الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثَّامِنَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ كَانَ هَذَا السِّجْنُ حَدًّا أَوْ تَوَعُّدًا بِالْحَدِّ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا- أَنَّهُ تَوَعُّدٌ بِالْحَدِّ، وَالثَّانِي- أَنَّهُ حَدٌّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ. زَادَ ابْنُ زَيْدٍ: وَأَنَّهُمْ مُنِعُوا مِنَ النِّكَاحِ حَتَّى يَمُوتُوا عُقُوبَةً لَهُمْ حِينَ طَلَبُوا النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَدًّا بَلْ أَشَدُّ، غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ مَمْدُودًا «1» إِلَى غَايَةٍ وَهُوَ الْأَذَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى، عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي أَيِّهِمَا قَبْلُ، وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ إِلَى غَايَةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ عليه السلام فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:(خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالرَّجْمُ (. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى:) ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «2» (فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ ارْتَفَعَ حُكْمُ الصِّيَامِ لِانْتِهَاءِ غَايَتِهِ لَا لِنَسْخِهِ هَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، فَإِنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْقَوْلَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ اللَّذَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ بَيْنَ الْحَبْسِ وَالتَّعْيِيرِ «3» وَالْجَلْدِ وَالرَّجْمِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ الْأَذَى وَالتَّعْيِيرَ «4» بَاقٍ مَعَ الْجَلْدِ، لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَارَضَانِ بَلْ يُحْمَلَانِ عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَأَمَّا الْحَبْسُ فَمَنْسُوخٌ بِإِجْمَاعٍ، وَإِطْلَاقُ الْمُتَقَدِّمِينَ النَّسْخَ عَلَى مِثْلِ هذا تجوز. والله أعلم.
[سورة النساء (4): آية 16]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
فِيهِ سبع مسائل: الاولى- قوله تعالى: (وَالَّذانِ)(الَّذانِ) تَثْنِيَةُ الَّذِي، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يُقَالَ: اللَّذَيَانِ كَرَحَيَانِ وَمُصْطَفَيَانِ وَشَجِيَّانِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: حُذِفَتِ الْيَاءُ لِيُفَرَّقَ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ وَالْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَاتِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: حُذِفَتِ الْيَاءُ تَخْفِيفًا، إِذْ قَدْ أُمِنَ اللَّبْسُ فِي اللَّذَانِ، لِأَنَّ النُّونَ لَا تَنْحَذِفُ، وَنُونُ التَّثْنِيَةِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُتَمَكِّنَةِ قَدْ تَنْحَذِفُ مَعَ الْإِضَافَةِ فِي رَحَيَاكَ وَمُصْطَفَيَا الْقَوْمِ، فَلَوْ حُذِفَتِ الْيَاءُ لَاشْتَبَهَ الْمُفْرَدُ بِالِاثْنَيْنِ. وَقَرَأَ ابن كثير (اللذان) بتشديد
(1). كذا في ابن العربي. والأصول: كان محدودا. كلاهما ممدود.
(2)
. راجع ج 2 ص 321. [ ..... ]
(3)
. في ج: التعزير.
(4)
. في ج: التعزير.
النُّونِ، وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وَعِلَّتُهُ أَنَّهُ جَعَلَ التَّشْدِيدَ عِوَضًا مِنْ أَلِفِ (ذَا) عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (الْقَصَصِ) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:(فَذانِكَ بُرْهانانِ «1»). وَفِيهَا لَغَةٌ أُخْرَى (اللَّذَا) بِحَذْفِ النُّونِ «2» . هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِنَّمَا حُذِفَتِ النُّونُ لِطُولِ الِاسْمِ بِالصِّلَةِ. وَكَذَلِكَ قَرَأَ (هَذَانِّ) وَ (فَذَانِّكَ بُرْهَانَانِ) بِالتَّشْدِيدِ فِيهِمَا. وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ. وَشَدَّدَ أَبُو عَمْرٍو (فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ) وحدها. و (الَّذانِ) رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: الْمَعْنَى وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ اللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا، أَيِ الْفَاحِشَةَ (مِنْكُمْ). وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي (فَآذُوهُما) لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ الَّذِي بِالْفِعْلِ تَمَكَّنَ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، إِذْ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ شي بِعَيْنِهِ، فَلَمَّا تَمَكَّنَ الشَّرْطُ وَالْإِبْهَامُ فِيهِ جَرَى مَجْرَى الشَّرْطِ فَدَخَلَتِ الْفَاءُ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْإِضْمَارِ كَمَا لَا يَعْمَلُ فِي الشَّرْطِ مَا قَبْلَهُ، فَلَمَّا لَمْ يَحْسُنْ إِضْمَارُ الْفِعْلِ قَبْلَهُمَا لِيُنْصَبَا رُفِعَا بِالِابْتِدَاءِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ سِيبَوَيْهِ. وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى تَقْدِيرِ إِضْمَارِ فِعْلٍ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ إِذَا كَانَ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ نَحْوَ قَوْلِكَ: اللَّذَيْنِ عِنْدَكَ فَأَكْرِمْهُمَا. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآذُوهُما) قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيرُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ السَّبُّ وَالْجَفَاءُ دُونَ تَعْيِيرٍ. ابْنُ عَبَّاسٍ: النَّيْلُ بِاللِّسَانِ وَالضَّرْبُ بِالنِّعَالِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ قَوْمٌ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ. قُلْتُ: رَوَاهُ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) وَ (الَّذانِ يَأْتِيانِها) كَانَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَنَسَخَتْهُمَا الْآيَةُ الَّتِي فِي (النُّورِ «3»). قَالَهُ النَّحَّاسُ: وَقِيلَ وَهُوَ أَوْلَى: إِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ أَنْ يُؤَدَّبَا بِالتَّوْبِيخِ فَيُقَالُ لَهُمَا: فَجَرْتُمَا وَفَسَقْتُمَا وَخَالَفْتُمَا أَمْرَ اللَّهِ عز وجل. الثَّالِثَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ في تأويل قوله تعالى: (وَاللَّاتِي) وقوله: (وَالَّذانِ) فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: الْآيَةُ الْأُولَى فِي النِّسَاءِ عَامَّةٌ مُحْصَنَاتٍ وَغَيْرَ مُحْصَنَاتٍ، وَالْآيَةُ الثَّانِيةُ فِي الرِّجَالِ خَاصَّةٌ. وَبَيْنَ لَفْظِ «4» التَّثْنِيَةِ صِنْفَيِ الرِّجَالِ مَنْ أُحْصِنَ وَمَنْ لَمْ يُحْصَنْ، فَعُقُوبَةُ النِّسَاءِ الْحَبْسُ، وَعُقُوبَةُ الرِّجَالِ الْأَذَى. وَهَذَا قَوْلٌ يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ، وَيَسْتَوْفِي نَصُّ الْكَلَامِ أَصْنَافَ الزُّنَاةِ. وَيُؤَيِّدُهُ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ قَوْلُهُ فِي الْأُولَى:(مِنْ نِسائِكُمْ) وفي الثانية
(1). راجع ج 13 ص 285.
(2)
. في ز: اللذا بحذف النون اللذان بفتح النون. كذا.
(3)
. راجع ج 12 ص 195.
(4)
. في ج وط وى: بلفظ.
(مِنْكُمْ) وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ وَرَوَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا: الْأُولَى فِي النِّسَاءِ الْمُحْصَنَاتِ. يُرِيدُ: وَدَخَلَ مَعَهُنَّ مَنْ أُحْصِنَ مِنَ الرِّجَالِ بِالْمَعْنَى، وَالثَّانِيةُ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْبِكْرَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ تَامٌّ إِلَّا أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يُقْلِقُ عَنْهُ. وَقَدْ رَجَّحَهُ الطَّبَرِيُّ، وَأَبَاهُ النَّحَّاسُ وَقَالَ: تَغْلِيبُ الْمُؤَنَّثِ عَلَى الْمُذَكَّرِ بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ الشَّيْءُ إِلَى الْمَجَازِ وَمَعْنَاهُ صَحِيحٌ فِي الْحَقِيقَةِ. وَقِيلَ: كَانَ الْإِمْسَاكُ لِلْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ دُونَ الرَّجُلِ، فَخُصَّتِ الْمَرْأَةُ بِالذِّكْرِ فِي الْإِمْسَاكِ ثُمَّ جُمِعَا فِي الْإِيذَاءِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْمَرْأَةُ تُحْبَسُ وَيُؤْذَيَانِ جَمِيعًا، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّجُلَ يَحْتَاجُ إِلَى السَّعْيِ وَالِاكْتِسَابِ. الرَّابِعَةُ- وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا فِي الْقَوْلِ بِمُقْتَضَى حَدِيثِ عُبَادَةَ الَّذِي هُوَ بَيَانٌ لِأَحْكَامِ الزُّنَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، فَقَالَ بِمُقْتَضَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَا اخْتِلَافَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ مِائَةً وَرَجَمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَالَ: جَلَدْتُهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتُهَا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ وَإِسْحَاقَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: بَلْ عَلَى الثَّيِّبِ الرَّجْمُ بِلَا جَلْدٍ. وَهَذَا يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ، مُتَمَسِّكِينَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ «1» وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا، وَبِقَوْلِهِ عليه السلام لِأُنَيْسٍ:(اغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا) وَلَمْ يَذْكُرِ الْجَلْدَ، فَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا لَمَا سَكَتَ عَنْهُ. قِيلَ لَهُمْ: إِنَّمَا سَكَتَ عَنْهُ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ لِشُهْرَتِهِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) يَعُمُّ جَمِيعَ الزُّنَاةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُبَيِّنُ هَذَا فِعْلَ عَلِيٍّ بِأَخْذِهِ عَنِ الْخُلَفَاءِ رضي الله عنهم وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ فَقِيلَ لَهُ: عَمِلْتَ بِالْمَنْسُوخِ وَتَرَكْتَ النَّاسِخَ. وَهَذَا وَاضِحٌ. الْخَامِسَةُ- وَاخْتَلَفُوا فِي نَفْيِ الْبِكْرِ مَعَ الْجَلْدِ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يُنْفَى مَعَ الْجَلْدِ، قَالَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ: أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَسُفْيَانُ وَمَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثور.
(1). الغامدية بالمعجمة: نسبة إلى غامد من جهينة.
وَقَالَ بِتَرْكِهِ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَالْحُجَّةُ لِلْجُمْهُورِ حَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ، وَحَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدِيثُ الْعَسِيفِ «1» وَفِيهِ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ أَمَّا غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرُدَّ عَلَيْكَ) وَجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وَغَرَّبَهُ عَامًا. أَخْرَجَهُ الْأَئِمَّةُ. احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ نَفْيَهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَمَةِ، ذَكَرَ فِيهِ الْجَلْدَ دُونَ النَّفْيِ. وَذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: غَرَّبَ عُمَرُ رَبِيعَةَ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي الْخَمْرِ إِلَى خَيْبَرَ فَلَحِقَ بِهِرَقْلَ فَتَنَصَّرَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا أُغَرِّبُ مُسْلِمًا بَعْدَ هَذَا. قَالُوا: وَلَوْ كَانَ التَّغْرِيبُ حَدًّا لِلَّهِ تَعَالَى مَا تَرَكَهُ عُمَرُ بَعْدُ. ثُمَّ إِنَّ النَّصَّ الَّذِي فِي الْكِتَابِ إِنَّمَا هُوَ الْجَلْدُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ نَسْخُ الْقَاطِعِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ. وَالْجَوَابُ: أَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي الْإِمَاءِ لَا فِي الْأَحْرَارِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ضَرَبَ أَمَتَهُ فِي الزِّنَا وَنَفَاهَا. وأما حديث عمرو قوله: لَا أُغَرِّبُ بَعْدَهُ مُسْلِمًا، فَيَعْنِي فِي الْخَمْرِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- لِمَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ ضَرَبَ وَغَرَّبَ، وَأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ محمد بن العلا الهمداني عن عبد الله ابن إِدْرِيسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ»
نَافِعٍ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ وَلَمْ يُسْنِدْهُ عَنْهُ أَحَدٌ مِنَ الثِّقَاتِ غَيْرَ أَبِي كُرَيْبٍ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّفْيُ فَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ مَعَهُ، وَمَنْ خَالَفَتْهُ السُّنَّةُ خَاصَمْتُهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمُ: الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ، فَلَيْسَ بِمُسَلَّمٍ، بَلْ زِيَادَةُ حُكْمٍ آخَرَ مَعَ الْأَصْلِ. ثُمَّ هُوَ قَدْ زَادَ الْوُضُوءَ بِالنَّبِيذِ بِخَبَرٍ لَمْ يَصِحَّ عَلَى الْمَاءِ، وَاشْتَرَطَ الْفَقْرَ فِي الْقُرْبَى «3» ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ «4» وَيَأْتِي. السَّادِسَةُ- الْقَائِلُونَ بِالتَّغْرِيبِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَغْرِيبِ الذَّكَرِ الْحُرِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَغْرِيبِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ، فَمِمَّنْ رَأَى التَّغْرِيبَ فِيهِمَا ابْنُ عُمَرَ جَلَدَ مَمْلُوكَةً لَهُ في الزنا ونفاها إلى فدك «5»
(1). العسيف (بالسين المهملة والفاء): الأجير.
(2)
. هو عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، يروى عن نافع مولى ابن عمر.
(3)
. راجع ج 8 ص 12.
(4)
. راجع ج 2 ص 61.
(5)
. فدك (بالتحريك): قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة. (عن معجم البلدان).
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالثَّوْرِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَدَاوُدُ. وَاخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي نَفْيِ الْعَبْدِ، فَمَرَّةً قَالَ: أَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِي نَفْيِ الْعَبْدِ، وَمَرَّةً قَالَ: يُنْفَى نِصْفَ سَنَةٍ، وَمَرَّةً قَالَ: يُنْفَى سَنَةً إِلَى غَيْرِ بَلَدِهِ، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ. وَاخْتَلَفَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي نَفْيِ الْأَمَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُنْفَى الرَّجُلُ وَلَا تُنْفَى الْمَرْأَةُ وَلَا الْعَبْدُ، وَمَنْ نُفِيَ حُبِسَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُنْفَى إِلَيْهِ. وَيُنْفَى مِنْ مِصْرَ إِلَى الْحِجَازِ «1» وَشَغْبٍ وَأُسْوَانَ وَنَحْوِهَا، وَمِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى خَيْبَرَ وَفَدَكَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَنَفَى عَلِيٌّ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّ ذَلِكَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ أَصْلُ النَّفْيِ أن نبي إِسْمَاعِيلَ «2» أَجْمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ غُرِّبَ مِنْهُ، فَصَارَتْ سُنَّةً فِيهِمْ يَدِينُونَ بِهَا، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ اسْتَنَّ النَّاسُ إِذَا أَحْدَثَ أَحَدٌ حَدَثًا غُرِّبَ عَنْ بَلَدِهِ، وَتَمَادَى ذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَأَقَرَّهُ فِي الزِّنَا خَاصَّةً. احْتَجَّ مَنْ لَمْ يَرَ النَّفْيَ عَلَى الْعَبْدِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الْأَمَةِ، وَلِأَنَّ تَغْرِيبَهُ عُقُوبَةٌ لِمَالِكِهِ تَمْنَعُهُ مِنْ مَنَافِعِهِ فِي مُدَّةِ تَغْرِيبِهِ، وَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ تَصَرُّفَ الشَّرْعِ، فَلَا يُعَاقَبُ غَيْرُ الْجَانِي. وَأَيْضًا فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْجُمُعَةُ وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ الَّذِي هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَجْلِ السَّيِّدِ، فَكَذَلِكَ التَّغْرِيبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْمَرْأَةُ إِذَا غُرِّبَتْ رُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهَا فِيمَا أُخْرِجَتْ مِنْ سَبَبِهِ وَهُوَ الْفَاحِشَةُ، وَفِي التَّغْرِيبِ سَبَبٌ لِكَشْفِ عَوْرَتِهَا وَتَضْيِيعٌ لِحَالِهَا، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ مَنْعُهَا مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهَا وَأَنَّ صَلَاتَهَا فِيهِ أَفْضَلُ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:(أَعْرُوا النِّسَاءَ يَلْزَمْنَ الْحِجَالَ)«3» فَحَصَلَ مِنْ هَذَا تَخْصِيصُ عُمُومِ حَدِيثِ التَّغْرِيبِ بِالْمَصْلَحَةِ الْمَشْهُودِ لَهَا بِالِاعْتِبَارِ. وَهُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالنُّظَّارِ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَقَالَتْ: يُجْمَعُ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ عَلَى الشَّيْخِ، وَيُجْلَدُ الشَّابُّ، تَمَسُّكًا بِلَفْظِ (الشَّيْخِ) فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:(الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ) خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ «4» . وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ قَدْ سَمَّاهُ فِي الْحَدِيثِ الآخر (الثيب).
(1). كذا في الأصول. وشغب (بفتح فسكون): منهل بين مصر والشام. (عن القاموس).
(2)
. في الأصول بنى إسرائيل. والتصحيح من ابن العربي: وفية أجمع رأى خيار بنى إسماعيل. [ ..... ]
(3)
. الحجال: جمع حجلة بالتحريك، والمراد البيت، أي جردوهن من ثياب الخروج يلزمن البيوت.
(4)
. كذا في الأصول. وهذه رواية البخاري، وفى هامش ب: نسخة: البخاري. وهو الصواب.