الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قُلْتُ: وَهَذَا حَسَنٌ: فَإِنَّ الضَّمِيرَ قَدْ يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ وَإِنْ كَثُرَ. وَالنَّذْرُ حَقِيقَةُ الْعِبَارَةِ عَنْهُ أَنْ تَقُولَ: هُوَ مَا أَوْجَبَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ مِمَّا لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ، تَقُولُ: نَذَرَ الرَّجُلُ كَذَا إِذَا الْتَزَمَ فِعْلَهُ، يَنْذُرُ (بِضَمِّ الذَّالِ) وَيَنْذِرُ (بِكَسْرِهَا). وَلَهُ أَحْكَامٌ يَأْتِي بَيَانُهَا فِي غير هذا الوضع إن شاء الله تعالى «1» .
[سورة البقرة (2): آية 271]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ الْإِخْفَاءَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنَ الْإِظْهَارِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلُ فِي تَطَوُّعِهَا لِانْتِفَاءِ الرِّيَاءِ عَنْهَا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْوَاجِبَاتُ. قَالَ الْحَسَنُ: إِظْهَارُ الزَّكَاةِ أَحْسَنُ، وَإِخْفَاءُ التَّطَوُّعِ أَفْضَلُ، لِأَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يُرَادُ اللَّهُ عز وجل بِهِ وَحْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ صَدَقَةَ السِّرِّ فِي التَّطَوُّعِ تَفْضُلُ عَلَانِيَتَهَا يُقَالُ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَجَعَلَ صَدَقَةَ الْفَرِيضَةِ عَلَانِيَتَهَا أَفْضَلَ مِنْ سِرِّهَا يُقَالُ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ضِعْفًا. قَالَ: وَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا. قُلْتُ: مِثْلُ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ وَإِنَّمَا هُوَ تَوْقِيفٌ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:" أَفْضَلُ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ «2» " وَذَلِكَ أَنَّ الْفَرَائِضَ لَا يَدْخُلُهَا رِيَاءٌ وَالنَّوَافِلَ عُرْضَةٌ لِذَلِكَ. وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:" إِنَّ الَّذِي يَجْهَرُ بِالْقُرْآنِ كَالَّذِي يَجْهَرُ بِالصَّدَقَةِ وَالَّذِي يُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالَّذِي يُسِرُّ بِالصَّدَقَةِ". وَفِي الْحَدِيثِ:" صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ". قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَلَيْسَ فِي تَفْضِيلِ صَدَقَةِ الْعَلَانِيَةِ عَلَى السِّرِّ، وَلَا تَفْضِيلِ صَدَقَةِ السِّرِّ عَلَى الْعَلَانِيَةِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَكِنَّهُ الْإِجْمَاعُ الثَّابِتُ، فَأَمَّا صدقة النفل فالقرآن ورد مصرحا
(1). راجع ج 19 ص 125.
(2)
. عبارة مسلم كما في صحيحه"
…
فَإِنَّ خَيْرَ صَلَاةِ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا الصلاة المكتوبة".
بِأَنَّهَا فِي السِّرِّ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي الْجَهْرِ، بَيْدَ أَنَّ عُلَمَاءَنَا قَالُوا: إِنَّ هَذَا عَلَى الْغَالِبِ مَخْرَجُهُ، وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّ الْحَالَ [فِي الصَّدَقَةِ «1»] تَخْتَلِفُ بِحَالِ الْمُعْطِي [لَهَا «2»] وَالْمُعْطَى إِيَّاهَا وَالنَّاسِ الشَّاهِدِينَ [لَهَا «3»]. أَمَّا الْمُعْطِي فَلَهُ فِيهَا فَائِدَةُ إِظْهَارِ السُّنَّةِ وَثَوَابُ الْقُدْوَةِ. قُلْتُ: هَذَا لِمَنْ قَوِيَتْ حَالُهُ وَحَسُنَتْ نِيَّتُهُ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الرِّيَاءَ، وَأَمَّا مَنْ ضَعُفَ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فَالسِّرُّ لَهُ أَفْضَلُ. وَأَمَّا الْمُعْطَى إِيَّاهَا فَإِنَّ السِّرَّ لَهُ أَسْلَمُ مِنِ احْتِقَارِ النَّاسِ لَهُ، أَوْ نِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ أَخَذَهَا مَعَ الْغِنَى عَنْهَا وَتَرَكَ التَّعَفُّفَ، وَأَمَّا حَالُ النَّاسِ فَالسِّرُّ عَنْهُمْ أَفْضَلُ مِنَ الْعَلَانِيَةِ لَهُمْ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ رُبَّمَا طَعَنُوا عَلَى الْمُعْطِي لَهَا بِالرِّيَاءِ وَعَلَى الْآخِذِ لَهَا بِالِاسْتِغْنَاءِ، وَلَهُمْ فِيهَا تَحْرِيكُ الْقُلُوبِ إِلَى الصَّدَقَةِ، لَكِنْ هَذَا الْيَوْمَ قَلِيلٌ". وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: إِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَكَانَ يَأْمُرُ بِقَسْمِ الزَّكَاةِ فِي السِّرِّ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مَرْدُودٌ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ السَّلَفِ الصَّالِحِ، فَقَدْ قَالَ الطَّبَرِيُّ: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ إِظْهَارَ الْوَاجِبِ أَفْضَلُ. قُلْتُ: ذَكَرَ الْكِيَا الطَّبَرِيُّ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةً عَلَى قَوْلِ إِخْفَاءِ الصَّدَقَاتِ مُطْلَقًا أَوْلَى، وَأَنَّهَا حَقُّ الْفَقِيرِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَالِ تَفْرِيقُهَا بِنَفْسِهِ، عَلَى مَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ ذَكَرُوا أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّدَقَاتِ هَاهُنَا التَّطَوُّعُ دُونَ الْفَرْضِ الَّذِي إِظْهَارُهُ أَوْلَى لِئَلَّا يَلْحَقَهُ تُهْمَةٌ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ: صَلَاةُ النَّفْلِ فُرَادَى أَفْضَلُ، وَالْجَمَاعَةُ فِي الْفَرْضِ أَبْعَدُ عَنِ التُّهْمَةِ. وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ فَرْضُ الزَّكَاةِ وَمَا تُطُوِّعَ بِهِ، فَكَانَ الْإِخْفَاءُ أَفْضَلَ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سَاءَتْ ظُنُونُ النَّاسِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاسْتَحْسَنَ الْعُلَمَاءُ «4» إِظْهَارَ الْفَرَائِضِ لِئَلَّا يُظَنَّ بِأَحَدٍ الْمَنْعُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا الْقَوْلُ مُخَالِفٌ لِلْآثَارِ، وَيُشْبِهُ فِي زَمَانِنَا أَنْ يَحْسُنَ التَّسَتُّرُ بِصَدَقَةِ الْفَرْضِ، فَقَدْ كَثُرَ الْمَانِعُ لَهَا وَصَارَ إخراجها عرضة للرياء. وَقَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ الْوَاجِبَاتُ مِنَ الزَّكَاةِ وَالتَّطَوُّعُ، لِأَنَّهُ ذكر الإخفاء
(1). الزيادة عن ابن العربي.
(2)
. الزيادة عن ابن العربي.
(3)
. الزيادة عن ابن العربي. [ ..... ]
(4)
. في ب: الناس.
وَمَدَحَهُ وَالْإِظْهَارَ وَمَدَحَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلَيْهِمَا جَمِيعًا. وَقَالَ النَّقَّاشُ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَهَا قوله تعالى:" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً" الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَنِعِمَّا هِيَ) ثَنَاءٌ عَلَى إِبْدَاءِ الصَّدَقَةِ، ثُمَّ حَكَمَ عَلَى أَنَّ الْإِخْفَاءَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إِذَا اصْطَنَعْتَ الْمَعْرُوفَ فَاسْتُرْهُ، وَإِذَا اصْطُنِعَ إِلَيْكَ فَانْشُرْهُ. قَالَ دِعْبِلُ الْخُزَاعِيُّ:
إِذَا انْتَقَمُوا أَعْلَنُوا أَمْرَهُمْ
…
وَإِنْ أَنْعَمُوا أَنْعَمُوا بِاكْتِتَامِ
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ هَارُونَ:
خِلٌّ إِذَا جِئْتَهُ يَوْمًا لِتَسْأَلَهُ
…
أَعْطَاكَ مَا مَلَكَتْ كَفَّاهُ وَاعْتَذَرَا
يُخْفِي صَنَائِعَهُ وَاللَّهُ يُظْهِرُهَا
…
إِنَّ الْجَمِيلَ إِذَا أَخْفَيْتَهُ ظَهَرَا
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه: لَا يَتِمُّ الْمَعْرُوفُ إِلَّا بِثَلَاثِ خِصَالٍ: تَعْجِيلُهُ وَتَصْغِيرُهُ وَسَتْرُهُ، فَإِذَا أَعْجَلْتَهُ هَنَّيْتَهُ، وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فَأَحْسَنَ:
زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عظما
…
أنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته
…
وهو عند الناس مشهور خطير
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ" فَنِعِمَّا هِيَ" فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ فِي رِوَايَةِ وَرْشٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حَفْصٍ وَابْنِ كَثِيرٍ" فَنِعِمَّا هِيَ" بِكَسْرِ النُّونِ وَالْعَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو أَيْضًا وَنَافِعٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ وَرْشٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلِ" فَنِعْمَا" بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" فَنَعِمَّا" بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَكُلُّهُمْ سَكَّنَ الْمِيمَ. وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ فَنِعْمَ مَا هِيَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَلَكِنَّهُ فِي السَّوَادِ مُتَّصِلٌ فَلَزِمَ الْإِدْغَامُ. وَحَكَى النَّحْوِيُّونَ فِي" نِعْمَ" أَرْبَعَ لُغَاتٍ: نَعِمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ، هَذَا الْأَصْلُ. وَنِعِمَ الرَّجُلُ، بِكَسْرِ النُّونِ لِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَنَعْمَ الرَّجُلُ، بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ، وَالْأَصْلُ نَعِمَ حُذِفَتِ الْكَسْرَةُ لِأَنَّهَا ثَقِيلَةٌ. وَنِعْمَ الرَّجُلُ، وَهَذَا أَفْصَحُ اللُّغَاتِ، وَالْأَصْلُ فِيهَا نَعِمَ. وَهِيَ تَقَعُ فِي كُلِّ مَدْحٍ، فَخُفِّفَتْ وَقُلِبَتْ كَسْرَةُ الْعَيْنِ عَلَى النُّونِ وَأُسْكِنَتِ الْعَيْنُ، فَمَنْ قَرَأَ" فَنِعِمَّا هِيَ" فَلَهُ تَقْدِيرَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَاءَ بِهِ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ نِعِمَ. وَالتَّقْدِيرُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ عَلَى
اللُّغَةِ الْجَيِّدَةِ، فَيَكُونُ الْأَصْلُ نِعْمَ، ثُمَّ كُسِرَتِ الْعَيْنُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَأَمَّا الَّذِي حُكِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ مِنْ إِسْكَانِ الْعَيْنِ فَمُحَالٌ. حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا إِسْكَانُ الْعَيْنِ وَالْمِيمُ مُشَدَّدَةٌ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ، وَإِنَّمَا يَرُومُ الْجَمْعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ وَيُحَرِّكُ وَلَا يَأْبَهُ «1». وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: مَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ الْعَيْنِ لَمْ يَسْتَقِمْ قَوْلُهُ، لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا لَيْسَ بِحَرْفِ مَدٍّ وَلِينٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ إِذَا كَانَ الْأَوَّلُ حَرْفَ مَدٍّ، إِذِ الْمَدُّ يَصِيرُ عِوَضًا مِنَ الْحَرَكَةِ، وَهَذَا نَحْوَ دَابَّةٍ وَضَوَالٍّ وَنَحْوِهِ. وَلَعَلَّ أَبَا عَمْرٍو أَخْفَى الْحَرَكَةَ وَاخْتَلَسَهَا كَأَخْذِهِ بِالْإِخْفَاءِ في" بارِئِكُمْ- ويَأْمُرُكُمْ" فَظَنَّ السَّامِعُ الْإِخْفَاءَ إِسْكَانًا لِلُطْفٍ ذَلِكَ فِي السَّمْعِ وَخَفَائِهِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ" نَعِمَا" بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ فَإِنَّمَا جَاءَ بِالْكَلِمَةِ عَلَى أَصْلِهَا وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ «2» إِنَّهُمْ
…
نَعِمَ السَّاعُونَ فِي الْأَمْرِ الْمُبِرْ
قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَ" مَا" من قوله تعالى:" فَنِعِمَّا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَقَوْلُهُ" هِيَ" تَفْسِيرٌ لِلْفَاعِلِ الْمُضْمَرِ قَبْلَ الذِّكْرِ، وَالتَّقْدِيرُ نِعْمَ شَيْئًا إِبْدَاؤُهَا، وَالْإِبْدَاءُ هُوَ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ إِلَّا أَنَّ الْمُضَافَ حُذِفَ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ. وَيَدُلُّكَ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ" فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" أَيِ الْإِخْفَاءُ خَيْرٌ. فَكَمَا أَنَّ الضَّمِيرَ هُنَا لِلْإِخْفَاءِ لَا لِلصَّدَقَاتِ فَكَذَلِكَ، أَوَّلًا الْفَاعِلُ هُوَ الْإِبْدَاءُ وَهُوَ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الضَّمِيرُ، فَحُذِفَ الْإِبْدَاءُ وَأُقِيمَ ضَمِيرُ الصَّدَقَاتِ مِثْلَهُ. (وَإِنْ تُخْفُوها) شَرْطٌ، فَلِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ. (وَتُؤْتُوهَا) عَطْفٌ عَلَيْهِ. وَالْجَوَابُ (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ). (وَيُكَفِّرُ) اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَتِهِ، فَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ" وَنُكَفِّرُ" بِالنُّونِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ [نَافِعٌ «3»] وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ فِي الرَّاءِ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عَاصِمٍ. وَرَوَى الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ" يُكَفِّرَ" بِنَصْبِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ، وَرَوَاهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ، وَرُوِيَ عَنْهُ بِالْيَاءِ وَالْجَزْمِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" وَتُكَفِّرْ" بِالتَّاءِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ. وَقَرَأَ
(1). كذا في النحاس، والذي في نسخ الأصل: ولا يأتيه.
(2)
. ويروى: قدمي. بالإفراد راجع ج 4 خزانه ص 101.
(3)
. في الأصول: الأعمش، والصواب ما أثبتناه من البحر وابن عطية وغيرهما.
عِكْرِمَةُ" وَتُكَفَّرْ" بِالتَّاءِ وَفَتْحِ الْفَاءِ وَجَزْمِ الرَّاءِ. وَحَكَى الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ هُرْمُزٍ أَنَّهُ قَرَأَ" وَتُكَفِّرُ" بِالتَّاءِ وَرَفْعِ الرَّاءِ. وَحُكِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وشهر بن حوشب أنهما قرءا بالتاء وَنَصْبِ الرَّاءِ. فَهَذِهِ تِسْعُ قِرَاءَاتٍ أَبْيَنُهَا" وَنُكَفِّرُ" بِالنُّونِ وَالرَّفْعِ. هَذَا قَوْلُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ. قَالَ النحاس: قال سيبويه: والرفع ها هنا الْوَجْهُ وَهُوَ الْجَيِّدُ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي بَعْدَ الْفَاءِ يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي غَيْرِ الْجَزَاءِ. وَأَجَازَ الْجَزْمَ بِحَمْلِهِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ وَنُكَفِّرْ عَنْكُمْ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ" يُكَفِّرُ" بِالْيَاءِ دُونَ وَاوٍ قَبْلَهَا. قَالَ النَّحَّاسُ: وَالَّذِي حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَشِ بِغَيْرِ وَاوٍ جَزْمًا يَكُونُ عَلَى الْبَدَلِ كَأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ الْفَاءِ. وَالَّذِي رُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ" وَيُكَفِّرُ" بِالْيَاءِ وَالرَّفْعِ يَكُونُ مَعْنَاهُ وَيُكَفِّرُ اللَّهُ، هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: مَعْنَاهُ يُكَفِّرُ الْإِعْطَاءَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ" وَتُكَفِّرْ" يَكُونُ مَعْنَاهُ وَتُكَفِّرِ الصَّدَقَاتِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ بِالنُّونِ فَهِيَ نُونُ الْعَظَمَةِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا بِالتَّاءِ فَهِيَ الصَّدَقَةُ فَاعْلَمْهُ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ مِنْ فَتْحِ الْفَاءِ فَإِنَّ التَّاءَ فِي تِلْكَ الْقِرَاءَةِ إِنَّمَا هِيَ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَا كَانَ مِنْهَا بِالْيَاءِ فَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُكَفِّرُ، وَالْإِعْطَاءُ فِي خَفَاءٍ مُكَفِّرٌ أَيْضًا كَمَا ذَكَرْنَا، وَحَكَاهُ مَكِّيٌّ. وَأَمَّا رَفْعُ الرَّاءِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ خَبَرَ ابْتِدَاءٍ تَقْدِيرُهُ وَنَحْنُ نُكَفِّرُ أَوْ وَهِيَ تُكَفِّرُ، أَعْنِي الصَّدَقَةَ، أَوْ وَاللَّهُ يُكَفِّرُ. وَالثَّانِي الْقَطْعُ وَالِاسْتِئْنَافُ لَا تَكُونُ الْوَاوُ الْعَاطِفَةُ لِلِاشْتِرَاكِ لَكِنْ تَعْطِفُ جُمْلَةَ كَلَامٍ عَلَى جُمْلَةٍ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى قِرَاءَةِ الْجَزْمِ. فَأَمَّا نَصْبُ" وَنُكَفِّرَ" فَضَعِيفٌ وَهُوَ عَلَى إِضْمَارِ أَنْ وَجَازَ عَلَى بُعْدٍ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَهُوَ مُشَبَّهٌ بِالنَّصْبِ فِي جَوَابِ الِاسْتِفْهَامِ، إِذِ الْجَزَاءُ يَجِبُ بِهِ الشَّيْءُ لِوُجُوبِ غَيْرِهِ كَالِاسْتِفْهَامِ. وَالْجَزْمُ فِي الرَّاءِ أَفْصَحُ هَذِهِ القراء أت، لِأَنَّهَا تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التَّكْفِيرِ فِي الْجَزَاءِ وَكَوْنِهِ مَشْرُوطًا إِنْ وَقَعَ الْإِخْفَاءُ. وَأَمَّا الرَّفْعُ فَلَيْسَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى. قُلْتُ: هَذَا خِلَافُ مَا اخْتَارَهُ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ. وَ" مِنْ" فِي قَوْلِهِ (مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) لِلتَّبْعِيضِ الْمَحْضِ. وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ فِرْقَةٍ أَنَّهَا زَائِدَةٌ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَذَلِكَ مِنْهُمْ خَطَأٌ. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وَعْدٌ ووعيد.