الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عُرَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" قَالَ:" هُمْ أَصْحَابُ الْخَيْلِ". وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" الْمُنْفِقُ عَلَى الْخَيْلِ كباسط يده بالصدقة لا يقبضها وأبو إلها وَأَرْوَاثُهَا [عِنْدَ اللَّهِ «1»] يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَكِيِّ الْمِسْكِ". وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، كَانَتْ مَعَهُ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا وَبِدِرْهَمٍ نَهَارًا وَبِدِرْهَمٍ سِرًّا وَبِدِرْهَمٍ جَهْرًا، ذَكَرَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. ابْنُ جُرَيْجٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُسَمِّ عَلِيًّا وَلَا غَيْرَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ. هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْمُنْفِقِينَ مِنْ غَيْرِ تَبْذِيرٍ وَلَا تَقْتِيرٍ. وَمَعْنَى" بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ" فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلَهُمْ" لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الْجَزَاءِ. وَقَدْ تقدم. ولا يجوز زيد فمنطلق.
[سورة البقرة (2): الآيات 275 الى 279]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
(1). الزيادة عن كتاب الطبقات.
الْآيَاتُ الثَّلَاثُ «1» تَضَمَّنَتْ أَحْكَامَ الرِّبَا وَجَوَازَ عُقُودِ الْمُبَايِعَاتِ، وَالْوَعِيدَ لِمَنْ اسْتَحَلَّ الرِّبَا وَأَصَرَّ عَلَى فِعْلِهِ. وَفِي ذَلِكَ ثَمَانٌ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) يَأْكُلُونَ يَأْخُذُونَ، فَعَبَّرَ عَنِ الْأَخْذِ بِالْأَكْلِ، لِأَنَّ الْأَخْذَ إِنَّمَا يُرَادُ لِلْأَكْلِ. وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ:" فَلَا وَاللَّهِ مَا أَخَذْنَا مِنْ لُقْمَةٍ إِلَّا رَبَا مِنْ تَحْتِهَا" يَعْنِي الطَّعَامَ الَّذِي دَعَا فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْبَرَكَةِ، خَرَّجَ الْحَدِيثَ مُسْلِمٌ رحمه الله. وَقِيَاسُ كِتَابَتِهِ بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ «2» فِي أَوَّلِهِ، وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْقُرْآنِ بِالْوَاوِ. ثُمَّ إِنَّ الشَّرْعَ قَدْ تَصَرَّفَ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ فَقَصَرَهُ عَلَى بَعْضِ مَوَارِدِهِ، فَمَرَّةً أَطْلَقَهُ عَلَى كَسْبِ الْحَرَامِ، كَمَا قال الله تعالى في اليهود:" وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ «3» ". وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الرِّبَا الشَّرْعِيَّ الَّذِي حُكِمَ بِتَحْرِيمِهِ عَلَيْنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمَالَ الْحَرَامَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «4» " يَعْنِي بِهِ الْمَالَ الْحَرَامَ مِنَ الرِّشَا، وَمَا اسْتَحَلُّوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْأُمِّيِّينَ حَيْثُ قَالُوا:" لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ «5» ". وَعَلَى هَذَا فَيَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ كُلِّ مَالٍ حَرَامٍ بِأَيِّ وَجْهٍ اكْتُسِبَ. وَالرِّبَا الَّذِي عَلَيْهِ عُرْفُ الشَّرْعِ شَيْئَانِ: تَحْرِيمُ النَّسَاءِ، وَالتَّفَاضُلُ فِي الْعُقُودِ «6» وَفِي الْمَطْعُومَاتِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ. وَغَالِبُهُ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ، مِنْ قَوْلِهَا لِلْغَرِيمِ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَكَانَ الْغَرِيمُ يَزِيدُ فِي عَدَدِ الْمَالِ وَيَصْبِرُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ. وَهَذَا كُلُّهُ مُحَرَّمٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ. الثَّانِيَةُ- أَكْثَرُ الْبُيُوعِ الْمَمْنُوعَةِ إِنَّمَا تَجِدُ مَنْعَهَا لِمَعْنَى زِيَادَةٍ إِمَّا فِي عَيْنِ مَالٍ، وَإِمَّا فِي مَنْفَعَةٍ لِأَحَدِهِمَا مِنْ تَأْخِيرٍ وَنَحْوِهِ. وَمِنَ الْبُيُوعِ مَا لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الزِّيَادَةِ، كَبَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَكَالْبَيْعِ سَاعَةَ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنْ قِيلَ لِفَاعِلِهَا، آكِلُ الرِّبَا فَتَجَوُّزٌ وَتَشْبِيهٌ. الثَّالِثَةُ- رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء".
(1). كذا في كل الأصول، وقوله: ثمان وثلاثون مسألة، تضمن الآيات الخمس.
(2)
. يريد الإمالة.
(3)
. راجع ج 6 ص 182. وص 236.
(4)
. راجع ج 6 ص 182. وص 236.
(5)
. راجع ج 4 ص 115.
(6)
. في ح وه وج: النقود.
وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:" فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يد بِيَدٍ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ مُدْيٌ «1» بِمُدْيٍ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مُدْيٌ بِمُدْيٍ فَمَنْ زَادَ أو ازداد فقد أربى ولا بأس يبيع الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ وَالْفِضَّةُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَةٌ فَلَا وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ أَكْثَرُهُمَا يَدًا بِيَدٍ وَأَمَّا نَسِيئَةٌ فَلَا". وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ وَعَلَيْهَا جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَإِنَّ مَالِكًا جَعَلَهُمَا صِنْفًا وَاحِدًا، فَلَا يَجُوزُ مِنْهُمَا اثْنَانِ بِوَاحِدٍ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَمُعْظَمِ عُلَمَاءِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، وَأَضَافَ مَالِكٌ إِلَيْهِمَا السُّلْتَ «2». وَقَالَ اللَّيْثُ: السُّلْتُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ. قُلْتُ: وَإِذَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ فَلَا قَوْلَ مَعَهَا. وَقَالَ عليه السلام:" فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شئتم إذا كان يدا بيد". وقول:" الْبُرُّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ" دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ كَمُخَالَفَةِ الْبُرِّ لِلتَّمْرِ، وَلِأَنَّ صِفَاتِهِمَا مُخْتَلِفَةٌ وَأَسْمَاؤُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، وَلَا اعْتِبَارَ بِالْمَنْبِتِ وَالْمَحْصِدِ إِذَا لَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ، بَلْ فَصَّلَ وَبَيَّنَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ. الرَّابِعَةُ- كَانَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ وَالتَّحْرِيمَ إِنَّمَا وَرَدَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الدِّينَارِ الْمَضْرُوبِ وَالدِّرْهَمِ الْمَضْرُوبِ لَا فِي التِّبْرِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْمَضْرُوبِ، وَلَا فِي الْمَصُوغِ بِالْمَضْرُوبِ. وَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْمَصُوغِ خَاصَّةً، حَتَّى وَقَعَ لَهُ مَعَ عُبَادَةَ مَا خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، قَالَ: غَزَوْنَا وَعَلَى النَّاسِ مُعَاوِيَةُ فَغَنِمْنَا غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَكَانَ مِمَّا غَنِمْنَا آنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ فَأَمَرَ معاوية رجلا ببيعها في أعطيات الناس
(1). أي مكيال بمكيال. والمدى (بضم الميم وسكون الدال وبالياء) قال ابن الاعرابي: هو مكيال ضخم لأهل الشام واهل مصر، والجمع أمداء. وقال ابني برى: المدى مكيال لأهل الشام يقال له الجريب يسع خمسة وأربعين رطلا. وهو غير المد (بالميم المضمومة والياء المشددة). قال الجوهري: المد مكيال وهو رطل وثلث عند أهل الحجاز والشافعي، ورطلان عند أهل العراق وأبي حنيفة.
(2)
. السلت: ضرب من الشعير ليس له قشر.
فَتَنَازَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَبَلَغَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ذَلِكَ فَقَامَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْهَى عَنْ بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، فَرَدَّ النَّاسُ مَا أَخَذُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَقَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: أَلَا مَا بَالُ رِجَالٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ قَدْ كُنَّا نَشْهَدُهُ وَنَصْحَبُهُ فَلَمْ نَسْمَعْهَا مِنْهُ! فَقَامَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ فَأَعَادَ الْقِصَّةَ ثُمَّ قَالَ: لَنُحَدِّثَنَّ بِمَا سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَرِهَ مُعَاوِيَةُ- أَوْ قَالَ وإن رغم وما أُبَالِي أَلَّا أَصْحَبَهُ فِي جُنْدِهِ فِي لَيْلَةٍ سَوْدَاءَ. قَالَ حَمَّادٌ «1» هَذَا أَوْ نَحْوَهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَبِي الدَّرْدَاءِ مَعَ مُعَاوِيَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَقَعَ ذَلِكَ لَهُمَا مَعَهُ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْعُرْفِ مَحْفُوظٌ لِعُبَادَةَ، وَهُوَ الْأَصْلُ الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ فِي بَابِ" الرِّبَا". وَلَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ فِعْلَ مُعَاوِيَةَ فِي ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَغَيْرُ نَكِيرٍ أَنْ يَكُونَ مُعَاوِيَةُ خَفِيَ عَلَيْهِ مَا قَدْ عَلِمَهُ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةُ فَإِنَّهُمَا جَلِيلَانِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ وَكِبَارِهِمْ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا وُجِدَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ هُوَ دُونَهُمْ، فمعاوية أخرى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُ كَمَذْهَبِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَدْ كَانَ وَهُوَ بَحْرٌ فِي الْعِلْمِ لَا يَرَى الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ بَأْسًا حَتَّى صَرَفَهُ عَنْ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ. وَقِصَّةُ مُعَاوِيَةَ هَذِهِ مَعَ عُبَادَةَ كَانَتْ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ. قَالَ قَبِيصَةُ بْنُ ذُؤَيْبٍ: إِنَّ عُبَادَةَ أَنْكَرَ شَيْئًا عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: لَا أُسَاكِنُكَ بِأَرْضٍ أَنْتَ بِهَا وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَقْدَمَكَ؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى مَكَانِكَ، فَقَبَّحَ اللَّهُ أَرْضًا لَسْتَ فِيهَا وَلَا أَمْثَالُكَ! وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ" لَا إِمَارَةَ لَكَ عَلَيْهِ". الْخَامِسَةُ- رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنِهِمَا مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِوَرِقٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِذَهَبٍ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِذَهَبٍ فَلْيَصْرِفْهَا بِوَرِقٍ هَاءَ وَهَاءَ «2» ". قَالَ الْعُلَمَاءُ فَقَوْلُهُ
(1). هو حماد بن زيد أحد رجال هذا الحديث. [ ..... ]
(2)
. قال ابن الأثير:" هو أن يقول كل واحد من البيعين" ها" فيعطيه ما في يده، يعنى مقايضة في المجلس. وقيل معناه هاك وهات، أي خذ وأعط. قال الخطابي:" أصحاب الحديث رنه" ها وها" ساكنة الالف، والصواب مدها وفتحها، لان أصلها هاك، أي خذ فحذفت الكاف وعوضت منها المدة والهمزة، يقال للواحد هاء وللاثنين هاؤما وللجمع هاؤم. وغير الخطابي يجيز فيها السكون على حذف العوض وتنزله منزلة" ها" التي للتنبيه. وفيها لغات أخرى".
عَلَيْهِ السَّلَامُ:" الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا" إِشَارَةٌ إِلَى جِنْسِ الْأَصْلِ الْمَضْرُوبِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:" الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ" الْحَدِيثَ. وَالْفِضَّةُ الْبَيْضَاءُ وَالسَّوْدَاءُ وَالذَّهَبُ الْأَحْمَرُ وَالْأَصْفَرُ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ، عَلَى هَذَا جَمَاعَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَاخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْفُلُوسِ فَأَلْحَقَهَا بِالدَّرَاهِمِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْأَشْيَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ إِلْحَاقِهَا مَرَّةً مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا لَيْسَتْ ثَمَنًا فِي كُلِّ بَلَدٍ وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِهَا بَلَدٌ دُونَ بَلَدٍ. السَّادِسَةُ- لَا اعْتِبَارَ بِمَا قَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ عَنْ مَالِكٍ فِي التَّاجِرِ يَحْفِزُهُ الْخُرُوجُ وَبِهِ حَاجَةٌ إِلَى دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةٍ أَوْ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةٍ، فَيَأْتِي دَارَ الضَّرْبِ بِفِضَّتِهِ أَوْ ذَهَبِهِ فَيَقُولُ لِلضَّرَّابِ، خُذْ فِضَّتِي هَذِهِ أَوْ ذَهَبِي وَخُذْ قَدْرَ عَمَلِ يَدِكَ وَادْفَعْ إِلَيَّ دَنَانِيرَ مَضْرُوبَةً فِي ذَهَبِي أَوْ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً فِي فِضَّتِي هَذِهِ لِأَنِّي مَحْفُوزٌ لِلْخُرُوجِ وَأَخَافُ أَنْ يَفُوتَنِي مَنْ أَخْرُجُ مَعَهُ، أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ عَمِلَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي قَبَسِهِ عَنْ مَالِكٍ فِي غَيْرِ التَّاجِرِ، وَإِنَّ مَالِكًا خَفَّفَ فِي ذَلِكَ، فَيَكُونُ فِي الصُّورَةِ قَدْ بَاعَ فِضَّتَهُ الَّتِي زِنَتُهَا مِائَةٌ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَجْرُهُ بِمِائَةٍ وَهَذَا مَحْضُ الرِّبَا. وَالَّذِي أَوْجَبَ جَوَازَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: اضْرِبْ لِي هَذِهِ وَقَاطَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأُجْرَةٍ، فَلَمَّا ضَرَبَهَا قَبَضَهَا مِنْهُ وَأَعْطَاهُ أُجْرَتَهَا، فَالَّذِي فَعَلَ مَالِكٌ أَوَّلًا هُوَ الَّذِي يَكُونُ آخِرًا، وَمَالِكٌ إِنَّمَا نَظَرَ إِلَى الْمَالِ فَرَكَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْحَالِ، وَأَبَاهُ سَائِرُ الْفُقَهَاءِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْحُجَّةُ فِيهِ لِمَالِكٍ بَيِّنَةٌ. قَالَ أَبُو عُمَرَ رحمه الله: وَهَذَا هُوَ عَيْنُ الرِّبَا الَّذِي حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ:" مَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى". وَقَدْ رَدَّ ابْنُ وَهْبٍ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَالِكٍ وَأَنْكَرَهَا. وَزَعَمَ الْأَبْهَرِيُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الرِّفْقِ لِطَلَبِ التِّجَارَةِ وَلِئَلَّا يَفُوتَ السُّوقُ، وَلَيْسَ الرِّبَا إِلَّا عَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يُرْبِيَ مِمَّنْ يَقْصِدُ إِلَى ذَلِكَ وَيَبْتَغِيهِ. وَنَسِيَ الْأَبْهَرِيُّ أَصْلَهُ فِي قَطْعِ الذَّرَائِعِ، وَقَوْلِهِ
فِيمَنْ بَاعَ ثَوْبًا بِنَسِيئَةٍ وَهُوَ لَا نِيَّةَ لَهُ فِي شِرَائِهِ ثُمَّ يَجِدُهُ فِي السُّوقِ يُبَاعُ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ابْتِيَاعُهُ مِنْهُ بِدُونِ مَا بَاعَهُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَبْتَغِهِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا إِلَّا عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلَّا عَلَى الْفُقَهَاءِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: لَا يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إِلَّا مَنْ فَقِهَ وَإِلَّا أَكَلَ الرِّبَا. وَهَذَا بَيِّنٌ لِمَنْ رُزِقَ الْإِنْصَافَ وَأُلْهِمَ رُشْدَهُ. قُلْتُ: وَقَدْ بَالَغَ مَالِكٌ رحمه الله فِي مَنْعِ الزِّيَادَةِ حَتَّى جَعَلَ الْمُتَوَهَّمَ كَالْمُتَحَقَّقِ، فَمَنَعَ دِينَارًا وَدِرْهَمًا بِدِينَارٍ وَدِرْهَمٍ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَحَسْمًا لِلتَّوَهُّمَاتِ، إِذْ لَوْلَا تَوَهُّمُ الزِّيَادَةِ لَمَا تَبَادَلَا. وَقَدْ عُلِّلَ مَنْعُ ذَلِكَ بِتَعَذُّرِ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ التَّوْزِيعِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ بِذَهَبٍ. وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا مَنْعُهُ التَّفَاضُلَ الْمَعْنَوِيَّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَنَعَ دِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ الْعَالِي وَدِينَارًا مِنَ الذَّهَبِ الدُّونِ فِي مُقَابَلَةِ الْعَالِي وَأَلْغَى الدُّونَ، وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ نَظَرِهِ رحمه الله، فَدَلَّ أَنَّ تِلْكَ الرِّوَايَةَ عَنْهُ مُنْكَرَةٌ وَلَا تَصِحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّابِعَةُ- قَالَ الْخَطَّابِيَّ: التِّبْرُ قِطَعُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ قَبْلَ أَنْ تُضْرَبَ وَتُطْبَعَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ، وَاحِدَتُهَا تِبْرَةٌ. وَالْعَيْنُ: الْمَضْرُوبُ مِنَ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ. وَقَدْ حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبَاعَ مِثْقَالُ ذَهَبِ عَيْنٍ بمثقال وشئ مِنْ تِبْرٍ غَيْرِ مَضْرُوبٍ. وَكَذَلِكَ حَرَّمَ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَضْرُوبِ مِنَ الْفِضَّةِ وَغَيْرِ الْمَضْرُوبِ مِنْهَا، وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ:" تِبْرُهَا وَعَيْنُهَا سَوَاءٌ". الثَّامِنَةُ- أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلَا يَجُوزُ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي بَيْعِ التَّمْرَةِ الْوَاحِدَةِ بِالتَّمْرَتَيْنِ، وَالْحَبَّةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ الْقَمْحِ بِحَبَّتَيْنِ، فَمَنَعَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَالثَّوْرِيُّ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّ مَا جَرَى الرِّبَا فِيهِ بِالتَّفَاضُلِ فِي كَثِيرِهِ دَخَلَ قَلِيلُهُ فِي ذَلِكَ قِيَاسًا وَنَظَرًا. احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ بِأَنَّ مُسْتَهْلِكَ التَّمْرَةِ وَالتَّمْرَتَيْنِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ، قَالَ: لِأَنَّهُ لَا مَكِيلَ وَلَا مَوْزُونَ فَجَازَ فِيهِ التَّفَاضُلُ. التَّاسِعَةُ- اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ مَسَائِلَ هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ وَفُرُوعَهُ مُنْتَشِرَةٌ، وَالَّذِي يَرْبِطُ لَكَ ذَلِكَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
عِلَّةُ ذَلِكَ كَوْنُهُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا جِنْسًا، فَكُلُّ مَا يَدْخُلُهُ الْكَيْلُ أَوِ الْوَزْنُ عِنْدَهُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ بَيْعَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا أَوْ
نَسِيئًا لَا يَجُوزُ، فَمَنَعَ بَيْعَ التُّرَابِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا، لِأَنَّهُ يَدْخُلُهُ الْكَيْلُ، وَأَجَازَ الْخُبْزَ قُرْصًا بِقُرْصَيْنِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عِنْدَهُ فِي الْكَيْلِ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُ، فَخَرَجَ مِنَ الْجِنْسِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الرِّبَا إِلَى مَا عَدَاهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْعِلَّةُ كَوْنُهُ مَطْعُومًا جِنْسًا. هَذَا قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْخُبْزِ وَلَا بَيْعُ الْخُبْزِ بِالْخُبْزِ مُتَفَاضِلًا وَلَا نَسِيئًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ الْخُبْزُ خَمِيرًا أَوْ فَطِيرًا. وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ بَيْضَةٌ بِبَيْضَتَيْنِ، وَلَا رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَتَيْنِ، وَلَا بِطِّيخَةٌ بِبِطِّيخَتَيْنِ لَا يَدًا بِيَدٍ وَلَا نَسِيئَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ طَعَامٌ مَأْكُولٌ. وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: كَوْنُهُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا. وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَصْحَابِنَا الْمَالِكِيَّةِ فِي ذَلِكَ، وَأَحْسَنُ مَا فِي ذَلِكَ كَوْنُهُ مُقْتَاتًا مُدَّخَرًا لِلْعَيْشِ غَالِبًا جِنْسًا، كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا، وَمَا فِي مَعْنَاهَا كَالْأَرُزِ وَالذُّرَةِ وَالدُّخْنِ وَالسِّمْسِمِ، وَالْقَطَانِيِّ كَالْفُولِ وَالْعَدَسِ وَاللُّوبْيَاءِ وَالْحِمَّصِ، وَكَذَلِكَ اللُّحُومُ وَالْأَلْبَانُ وَالْخُلُولُ وَالزُّيُوتُ، وَالثِّمَارُ كَالْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالزَّيْتُونِ، وَاخْتُلِفَ فِي التِّينِ، وَيَلْحَقُ بِهَا الْعَسَلُ وَالسُّكَّرُ. فَهَذَا كُلُّهُ يَدْخُلُهُ الرِّبَا مِنْ جِهَةِ النَّسَاءِ. وَجَائِزٌ فِيهِ التَّفَاضُلُ لِقَوْلِهِ عليه السلام:" إِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ". وَلَا رِبَا فِي رَطْبِ الْفَوَاكِهِ الَّتِي لَا تَبْقَى كَالتُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ وَالْكُمَّثْرَى وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَالْبَاذَنْجَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخَضْرَاوَاتِ. قَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبِيضِ بِالْبِيضِ مُتَفَاضِلًا، لِأَنَّهُ مِمَّا يُدَّخَرُ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: جَائِزٌ بَيْضَةٌ بِبَيْضَتَيْنِ وَأَكْثَرَ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُدَّخَرُ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ. الْعَاشِرَةُ- اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي لَفْظِ" الرِّبَا" فَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي تَثْنِيَتِهِ: رِبَوَانِ، قَالَهُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَتَثْنِيَتُهُ بِالْيَاءِ، لِأَجْلِ الْكَسْرَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا رَأَيْتُ خَطَأً أَقْبَحَ مِنْ هَذَا وَلَا أَشْنَعَ! لَا يَكْفِيهِمُ الْخَطَأُ فِي الْخَطِّ حَتَّى يُخْطِئُوا فِي التَّثْنِيَةِ وَهُمْ يَقْرَءُونَ" وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ «1» " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: كُتِبَ" الرِّبا" فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ فَرْقًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزِّنَا، وَكَانَ الرِّبَا أَوْلَى مِنْهُ بِالْوَاوِ، لأنه من ربا يربو.
(1). راجع ج 14 ص 36.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ) الْجُمْلَةُ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ وَهُوَ" الَّذِينَ". وَالْمَعْنَى مِنْ قُبُورِهِمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُجْعَلُ مَعَهُ شَيْطَانٌ يَخْنُقُهُ. وَقَالُوا كُلُّهُمْ: يُبْعَثُ كَالْمَجْنُونِ عُقُوبَةً لَهُ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ. وَيُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا يَقُومُ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْآيَةِ فَكَانَتْ تَحْتَمِلُ تَشْبِيهَ حَالِ الْقَائِمِ بِحِرْصٍ وَجَشَعٍ إِلَى تِجَارَةِ الدُّنْيَا «1» بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ تَسْتَفِزُّهُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَعْضَاؤُهُ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ لِمُسْرِعٍ فِي مَشْيِهِ يَخْلِطُ فِي هَيْئَةِ حَرَكَاتِهِ إِمَّا مِنْ فَزَعٍ أَوْ غَيْرِهِ: قَدْ جُنَّ هَذَا! وَقَدْ شَبَّهَ الْأَعْشَى نَاقَتَهُ فِي نَشَاطِهَا بِالْجُنُونِ فِي قَوْلِهِ:
وَتُصْبِحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى وَكَأَنَّمَا
…
أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ «2»
وَقَالَ آخَرُ:
لَعَمْرُكَ بِي مِنْ حُبِّ أَسْمَاءَ أَوْلَقُ
لَكِنْ مَا جَاءَتْ بِهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَتَظَاهَرَتْ بِهِ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ يُضَعِّفُ هَذَا التَّأْوِيلَ. و" يَتَخَبَّطُهُ" يَتَفَعَّلُهُ مِنْ خَبَطَ يَخْبِطُ، كَمَا تَقُولُ: تَمَلَّكَهُ وَتَعَبَّدَهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْعَلَامَةَ لِأَكَلَةِ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرْبَاهُ فِي بُطُونِهِمْ فَأَثْقَلَهُمْ، فَهُمْ إِذَا خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ يَقُومُونَ وَيَسْقُطُونَ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَدِ انْتَفَخَتْ بُطُونُهُمْ كَالْحُبَالَى، وَكُلَّمَا قَامُوا سَقَطُوا وَالنَّاسُ يَمْشُونَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا ذَلِكَ شِعَارٌ لَهُمْ يُعْرَفُونَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ الْعَذَابُ من وراء ذلك، كما أن الغال يجئ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشُهْرَةٍ يُشْهَرُ بِهَا ثُمَّ الْعَذَابُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. وَقَالَ تَعَالَى:" يَأْكُلُونَ" وَالْمُرَادُ يَكْسِبُونَ الرِّبَا وَيَفْعَلُونَهُ. وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَكْلَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَقْوَى مَقَاصِدِ الْإِنْسَانِ فِي الْمَالِ، وَلِأَنَّهُ دَالٌّ عَلَى الْجَشَعِ وَهُوَ أَشَدُّ الْحِرْصِ، يُقَالُ: رَجُلٌ جَشِعٌ بَيِّنُ الْجَشَعِ وَقَوْمٌ جَشِعُونَ، قَالَهُ فِي الْمُجْمَلِ. فَأُقِيمَ هَذَا الْبَعْضُ مِنْ تَوَابِعِ الْكَسْبِ مَقَامَ الْكَسْبِ كُلِّهِ، فَاللِّبَاسُ وَالسُّكْنَى وَالِادِّخَارُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَى الْعِيَالِ، دَاخِلٌ فِي قوله:" الَّذِينَ يَأْكُلُونَ".
(1). في ابن عطية: تجارة الربا. الاولق: شبه الجنون.
(2)
. في ابن عطية: تجارة الربا. الاولق: شبه الجنون.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ إِنْكَارِ مَنْ أَنْكَرَ الصَّرْعَ مِنْ جِهَةِ الْجِنِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الطَّبَائِعِ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْلُكُ فِي الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ مَسٌّ، وَقَدْ مَضَى الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي الْيَسَرِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو فَيَقُولُ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي وَالْهَدْمِ وَالْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا". وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَسَيِّئِ الْأَسْقَامِ". وَالْمَسُّ: الْجُنُونُ، يُقَالُ: مُسَّ الرَّجُلُ وَأَلِسَ، فَهُوَ مَمْسُوسٌ وَمَأْلُوسٌ إِذَا كَانَ مَجْنُونًا، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الرِّبَا فِي الْآخِرَةِ. وَرُوِيَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ:" فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ فَمَرَرْتُ بِرِجَالٍ كَثِيرٍ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَطْنُهُ مِثْلُ الْبَيْتِ الضَّخْمِ مُتَصَدِّينَ عَلَى سَابِلَةِ آلِ فِرْعَوْنَ وَآلُ فِرْعَوْنَ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَيُقْبِلُونَ مِثْلَ الْإِبِلِ الْمَهْيُومَةِ «1» يَتَخَبَّطُونَ الْحِجَارَةَ وَالشَّجَرَ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَعْقِلُونَ فَإِذَا أَحَسَّ بِهِمْ أَصْحَابُ تِلْكَ الْبُطُونِ قَامُوا فَتَمِيلُ بِهِمْ بُطُونُهُمْ فَيُصْرَعُونَ ثُمَّ يَقُومُ أَحَدُهُمْ فَيَمِيلُ بِهِ بَطْنُهُ فَيُصْرَعُ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ بَرَاحًا حَتَّى يَغْشَاهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ فَيَطَئُونَهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ فَذَلِكَ عَذَابُهُمْ فِي الْبَرْزَخِ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَآلُ فِرْعَوْنَ يَقُولُونَ اللَّهُمَّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ أَبَدًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:" وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ «2» "- قُلْتُ- يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ:" هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ". وَالْمَسُّ الْجُنُونُ وَكَذَلِكَ الاولق والألس والرود «3». الثالثة عشرة- قوله تعالى: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) مَعْنَاهُ عِنْدَ جَمِيعِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِي الْكُفَّارِ، وَلَهُمْ قِيلَ:" فَلَهُ مَا سَلَفَ" وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ لمؤمن عاص بل ينقض بيعه
(1). المهيوم: المصاب بداء الهيام، وهو داء يصيب الإبل من ماء تشربه مستنقعا فتهيم في الأرض لا ترعى. وقيل: هو داء يصيبها فتعطش فلا تروى: وقيل: داء من شدة العطش.
(2)
. راجع ج 15 ص 318.
(3)
. كذا في الأصول وابن عطية ولم يبدلها وجه اللهم إلا ما ورد: إن الشيطان يريد ابن آدم بكل ريدة، أي بكل مطلب ومراد، والريدة اسم من الإرادة. النهاية.
وَيُرَدُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، فَلِذَلِكَ قَالَ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ". لَكِنْ قَدْ يَأْخُذُ الْعُصَاةُ فِي الرِّبَا بِطَرَفٍ مِنْ وَعِيدِ هذه الآية. الرابعة عشرة- قوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) أَيْ إِنَّمَا الزِّيَادَةُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ آخِرًا كَمَثَلِ أَصْلِ الثَّمَنِ فِي أَوَّلِ الْعَقْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ رِبًا إِلَّا ذَلِكَ، فَكَانَتْ إِذَا حَلَّ دَيْنُهَا قَالَتْ لِلْغَرِيمِ: إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ، أَيْ تَزِيدُ فِي الدَّيْنِ. فَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ بِقَوْلِهِ الْحَقِّ:" وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا" وَأَوْضَحَ أَنَّ الْأَجَلَ إِذَا حَلَّ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُؤَدِّي أُنْظِرَ إِلَى الْمَيْسَرَةِ. وَهَذَا الرِّبَا هُوَ الَّذِي نَسَخَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ لَمَّا قَالَ:" أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَإِنَّ أَوَّلَ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ". فَبَدَأَ صلى الله عليه وسلم بِعَمِّهِ وَأَخَصِّ النَّاسِ بِهِ. وَهَذَا مِنْ سُنَنِ الْعَدْلِ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفِيضَ الْعَدْلَ عَلَى نَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ فَيَسْتَفِيضُ حِينَئِذٍ فِي النَّاسِ. الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) هَذَا مِنْ عُمُومِ الْقُرْآنِ، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ إِذْ لَمْ يَتَقَدَّمْ بَيْعٌ مَذْكُورٌ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:" وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ" ثُمَّ اسْتَثْنَى" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» ". وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْبَيْعَ عَامٌّ فَهُوَ مُخَصَّصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرِّبَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَمُنِعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ، كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ «2» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ فِي السُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ النَّهْيُ عَنْهُ. وَنَظِيرُهُ" فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «3» " وَسَائِرُ الظَّوَاهِرِ الَّتِي تَقْتَضِي الْعُمُومَاتِ وَيَدْخُلُهَا التَّخْصِيصُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أكثر الفقهاء. وقال بعضهم: هو مُجْمَلِ الْقُرْآنِ الَّذِي فَسَّرَ بِالْمُحَلَّلِ مِنَ الْبَيْعِ وَبِالْمُحَرَّمِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي إِحْلَالِ الْبَيْعِ وَتَحْرِيمِهِ إِلَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ بَيَانٌ مِنْ سُنَّةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ دَلَّ عَلَى إِبَاحَةِ الْبُيُوعِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ. وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الْعُمُومِ والمجمل.
(1). راجع ج 20 ص 178.
(2)
. الحبل (بالتحريك) مصدر سمى به المحمول كما سمى بالحمل، وإنما دخلت عليه التاء للاشعار بمعنى الأنوثة فيه، فالحبل الأول يراد به ما في بطون النوق من الحمل، والثاني حبل ما في بطون النوق، وإنما نهى عنه لمعنيين: أحدهما أنه غرر، وبيع شي لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج الناتج. وقيل أراد بحبل الحبلة أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة، فهو أجل مجهول ولا يصح (عن نهاية ابن الأثير).
(3)
. راجع ج 8 ص 71
فَالْعُمُومُ يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَةِ الْبُيُوعِ فِي الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلُ مَا لَمْ يُخَصَّ بِدَلِيلٍ وَالْمُجْمَلُ لَا يَدُلُّ عَلَى إِبَاحَتِهَا فِي التَّفْصِيلِ حَتَّى يَقْتَرِنَ بِهِ بَيَانٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةَ عَشْرَةَ- الْبَيْعُ فِي اللُّغَةِ مَصْدَرُ بَاعَ كَذَا بِكَذَا، أَيْ دَفَعَ عِوَضًا وَأَخَذَ مُعَوَّضًا. وَهُوَ يَقْتَضِي بَائِعًا وَهُوَ الْمَالِكُ أَوْ مَنْ يُنَزَّلُ مَنْزِلَتَهُ، وَمُبْتَاعًا وَهُوَ الَّذِي يَبْذُلُ الثَّمَنَ، وَمَبِيعًا وَهُوَ الْمَثْمُونُ وَهُوَ الَّذِي يُبْذَلُ فِي مُقَابَلَتِهِ الثَّمَنُ. وَعَلَى هَذَا فَأَرْكَانُ الْبَيْعِ أَرْبَعَةٌ: الْبَائِعُ وَالْمُبْتَاعُ وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ. ثُمَّ الْمُعَاوَضَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَا يُضَافُ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الْمُعَوَّضَيْنِ فِي مُقَابَلَةِ الرَّقَبَةِ سُمِّيَ بَيْعًا، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ رَقَبَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةَ بُضْعٍ سُمِّيَ نِكَاحًا، وَإِنْ كَانَتْ مَنْفَعَةَ غَيْرِهَا سُمِّيَ إِجَارَةً، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا بِعَيْنٍ فَهُوَ بَيْعُ النَّقْدِ وَهُوَ الصَّرْفُ، وَإِنْ كَانَ بِدَيْنٍ مُؤَجَّلٍ فَهُوَ السَّلَمُ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَةِ الدَّيْنِ «1» . وَقَدْ مَضَى حُكْمُ الصَّرْفِ، وَيَأْتِي حُكْمُ الْإِجَارَةِ فِي" الْقَصَصِ «2» " وَحُكْمُ الْمَهْرِ فِي النِّكَاحِ فِي" النِّسَاءِ «3» " كُلٌّ فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- الْبَيْعُ قَبُولٌ وَإِيجَابٌ يَقَعُ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمَاضِي، فَالْمَاضِي فِيهِ حَقِيقَةٌ وَالْمُسْتَقْبَلُ كِنَايَةٌ، وَيَقَعُ بِالصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ الْمَفْهُومِ مِنْهَا نَقْلُ الْمِلْكِ. فَسَوَاءٌ قَالَ: بِعْتُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِعَشَرَةٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُهَا، أَوْ قَالَ الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُهَا وَقَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَهَا، أَوْ قَالَ الْبَائِعُ: أَنَا أَبِيعُكَ بِعَشَرَةٍ فَقَالَ الْمُشْتَرِيَ: أَنَا أَشْتَرِي أَوْ قَدِ اشْتَرَيْتُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: خُذْهَا بِعَشَرَةٍ أَوْ أَعْطَيْتُكَهَا أَوْ دُونَكَهَا أَوْ بُورِكَ لَكَ فِيهَا بِعَشَرَةٍ أَوْ سَلَّمْتُهَا إِلَيْكَ- وَهُمَا يُرِيدَانِ الْبَيْعَ- فَذَلِكَ كُلُّهُ بَيْعٌ لَازِمٌ. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: بِعْتُكَ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبَلَ الْمُشْتَرِي فَقَدْ قَالَ «4» : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ حَتَّى يَسْمَعَ قَبُولَ الْمُشْتَرِي أَوْ رَدَّهُ، لِأَنَّهُ قَدْ بَذَلَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهَا، وَقَدْ قَالَ ذَلِكَ لَهُ، لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتِمَّ عَلَيْهِ. وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ: كُنْتُ لَاعِبًا، فَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ، فَقَالَ مَرَّةً: يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى قَوْلِهِ. وَقَالَ مَرَّةً: يُنْظَرُ إِلَى قِيمَةِ السلعة.
(1). راجع ص 376 من هذا الجزء.
(2)
. راجع ج 13 ص 72 فما بعد.
(3)
. راجع ج 5 ص 23 وص 99.
(4)
. قوله فقد قال، يعنى مالكا كما يأتي قوله: فقد اختلفت الرواية عنه إلخ. [ ..... ]
فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ يُشْبِهُ قِيمَتَهَا فَالْبَيْعُ لَازِمٌ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَاوِتًا كَعَبْدٍ بِدِرْهَمٍ وَدَارٍ بِدِينَارٍ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْبَيْعَ، وَإِنَّمَا كَانَ هَازِلًا فَلَمْ يَلْزَمْهُ. الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَحَرَّمَ الرِّبا) الْأَلِفُ وَاللَّامُ هُنَا لِلْعَهْدِ، وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ، ثُمَّ تَتَنَاوَلُ مَا حَرَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَهَى عَنْهُ مِنَ الْبَيْعِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الرِّبَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْبُيُوعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ- عَقْدُ الرِّبَا مَفْسُوخٌ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، لِمَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ «1» فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" مِنْ أَيْنَ هَذَا"؟ فَقَالَ بِلَالٌ: مِنْ تَمْرٍ كَانَ عِنْدَنَا ردئ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ ذَلِكَ:" أَوْهِ «2» عَيْنُ الرِّبَا لَا تَفْعَلْ وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ" وَفِي رِوَايَةٍ" هَذَا الرِّبَا فَرُدُّوهُ ثُمَّ بِيعُوا تَمْرَنَا وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هَذَا". قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَقَوْلُهُ:" أَوْهِ عَيْنُ الرِّبَا" أَيْ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ لَا مَا يُشْبِهُهُ. وَقَوْلُهُ:" فَرُدُّوهُ" يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ صَفْقَةِ الرِّبَا وَأَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِوَجْهٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ يَقُولُ: إِنَّ بَيْعَ الرِّبَا جَائِزٌ بِأَصْلِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَيْعٌ، مَمْنُوعٌ بِوَصْفِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ رِبًا، فَيَسْقُطُ الرِّبَا وَيَصِحُّ الْبَيْعُ. وَلَوْ كَانَ عَلَى مَا ذُكِرَ لَمَا فَسَخَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الصَّفْقَةَ، وَلَأَمَرَهُ بِرَدِّ الزِّيَادَةِ عَلَى الصَّاعِ وَلَصَحَّحَ الصَّفْقَةَ فِي مُقَابَلَةِ الصَّاعِ. الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ- كُلُّ مَا كَانَ مِنْ حَرَامٍ بَيِّنٍ فَفُسِخَ فَعَلَى الْمُبْتَاعِ رَدُّ السِّلْعَةِ بِعَيْنِهَا. فَإِنْ تَلِفَتْ بِيَدِهِ رَدَّ الْقِيمَةَ فِيمَا لَهُ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ كَالْعَقَارِ وَالْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ، وَالْمِثْلَ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ مَوْزُونٍ أَوْ مَكِيلٍ مِنْ طَعَامٍ أَوْ عَرَضٍ. قَالَ مَالِكٌ: يُرَدُّ الْحَرَامُ الْبَيِّنُ فَاتَ أَوْ لَمْ يَفُتْ، وَمَا كَانَ مِمَّا كَرِهَ النَّاسُ رُدَّ إِلَّا أَنْ يَفُوتَ فَيُتْرَكُ.
(1). البرني (بفتح الموحدة وسكون الراء في آخره ياء مشددة): ضرب من التمر أحمر بصفرة كثير اللحاء (وهو ما كسا النواة) عذب الحلاوة.
(2)
. تراجع هامشه 3 ص 236 من هذا الجزء.
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: حَرَّمَ اللَّهُ الرِّبَا لِيَتَقَارَضَ النَّاسُ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" قَرْضُ مَرَّتَيْنِ يَعْدِلُ صَدَقَةَ مَرَّةٍ" أَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: حَرَّمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ مَتْلَفَةٌ لِلْأَمْوَالِ مَهْلَكَةٌ لِلنَّاسِ. وَسَقَطَتْ عَلَامَةُ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَمَنْ جاءَهُ" لِأَنَّ تَأْنِيثَ" الْمَوْعِظَةِ" غَيْرُ حَقِيقِيٍّ وَهُوَ بِمَعْنَى وَعْظٍ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" فَمَنْ جَاءَتْهُ" بِإِثْبَاتِ الْعَلَامَةِ. هَذِهِ الْآيَةُ تَلَتْهَا عَائِشَةُ لَمَّا أُخْبِرَتْ بِفِعْلِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ. رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْعَالِيَةِ بِنْتِ أَنْفَعَ قَالَتْ: خَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مُحِبَّةَ إِلَى مَكَّةَ فَدَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَسَلَّمْنَا عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَنَا: مِمَّنْ أَنْتُنَّ؟ قُلْنَا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، قَالَتْ: فَكَأَنَّهَا أَعْرَضَتْ عَنَّا، فَقَالَتْ لَهَا أُمُّ مُحِبَّةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ! كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ وَإِنِّي بِعْتُهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ الْأَنْصَارِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ إِلَى عَطَائِهِ وَإِنَّهُ أَرَادَ بَيْعَهَا فَابْتَعْتُهَا مِنْهُ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ نَقْدًا. قَالَتْ: فَأَقْبَلَتْ عَلَيْنَا فَقَالَتْ: بِئْسَمَا شَرَيْتِ وَمَا اشْتَرَيْتِ! فَأَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَنْ يَتُوبَ. فَقَالَتْ لَهَا: أَرَأَيْتِ إِنْ لَمْ آخُذْ مِنْهُ إِلَّا رَأْسَ مَالِي؟ قَالَتْ:" فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ". الْعَالِيَةُ هِيَ زَوْجُ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ الْكُوفِيِّ السَّبِيعِيِّ أُمُّ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْهَا مَا يُؤَدِّي إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَحْظُورِ مُنِعَ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ بَيْعًا جَائِزًا. وَخَالَفَ مَالِكًا فِي هَذَا الْأَصْلِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَقَالُوا: الْأَحْكَامُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّاهِرِ لَا عَلَى الظُّنُونِ. وَدَلِيلُنَا الْقَوْلُ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، فَإِنْ سَلِمَ وَإِلَّا اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّتِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ نَصٌّ، وَلَا تَقُولُ عَائِشَةُ" أَبْلِغِي زَيْدًا أَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ" إِلَّا بِتَوْقِيفٍ، إِذْ مِثْلُهُ لَا يُقَالُ بِالرَّأْيِ فَإِنَّ إِبْطَالَ الْأَعْمَالِ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا إِلَّا بِالْوَحْيِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٌ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول:" إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى
حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوقَعَ فِيهِ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ «1» ". وَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ مَنَعَ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُتَشَابِهَاتِ مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي الْمُحَرَّمَاتِ وَذَلِكَ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمَ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ" قَالُوا: وَكَيْفَ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ:" يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ". فَجَعَلَ التَّعْرِيضَ لِسَبِّ الْآبَاءِ كَسَبِ الْآبَاءِ. ولعن صلى الله عليه وسلم اليهود إذا أَكَلُوا ثَمَنَ مَا نُهُوا عَنْ أَكْلِهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي كِتَابِهِ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ. وَنَهَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بَيْنَهُمَا جَرِيرَةٌ «2». وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ الْجَمْعِ بَيْنَ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَلَى تَحْرِيمِ قَلِيلِ الْخَمْرِ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْكِرُ، وَعَلَى تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَإِنْ كَانَ عِنِّينًا، وَعَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الشَّابَّةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ وَيُعْلَمُ عَلَى الْقَطْعِ وَالثَّبَاتِ أَنَّ الشَّرْعَ حَكَمَ فِيهَا بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهَا ذَرَائِعُ الْمُحَرَّمَاتِ. وَالرِّبَا أَحَقُّ مَا حُمِيَتْ مَرَاتِعُهُ وَسُدَّتْ طَرَائِقُهُ، وَمَنْ أَبَاحَ هَذِهِ الْأَسْبَابَ فَلْيُبِحْ حَفْرَ الْبِئْرِ وَنَصْبَ الْحِبَالَاتِ لِهَلَاكِ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ. وَأَيْضًا فَقَدِ اتَّفَقْنَا عَلَى مَنْعِ مَنْ بَاعَ بِالْعِينَةِ إِذَا عُرِفَ بِذَلِكَ وَكَانَتْ عَادَتُهُ، وَهِيَ فِي مَعْنَى هَذَا الْبَابِ. وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ. الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ- رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ عَنْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ". فِي إِسْنَادِهِ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْخُرَاسَانِيُّ. لَيْسَ بِمَشْهُورٍ «3» . وَفَسَّرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْهَرَوِيُّ الْعِينَةَ فَقَالَ: هِيَ أَنْ يَبِيعَ مِنْ رَجُلٍ سِلْعَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْهُ بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ. قَالَ: فَإِنِ اشْتَرَى بِحَضْرَةِ طَالِبِ الْعِينَةِ سِلْعَةً مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ بَاعَهَا مِنْ طَالِبِ الْعِينَةِ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِمَّا اشْتَرَاهُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، ثُمَّ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِالنَّقْدِ بِأَقَلَّ من الثمن
(1). الحديث أثبتناه كما في صحيح مسلم طبع الآستانة ص 50 ج 5. وفى ب وهـ وج: يوشك أن يواقعه.
(2)
. كذا في هـ وا وفي ح وب وج: حريره، والذي يبدو أن المعنى: دراهم بدراهم معها شي قد يكون فيه تفاضل، ولعل الأصل: بينهما جديدة. أي بينهما تفاضل لما بين الجديد والقديم منها من الفرق.
(3)
. في اعلى الهامش: في إسناده أبو عبد الرحمن الخراساني اسمه إسحاق بن أسيد نزيل مصر لا يحتج به، فيه أيضا عطاء الخراساني، وفية: فقال لهم لم يذكره الشيخ رضي الله عنه ليس بمشهور.
فَهَذِهِ أَيْضًا عِينَةٌ، وَهِيَ أَهْوَنُ مِنَ الْأُولَى، وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ بَعْضِهِمْ. وَسُمِّيَتْ عِينَةً لِحُضُورِ «1» النَّقْدِ لِصَاحِبِ الْعِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَيْنَ هُوَ الْمَالُ الْحَاضِرُ وَالْمُشْتَرِي إِنَّمَا يَشْتَرِيهَا لِيَبِيعَهَا بِعَيْنٍ حَاضِرٍ يَصِلُ إِلَيْهِ مِنْ فَوْرِهِ. الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فَمَنْ بَاعَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِثَمَنٍ مِنْ جِنْسِ الثَّمَنِ الَّذِي بَاعَهَا بِهِ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ بِنَقْدٍ، أَوْ إِلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ الَّذِي بَاعَهَا إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى أَبْعَدَ مِنْهُ، بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ بِأَقَلَّ مِنْهُ أَوْ بِأَكْثَرَ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: وَأَمَّا الْأُولَى وَالثَّانِيَةُ فَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ، وَلَا يَجُوزُ بِأَقَلَّ عَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ عَائِشَةَ، لِأَنَّهُ أَعْطَى سِتَّمِائَةٍ لِيَأْخُذَ ثَمَانَمِائَةٍ وَالسِّلْعَةُ لَغْوٌ، وَهَذَا هُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الثَّالِثَةُ إِلَى أَبْعَدَ مِنَ الْأَجَلِ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا وَحْدَهَا أَوْ زِيَادَةً فَيَجُوزُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ بِأَكْثَرَ، فَإِنِ اشْتَرَى بَعْضَهَا فَلَا يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ لَا بِمِثْلِ الثَّمَنِ وَلَا بِأَقَلَّ وَلَا بِأَكْثَرَ. وَمَسَائِلُ هَذَا الْبَابِ حَصَرَهَا عُلَمَاؤُنَا فِي سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً، وَمَدَارُهَا على ما ذكرناه، فاعلم. الرابعة والعشرون- قوله تعالى:(فَلَهُ مَا سَلَفَ) أَيْ مِنْ أَمْرِ الرِّبَا لَا تِبَاعَةَ عَلَيْهِ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ. وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَمَنْ كَانَ يَتَّجِرُ هُنَالِكَ. وَسَلَفَ: مَعْنَاهُ تَقَدَّمَ فِي الزَّمَنِ وَانْقَضَى. الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ) فِيهِ أَرْبَعُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى الرِّبَا، بِمَعْنَى وَأَمْرُ الرِّبَا إِلَى اللَّهِ فِي إِمْرَارِ تَحْرِيمِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى" مَا سَلَفَ" أَيْ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَإِسْقَاطِ التَّبِعَةِ فِيهِ. وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى ذِي الرِّبَا، بِمَعْنَى أَمْرِهِ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يُثْبِتَهُ عَلَى الِانْتِهَاءِ أَوْ يُعِيدَهُ «2» إِلَى الْمَعْصِيَةِ فِي الرِّبَا. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ بَيِّنٌ، أَيْ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِنْ شَاءَ ثَبَّتَهُ عَلَى التَّحْرِيمِ وَإِنْ شَاءَ أَبَاحَهُ. وَالرَّابِعُ أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمُنْتَهَى، وَلَكِنْ بِمَعْنَى التَّأْنِيسِ لَهُ وَبَسْطِ أَمَلِهِ فِي الْخَيْرِ، كَمَا تَقُولُ: وَأَمْرُهُ إِلَى طَاعَةٍ وَخَيْرٍ، وَكَمَا تَقُولُ: وَأَمْرُهُ فِي نُمُوٍّ وَإِقْبَالٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وإلى طاعته.
(1). في هـ وب وح: لحصول.
(2)
. كذا في ابن عطية وهـ وب وج، وفي ح وا: أمره إلى الله في أن يثيبه
…
أو يعذبه على المعصية في الربا.
السادسة والعشرون- قوله تعالى: (وَمَنْ عادَ) يَعْنِي إِلَى فِعْلِ الرِّبَا حَتَّى يَمُوتَ، قَالَهُ سُفْيَانُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْ عَادَ فَقَالَ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فَقَدْ كَفَرَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنْ قَدَّرْنَا الْآيَةَ فِي كَافِرٍ فَالْخُلُودُ خُلُودُ تَأْبِيدٍ حَقِيقِيٍّ، وَإِنْ لَحَظْنَاهَا فِي مُسْلِمٍ عَاصٍ فَهَذَا خُلُودٌ مُسْتَعَارٌ عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مُلْكٌ خَالِدٌ، عِبَارَةً عَنْ دَوَامِ مَا لَا يَبْقَى عَلَى التَّأْبِيدِ الْحَقِيقِيِّ: السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا) يَعْنِي فِي الدُّنْيَا أَيْ يُذْهِبُ بَرَكَتَهُ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا. رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" إِنَّ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَعَاقِبَتُهُ إِلَى قُلٍّ". وَقِيلَ:" يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا" يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا" قَالَ: لَا يَقْبَلُ مِنْهُ صَدَقَةً وَلَا حَجًّا وَلَا جِهَادًا وَلَا صِلَةً. وَالْمَحْقُ: النَّقْصُ وَالذَّهَابُ، وَمِنْهُ مُحَاقُ الْقَمَرِ وَهُوَ انْتِقَاصُهُ. (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) أَيْ يُنَمِّيهَا فِي الدُّنْيَا بِالْبَرَكَةِ وَيُكْثِرُ ثَوَابَهَا بِالتَّضْعِيفِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «1»:" إِنَّ صَدَقَةَ أَحَدِكُمْ لَتَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فلوه أو فصيله حتى يجئ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّ اللُّقْمَةَ لَعَلَى قَدْرِ أُحُدٍ". وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ" يُمَحِّقُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مُشَدَّدَةً" يُرَبِّي" بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْبَاءِ، وَرُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَذَلِكَ. الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) وَوَصْفُ كَفَّارٍ بِأَثِيمٍ مُبَالَغَةٌ، مِنْ حَيْثُ اخْتَلَفَ اللَّفْظَانِ. وَقِيلَ: لِإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ فِي كَفَّارٍ، إِذْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الزَّارِعِ الَّذِي يَسْتُرُ الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ: قَالَهُ ابْنُ فَوْرَكٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ). وَخَصَّ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ بِالذِّكْرِ وَقَدْ تَضَمَّنَهَا عَمَلُ الصَّالِحَاتِ تَشْرِيفًا لَهُمَا وَتَنْبِيهًا عَلَى قَدْرِهِمَا إِذْ هُمَا رَأْسُ الْأَعْمَالِ، الصَّلَاةُ فِي أَعْمَالِ الْبَدَنِ، وَالزَّكَاةُ فِي أَعْمَالِ الْمَالِ. التاسعة وَالْعِشْرُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ أَبْطَلَ مِنَ الرِّبَا مَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَإِنْ كَانَ معقودا قبل
(1). كذا في ج، وفي سائر الأصول: في صحيح الحديث.
نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ وَلَا يُتَعَقَّبُ بِالْفَسْخِ مَا كَانَ مَقْبُوضًا. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِسَبَبِ ثَقِيفٍ، وَكَانُوا عَاهَدُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ مالهم مِنَ الرِّبَا عَلَى النَّاسِ فَهُوَ لَهُمْ، وَمَا لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ آجَالُ رِبَاهُمْ بَعَثُوا إِلَى مَكَّةَ لِلِاقْتِضَاءِ، وكانت الديون لبنى عبد ة وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، وَكَانَتْ عَلَى بَنِي الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّينَ. فَقَالَ بَنُو الْمُغِيرَةِ: لَا نُعْطِي شَيْئًا فَإِنَّ الرِّبَا قَدْ رُفِعَ وَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، فَكَتَبَ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَنَزَلَتِ الْآيَةُ فَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَتَّابٍ، فَعَلِمَتْ بِهَا ثَقِيفُ فَكَفَّتْ. هَذَا سَبَبُ الْآيَةِ عَلَى اخْتِصَارِ مَجْمُوعِ مَا رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ. وَالْمَعْنَى اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَذَابِ اللَّهِ وِقَايَةً بِتَرْكِكُمْ مَا بَقِيَ لَكُمْ مِنَ الرِّبَا وَصَفْحِكُمْ عَنْهُ. الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شَرْطٌ مَحْضٌ فِي ثَقِيفٍ عَلَى بَابِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ. وَإِذَا قَدَّرْنَا الْآيَةَ فِيمَنْ قَدْ تَقَرَّرَ إِيمَانُهُ فَهُوَ شَرْطٌ مَجَازِيٌّ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تُرِيدُ إِقَامَةَ «1» نَفْسِهِ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا. وَحَكَى النَّقَّاشُ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ" إِنْ" فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى" إِذْ". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَرْدُودٌ لَا يُعْرَفُ فِي اللُّغَةِ. وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عليه السلام مِنَ الْأَنْبِيَاءِ" ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم! إِذْ لَا يَنْفَعُ الْأَوَّلُ إِلَّا بِهَذَا. وَهَذَا مَرْدُودٌ بِمَا روى في سبب الآية. الحادية والثلاثون- قوله تعالى: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) هَذَا وَعِيدٌ إِنْ لَمْ يَذَرُوا الرِّبَا، وَالْحَرْبُ دَاعِيَةُ الْقَتْلِ. وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِآكِلِ الرِّبَا: خُذْ سِلَاحَكَ لِلْحَرْبِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: مَنْ كَانَ مُقِيمًا عَلَى الرِّبَا لَا يَنْزِعُ عَنْهُ فَحَقَّ على إمام المسلمين أن يستثيبه، فَإِنْ نَزَعَ وَإِلَّا ضَرَبَ عُنُقَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَوْعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الرِّبَا بِالْقَتْلِ فَجَعَلَهُمْ بَهْرَجًا «2» أَيْنَمَا ثُقِفُوا «3» . وَقِيلَ: الْمَعْنَى إِنْ لَمْ تَنْتَهُوا فأنتم حرب لله ولرسوله، أي
(1). أي إثارة نفسه.
(2)
. البهرج: الشيء المباح.
(3)
. ثقفه: أخذه أو ظفر به أو صادفه.
أعداء. وقال ابن خويز منداد: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ بَلَدٍ اصْطَلَحُوا عَلَى الرِّبَا اسْتِحْلَالًا كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَالْحُكْمُ فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمُ اسْتِحْلَالًا جَازَ لِلْإِمَامِ مُحَارَبَتُهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ:" فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ" فَآذِنُوا، عَلَى مَعْنَى فَأَعْلِمُوا غَيْرَكُمْ أَنَّكُمْ عَلَى حَرْبِهِمْ. الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ- ذَكَرَ ابْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا سَكْرَانًا يَتَعَاقَرُ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَمَرَ، فَقُلْتُ: امْرَأَتِي طَالِقٌ إِنْ كَانَ يَدْخُلُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ أَشَرُّ مِنَ الْخَمْرِ. فَقَالَ: ارْجِعْ حَتَّى أَنْظُرَ فِي مَسْأَلَتِكَ. فَأَتَاهُ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ حَتَّى أَنْظُرَ فِي مَسْأَلَتِكَ فَأَتَاهُ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ: امْرَأَتُكَ طَالِقٌ، إِنِّي تَصَفَّحْتُ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا أَشَرَّ «1» مِنَ الرِّبَا، لِأَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِيهِ بِالْحَرْبِ. الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ- دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَكْلَ الرِّبَا وَالْعَمَلَ بِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَلَا خِلَافَ فِي ذلك على نُبَيِّنُهُ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا أَكَلَ الرِّبَا وَمَنْ لَمْ يَأْكُلِ الرِّبَا أَصَابَهُ غُبَارُهُ" وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عن عبد الله ابن حَنْظَلَةَ «2» غِسِّيلِ الْمَلَائِكَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:" لَدِرْهَمُ رِبًا أَشَدُّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً فِي الْخَطِيئَةِ" وَرُوِيَ عَنْهُ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ:" الرِّبَا تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ بَابًا أَدْنَاهَا كَإِتْيَانِ الرَّجُلِ بِأُمِّهِ" يَعْنِي الزِّنَا بِأُمِّهِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ آكِلُ الرِّبَا وَمُوَكِّلُهُ وَكَاتِبُهُ وَشَاهِدُهُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ «3» وَثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الْبَغِيِّ وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالْمُصَوِّرَ «4» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
(1). في ج وهـ وب: أشد.
(2)
. في الاستيعاب أن حنظلة الغسيل قتل يوم أحد شهيدا قتله أبو سفيان. كلن قد ألم بأهله في حين خروجه إلى أحد ثم هجم عليه من الخروج في النفير ما أنساه الغسل وأعجله عنه، فلما قتل شهيدا أَخْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الملائكة غسلته.
(3)
. أي أجرة إلجامه، وأطلق عليه الثمن تجوزا. [ ..... ]
(4)
. اعتمدنا الحديث كما في صحيح البخاري راجع العسقلاني ج 10 ص 220.
قَالَ:" اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ
…
- وَفِيهَا- وَآكِلَ الرِّبَا". وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا وَمُوَكِّلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ. الرَّابِعَةُ والثلاثون- قوله تعالى:" وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ" الْآيَةَ. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:" أَلَا إِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ ربا الجاهلية. موضوع فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ" وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فردهم تعالى مع التوبة إلى رؤوس أَمْوَالِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ:" لَا تَظْلِمُونَ" فِي أَخْذِ الرِّبَا" وَلا تُظْلَمُونَ" فِي أَنْ يُتَمَسَّكَ بِشَيْءٍ من رؤوس أَمْوَالِكُمْ فَتَذْهَبُ أَمْوَالُكُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ" لَا تَظْلِمُونَ" فِي مَطْلٍ، لِأَنَّ مَطْلَ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَكُونُ الْقَضَاءُ مَعَ وَضْعِ الرِّبَا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه شي بِالصُّلْحِ. أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَشَارَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ فِي دَيْنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ بِوَضْعِ الشَّطْرِ فَقَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْآخَرِ:" قُمْ فَاقْضِهِ". فَتَلَقَّى الْعُلَمَاءُ أَمْرَهُ بِالْقَضَاءِ سُنَّةً فِي الْمُصَالَحَاتِ. وَسَيَأْتِي فِي" النِّسَاءِ «1» " بَيَانُ الصُّلْحِ وَمَا يَجُوزُ مِنْهُ وَمَا لَا يَجُوزُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ" تَأْكِيدٌ لِإِبْطَالِ مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنْهُ وَأَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي لَا رِبَا فِيهِ. فَاسْتَدَلَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا طَرَأَ عَلَى الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ أَبْطَلَ الْعَقْدَ، كَمَا إِذَا اشْتَرَى مُسْلِمٌ صَيْدًا ثُمَّ أَحْرَمَ الْمُشْتَرِي أَوِ الْبَائِعُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ، لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ، كَمَا أَبْطَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَمْ يُقْبَضْ، لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا أَوْجَبَ تَحْرِيمَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَوْ كَانَ مَقْبُوضًا لَمْ يُؤَثِّرْ. هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. وَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَسُقُوطِ الْقَبْضِ فِيهِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ خِلَافًا لِبَعْضِ السَّلَفِ، وَيُرْوَى هَذَا الْخِلَافُ عَنْ أَحْمَدَ. وَهَذَا إِنَّمَا يَتَمَشَّى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْعَقْدَ فِي الرِّبَا كَانَ فِي الْأَصْلِ مُنْعَقِدًا، وَإِنَّمَا بَطَلَ بالإسلام الطارئ قبل
(1). راجع ج 5 ص 405، 385
الْقَبْضِ. وَأَمَّا مَنْ مَنَعَ انْعِقَادَ الرِّبَا فِي الْأَصْلِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ صَحِيحًا، وَذَلِكَ أَنَّ الرِّبَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي الْأَدْيَانِ، وَالَّذِي فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ عَادَةَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَنَّ مَا قَبَضُوهُ مِنْهُ كَانَ بِمَثَابَةِ أَمْوَالٍ وَصَلَتْ إِلَيْهِمْ بِالْغَصْبِ «1» وَالسَّلْبِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ. فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ الْمَسَائِلِ. وَاشْتِمَالُ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَنَا عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا مَشْهُورٌ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا حُكِيَ عَنِ الْيَهُودِ فِي قَوْلِهِ تعالى:" وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ «2» ". وَذُكِرَ فِي قِصَّةِ شُعَيْبٍ أن قومه أنكروا عليه وقالوا:" أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا «3» " فَعَلَى هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ. نَعَمْ، يُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّ الْعُقُودَ الْوَاقِعَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا الْإِمَامُ لَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهَا بِالْفَسْخِ إِنْ كَانَتْ مَعْقُودَةً عَلَى فَسَادٍ. السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ- ذَهَبَ بَعْضُ الْغُلَاةِ مِنْ أَرْبَابِ الْوَرَعِ إِلَى أَنَّ الْمَالَ الْحَلَالَ إِذَا خَالَطَهُ حَرَامٌ حَتَّى لَمْ يَتَمَيَّزْ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهُ مِقْدَارُ الْحَرَامِ الْمُخْتَلِطِ بِهِ لَمْ يَحِلَّ وَلَمْ يَطِبْ، لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي أُخْرِجَ هُوَ الْحَلَالُ وَالَّذِي بَقِيَ هُوَ الْحَرَامُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا غُلُوٌّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَمَيَّزْ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ مَالِيَّتُهُ لَا عَيْنُهُ، وَلَوْ تَلِفَ لَقَامَ الْمِثْلُ مَقَامَهُ وَالِاخْتِلَاطُ إِتْلَافٌ لِتَمْيِيزِهِ، كَمَا أَنَّ الْإِهْلَاكَ إِتْلَافٌ لِعَيْنِهِ، وَالْمِثْلُ قَائِمٌ مَقَامَ الذَّاهِبِ، وَهَذَا بَيِّنٌ حِسًّا بَيِّنٌ مَعْنًى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا إِنَّ سَبِيلَ التَّوْبَةِ مِمَّا بِيَدِهِ مِنَ الْأَمْوَالِ الْحَرَامِ إِنْ كَانَتْ مِنْ رِبًا فليردها على من أربى عليه، ومطلبه إِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا، فَإِنْ أَيِسَ مِنْ وُجُودِهِ فَلْيَتَصَدَّقْ بِذَلِكَ عَنْهُ. وَإِنْ أَخَذَهُ بِظُلْمٍ فَلْيَفْعَلْ كَذَلِكَ فِي أَمْرِ مَنْ ظَلَمَهُ. فَإِنِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَلَمْ يَدْرِ كَمِ الْحَرَامُ مِنَ الْحَلَالِ مِمَّا بِيَدِهِ، فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى قَدْرَ مَا بِيَدِهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهُ، حَتَّى لَا يَشُكَّ أَنَّ مَا يَبْقَى قَدْ خَلَصَ لَهُ فَيَرُدُّهُ مِنْ ذَلِكَ الَّذِي أَزَالَ عَنْ يَدِهِ إِلَى مَنْ عُرِفَ مِمَّنْ ظَلَمَهُ أَوْ أَرْبَى عَلَيْهِ. فَإِنْ أَيِسَ مِنْ وُجُودِهِ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ. فَإِنْ أَحَاطَتِ الْمَظَالِمُ بِذِمَّتِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُطِيقُ أَدَاءَهُ أَبَدًا لِكَثْرَتِهِ فَتَوْبَتُهُ أَنْ يُزِيلَ مَا بِيَدِهِ أَجْمَعَ إِمَّا إِلَى الْمَسَاكِينِ وَإِمَّا إلى ما فيه
(1). في ا: بالهبة فلا يتعرض له، فلا معنى له، وإنما لا يتعرض له لان الإسلام يجب ما قبله. وفى ج: بالنهب.
(2)
. راجع ج 6 ص 12.
(3)
. راجع ج 9 ص 86 و87
صَلَاحُ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى لَا يَبْقَى فِي يَدِهِ إِلَّا أَقَلُّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الصَّلَاةِ مِنَ اللِّبَاسِ وَهُوَ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَهُوَ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقُوتِ يَوْمِهِ، لِأَنَّهُ الَّذِي يَجِبُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ إِذَا اضْطُرَّ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَرِهَ ذَلِكَ مَنْ يأخذه منه. وفارق ها هنا الْمُفْلِسُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمُفْلِسَ لَمْ يَصِرْ إِلَيْهِ أَمْوَالُ النَّاسِ بِاعْتِدَاءٍ بَلْ هُمُ الَّذِينَ صَيَّرُوهَا إِلَيْهِ، فَيُتْرَكُ لَهُ مَا يُوَارِيهِ وَمَا هُوَ هَيْئَةُ لِبَاسِهِ. وَأَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ يَرَى أَلَّا يُتْرَكَ لِلْمُفْلِسِ اللِّبَاسُ إِلَّا أَقَلَّ مَا يُجْزِئُهُ فِي الصَّلَاةِ وَهُوَ مَا يُوَارِيهِ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ، ثُمَّ كُلَّمَا وقع بيد هذا شي أَخْرَجَهُ عَنْ يَدِهِ وَلَمْ يُمْسِكْ مِنْهُ إِلَّا مَا ذَكَرْنَا، حَتَّى يَعْلَمَ هُوَ وَمَنْ يَعْلَمُ حَالَهُ أَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ. السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ- هَذَا الْوَعِيدُ الَّذِي وَعَدَ اللَّهُ بِهِ فِي الرِّبَا مِنَ الْمُحَارَبَةِ، قَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلُهُ فِي الْمُخَابَرَةِ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ رَجَاءٍ «1» قَالَ ابْنُ خَيْثَمٍ حَدَّثَنِي عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:" مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذِنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ". وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ الْمُخَابَرَةِ وَهِيَ أَخْذُ الْأَرْضِ بِنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ، وَيُسَمَّى الْمُزَارَعَةَ. وَأَجْمَعَ أَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُمْ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَتْبَاعُهُمْ وَدَاوُدُ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الْأَرْضِ عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَلَا عَلَى جُزْءٍ مِمَّا تُخْرِجُ، لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ، إِلَّا أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَصْحَابَهُ وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالُوا بِجَوَازِ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِالطَّعَامِ إِذَا كَانَ مَعْلُومًا، لِقَوْلِهِ عليه السلام:" فأما شي مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَمَنَعَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: كُنَّا نُحَاقِلُ بِالْأَرْضِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مِنْ عُمُومَتِي فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا، نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالْأَرْضِ فَنَكْتَرِيهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الْأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا أَوْ يُزَارِعَهَا «2». وَكَرِهَ كِرَاءَهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ. قَالُوا:
(1). كذا في ج، هـ. وهو الصواب كما في سنن أبو داود، وفى ا، ب، ج: أبو رجاء.
(2)
. كذا في ا: وهو ما نهى عنه، والذي في ب، ج، ح، هـ: يزرعها أو يزرعها. أي أمكن غيره من زرعها وهذا في معنى الحديث" من كانت له فليزرعها أو ليمنحها أخاه".
فَلَا يَجُوزُ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ مَأْكُولًا كَانَ أَوْ مَشْرُوبًا عَلَى حَالٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ نَسِيئًا. وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَعَامًا مَأْكُولًا وَلَا مَشْرُوبًا، سِوَى الْخَشَبِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ، لِأَنَّهُ عِنْدَهُمْ فِي مَعْنَى الْمُزَابَنَةِ «1». هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ سَحْنُونَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيِّ الْمَدَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ بِإِكْرَاءِ الْأَرْضِ بِطَعَامٍ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. وَرَوَى يَحْيَى بْنُ عُمَرَ عَنِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ، كَقَوْلِ سَائِرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ. وَذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ، أَنَّ ابْنَ كِنَانَةَ كَانَ يَقُولُ: لَا تُكْرَى الْأَرْضُ بِشَيْءٍ إِذَا أُعِيدَ فِيهَا نَبْتٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ تُكْرَى بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ مِمَّا يُؤْكَلُ وَمِمَّا لَا يُؤْكَلُ خَرَجَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ. قَالَ: وَكَانَ ابْنُ نَافِعٍ يَقُولُ: لا بأس أن تكرى الأرض بكل شي مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ خَرَجَ مِنْهَا أَوْ لَمْ يَخْرُجْ، مَا عَدَا الْحِنْطَةَ وَأَخَوَاتِهَا فَإِنَّهَا الْمُحَاقَلَةُ «2» الْمَنْهِيُّ عَنْهَا. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ: فَأَمَّا الَّذِي يُعْطِي أَرْضَهُ الْبَيْضَاءَ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهَا فَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُهُ الْغَرَرُ، لِأَنَّ الزَّرْعَ يَقِلُّ مَرَّةً وَيَكْثُرُ أُخْرَى، وَرُبَّمَا هَلَكَ رَأْسًا فَيَكُونُ صَاحِبُ الْأَرْضِ قَدْ تَرَكَ كِرَاءً مَعْلُومًا، وَإِنَّمَا مَثَلُ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا لِسَفَرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ قَالَ الَّذِي اسْتَأْجَرَ لِلْأَجِيرِ: هَلْ لَكَ أَنْ أُعْطِيَكَ عُشْرَ مَا أَرْبَحُ فِي سَفَرِي «3» هَذَا إِجَارَةً لَكَ. فَهَذَا لَا يَحِلُّ وَلَا يَنْبَغِي. قَالَ مَالِكٌ: وَلَا يَنْبَغِي لِرَجُلٍ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَلَا أَرْضَهُ وَلَا سَفِينَتَهُ وَلَا دَابَّتَهُ إِلَّا بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لَا يَزُولُ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُمَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَاللَّيْثُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ أَرْضَهُ على جزء
(1). المزابنة: كل شي من الجزاف الذي لا يعلم كيله ولا وزنه ولا عدده يتبع بشيء مسمى من الكيل أو الوزن أو العدد. وذلك أن يقول الرجل للرجل يكون له الطعام المصير الذي لا يعلم كيله من الحنطة أو التمر أو ما أشبه ذلك من الأطعمة. أو يكون للرجل السلعة من الخبط أو النوى أو القضب أو العصفر أو الكرسف أو الكتان أو ما أشبه ذلك من السلع لا يعلم كيل شي من ذلك ولا وزنه ولا عدده، فيقول الرجل لرب تلك السلعة: كل سلعتك هذه أومر من يكيلها أو زن من ذلك بوزن أو أعدد منها ما كان يعد فما نقص عن كيل كذا وكذا صاعا، لتسمية يسميها. أو وزن كذا وكذا رطلا أو عدد كذا وكذا فما ينقص من ذلك فعلى غرمه حتى أوفيك تلك التسمية، وما زاد على تلك التسمية فهو لي أضمن ما نقص من ذلك، على أن يكون لي ما زاد. وليس ذلك بيعا ولكنه المخاطرة، والغرر والقمار يدخل هذا. وقيل: المزابنة اسم لبيع التمر بالتمر كيلا، ورطب كل جنس بيابسه، ومجهول منه بمعلوم (عن الموطأ).
(2)
. المحاقلة: بيع الزرع قبل بدو صلاحه. وقيل: بيع الزرع في سنبله بالحنطة. وقيل: المزارعة على نصيب معلوم بالثلث أو الربع أو أقل من ذلك أو أكثر. وقيل اكتراء الأرض بالحنطة.
(3)
. في ج: سفرك.
مِمَّا تُخْرِجُهُ نَحْوَ الثُّلُثِ وَالرُّبْعِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَطَاوُسٍ. وَاحْتَجُّوا بِقِصَّةِ خَيْبَرَ وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَهَا عَلَى شَطْرِ مَا تُخْرِجُهُ أَرْضُهُمْ وَثِمَارُهُمْ. قَالَ أَحْمَدُ: حَدِيثُ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ فِي النَّهْيِ عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ مُضْطَرِبُ الْأَلْفَاظِ وَلَا يَصِحُّ، وَالْقَوْلُ بِقِصَّةِ خَيْبَرَ أَوْلَى وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ أَجَازَ طَائِفَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ سَفِينَتَهُ وَدَابَّتَهُ، كَمَا يُعْطِي أَرْضَهُ بِجُزْءٍ مِمَّا يَرْزُقُهُ اللَّهُ فِي الْعِلَاجِ بِهَا. وَجَعَلُوا أَصْلَهُمْ فِي ذَلِكَ الْقِرَاضَ «1» الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْمُزَّمِّلِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «2» " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ: كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْهَا، أَيْ كُنَّا نُكْرِي الْأَرْضَ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا. قَالَ: وَفِي ذَلِكَ نَسْخٌ لِسُنَّةِ خَيْبَرَ. قُلْتُ: وَمِمَّا يُصَحِّحُ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ فِي النَّسْخِ مَا رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَابَرَةِ وَعَنِ الثُّنْيَا «3» إِلَّا أَنْ تُعْلَمَ. صَحِيحٌ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُخَابَرَةِ. قُلْتُ: وَمَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَأْخُذَ الْأَرْضَ بِنِصْفٍ أو ثلث أو أَوْ رُبُعٍ. الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ- فِي الْقِرَاءَاتِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ" مَا بَقِيَ" بِتَحْرِيكِ الْيَاءِ، وَسَكَّنَهَا الْحَسَنُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
هُوَ الْخَلِيفَةُ فَارْضَوْا مَا رَضِي لَكُمْ
…
مَاضِي الْعَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفَ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
كَمْ قَدْ ذَكَرْتُكِ لَوْ أُجْزَى بِذِكْرِكُمْ
…
يَا أَشْبَهَ النَّاسِ كُلَّ النَّاسِ بِالْقَمَرِ
إِنِّي لَأَجْذَلُ أَنْ أُمْسِي مُقَابِلَهُ
…
حُبًّا لِرُؤْيَةِ مَنْ أَشْبَهْتَ فِي الصور
(1). القراض (بكسر القاف) عند المالكية هو ما يسمى بالمضاربة عند الحنفية، وهو إعطاء المقارض (بكسر الراء وهو رب المال) المقارض (بفتح الراء وهو العامل) مالا ليتجر به على أن يكون له جزء معلوم من الربح.
(2)
. راجع ج 19 ص 54.
(3)
. الثنيا: هي أن يستثنى في عقد البيع شي مجهول فيفسده. وقيل: هو أن يباع شي جزافا، فلا يجوز أن يستثنى منه شي قل أو كثر. وتكون" الثنايا" في المزارعة أن يستثنى بعد النصف أو الثلث كيل معلوم. (عن النهاية).
أَصْلُهُ" مَا رَضِيَ" وَ" أَنْ أُمْسِيَ" فَأَسْكَنَهَا وَهُوَ فِي الشِّعْرِ كَثِيرٌ. وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَبَّهَ الْيَاءَ بِالْأَلِفِ فَكَمَا لَا تَصِلُ الْحَرَكَةُ إِلَى الْأَلِفِ فَكَذَلِكَ لَا تَصِلُ هُنَا إِلَى الْيَاءِ. وَمِنْ هَذِهِ اللُّغَةِ أُحِبُّ أَنْ أَدْعُوكَ، وَأَشْتَهِيَ أَنْ أَقْضِيكَ «1» ، بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَالْيَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" مَا بَقَى" بِالْأَلِفِ، وَهِيَ لُغَةُ طَيِّئٍ، يَقُولُونَ لِلْجَارِيَةِ: جَارَاةٌ «2» ، وَلِلنَّاصِيَةِ: نَاصَاةٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
لَعَمْرُكَ لَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَى
…
عَلَى الْأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الْأَبَاعِرَا
وَقَرَأَ أَبُو السِّمَّالِ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ" مِنَ الرِّبُوْ" بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَضَمِّ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْوَاوِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ عُثْمَانُ بْنُ جِنِّيٍّ: شَذَّ هَذَا الْحَرْفُ مِنْ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا الْخُرُوجُ مِنَ الْكَسْرِ إِلَى الضَّمِّ، وَالْآخَرُ وُقُوعُ الْوَاوِ بَعْدَ الضَّمِّ فِي آخِرِ الِاسْمِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ. وَجْهُهَا أَنَّهُ فَخَّمَ الْأَلِفَ فَانْتَحَى بِهَا نَحْوَ الْوَاوِ الَّتِي الْأَلِفُ مِنْهَا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، إِذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ اسْمٌ آخِرُهُ وَاوٌ سَاكِنَةٌ قَبْلَهَا ضَمَّةٌ. وَأَمَالَ الْكِسَائِيُّ وَحَمْزَةُ" الرِّبَا" لِمَكَانِ الْكَسْرَةِ فِي الرَّاءِ. الْبَاقُونَ بِالتَّفْخِيمِ لِفَتْحَةِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ" فَآذِنُوا" عَلَى مَعْنَى فَآذِنُوا غَيْرَكُمْ، فَحَذَفَ الْمَفْعُولَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" فَأْذَنُوا" أَيْ كُونُوا عَلَى إِذْنٍ، مِنْ قَوْلِكَ: إِنِّي عَلَى عِلْمٍ، حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ «3» عَنِ الْأَصْمَعِيِّ. وَحَكَى أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّهُ يُقَالُ: أَذِنْتُ بِهِ إِذْنًا، أَيْ عَلِمْتُ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَى" فَأْذَنُوا" فَاسْتَيْقِنُوا الْحَرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ بِمَعْنَى الْإِذْنِ. وَرَجَّحَ أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ قِرَاءَةَ الْمَدِّ قَالَ: لِأَنَّهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ عَلِمُوا هُمْ لَا مَحَالَةَ. قَالَ: فَفِي إِعْلَامِهِمْ عِلْمُهُمْ وَلَيْسَ فِي عِلْمِهِمْ إِعْلَامُهُمْ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ قِرَاءَةَ الْقَصْرِ، لِأَنَّهَا تَخْتَصُّ بِهِمْ. وَإِنَّمَا أُمِرُوا عَلَى قِرَاءَةِ الْمَدِّ بِإِعْلَامِ غَيْرِهِمْ، وَقَرَأَ جَمِيعُ الْقُرَّاءِ" لَا تَظْلِمُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ" وَلا تُظْلَمُونَ" بضمها. وروى المفضل عن عام" لَا تُظْلَمُونَ وَلَا تَظْلِمُونَ" بِضَمِّ التَّاءِ فِي الْأُولَى وَفَتْحِهَا فِي الثَّانِيَةِ عَلَى الْعَكْسِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: تَتَرَجَّحُ قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهَا تُنَاسِبُ قَوْلَهُ:" وَإِنْ تُبْتُمْ" فِي إِسْنَادِ الْفِعْلَيْنِ إِلَى الْفَاعِلِ، فَيَجِيءُ" تَظْلِمُونَ" بِفَتْحِ التَّاءِ أَشْكَلَ بِمَا قبله.
(1). في ج: أوصيك. [ ..... ]
(2)
. في ج وب: جاراه، ناصاه.
(3)
. في ب: أبو عل.