الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ) شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. وَالْخَيْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَالُ، لِأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَنَ بِذِكْرِ الْإِنْفَاقِ، فَهَذِهِ الْقَرِينَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمَالُ، وَمَتَى لَمْ تَقْتَرِنْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْمَالُ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَالِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «1» " وَقَوْلِهِ:" مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ «2» ". إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَهَذَا تَحَرُّزٌ مِنْ قَوْلِ عِكْرِمَةَ: كُلُّ خَيْرٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمَالُ. وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ كَانَ يَصْنَعُ كَثِيرًا مِنَ الْمَعْرُوفِ ثُمَّ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ مَعَ أَحَدٍ خَيْرًا، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَقُولُ: إِنَّمَا فَعَلْتُ مَعَ نَفْسِي، وَيَتْلُو" وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ". ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ النَّفَقَةَ الْمُعْتَدَّ بِقَبُولِهَا إِنَّمَا هِيَ مَا كَانَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ. وَ" ابْتِغاءَ" هُوَ عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ «3». وَقِيلَ: إِنَّهُ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلصَّحَابَةِ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُنْفِقُونَ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ، فَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّفْضِيلِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ. وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ هُوَ اشْتِرَاطٌ عَلَيْهِمْ، وَيَتَنَاوَلُ الِاشْتِرَاطُ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ:" إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ «4» ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)" يُوَفَّ إِلَيْكُمْ" تَأْكِيدٌ وَبَيَانٌ لِقَوْلِهِ:" وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ" وَأَنَّ ثَوَابَ الْإِنْفَاقِ يُوَفَّى إِلَى الْمُنْفِقِينَ وَلَا يُبْخَسُونَ مِنْهُ شَيْئًا فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَخْسُ ظلما لهم.
[سورة البقرة (2): آية 273]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
فِيهِ عَشْرُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِلْفُقَراءِ) اللَّامُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَوْلِهِ" وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ" وَقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْإِنْفَاقُ أَوِ الصَّدَقَةُ لِلْفُقَرَاءِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمَا: المراد بهؤلاء
(1). راجع ج 13 ص 21.
(2)
. راجع ج 20 ص 150.
(3)
. كما في السمين والبحر. وفى الأصول كلها: مفعول به. وليس بشيء. [ ..... ]
(4)
. رواية البخاري: في فم امرأتك.
الْفُقَرَاءِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ تَتَنَاوَلُ الْآيَةُ كُلَّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ صِفَةِ الْفُقَرَاءِ غَابِرَ الدَّهْرِ. وَإِنَّمَا خُصَّ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ سِوَاهُمْ وَهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَكَانُوا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِمِائَةِ رَجُلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْدَمُونَ فُقَرَاءَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمَا لَهُمْ أَهْلٌ وَلَا مَالٌ فَبُنِيَتْ لَهُمْ صُفَّةٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقِيلَ لَهُمْ: أَهْلُ الصُّفَّةِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: كُنْتُ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَكُنَّا إِذَا أَمْسَيْنَا حَضَرْنَا بَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَأْمُرُ كُلَّ رَجُلٍ فَيَنْصَرِفُ بِرَجُلٍ وَيَبْقَى مَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ عَشَرَةٌ أَوْ أَقَلُّ فَيُؤْتَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَشَائِهِ وَنَتَعَشَّى مَعَهُ. فَإِذَا فَرَغْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" نَامُوا فِي الْمَسْجِدِ". وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ" وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ" قَالَ: نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ كُنَّا أَصْحَابَ نَخْلٍ، قَالَ: فَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ نَخْلِهِ عَلَى قَدْرِ كَثْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِالْقِنْوِ وَالْقِنْوَيْنِ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا جَاعَ أَتَى الْقِنْوَ فَيَضْرِبُهُ بِعَصَاهُ فَيَسْقُطُ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ فَيَأْكُلُ، وَكَانَ نَاسٌ مِمَّنْ لَا يَرْغَبُ فِي الْخَيْرِ يَأْتِي بِالْقِنْوِ فِيهِ الشِّيصُ وَالْحَشَفُ، وَبِالْقِنْوِ قَدِ انْكَسَرَ فَيُعَلِّقُهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ". قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أُهْدِيَ إِلَيْهِ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُ لَمْ يَأْخُذْهُ إِلَّا عَلَى إِغْمَاضٍ وَحَيَاءٍ. قَالَ: فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ يَأْتِي الرَّجُلُ بِصَالِحِ مَا عِنْدَهُ. قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَكَانُوا رضي الله عنهم فِي الْمَسْجِدِ ضَرُورَةً، وَأَكَلُوا مِنَ الصَّدَقَةِ ضَرُورَةً، فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اسْتَغْنَوْا عَنْ تِلْكَ الْحَالِ وَخَرَجُوا ثُمَّ مَلَكُوا وَتَأَمَّرُوا. ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ أَحْوَالِ أُولَئِكَ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ مَا يُوجِبُ الْحُنُوَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:(الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَالْمَعْنَى حُبِسُوا وَمُنِعُوا. قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى" أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ التَّصَرُّفِ فِي مَعَايِشِهِمْ خَوْفَ الْعَدُوِّ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:(لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) لِكَوْنِ الْبِلَادِ كُلِّهَا كفرا مطبقا.
وَهَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، فَعِلَّتُهُمْ «1» تَمْنَعُ مِنَ الِاكْتِسَابِ بِالْجِهَادِ، وَإِنْكَارُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ إِسْلَامَهُمْ يَمْنَعُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي التِّجَارَةِ فَبَقُوا فُقَرَاءَ. وَقِيلَ: مَعْنَى" لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ" أَيْ لِمَا قَدْ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْجِهَادِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) أَيْ إِنَّهُمْ مِنْ الِانْقِبَاضِ وَتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ بِحَيْثُ يَظُنُّهُمُ الْجَاهِلُ بِهِمْ أَغْنِيَاءَ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اسْمَ الْفَقْرِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَنْ لَهُ كِسْوَةٌ ذَاتُ قِيمَةٍ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِعْطَاءِ الزَّكَاةِ إِلَيْهِ. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِعْطَاءِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، وَكَانُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ مَرْضَى وَلَا عُمْيَانَ. وَالتَّعَفُّفُ تَفَعُّلٌ، وَهُوَ بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ مِنْ عَفَّ عَنِ الشَّيْءِ إِذَا أَمْسَكَ عَنْهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ طَلَبِهِ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى فَسَّرَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَفَتْحُ السِّينِ وَكَسْرُهَا فِي" يَحْسَبُهُمُ" لُغَتَانِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَالْفَتْحُ أَقْيَسُ، لِأَنَّ الْعَيْنَ مِنَ الْمَاضِي مَكْسُورَةٌ فَبَابُهَا أَنْ تَأْتِيَ فِي الْمُضَارِعِ مَفْتُوحَةً. وَالْقِرَاءَةُ بِالْكَسْرِ حَسَنَةٌ، لِمَجِيءِ السَّمْعِ بِهِ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا عَنِ الْقِيَاسِ. وَ" مِنْ" فِي قَوْلِهِ" مِنَ التَّعَفُّفِ" لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ لِبَيَانِ الْجِنْسِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلسِّيمَا أَثَرًا فِي اعْتِبَارِ مَنْ يَظْهَرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا رَأَيْنَا مَيِّتًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ زُنَّارٌ «2» وَهُوَ غَيْرُ مَخْتُونٍ لَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُقَدَّمُ ذَلِكَ عَلَى حُكْمِ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ «3» ". فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى جَوَازِ صَرْفِ الصَّدَقَةِ إِلَى مَنْ لَهُ ثِيَابٌ وَكِسْوَةٌ وَزِيٌّ «4» فِي التَّجَمُّلِ. وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا بَعْدَهُ فِي مِقْدَارِ مَا يَأْخُذُهُ إِذَا احْتَاجَ. فَأَبُو حَنِيفَةَ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ قُوتَ سَنَةٍ، وَمَالِكٌ اعْتَبَرَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، وَالشَّافِعِيُّ لَا يَصْرِفُ الزَّكَاةَ إِلَى الْمُكْتَسِبِ. وَالسِّيمَا (مَقْصُورَةٌ): الْعَلَامَةُ، وَقَدْ تُمَدُّ فَيُقَالُ السِّيمَاءُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِهَا هُنَا، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. السُّدِّيُّ: أثر الفاقة والحاجة في وجوههم وقلة
(1). كذا في ج. راجع الطبري. وباقى الأصول: فقلتهم.
(2)
. الزنار (بضم الزاي وتشديد النون): ما يشده الذمي على وسطه.
(3)
. راجع ج 16 ص 251.
(4)
. في ج: زين.
النِّعْمَةِ. ابْنُ زَيْدٍ: رَثَاثَةُ ثِيَابِهِمْ. وَقَالَ قَوْمٌ وَحَكَاهُ مَكِّيٌّ: أَثَرُ السُّجُودِ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا حَسَنٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَفَرِّغِينَ مُتَوَكِّلِينَ لَا شغل فِي الْأَغْلَبِ إِلَّا الصَّلَاةُ، فَكَانَ أَثَرُ السُّجُودِ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ: وَهَذِهِ السِّيمَا الَّتِي هِيَ أَثَرُ السُّجُودِ اشْتَرَكَ فِيهَا جَمِيعُ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى فِي آخِرِ" الْفَتْحِ" بِقَوْلِهِ:" سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ «1» " فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ السِّيمَاءُ أَثَرَ الْخَصَاصَةِ وَالْحَاجَةِ، أَوْ يَكُونَ أَثَرُ السُّجُودِ أَكْثَرَ، فَكَانُوا يُعْرَفُونَ بِصُفْرَةِ الْوُجُوهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصَوْمِ النَّهَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَمَّا الْخُشُوعُ فَذَلِكَ مَحَلُّهُ الْقَلْبُ وَيَشْتَرِكُ فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَا اخْتَرْنَاهُ، وَالْمُوَفِّقُ الْإِلَهُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَيْ مُلْحِفِينَ، يُقَالُ: أَلْحَفَ وَأَحْفَى وَأَلَحَّ فِي الْمَسْأَلَةِ سواء، ويقال:
وَلَيْسَ لِلْمُلْحِفِ مِثْلُ الرَّدِّ «2»
وَاشْتِقَاقُ الْإِلْحَافِ مِنَ اللِّحَافِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى وُجُوهِ الطَّلَبِ فِي الْمَسْأَلَةِ كَاشْتِمَالِ اللِّحَافِ مِنَ التَّغْطِيَةِ، أَيْ هَذَا السَّائِلُ يَعُمُّ النَّاسَ بِسُؤَالِهِ فَيُلْحِفُهُمْ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ:
فَظَلَّ يَحُفُّهُنَّ بِقَفْقَفَيْهِ «3»
…
وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافًا ثَخِينَا
يَصِفُ ذَكَرَ النَّعَامِ يَحْضُنُ بِيضًا بِجَنَاحَيْهِ وَيَجْعَلُ جَنَاحَهُ لَهَا كَاللِّحَافِ وَهُوَ رَقِيقٌ مَعَ ثَخْنِهِ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفِّفُ اقرءوا إن شئتم" لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً". الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قول" لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً" عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمُ الطَّبَرِيُّ وَالزَّجَّاجُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يَسْأَلُونَ الْبَتَّةَ، وهذا على أنهم متعففون عن
(1). راجع ج 16 ص 292.
(2)
. هذا عجز بيت لبشار بن برد وصدره كما في ديوانه واللسان:
الحر يلحى والعصا للعبد
(3)
. قفقفا الطائر: جناحاه.
الْمَسْأَلَةِ عِفَّةً تَامَّةً، وَعَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ، وَيَكُونُ التَّعَفُّفُ صِفَةً ثَابِتَةً لَهُمْ، أَيْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَاحًا وَلَا غَيْرَ إِلْحَاحٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْإِلْحَافِ، أَيْ إِنَّهُمْ يَسْأَلُونَ غَيْرَ إِلْحَافٍ، وَهَذَا هُوَ السَّابِقُ لِلْفَهْمِ، أَيْ يَسْأَلُونَ غَيْرَ مُلْحِفِينَ. وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى سُوءِ حَالَةِ مَنْ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلْحَافًا. رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لَا تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ فَوَاللَّهِ لَا يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا فَتُخْرِجُ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ فَيُبَارَكُ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ". وَفِي الْمُوَطَّأِ" عَنْ زيد بن أسلم عن عطاء ابن يَسَارٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلْتُ أَنَا وَأَهْلِي بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ «1» فَقَالَ لِي أَهْلِي: اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْأَلْهُ لَنَا شَيْئًا نَأْكُلُهُ، وَجَعَلُوا يَذْكُرُونَ مِنْ حَاجَتِهِمْ، فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ رَجُلًا يَسْأَلُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" لَا أَجِدُ مَا أُعْطِيكَ" فَتَوَلَّى الرَّجُلُ عَنْهُ وَهُوَ مُغْضَبٌ وَهُوَ يَقُولُ: لَعَمْرِي إِنَّكَ لَتُعْطِي مَنْ شِئْتَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّهُ يَغْضَبُ عَلَيَّ أَلَّا أَجِدَ مَا أُعْطِيهِ مَنْ سَأَلَ مِنْكُمْ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا «2» ". قَالَ الْأَسَدِيُّ: فَقُلْتُ لَلَقْحَةٌ «3» لَنَا خَيْرٌ مِنْ أُوقِيَّةٍ- قَالَ مَالِكٌ: وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا- قَالَ: فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَسْأَلْهُ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ بِشَعِيرٍ وَزَبِيبٍ «4» فَقَسَمَ لَنَا مِنْهُ حَتَّى أَغْنَانَا اللَّهُ". قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ وَتَابَعَهُ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ حُكْمُ الصَّحَابِيِّ «5» إِذَا لَمْ يُسَمَّ كَحُكْمِ مَنْ دُونَهُ إِذَا لَمْ يُسَمَّ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، لِارْتِفَاعِ الْجُرْحَةِ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَثُبُوتِ الْعَدَالَةِ لَهُمْ. وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّؤَالَ مَكْرُوهٌ لِمَنْ لَهُ أُوقِيَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ، فَمَنْ سَأَلَ وَلَهُ هَذَا الْحَدُّ وَالْعَدَدُ وَالْقَدْرُ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا وَيَكُونُ عِدْلًا مِنْهَا فَهُوَ مُلْحِفٌ، وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَّا وَهُوَ يَكْرَهُ السُّؤَالَ لِمَنْ لَهُ هَذَا الْمِقْدَارُ مِنَ الْفِضَّةِ أَوْ عِدْلُهَا مِنَ الذَّهَبِ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَمَا جَاءَهُ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يأكله
(1). بقيع الغرقد: مقبرة مشهورة بالمدينة.
(2)
. الحديث كما في الطبعة الهندية. وفى الأصول: فقد ألحف.
(3)
. اللقحة (بفتح اللام وكسرها): الناقة ذات لبن القريبة العهد بالنتاج.
(4)
. في ب: وزيت.
(5)
. في الأصول:" الصاحب".
إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، فَإِنْ كَانَ مِنَ الزَّكَاةِ فَفِيهِ خِلَافٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ «1» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّادِسَةُ- قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ مِنْ أَجْوِبَةِ الْفُقَهَاءِ فِي مَعَانِي السُّؤَالِ وَكَرَاهِيَتِهِ وَمَذْهَبِ أَهْلِ الْوَرَعِ فِيهِ مَا حَكَاهُ الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ مَتَى تَحِلُّ قَالَ: إِذَا لَمْ يَكُنْ عنده مَا يُغَذِّيهِ وَيُعَشِّيهِ عَلَى حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ. قِيلَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ: فَإِنِ اضْطُرَّ إِلَى الْمَسْأَلَةِ؟ قَالَ: هِيَ مُبَاحَةٌ لَهُ إِذَا اضْطُرَّ. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ تَعَفَّفَ؟ قَالَ: ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: مَا أَظُنُّ أَحَدًا يَمُوتُ مِنَ الْجُوعِ! اللَّهُ يَأْتِيهِ بِرِزْقِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ" مَنِ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ". وَحَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ:" تَعَفَّفْ". قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَسَمِعْتُهُ يَسْأَلُ عَنِ الرَّجُلِ لَا يَجِدُ شَيْئًا أَيَسْأَلُ النَّاسَ أَمْ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ؟ فَقَالَ: أَيَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يَسْأَلُهُ، هَذَا شَنِيعٌ. قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَسْأَلُهُ هَلْ يَسْأَلُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ؟ قَالَ لَا، وَلَكِنْ يُعَرِّضُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي «2» النِّمَارِ فَقَالَ:" تَصَدَّقُوا" وَلَمْ يَقُلْ أَعْطُوهُمْ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم" اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا". وَفِيهِ إِطْلَاقُ السُّؤَالِ لِغَيْرِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ:" أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هذا"؟ قال أبو بكر: قل لَهُ- يَعْنِي أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ- فَالرَّجُلُ يَذْكُرُ الرَّجُلَ فَيَقُولُ: إِنَّهُ مُحْتَاجٌ؟ فَقَالَ: هَذَا تَعْرِيضٌ وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ، إِنَّمَا الْمَسْأَلَةُ أَنْ يَقُولَ أَعْطِهِ. ثُمَّ قَالَ: لَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَسْأَلَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ فَكَيْفَ لِغَيْرِهِ؟ وَالتَّعْرِيضُ هُنَا أَحَبُّ إِلَيَّ. قُلْتُ: قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ الْفِرَاسِيَّ «3» قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَسْأَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قال:" لا وإن كنت سائلا لأبد فَاسْأَلِ الصَّالِحِينَ". فَأَبَاحَ صلى الله عليه وسلم سُؤَالَ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى ذلك، وإن أوقع حاجته
(1). راجع ج 8 ص 167. [ ..... ]
(2)
. اجتاب فلان ثوبا إذا لبسه. والنمار (بكسر النون جمع نمرة) وهى كل شملة مخططة من مآزر الاعراب، كأنها أخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. أراد أنه جاء قوم لابسي أزر مخططة من صوف (عن نهاية ابن الأثير).
(3)
. هو من بنى فراس بن مالك بن كنانة (عن الاستيعاب).
بِاللَّهِ فَهُوَ أَعْلَى. قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: سُؤَالُ الْحَاجَاتِ مِنَ النَّاسِ هِيَ الْحِجَابُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَنْزِلْ حَاجَتَكَ بِمَنْ يَمْلِكُ الضُّرَّ وَالنَّفْعَ، وَلْيَكُنْ مَفْزَعُكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَكْفِيكَ اللَّهُ مَا سِوَاهُ وَتَعِيشُ مَسْرُورًا. السَّابِعَةُ- فإن جاءه شي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ وَلَا يَرُدَّهُ، إِذْ هُوَ رِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ. رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِعَطَاءٍ فَرَدَّهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" لِمَ رَدَدْتَهُ"؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ أَخْبَرْتَنَا أَنَّ أَحَدَنَا خَيْرٌ لَهُ أَلَّا يَأْخُذَ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا ذَاكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ رَزَقَكَهُ اللَّهُ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا أَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا وَلَا يَأْتِينِي بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلَّا أَخَذْتُهُ. وَهَذَا نَصٌّ. وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" خُذْهُ وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فَلَا تُتْبِعُهُ نَفْسَكَ". زَادَ النَّسَائِيُّ- بَعْدَ قَوْلِهِ" خُذْهُ- فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ". وَرَوَى مُسْلِمٌ من حديث عبد الله ابن السَّعْدِيِّ الْمَالِكِيِّ عَنْ عُمَرَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ". وَهَذَا يُصَحِّحُ لَكَ حَدِيثَ مَالِكٍ الْمُرْسَلَ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَسْأَلُ عَنْ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" مَا أَتَاكَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافٍ" أَيُّ الْإِشْرَافِ أَرَادَ؟ فَقَالَ: أَنْ تَسْتَشْرِفَهُ وَتَقُولَ: لَعَلَّهُ يُبْعَثُ إِلَيَّ بِقَلْبِكَ. قِيلَ لَهُ: وَإِنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ، قَالَ نَعَمْ إِنَّمَا هُوَ بِالْقَلْبِ. قِيلَ لَهُ: هَذَا شَدِيدٌ! قَالَ: وَإِنْ كَانَ شَدِيدًا فَهُوَ هَكَذَا. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَمْ يُعَوِّدْنِي أَنْ يُرْسِلَ إِلَيَّ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ قَدْ عَرَضَ بِقَلْبِي فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يَبْعَثَ إِلَيَّ. قَالَ: هَذَا إِشْرَافٌ، فَأَمَّا إِذَا جَاءَكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَحْتَسِبَهُ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِكَ فَهَذَا الْآنَ لَيْسَ فِيهِ إِشْرَافٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ: الْإِشْرَافُ فِي اللُّغَةِ رَفْعُ الرَّأْسِ إِلَى الْمَطْمُوعِ