول به، وعلى القراءتين الأخريين فالفعل مبني للمجهول، فهو مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الألف، و {كُلَّ} نائب فاعله، و {كُلَّ} مضاف، و {كَفُورٍ} مضاف إليه، والجملة الفعلية معترضة، أو مستأنفة، لا محل لها على الاعتبارين.

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}

الشرح: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها} أي: يستغيثون في النار بالصوت العالي. والصارخ:

المستغيث، والمصرخ: المغيث. قال سلامة بن جندل: [البسيط] كنّا إذا ما أتانا صارخ فزع

كان الصّراخ له قرع الظّنابيب

ص: 685

الظنابيب: جمع ظنبوب، وهو مسمار يكون في جبة السنان. وقرع ظنابيب الأمر:

ذلّله. انتهى. قاموس. {رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً} أي: يقولون: ربنا أخرجنا من جهنم، وردّنا إلى الدنيا. {نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلُ:} يسألون الله الرجعة إلى الدنيا؛ ليعملوا غير عملهم الأول. وقد علم الله-تبارك وتعالى-أنه لو ردهم إلى الدنيا؛ لعادوا أخبث مما كانوا، تحقيقا، وتصديقا لقوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} رقم [28] من سورة (الأنعام). وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا حينما يشاهدون العذاب كثير في آيات القرآن، ولذا رد عليهم بقوله:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} المعنى، لقد: عشتم في الدنيا أعمارا، لو كنتم ممن ينتفع بالحق؛ لانتفعتم به في مدة عمركم؟.

وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المراد هنا: قيل: هو عشرون سنة. وقيل: أربعون، وهو سن كمال القوى، والعقل، ومن لم يكمل في الأربعين؛ لم يكمل بعدها. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من بلغ من العمر أربعين سنة، ولم يغلب خيره على شرّه فليتجهّز إلى النّار» .

ورحم الله من يقول: [الطويل] إذا المرء وفّى الأربعين ولم يكن

له دون ما يأتي حياء ولا ستر

فدعه ولا تنفس عليه الّذي ارتأى

وإن مدّ أسباب الحياة له الدّهر

وقال زهير بن أبي سلمى المزني: [الطويل] وإنّ سفاه الشيخ لا حلم بعده

وإنّ الفتى بعد السفاهة يحلم

وقيل: المراد: ستون سنة. وهو مروي عن مجاهد، عن ابن عباس-رضي الله عنهما.

وهي الرواية الصحيحة عنه وفي الأصح في نفس الأمر؛ لما ثبت في ذلك من الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتّى بلغ ستين، أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه، لقد أعذر الله إليه» . أخرجه الإمام أحمد. ومعنى أعذر إليه: أي لم يبق له عذر، ومنه قولهم: أعذر من أنذر. والمعنى، -والله أعلم-: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر؛ لأن الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع، وترقب المنية، ولقاء الله تعالى. ففيه إعذار بعد إعذار.

والستون هي منتهى الكمال، ثم يأخذ ابن آدم في النقص، والهرم، كما قال الشاعر:[الوافر] إذا بلغ الفتى ستين عاما

فقد ذهب المسرّة والفتاء

ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به، ويزيح به عنهم العلل، والتعلل، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة، كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمال أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين، وأقلّهم من يجوز ذلك» .

أخرجه الترمذي، وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث حسن غريب.

ص: 686

{وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ:} روي عن ابن عباس، وعكرمة، وقتادة: أنهم قالوا: يعني: الشيب.

وقال البوصيري: [البسيط] فإنّ أمّارتي بالسّوء ما اتّعظت

من جهلها بنذير الشّيب والهرم

وقال آخر: [الوافر] رأيت الشيب من نذر المنايا

لصاحبه وحسبك من نذير

وقال آخر: [الوافر]

فقلت لها: المشيب نذير عمري

ولست مسوّدا وجه النّذير

وقال السدي، وعبد الرحمن بن زيد: يعني به: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ ابن زيد:{هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى} الآية رقم [56] من سورة (النجم). {فَذُوقُوا} أي: ذوقوا عذاب النار، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في حياتكم الدنيا. وانظر الاستعارة في الآية رقم [14] من سورة (السجدة). {فَما لِلظّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي: ما لهم من مانع، ولا مدافع يمنعهم، ويدفع عنهم عذاب الجحيم.

الإعراب: {وَهُمْ:} الواو: حرف عطف. (هم): ضمير منفصل مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {يَصْطَرِخُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله.

{فِيها:} جار ومجرور متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية في محل رفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة الاسمية: (الذين

) إلخ، أو هي مستأنفة. {رَبَّنا:}

منادى حذفت منه أداة النداء، و (نا): في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {أَخْرِجْنا:} فعل دعاء مبني على السكون، والفاعل تقديره:«أنت» ، و (نا):

مفعول به. {نَعْمَلْ:} فعل مضارع مجزوم لوقوعه جوابا للأمر، وجزمه عند الجمهور بشرط محذوف. {صالِحاً غَيْرَ:} يجوز أن يكونا نعتي مفعول مطلق محذوف، التقدير: نعمل عملا صالحا غير، وأن يكونا نعتي مفعول به محذوف، التقدير: نعمل شيئا صالحا غير، وأن يكون {صالِحاً} نعتا لمصدر محذوف، و {غَيْرَ} هو المفعول به. انتهى. جمل نقلا عن السمين.

و {غَيْرَ} مضاف، و {الَّذِي} اسم موصول مبني على السكون في محل جر بالإضافة.

{كُنّا:} فعل ماض ناقص مبني على السكون، و (نا): اسمه، وجملة:{نَعْمَلْ} في محل نصب خبره، وجملة:{كُنّا نَعْمَلُ} صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير:

الذي كنا نعمله، والكلام {رَبَّنا أَخْرِجْنا..} . إلخ في محل نصب مقول القول لقول محذوف، إن شئت قدرته فعلا مفسرا ل:{يَصْطَرِخُونَ} أي يقولون في صراخهم: ربنا

إلخ. وإن شئت قدرته حالا من فاعل يصطرخون، التقدير: قائلين ربنا

إلخ.

ص: 687

{أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الواو: عاطفة على مقدر، التقدير: ألم نمهلكم، ونؤخركم عمرا يتذكر فيه من تذكر. {نُعَمِّرْكُمْ:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم)، والفاعل مستتر تقديره:«نحن» ، والكاف مفعول به أول، والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة، التي رأيت تقديرها. {ما:} نكرة موصوفة بمعنى: وقتا، فهي ظرف متعلق بما قبله، أو بمعنى: تعميرا، فتكون في محل نصب مفعول مطلق. {يَتَذَكَّرُ:} فعل مضارع. {فِيهِ:} متعلقان بما قبلهما.

{مَنْ:} اسم موصول مبني على السكون في محل رفع فاعل، والجملة الفعلية في محل نصب صفة {ما}. {يَتَذَكَّرُ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى:{مَنْ،} وهو العائد، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والكلام:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، التقدير:

فيقال لهم: أولم نعمركم

إلخ، والجملة المقدرة هذه مستأنفة، لا محل لها. {وَجاءَكُمُ:} الواو:

واو الحال. (جاءكم): ماض، والكاف مفعول به. {النَّذِيرُ:} فاعله، والجملة الفعلية هذه في محل نصب حال من الكاف، والرابط: الواو، والضمير، و «قد» قبلها مقدرة، وجملة:{يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} في محل نصب صفة (ما)، والرابط الضمير المجرور محلا ب (في).

{فَذُوقُوا:} الفاء: هي الفصيحة. (ذوقوا): أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، ومفعوله محذوف، كما رأيت تقديره في الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب لشرط مقدر، التقدير: وإذا كان ما ذكر واقعا في الدنيا؛ فذوقوا. {فَما:} الفاء:

حرف تعليل. (ما): نافية. {لِلظّالِمِينَ:} متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {مَنْ:} حرف جر صلة.

{نَصِيرٍ:} مبتدأ مؤخر مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الاسمية تعليل للأمر، لا محل لها، والكلام:

{فَذُوقُوا..} . إلخ من جملة مقول القول المحذوف.

{إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)}

الشرح: {إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي: يعلم ما غاب فيهما عن أعين الناس. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} أي: يعلم ما تكنه الصدور من الأسرار. وإذا علم ما في الصدور-وهو أخفى ما يكون-فقد علم كل غيب في العالم. وانظر شرح: (ذات) في الآية رقم [7] من سورة (الزمر).

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ:} اسمها. {عالِمُ:} خبرها، وهو مضاف، و {غَيْبِ} مضاف إليه، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه، و {غَيْبِ} مضاف، و:{السَّماواتِ} مضاف إليه. {وَالْأَرْضِ:} معطوف على ما قبله. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {عَلِيمٌ:} خبرها. {بِذاتِ:} متعلقان ب: {عَلِيمٌ،} و (ذات) مضاف،

ص: 688

و: {الصُّدُورِ} مضاف إليه، والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الاسمية:{إِنَّهُ عَلِيمٌ..} . إلخ تعليل لما قبلها، ومؤكدة لها.

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَساراً (39)}

الشرح: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ:} الخطاب لأهل مكة، ويعم كل عاقل إلى يوم القيامة. {خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ:} يخلف بعضكم بعضا. أو: خلفاء الله في أرضه، تتصرفون فيها. أو: خلفاء الله في الأرض في تنفيذ أحكامه، كما في قوله تعالى:{إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . أو المعنى: جعلكم سكانا في الأرض من بعد القرون المهلكة. هذا؛ و {خَلائِفَ} جمع: خليفة، مثل: كرائم جمع:

كريمة، وصحائف جمع: صحيفة. هذا؛ وكل من جاء بعد من مضى؛ فهو خليفة. وفي المصباح:

والخليفة: أصله خليف بغير «ها» ؛ لأنه بمعنى الفاعل، دخلته الهاء للمبالغة، كعلاّمة، ونسّابة، ويكون وصفا للرجل خاصة. ويقال: خليفة آخر (بالتذكير). ومنهم من يقول: خليفة أخرى (بالتأنيث). ويجمع باعتبار أصله على: خلفاء، مثل: شريف، وشرفاء. وباعتبار اللفظ على:

خلائف. هذا؛ والخلف: هو التالي للمتقدم، ولذلك قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يا خليفة الله! فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا راض بذلك.

{فَمَنْ كَفَرَ} أي: جحد النعمة، وغمطها. {فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي: عليه وبال كفره، وهو العقاب الشديد، والعذاب الأليم. {وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاّ مَقْتاً} أي: لا يزيدهم كفرهم إلا طردا من رحمة الله، وبعدا، وبغضا شديدا من الله. {وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاّ خَساراً} أي: ولا يزيدهم كفرهم إلا هلاكا، وضلالا، وخسران العمر؛ الذي ما بعده شر، وخسار.

قال أبو حيان: وفي الآية تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدلا ممن كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من المكذبين للرسل، وما حل بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولا اتعظوا بمن تقدم. والمقت: أشد الاحتقار، والبغض. والخسار: خسار العمر، كأن العمر رأس مال الإنسان، فإذا انقضى في غير طاعة الله؛ فقد خسره، واستعاض به بدل الربح سخط الله، وغضبه، بحيث صار إلى النار المؤبدة. انتهى. مختصر ابن كثير.

الإعراب: {هُوَ الَّذِي:} مبتدأ، وخبر. {جَعَلَكُمْ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {الَّذِي} وهو العائد، والكاف مفعول به أول. {خَلائِفَ:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان ب: {خَلائِفَ،} والجملة الاسمية: {هُوَ الَّذِي..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها. {فَمَنْ:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (من): اسم شرط

ص: 689

مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. {كَفَرَ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط. وفاعله يعود إلى: (من) تقديره: هو، والمتعلق محذوف. {فَعَلَيْهِ:} الفاء: واقعة في جواب الشرط. (عليه): جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {كُفْرُهُ:} مبتدأ مؤخر، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله، والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط، وخبر المبتدأ الذي هو (من) مختلف فيه، كما رأيت في الآية رقم [10]. هذا؛ وإن اعتبرت (من) موصولة؛ فهي مبتدأ، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والجملة الاسمية:(عليه كفره) في محل رفع خبرها، ودخلت الفاء في خبرها؛ لأن الموصول يشبه الشرط في العموم.

وعلى الاعتبارين؛ فالجملة الاسمية مستأنفة، ومفرعة عما قبلها، لا محل لها.

{وَلا:} الواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَزِيدُ:} فعل مضارع. {الْكافِرِينَ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه الياء نيابة عن الفتحة؛ لأنه جمع مذكر سالم، والنون عوض عن التنوين في الاسم المفرد. {كُفْرُهُمْ:} فاعل، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة، من إضافة المصدر لفاعله. {عِنْدَ:} ظرف مكان متعلق بالفعل {يَزِيدُ،} وقيل: متعلق بمحذوف حال.

ولا وجه له. و {عِنْدَ} مضاف، و {رَبِّهِمْ} مضاف إليه، والهاء في محل جر بالإضافة، من إضافة اسم الفاعل لمفعوله، وفاعله مستتر فيه. {إِلاّ:} حرف حصر. {مَقْتاً:} مفعول به ثان، وقيل:

تمييز. وليس بشيء. وجملة: {وَلا يَزِيدُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، والجملة الفعلية بعدها معطوفة عليها، لا محل لها مثلها، وإعرابها واضح، وكررت للتوكيد، ولزيادة التقرير على رسوخ الكفر في نفوسهم، واقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين الهائلين، وهما: المقت، والخسار.

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاّ غُرُوراً (40)}

الشرح: {قُلْ:} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. {أَرَأَيْتُمْ:} أخبروني. {شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} أي: تعبدون من دون الله. هذا؛ وأطلق على الأصنام التي كانوا يعبدونها اسم الشركاء لأحد أمرين:

أحدهما: أن المشركين يشركونها مع الله في العبادة، والتعظيم، والتقديس. وثانيهما: أنهم كانوا يشركونها في الأموال، والأنعام، والزروع، والثمار، وقد تكفلت سورة (الأنعام) ببيان ذلك. ومعنى ما تقدم: قل يا محمد توبيخا، وتأنيبا لهؤلاء المشركين: أخبروني عن حال الأوثان التي عبدتموها من دون الله، وأشركتموها معه في العبادة، والتعظيم، والتقديس: بأي شيء استحقت ذلك؟!

{أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} أي: أروني أي شيء خلقته هذه الأصنام في هذه الدنيا من المخلوقات؛ حتى استحقت العبادة مع الله؟! {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ} أي: أم شاركوا الله في

ص: 690

خلق السموات، فاستحقوا بذلك الشركة معه في الألوهية؟! {أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً} أي: أنزلنا عليهم كتابا من السماء ينطق على أنا اتخذناهم شركاء. {فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ:} على بصيرة، وحجة، وبرهان في عبادة هذه الحجارة، والأوثان.

{بَلْ إِنْ يَعِدُ الظّالِمُونَ بَعْضُهُمْ..} . إلخ: أي ليس لهم حجة على ما هم عليه من الضلال، وإنما عبدوا هذه الحجارة، والأوثان بسبب تغرير الأسلاف للأخلاف، وإضلال الرؤساء للأتباع بأنهم يشفعون لهم عند الله بالتقرب إليه، وهو صريح قوله تعالى حكاية عن قولهم:{ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى} .

هذا؛ وإنما جمعت المعبودات الباطلة بواو الجماعة، التي هي لجماعة المذكرين العاقلين، مع أنها جمادات لا تعقل؛ لأن الكفار يعاملونها معاملة من يعقل، من سؤالهم لها حوائجهم، وتذللهم لها. والعرب تجمع ما لا يعقل جمع من يعقل؛ إذا نزلوه منزلته؟ وإن كان خارجا عن الأصل، وهو كثير ومستعمل في القرآن الكريم، والكلام العربي. والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {قُلْ:} فعل أمر، وفاعله مستتر تقديره:«أنت» . {أَرَأَيْتُمْ:} فعل، وفاعل.

{شُرَكاءَكُمُ:} مفعول به أول، والكاف ضمير متصل في محل جر بالإضافة. {الَّذِينَ:} اسم موصول مبني على الفتح في محل نصب صفة لما قبله. {تَدْعُونَ:} فعل مضارع مرفوع

إلخ، والواو فاعله، والجملة الفعلية صلة الموصول، لا محل لها، والعائد محذوف، التقدير: الذين تدعونهم. {مِنْ دُونِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الضمير المنصوب المحذوف، و {مِنْ} بيان لما أبهم في الموصول. و:{دُونِ} مضاف، و:{اللهِ} مضاف إليه. {أَرُونِي:}

فعل أمر مبني على حذف النون، والواو فاعله، والنون للوقاية، وياء المتكلم مفعول به، والجملة الفعلية بدل من جملة:{أَرَأَيْتُمْ؛} لأنها بمعنى: أخبروني، كما رأيت.

{ماذا:} (ما): اسم استفهام مبني على السكون في محل رفع مبتدأ. (ذا): اسم موصول مبني على السكون في محل رفع خبره، والجملة الفعلية بعدها صلتها، والعائد محذوف، التقدير: ما الذي خلقوه. هذا؛ وإن اعتبرت: {ماذا} اسما مركبا، فهو مبني على السكون في محل رفع مبتدأ، والجملة الفعلية بعده خبره، والرابط محذوف، مثل ما تقدم، كما يجوز اعتباره في محل نصب مفعول به مقدم، وعلى جميع الاعتبارات فالجملة:{ماذا خَلَقُوا} في محل نصب مفعول به ثان ل: {أَرَأَيْتُمْ} . {مِنَ الْأَرْضِ:} متعلقان بمحذوف حال من مفعول {خَلَقُوا} على جميع الاعتبارات، و:{مِنْ} بيان لما أبهم فيه، وجملة:{أَرَأَيْتُمْ..} . إلخ في محل نصب مقول القول، وجملة:{قُلْ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{أَمْ:} حرف عطف، معناه الإضراب. {لَهُمْ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم. {شِرْكٌ:} مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة:{ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} فهي في محل نصب مثلها. {أَمْ:} حرف عطف. {آتَيْناهُمْ:} فعل، وفاعل، ومفعول به أول.

ص: 691

{كِتاباً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب أيضا.

وهذا على اعتبار {أَمْ} متصلة، وإن كانت منقطعة بمعنى:«بل» ؛ فالجملة بعدها مستأنفة، لا محل لها. {فَهُمْ:} الفاء: حرف عطف. (هم): مبتدأ. {عَلى بَيِّنَةٍ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر المبتدأ. {مِنْهُ:} متعلقان بمحذوف صفة {بَيِّنَةٍ،} والجملة الاسمية معطوفة على ما قبلها، فهي في محل نصب أيضا. {بَلْ:} حرف إضراب تستأنف بعده الجمل. {إِنْ:}

حرف نفي بمعنى: «ما» . {يَعِدُ:} فعل مضارع. {الظّالِمُونَ:} فاعله مرفوع، وعلامة رفعه الواو

إلخ. {بَعْضُهُمْ:} بدل من {الظّالِمُونَ،} والهاء في محل جر بالإضافة. {بَعْضاً:}

مفعول به أول. {إِلاّ:} حرف حصر. {غُرُوراً:} مفعول به ثان، أو هو صفة مفعول مطلق محذوف، والجملة الفعلية:{إِنْ يَعِدُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)}

الشرح: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا:} لما بين الله تعالى أن آلهة المشركين لا تقدر على خلق شيء من السموات، والأرض؛ بين: أن خالقهما، وممسكهما هو الله وحده، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه. وانظر الآية رقم [65] من سورة (الحج).

{وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ} أي: ولو زالتا؛ ما أمسكهما أحد غير الله تعالى. هذا؛ وانظر إعادة الضمير مثنى على {السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} في الآية رقم [4] من سورة (السجدة). {إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً:} حيث لم يعاجل المشركين؛ الذين ينسبون إليه الصاحبة، والولد بالعقاب الأليم، والأخذ الشديد.

قال الكلبي: لما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله؛ كادت السموات، والأرض أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعهما الله، وأنزل هذه الآية، وهي كقوله تعالى:

{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا} في سورة (مريم).

وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط، ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، وفي رواية: (النار) لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» .

الإعراب: {إِنَّ:} حرف مشبه بالفعل. {اللهَ} اسمها. {يُمْسِكُ:} فعل مضارع، والفاعل يعود إلى الله، تقديره:«هو» ، والجملة الفعلية في محل رفع خبر:{إِنَّ} . {السَّماواتِ:} مفعول

ص: 692

به منصوب، وعلامة نصبه الكسرة نيابة عن الفتحة؛ لأنه ملحق بجمع المؤنث السالم.

{وَالْأَرْضَ:} معطوف على ما قبله. {إِنَّ:} حرف مصدري، ونصب. {تَزُولا:} مضارع منصوب ب: {إِنَّ،} وعلامة نصبه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، و {إِنَّ} والفعل المضارع في تأويل مصدر في محل جر بإضافة مصدر إليه، يقع مفعولا لأجله، التقدير: كراهة زوالهما. وهذا عند البصريين، وأما الكوفيون؛ فإنهم يعتبرونه في محل جر بحرف جر محذوف، التقدير:

لئلا تزولا. ومثل الآية قول عمرو بن كلثوم التغلبي في معلقته المشهورة: [الوافر] نزلتم منزل الأضياف منّا

فعجّلنا القرى أن تشتمونا

هذا هو الشاهد رقم [48] من كتابنا: «فتح القريب المجيب» وقيل: المصدر في محل نصب بدل اشتمال من {السَّماواتِ} التقدير: إن الله يمسك زوال السموات، والأرض. والجملة الاسمية:{إِنَّ اللهَ..} . إلخ ابتدائية، أو مستأنفة، لا محل لها.

{وَلَئِنْ:} الواو: حرف استئناف. اللام: موطئة لقسم محذوف، التقدير: والله. (إن):

حرف شرط جازم. {زالَتا:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والتاء للتأنيث، وحركت بالفتح لالتقائها ساكنة مع ألف الاثنين؛ التي هي فاعله، والمتعلق محذوف، كما رأيت في الشرح، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {إِنَّ:} حرف نفي بمعنى: «ما» . {أَمْسَكَهُما:} ماض، والهاء مفعول به، والميم والألف حرفان دالان على التثنية. {مِنْ:} حرف جر صلة. {أَحَدٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، انظر الآية رقم [60] من سورة (الأحزاب). {مِنْ بَعْدِهِ:} جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة: {أَحَدٍ،} والكلام: {وَلَئِنْ زالَتا..} . إلخ مستأنف لا محل له.

{إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمه. {كانَ:} فعل ماض ناقص، واسمه ضمير مستتر يعود إلى (الله) تقديره:«هو» . {حَلِيماً غَفُوراً:} خبران ل: {كانَ،} وجملة: {كانَ..} . إلخ في محل رفع خبر: {إِنَّ،} والجملة الاسمية: {إِنَّهُ كانَ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها.

{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاّ نُفُوراً (42)}

الشرح: {وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ:} أقسموا: حلفوا، وسمي الحلف قسما؛ لأنه يكون عند انقسام الناس إلى مصدق، ومكذب، وهو رباعي كما ترى، فهمزته تثبت في الماضي،

ص: 693

والأمر، وتحذف من المضارع مع ضم حرف المضارعة، كما رأيته مرارا. هذا؛ وأما «قسم» الثلاثي؛ فإنه بمعنى جزأ، أو فرق، فمضارعه بفتح حرف المضارعة، وهمزته في الأمر همزة وصل، تسقط في درج الكلام. {جَهْدَ أَيْمانِهِمْ} أي: غاية اجتهادهم فيها، والجهد: بفتح الجيم المشقة، وبضمها القدرة، والطاقة، وبهما قرئ قوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ} الآية رقم [79] من سورة (التوبة).

{لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ:} قال النسفي وغيره: بلغ قريشا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: أن أهل الكتاب: اليهود، والنصارى كذبوا رسلهم، وعذبوهم؛ بل وقتلوا بعضهم، فقالوا: لعن الله اليهود، والنصارى أتتهم الرسل، فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى منهم، ولنتبعنه، ولنكونن معه! وقولهم هذا مثل قوله تعالى عنهم في سورة (الصافات):{وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .

{فَلَمّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ:} هو سيد الخلق، وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم جاءهم بالهدى، ودين الحق. {ما زادَهُمْ:} مجيئه. {إِلاّ نُفُوراً:} إلا تباعدا عن الهدى، والحق، وهربا منه. هذا؛ وقد قال الله تعالى عن كفار مكة في الآية رقم [109] من سورة (الأنعام):{وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها} .

الإعراب: {وَأَقْسَمُوا:} الواو: حرف استئناف. (أقسموا): فعل، وفاعل، والألف للتفريق.

{بِاللهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. {جَهْدَ:} مفعول مطلق عامله: (أقسموا) وهو من معناه، أو هو حال من واو الجماعة بمعنى: جاهدين، و:{جَهْدَ} مضاف، و:{أَيْمانِهِمْ:} مضاف إليه، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة.

{لَئِنْ:} اللام: موطئة لقسم محذوف. (إن): حرف شرط جازم. {جاءَهُمْ:} فعل ماض مبني على الفتح في محل جزم فعل الشرط، والهاء مفعول به. {نَذِيرٌ:} فاعل، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية، ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {لَيَكُونُنَّ:} اللام: واقعة في جواب القسم. (يكونن): فعل مضارع ناقص مرفوع، وعلامة رفعه النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة المدلول عليها بالضمة في محل رفع اسمه. {أَهْدى:} خبره منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على الألف للتعذر، وفاعله مستتر فيه وجوبا، تقديره:

«هو» . {مِنْ إِحْدَى:} متعلقان ب: {أَهْدى،} و: {إِحْدَى} مضاف، و:{الْأُمَمِ} مضاف إليه، وجملة:{لَيَكُونُنَّ..} . إلخ لا محل لها؛ لأنها جواب القسم، المدلول عليه باللام، وجواب الشرط محذوف، لدلالة جواب القسم عليه، على نحو ما رأيت في الآية السابقة. هذا؛ والقسم المحذوف وجوابه المذكور، والشرط المذكور، وجوابه المحذوف، كل ذلك جواب لقوله:

{(أَقْسَمُوا بِاللهِ)} . وهذا القسم وجوابه كلام مستأنف، لا محل له.

ص: 694

{فَلَمّا:} الفاء: حرف استئناف. (لمّا): انظر الآية رقم [14] من سورة (سبأ). {جاءَهُمْ نَذِيرٌ:} فعل، وفاعل، ومفعول به. والجملة الفعلية لا محل لها على اعتبار (لمّا) حرفا، وفي محل جر بإضافة (لمّا) إليها على اعتبارها ظرفا. {فَلَمّا:} نافية. {زادَهُمْ:} فعل ماض، ومفعوله الأول، والفاعل يعود إلى {نَذِيرٌ} تقديره:«هو» ، وإسناد الزيادة إليه مجاز؛ لأنه سبب في ذلك، وإذا قلنا: الفاعل محذوف، يدل عليه المقام، التقدير: ما زادهم مجيئه، فهو كلام لا غبار عليه. {إِلاّ:} حرف حصر. {نُفُوراً:} مفعول به ثان، والجملة الفعلية جواب:(لما)، لا محل لها، وفيه دليل على أن (لمّا) حرف، لا ظرف؛ لأنه لا يعمل ما بعد «ما» النافية فيما قبلها، و (لمّا) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له.

{اِسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (43)}

الشرح: {اِسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ} أي: أعرضوا عن الإيمان، ونفروا من النبي صلى الله عليه وسلم بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وبسبب عتوهم، وطغيانهم في الأرض، ومن أجل المكر السّيّئ بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين؛ ليفتنوا ضعفاء الإيمان عن دين الله، والمكر: الاحتيال، والخديعة.

{مَكْرَ السَّيِّئِ} أي: ومكروا مكر العمل السّيّئ، أي القبيح، وانظر الآية رقم [10]

{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} أي: لا ينزل، ولا يحيط وبال المكر السّيّئ إلا بمن مكره، ودبّره، وعن ابن عباس-رضي الله عنهما: أن كعب الأحبار قال له: إني أجد في التوراة: «من حفر لأخيه حفرة وقع فيها» . فقال ابن عباس-رضي الله عنهما: فإني أوجدك في القرآن ذلك! قال: وأين؟ قال: فاقرأ: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} . وفي أمثال العرب: «من حفر لأخيه جبّا وقع فيه منكبّا» . وقال أبو بكر الصديق-رضي الله عنه: ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه: المكر، فالله يقول:{وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ} . والبغي، فالله يقول:{يا أَيُّهَا النّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} . والنكث، فالله يقول:{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمكر، ولا تعن ماكرا. ولا تبغ، ولا تعن باغيا. ولا تنكث، ولا تعن ناكثا» . وقال الشاعر الحكيم: [السريع&

يا أيها الظالم في فعليه

والظلم مردود على من ظلم

إلى متى أنت وحتّى متى

تحصى المصائب وتنسى النّعم

وفي الحديث الشريف: «المكر، والخديعة في النار» . أي: تدخل أصحابها في النار يوم القيامة؛ لأنها من أخلاق الكفار، لا من أخلاق المؤمنين الأخيار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في

ص: 695

سياق هذا الحديث: «وليس من أخلاق المؤمن المكر، والخديعة، والخيانة» . وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة، والخروج عن أخلاق الإيمان الكريمة.

{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أي: فهل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون إلا سنة الله، وعادته في الأمم المتقدمة؟ وهي إهلاكهم، وتعذيبهم بسبب تكذيبهم للرسل.

{فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً} أي: فلن تتغير، ولن تتبدل سنته في خلقه، ولا يستطيع أحد أن يحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره، وقال تعالى في الآية رقم [62] من سورة (الأحزاب):{سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً} . وقال تعالى في الآية رقم [77] من سورة (الإسراء): {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً} . فأنت ترى: أن الله تعالى أضاف السنة تارة إلى نفسه، وتارة أضافها إلى القوم لتعلق الأمر بالجانبين، وهو كالأجل تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى في الآية رقم [5] من سورة (العنكبوت):{فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ،} وقال في الآية رقم [34] من سورة (الأعراف)، وغيرها:{فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} .

الإعراب: {اِسْتِكْباراً:} يجوز فيه أن يكون مفعولا لأجله، وأن يكون بدلا من:{نُفُوراً،} وأن يكون حالا، أي: حال كونهم مستكبرين. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما. {وَمَكْرَ:} معطوف على ما قبله، أو هو معطوف على {نُفُوراً} أجازهما السمين، والزمخشري. و (مكر): مضاف، و {السَّيِّئِ} مضاف إليه، من إضافة الموصوف إلى صفته؛ إذ الأصل: والمكر السيئ. {وَلا:}

والواو: حرف استئناف. (لا): نافية. {يَحِيقُ:} مضارع. {الْمَكْرُ:} فاعله. {السَّيِّئِ:} صفة، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، وقيل: في محل نصب حال، وهو ضعيف؛ إذ لا وجه له.

{إِلاّ:} حرف حصر. {بِأَهْلِهِ:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة.

{فَهَلْ:} الفاء: حرف استئناف. (هل): حرف استفهام، معناه النفي. {يَنْظُرُونَ:} فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ثبوت النون

إلخ، والواو فاعله. {إِلاّ:} حرف حصر.

{سُنَّتَ:} مفعول به، وهو مضاف، و {الْأَوَّلِينَ} مضاف إليه مجرور، وعلامة جره الياء

إلخ.

والإضافة من إضافة المصدر لمفعوله هنا بخلاف قوله: {لِسُنَّتِ اللهِ} فإن الإضافة فيه من إضافة المصدر لفاعله، وعليه: فهي تضاف أحيانا للفاعل، وأحيانا للمفعول. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على ما قبلها. ولا وجه له. {فَلَنْ:} الفاء: حرف عطف. (لن):

حرف نفي، ونصب، واستقبال. {تَجِدَ:} مضارع منصوب ب: (لن)، والفاعل مستتر تقديره:

«أنت» . {لِسُنَّتِ:} متعلقان بما بعدهما، أو هما في محل نصب حال منه، كان صفة له

إلخ، أو هما مفعوله الثاني تقدم على الأول. {تَبْدِيلاً:} مفعول به، والجملة الفعلية معطوفة على ما قبلها، لا محل لها مثلها، والتي بعدها معطوفة عليها، وإعرابها مثلها بلا فارق.

ص: 696

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44)}

الشرح: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً:} هذا استشهاد على ما قبله من جريان سنته تعالى على تكذيب المكذبين بما يشاهدونه في سيرهم إلى الشام، واليمن، والعراق من آثار ديارهم الماضية، وانظر الآية رقم [9] من سورة (الروم) تجد ما يسرك، ويثلج صدرك. {وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} أي: ليسبقه، ويفوته، وإذا أراد إنزال عذاب بقوم؛ لم يعجزه ذلك. {إِنَّهُ كانَ عَلِيماً:} بكل شيء. {قَدِيراً:} قادر على كل شيء.

الإعراب: {أَوَلَمْ:} الهمزة: حرف استفهام إنكاري توبيخي. الواو: حرف استئناف. (لم):

حرف نفي، وقلب، وجزم. {يَسِيرُوا:} فعل مضارع مجزوم ب: (لم) وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأفعال الخمسة، والواو ضمير متصل في محل رفع فاعل، والألف للتفريق. {فِي الْأَرْضِ:} متعلقان بما قبلهما، والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها، أو هي معطوفة على جملة مقدرة قبلها يقتضيها المقام، التقدير: أقعدوا في مساكنهم، ولم يسيروا

إلخ. {فَيَنْظُرُوا:}

فعل مضارع مجزوم على اعتبار الفاء عاطفة، ومنصوب على اعتبار الفاء للسببية، وعلامة الجزم، أو النصب حذف النون، والواو فاعله، والألف للتفريق، وعلى اعتبار الفعل منصوبا؛ فيؤول مع «أن» المضمرة الناصبة له بمصدر معطوف على مصدر متصيد من الفعل السابق، فيكون التقدير:

فهلا حصل منهم سير في الأرض، فنظر في عاقبة الذين من قبلهم.

{كَيْفَ:} اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب خبر {كانَ} تقدم عليها، وعلى اسمها، وهو معلق للفعل قبله عن العمل لفظا. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {عاقِبَةُ:} اسم كان، و {عاقِبَةُ} مضاف، و {الَّذِينَ} مبني على الفتح في محل جر بالإضافة. {مِنْ قَبْلِهِمْ:}

متعلقان بمحذوف صلة الموصول، والهاء ضمير متصل في محل جر بالإضافة. هذا؛ وإن اعتبرت {كانَ} تامة، -والمعنى: لا يأباه-فيكون {عاقِبَةُ} فاعلها، و {كَيْفَ} في محل نصب حال من:{عاقِبَةُ} والعامل (كان)، وعلى الاعتبارين فالجملة الفعلية في محل نصب سدت مسد مفعول الفعل قبلها. {وَكانُوا:} الواو: واو الحال. (كانوا) فعل ماض ناقص مبني على الضم، والواو اسمه، والألف للتفريق. {أَشَدَّ:} خبر كان. {مِنْهُمْ:} جار ومجرور متعلقان ب: {أَشَدَّ؛} لأنه أفعل تفضيل، وفاعله مستتر فيه وجوبا تقديره:«هو» . {قُوَّةً:} تمييز، وجملة:{وَكانُوا..} . إلخ في محل نصب حال من الموصول، والرابط: الواو، والضمير، و «قد» قبلها مقدرة. هذا؛ ولم تربط بالواو في الآية رقم [9] من سورة (الروم).

ص: 697

{وَما:} الواو: حرف استئناف. (ما): نافية. {كانَ:} فعل ماض ناقص. {اللهُ:}

اسمها. {لِيُعْجِزَهُ:} فعل مضارع منصوب ب: «أن» مضمرة وجوبا بعد لام الجحود، والهاء مفعول به. {مِنْ:} حرف جر صلة. {شَيْءٍ:} فاعل مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. {فِي السَّماواتِ:} متعلقان بمحذوف صفة {شَيْءٍ} . {وَلا:} الواو: حرف عطف. (لا): نافية، أو صلة لتأكيد النفي. {فِي الْأَرْضِ:}

معطوف على ما قبله، و «أن» المضمرة والمضارع في تأويل مصدر في محل جر بلام الجحود، والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر {كانَ} التقدير: وما كان الله مريدا لإعجازه عن شيء. والجملة الفعلية مستأنفة، لا محل لها. وقيل: معطوفة على ما قبلها، والأول أقوى معنى، وأتم سبكا. {إِنَّهُ:} حرف مشبه بالفعل، والهاء اسمها. {كانَ} ماض ناقص، واسمها يعود إلى الله. {عَلِيماً قَدِيراً:} خبران ل: {كانَ،} والجملة الفعلية خبر (إنّ)، والجملة الاسمية:

{إِنَّهُ..} . إلخ مستأنفة، لا محل لها، أو هي تعليل للتقرير المذكور في أول الآية.

{وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)}

الشرح: {وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النّاسَ بِما كَسَبُوا:} من المعاصي، والسيئات، واقتراف المحرمات، والمنكرات، وفي سورة (النحل) آية رقم [61] {بِظُلْمِهِمْ} بدل:{بِما كَسَبُوا} .

{ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} أي: على ظهر الأرض، والمراد: من دابة كافرة. وقيل:

المعنى: أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لانقطع النسل، ولم توجد الأبناء، فلم يبق على وجه الأرض أحد، قال تعالى في سورة (الكهف) رقم [58]:{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ..} . إلخ وفي الكلام استعارة حيث شبه الأرض بدابة تحمل على ظهرها أنواع المخلوقات، ثم حذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو الظهر بطريق الاستعارة المكنية، ومثله قول أبي ذؤيب الهذلي: وإذا المنية

إلخ. {وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ} أي: يمهلهم كرما، وفضلا، وحلما. {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى:} هو وقت انتهاء آجالهم. وانقضاء أعمارهم. {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} يعني: وقت انتهاء آجالهم. {فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً} أي: كان، ولم يزل كائنا خبيرا بأعمال عباده، بصيرا بجميع حركاتهم وسكناتهم، لا تخفى عليه خافية من جميع أحوالهم، بصيرا بمن يستحق العقوبة، والعذاب، ومن يستحق الأجر، والثواب.

هذا؛ وقد قال تعالى هنا: {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} ومثله في سورة (النحل) رقم [61] وغيرها كثير، وقال تعالى في هذه السورة رقم [13]:{لِأَجَلٍ مُسَمًّى} وغيرها أيضا كثير، فإن قلت: أهو من

ص: 698

تعاقب الحرفين؟ قلت: كلا، ولا يسلك هذه الطريقة إلا بليد الطبع، ضيق العطن، ولكنّ المعنيين -أعني: الانتهاء، والاختصاص-كل واحد منهما ملائم لصحة الغرض؛ لأن قولك: يجري إلى أجل مسمى، معناه: يبلغه، وينتهي إليه. وقولك: يجري لأجل مسمى، تريد: لإدراك أجل مسمى، وتجعل الجري مختصا بإدراك أجل مسمّى، ألا ترى: أن جري الشمس مختص بآخر السنة، وجري القمر مختص بآخر الشهر، فكلا الموضعين غير ناب به موضعه. انتهى. كشاف.

تنبيه: في الآية الكريمة بيان: أن الله لو عاجل المذنبين بالعقاب؛ لأهلكهم، وأهلك الناس معهم. قال عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه وقرأ هذه الآية-: لو آخذ الله الخلائق بذنوب المذنبين؛ لأصاب العذاب جميع الخلائق؛ حتى الجعلان في جحرها، ولأمسك الأمطار من السماء، والنبات من الأرض، فمات الدواب، ولكن الله يأخذ بالعفو، والفضل، كما قال تعالى:{وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} الآية رقم [30] من سورة (الشورى)، وأيضا قوله تعالى في سورة (الكهف):{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ} فإن قيل: كيف يعم بالهلاك الناس جميعا مع أن فيهم مؤمنا ليس بظالم؟ قيل: يجعل هلاك الظالم انتقاما، وجزاء، وهلاك المؤمن معوضا بثواب الآخرة. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بقوم عذابا؛ أصاب العذاب من كان فيهم ثم بعثوا على نيّاتهم» . قال تعالى في سورة (الأنفال) رقم [25]: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً،} وقال تعالى في سورة (الرعد) رقم [6]{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ} انظر شرح هذه الآية في محالها، والله أعلم بمراده، وأسرار كتابه.

الإعراب: {وَلَوْ:} الواو: حرف استئناف. (لو): حرف لما كان سيقع لوقوع غيره.

{يُؤاخِذُ:} فعل مضارع. {اللهُ:} فاعله. {النّاسَ:} مفعوله، والجملة الفعلية لا محل لها؛ لأنها ابتدائية. ويقال: لأنها جملة شرط غير ظرفي. {بِما:} جار ومجرور متعلقان بما قبلهما، و (ما) تحتمل الموصولة، والموصوفة، والمصدرية، فعلى الأولين مبنية على السكون في محل جر بالباء، والجملة الفعلية بعدها صلتها، أو صفتها، والعائد، أو الرابط محذوف، التقدير:

بالذي، أو: بشيء كسبوه، وعلى اعتبار (ما) مصدرية تؤول مع الفعل بعدها بمصدر في محل جر بالباء، التقدير: بكسبهم. (ما): نافية. {تَرَكَ:} فعل ماض، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} والجملة الفعلية جواب (لو) لا محل لها، و (لو) ومدخولها كلام مستأنف، لا محل له. {عَلى ظَهْرِها:} متعلقان بالفعل قبلهما، والهاء في محل جر بالإضافة. وقيل: متعلقان بمحذوف حال من: (دابة) كان صفة له، فلما قدم عليها؛ صار حالا، على القاعدة:«نعت النكرة إذا قدم عليها؛ صار حالا» . {مِنْ:} حرف جر صلة. {دَابَّةٍ:} مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على آخره، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.

ص: 699

{وَلكِنْ:} الواو: حرف عطف. (لكن): حرف استدراك مهمل، لا عمل له. {يُؤَخِّرُهُمْ:}

فعل مضارع، والفاعل يعود إلى {اللهُ،} تقديره: هو، والهاء مفعول به. {إِلى أَجَلٍ:} متعلقان بما قبلهما. {مُسَمًّى:} صفة {أَجَلٍ} مجرور مثله، وعلامة جره كسرة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، والألف الثابتة دليل عليها، وليست عينها، وجملة:{وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ..} . إلخ معطوفة على جواب (لو) لا محل لها مثله. {فَإِذا:} الفاء: حرف تفريع، واستئناف. (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان، خافض لشرطه، منصوب بجوابه صالح لغير ذلك، مبني على السكون في محل نصب. {جاءَ:} فعل ماض. {أَجَلُهُمْ:} فاعله، والهاء في محل جر بالإضافة، والجملة الفعلية في محل جر بإضافة:(إذا) إليها، وجواب:(إذا) محذوف، التقدير: لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. الدليل عليه التصريح به في سورة (الأعراف) رقم [34]، وفي سورة (يونس) رقم [49]، وفي سورة (النّحل) رقم [61]. {فَإِنَّ:} الفاء:

حرف تعليل. (إنّ): حرف مشبه بالفعل. {اللهُ:} اسمها. {كانَ:} فعل ماض ناقص، وهو يدل على الاستمرار، واسمه يعود إلى {اللهُ}. {بِعِبادِهِ:} متعلقان بما بعدهما، والهاء في محل جر بالإضافة. {بَصِيراً:} خبر {كانَ،} والجملة الفعلية في محل رفع خبر (إنّ)، والجملة الاسمية لا محل لها؛ لأنها تعليلية، أو مستأنفة، لا محل لها. تأمل، وتدبر، وربك أعلم، وأجل، وأكرم، وصلّى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

انتهت سورة (فاطر) بحمد الله وتوفيقه، إعرابا وتفسيرا.

والحمد لله رب العالمين

ص: 700