الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2): آية 237]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
فِيهِ ثَمَانِ مَسَائِلَ: الْأُولَى اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهَا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا مُخْرِجَةُ الْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الْفَرْضِ مِنْ حُكْمِ التَّمَتُّعِ، إِذْ يَتَنَاوَلُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَتِّعُوهُنَّ". وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي فِي" الْأَحْزَابِ «1» " لِأَنَّ تِلْكَ تَضَمَّنَتْ تَمْتِيعَ كُلِّ مَنْ لَمْ يُدْخَلْ بِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْآيَةَ الَّتِي قبلها. قلت: قول سعد وَقَتَادَةَ فِيهِ نَظَرٌ، إِذْ شُرُوطُ النَّسْخِ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ: كَانَ الْمَتَاعُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ" وَلِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِالْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ" الْأَحْزَابِ «2» " فَاسْتَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى الْمَفْرُوضَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَثْبَتَ لِلْمَفْرُوضِ لَهَا نِصْفَ مَا فَرَضَ فَقَطْ. وَقَالَ فَرِيقٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو ثَوْرٍ: الْمُتْعَةُ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ عُمُومًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنَّمَا بَيَّنَتْ أَنَّ الْمَفْرُوضَ لَهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا فُرِضَ لَهَا، وَلَمْ يَعْنِ بِالْآيَةِ إِسْقَاطَ مُتْعَتِهَا، بَلْ لَهَا الْمُتْعَةُ وَنِصْفُ الْمَفْرُوضِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أَيْ فَالْوَاجِبُ نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، أَيْ مِنَ الْمَهْرِ فَالنِّصْفُ لِلزَّوْجِ وَالنِّصْفُ لِلْمَرْأَةِ بِإِجْمَاعٍ. وَالنِّصْفُ الْجُزْءُ مِنَ اثْنَيْنِ، فَيُقَالُ: نَصَفَ الْمَاءُ الْقَدَحَ أَيْ بَلَغَ نِصْفَهُ. ونصف الإزار الساق، وكل شي بَلَغَ نِصْفَ غَيْرِهِ فَقَدْ نَصَفَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ" فَنِصْفُ" بِالرَّفْعِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ" فَنِصْفَ" بِنَصْبِ الْفَاءِ، الْمَعْنَى فَادْفَعُوا نِصْفَ. وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ" فَنِصْفُ" بِضَمِّ النُّونِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَهِيَ لُغَةٌ. وَكَذَلِكَ رَوَى الْأَصْمَعِيُّ قِرَاءَةً عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ يقال: نصف ونصف ونصيف،
(1). آية 49، راجع ج 14 ص 202
(2)
. آية 49، راجع ج 14 ص 202
لُغَاتٌ ثَلَاثٌ فِي النِّصْفِ، وَفِي الْحَدِيثِ:" لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" أَيْ نِصْفَهُ. وَالنَّصِيفُ أَيْضًا الْقِنَاعُ. الثَّالِثَةُ- إِذَا أَصْدَقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَنَمَا الصَّدَاقُ فِي يَدِهَا فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ عَرَضٍ أَصْدَقَهَا أَوْ عَبْدٍ فَنَمَاؤُهُمَا لَهُمَا جَمِيعًا وَنُقْصَانُهُ بَيْنَهُمَا، وَتَوَاهُ «1» عَلَيْهِمَا جميعا ليس على المرأة منه شي. فَإِنْ أَصْدَقَهَا عَيْنًا ذَهَبًا أَوْ وَرِقًا فَاشْتَرَتْ به عبد اأو دَارًا أَوِ اشْتَرَتْ بِهِ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ طِيبًا أَوْ شُوَارًا «2» أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا لَهَا التَّصَرُّفُ فِيهِ لِجِهَازِهَا وَصَلَاحِ شَأْنِهَا فِي بَقَائِهَا مَعَهُ فَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصْدَقَهَا إِيَّاهُ، وَنَمَاؤُهُ وَنُقْصَانُهُ بَيْنَهُمَا. وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ لَهَا إِلَّا نِصْفُهُ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَغْرَمَ لَهُ نِصْفَ مَا قَبَضَتْهُ مِنْهُ، وَإِنِ اشْتَرَتْ بِهِ أَوْ مِنْهُ شَيْئًا تَخْتَصُّ بِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَغْرَمَ لَهُ نِصْفَ صَدَاقِهَا الَّذِي قَبَضَتْ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ لَوِ اشْتَرَتْ مِنْ غَيْرِهِ عَبْدًا أَوْ دَارًا بِالْأَلْفِ الَّذِي أَصْدَقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْأَلْفِ. الرَّابِعَةُ- لَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ بِزَوْجَتِهِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا وَقَدْ سَمَّى لَهَا أَنَّ لَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى كَامِلًا وَالْمِيرَاثَ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّجُلِ يَخْلُو بِالْمَرْأَةِ وَلَمْ يُجَامِعْهَا حَتَّى فَارَقَهَا، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَمَالِكٌ: عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ، لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فِيمَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا أَنَّ لَهَا الْمِيرَاثَ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةَ، وَرُوِيَ مَرْفُوعًا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَسَيَأْتِي فِي" النِّسَاءِ «3» ". وَالشَّافِعِيُّ لَا يُوجِبُ مَهْرًا كَامِلًا، وَلَا عِدَّةً إِذَا لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ، لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ. قَالَ شُرَيْحٌ: لَمْ أَسْمَعِ اللَّهَ سبحانه وتعالى ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ بَابًا وَلَا سِتْرًا، إِذَا زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَمَسَّهَا فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَسَيَأْتِي مَا لِعُلَمَائِنَا فِي هَذَا فِي سُورَةِ" النِّسَاءِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ". الْخَامِسَةُ- قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) الْآيَةَ." إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ" اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ. وَ" يَعْفُونَ" مَعْنَاهُ يَتْرُكْنَ وَيَصْفَحْنَ، وَوَزْنُهُ يَفْعَلْنَ. وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ يتركن النصف الذي
(1). تراه: هلاكه.
(2)
. الشوار: متاع البيت.
(3)
. راجع ج 6 ص 102
وَجَبَ لَهُنَّ عِنْدَ الزَّوْجِ، وَلَمْ تَسْقُطِ النُّونُ مَعَ" أَنْ"، لِأَنَّ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ فِي الْمُضَارِعِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْجَزْمِ، فَهِيَ ضَمِيرٌ وَلَيْسَتْ بِعَلَامَةِ إِعْرَابٍ فَلِذَلِكَ لَمْ تَسْقُطْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَتِ النُّونُ لَاشْتَبَهَ بِالْمُذَكَّرِ. وَالْعَافِيَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ امْرَأَةٍ تَمْلِكُ أَمْرَ نَفْسِهَا، فَأَذِنَ اللَّهُ سبحانه وتعالى لَهُنَّ فِي إِسْقَاطِهِ بَعْدَ وُجُوبِهِ، إِذْ جَعَلَهُ خَالِصَ حَقِّهِنَّ، فَيَتَصَرَّفْنَ فِيهِ بِالْإِمْضَاءِ وَالْإِسْقَاطِ كَيْفَ شِئْنَ، إِذَا مَلَكْنَ أَمْرَ أَنْفُسِهِنَّ وَكُنَّ بَالِغَاتٍ عَاقِلَاتٍ رَاشِدَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالتَّابِعِينَ: وَيَجُوزُ عَفْوُ الْبِكْرِ الَّتِي لَا وَلِيَّ لَهَا، وَحَكَاهُ سَحْنُونُ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ الْقَاسِمِ بَعْدَ أَنْ ذُكِرَ لِابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّ وَضْعَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ لَا يَجُوزُ. وَأَمَّا الَّتِي فِي حِجْرِ أَبٍ أَوْ وَصِيٍّ فَلَا يَجُوزُ وَضْعُهَا لِنِصْفِ صَدَاقِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَلَا خِلَافَ فِيهِ فِيمَا أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ) مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ مَبْنِيٌّ، وَهَذَا مُعْرَبٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" أَوْ يَعْفُوْ" سَاكِنَةَ الْوَاوِ، كَأَنَّهُ اسْتَثْقَلَ الْفَتْحَةَ فِي الْوَاوِ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ في المراد بقوله تعالى:" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ" فَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ جبير ابن مُطْعِمٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي نَصْرٍ «1» فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ، بِهَا فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا بِالصَّدَاقِ كَامِلًا وَقَالَ: أَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ مِنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ" وَأَنَا أَحَقُّ بِالْعَفْوِ منها. وتأول قوله تعالى:" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ" يَعْنِي نَفْسَهُ فِي كُلِّ حَالٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ، أَيْ عُقْدَةُ نِكَاحِهِ، فَلَمَّا أَدْخَلَ اللَّامَ حَذَفَ الْهَاءَ كَقَوْلِهِ:" فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى «2» " أَيْ مَأْوَاهُ. قَالَ النَّابِغَةُ:
لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللَّهُ غَيْرَهُمْ
…
مِنَ الْجُودِ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
أَيْ أَحْلَامُهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: (عُقْدَةُ النِّكاحِ) أَيْ عُقْدَةُ نِكَاحِهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ قُتَيْبَةَ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" وَلِيُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ الزَّوْجُ". وَأُسْنِدَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٍ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كعب وطاوس ومجاهد
(1). كذا فب الدارقطني ونسخ الأصل إلا هـ ففيها: بنى نضير. وفى التاج أن بنى نصر بطن من هوازن.
(2)
. راجع ج 19 ص 205.
وَالشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، زَادَ غَيْرُهُ وَمُجَاهِدٌ وَالثَّوْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، كُلُّهُمْ لَا يَرَى سَبِيلًا لِلْوَلِيِّ على شي مِنْ صَدَاقِهَا، لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ أَبْرَأَ الزَّوْجَ مِنَ الْمَهْرِ قَبْلَ الطَّلَاقِ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَهَبَ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا، وَالْمَهْرُ مَالُهَا. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَفْوُهُمْ وَهُمْ بَنُو الْعَمِّ وَبَنُو الْإِخْوَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَبُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُوَ الْوَلِيُّ، أَسْنَدَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَعَلْقَمَةَ وَالْحَسَنِ، زَادَ غَيْرُهُ وَعِكْرِمَةَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَأَبِي الزِّنَادِ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَرَبِيعَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ شِهَابٍ وَالْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ وَالشَّعْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ. فَيَجُوزُ لِلْأَبِ الْعَفْوُ عَنْ نِصْفِ صَدَاقِ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ إِذَا طُلِّقَتْ، بَلَغَتِ الْمَحِيضَ أَمْ لَمْ تَبْلُغْهُ. قَالَ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ: وَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ عَلَى أَبِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْوَلِيُّ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ:" وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ" فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ، ثُمَّ قَالَ:" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ" فَذَكَرَ النِّسْوَانَ،" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ" فَهُوَ ثَالِثٌ فَلَا يُرَدُّ إِلَى الزَّوْجِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيُّ فَهُوَ الْمُرَادُ. قَالَ مَعْنَاهُ مَكِّيٌّ وَذَكَرَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ:" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ" وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ امْرَأَةٍ تَعْفُو، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْمَحْجُورَ عَلَيْهَا لَا عَفْوَ لَهُمَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ الْقِسْمَيْنِ فَقَالَ:" إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ" أَيْ إِنْ كُنَّ لِذَلِكَ أَهْلًا،" أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ" وَهُوَ الْوَلِيُّ، لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إِلَيْهِ. وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَأَشْهَبُ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ. وَإِنَّمَا يَجُوزُ عَفْوُ الْوَلِيِّ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّدَادِ، وَلَا يَجُوزُ عَفْوُهُ إِذَا كَانَ سَفِيهًا. فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ الْوَلِيُّ بَلْ هُوَ الزَّوْجُ، وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّهُ أَمْلَكُ لِلْعَقْدِ «1» مِنَ الْوَلِيِّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. فَالْجَوَابُ- أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الزَّوْجَ أَمْلَكُ لِلْعَقْدِ مِنَ الْأَبِ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، بَلْ أَبُ الْبِكْرِ يَمْلِكُهُ خَاصَّةً دُونَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ بُضْعُ الْبِكْرِ، وَلَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى ذَلِكَ بَلِ الْأَبُ يَمْلِكُهُ. وَقَدْ أَجَازَ شُرَيْحٌ عَفْوَ الْأَخِ عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عكرمة: يجوز عفو الذي
(1). في ج وب وح: بالعقد.