المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96] - تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن - جـ ٥

[القرطبي]

فهرس الكتاب

- ‌[تفسير سُورَةُ النِّسَاءِ]

- ‌[سورة النساء (4): آيَةً 1]

- ‌[سورة النساء (4): آية 2]

- ‌[سورة النساء (4): آية 3]

- ‌[سورة النساء (4): آية 4]

- ‌[سورة النساء (4): آية 5]

- ‌[سورة النساء (4): آية 6]

- ‌[سورة النساء (4): آية 7]

- ‌[سورة النساء (4): آية 8]

- ‌[سورة النساء (4): آية 9]

- ‌[سورة النساء (4): آية 10]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 11 الى 14]

- ‌[سورة النساء (4): آية 15]

- ‌[سورة النساء (4): آية 16]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 17 الى 18]

- ‌[سورة النساء (4): آية 19]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 20 الى 21]

- ‌[سورة النساء (4): آية 22]

- ‌[سورة النساء (4): آية 23]

- ‌[سورة النساء (4): آية 24]

- ‌[سورة النساء (4): آية 25]

- ‌[سورة النساء (4): آية 26]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 27 الى 28]

- ‌[سورة النساء (4): آية 29]

- ‌[سورة النساء (4): آية 30]

- ‌[سورة النساء (4): آية 31]

- ‌[سورة النساء (4): آية 32]

- ‌[سورة النساء (4): آية 33]

- ‌[سورة النساء (4): آية 34]

- ‌[سورة النساء (4): آية 35]

- ‌[سورة النساء (4): آية 36]

- ‌[سورة النساء (4): آية 37]

- ‌[سورة النساء (4): آية 38]

- ‌[سورة النساء (4): آية 39]

- ‌[سورة النساء (4): آية 40]

- ‌[سورة النساء (4): آية 41]

- ‌[سورة النساء (4): آية 42]

- ‌[سورة النساء (4): آية 43]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 44 الى 53]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 54 الى 55]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 56 الى 57]

- ‌[سورة النساء (4): آية 58]

- ‌[سورة النساء (4): آية 59]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 60 الى 61]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 62 الى 63]

- ‌[سورة النساء (4): آية 64]

- ‌[سورة النساء (4): آية 65]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 66 الى 68]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70]

- ‌[سورة النساء (4): آية 71]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 72 الى 73]

- ‌[سورة النساء (4): آية 74]

- ‌[سورة النساء (4): آية 75]

- ‌[سورة النساء (4): آية 76]

- ‌[سورة النساء (4): آية 77]

- ‌[سورة النساء (4): آية 78]

- ‌[سورة النساء (4): آية 79]

- ‌[سورة النساء (4): آية 80]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 81 الى 82]

- ‌[سورة النساء (4): آية 83]

- ‌[سورة النساء (4): آية 84]

- ‌[سورة النساء (4): آية 85]

- ‌[سورة النساء (4): آية 86]

- ‌[سورة النساء (4): آية 87]

- ‌[سورة النساء (4): آية 88]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 89 الى 90]

- ‌[سورة النساء (4): آية 91]

- ‌[سورة النساء (4): آية 92]

- ‌[سورة النساء (4): آية 93]

- ‌[سورة النساء (4): آية 94]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 97 الى 99]

- ‌[سورة النساء (4): آية 100]

- ‌[سورة النساء (4): آية 101]

- ‌[سورة النساء (4): آية 102]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 103 الى 104]

- ‌[سورة النساء (4): آية 105]

- ‌[سورة النساء (4): آية 106]

- ‌[سورة النساء (4): آية 107]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 108 الى 109]

- ‌[سورة النساء (4): آية 110]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 111 الى 112]

- ‌[سورة النساء (4): آية 113]

- ‌[سورة النساء (4): آية 114]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 115 الى 116]

- ‌[سورة النساء (4): آية 117]

- ‌[سورة النساء (4): آية 118]

- ‌[سورة النساء (4): آية 119]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 120 الى 122]

- ‌[سورة النساء (4): آية 123]

- ‌[سورة النساء (4): آية 124]

- ‌[سورة النساء (4): آية 125]

- ‌[سورة النساء (4): آية 126]

- ‌[سورة النساء (4): آية 127]

- ‌[سورة النساء (4): آية 128]

- ‌[سورة النساء (4): آية 129]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 130 الى 132]

- ‌[سورة النساء (4): آية 133]

- ‌[سورة النساء (4): آية 134]

- ‌[سورة النساء (4): آية 135]

- ‌[سورة النساء (4): آية 136]

- ‌[سورة النساء (4): آية 137]

- ‌[سورة النساء (4): آية 138]

- ‌[سورة النساء (4): آية 139]

- ‌[سورة النساء (4): الآيات 140 الى 141]

- ‌[سورة النساء (4): آية 142]

- ‌[سورة النساء (4): آية 143]

- ‌[سورة النساء (4): آية 144]

- ‌[سورة النساء (4): آية 145]

- ‌[سورة النساء (4): آية 146]

- ‌[سورة النساء (4): آية 147]

الفصل: ‌[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]

وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ فَقَطْ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ وَلَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي (الْبَقَرَةِ «1») وَقَدْ كَشَفَ الْبَيَانَ فِي هَذَا قَوْلُهُ عليه السلام:(أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ)؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِقْرَارُ وَغَيْرُهُ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهُ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلْعَبْدِ طَرِيقٌ إِلَيْهِ إِلَّا مَا سُمِعَ مِنْهُ فَقَطْ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا أَيْضًا مَنْ قَالَ: إِنَّ الزِّنْدِيقَ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِذَا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا فِي أَوَّلِ الْبَقَرَةِ «2» . وَفِيهَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُ مَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ الْخَلْقِ بِأَنْ خَصَّهُمْ بِالتَّوْفِيقِ، وَالْقَدَرِيَّةُ تَقُولُ: خَلَقَهُمْ كُلُّهُمْ لِلْإِيمَانِ. وَلَوْ كَانَ كَمَا زَعَمُوا لَمَا كَانَ لِاخْتِصَاصِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمِنَّةِ مِنْ بَيْنِ الْخَلْقِ مَعْنًى. الْحَادِيَةُ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَبَيَّنُوا) أَعَادَ الْأَمْرَ بِالتَّبْيِينِ لِلتَّأْكِيدِ. (إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) تَحْذِيرٌ عَنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ، أَيِ احْفَظُوا أنفسكم وجنبوها الزلل الموبق لكم.

[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]

لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى (لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وَالضَّرَرُ الزَّمَانَةُ. رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِأَبِي دَاوُدَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنْتُ إِلَى جَنْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَغَشِيَتْهُ السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فخذ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى فخذي، فما وجدت ثقل شي

(1). راجع ج 1 ص 193.

(2)

. راجع ج 1 ص 198.

ص: 341

أَثْقَلَ مِنْ فَخِذِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ:(اكْتُبْ) فَكَتَبْتُ فِي كَتِفٍ «1» (لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، فَقَامَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ- وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى- لَمَّا سَمِعَ فَضِيلَةَ الْمُجَاهِدِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَلَمَّا قَضَى كَلَامَهُ غَشِيَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السَّكِينَةُ فَوَقَعَتْ فَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، وَوَجَدْتُ مِنْ ثِقَلِهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيةِ كَمَا وَجَدْتُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:(اقْرَأْ يَا زَيْدُ) فَقَرَأْتُ (لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) الْآيَةَ كُلَّهَا. قَالَ زَيْدٌ: فَأَنْزَلَهَا اللَّهُ وَحْدَهَا فَأَلْحَقْتُهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُلْحَقِهَا عِنْدَ صَدْعٍ فِي كَتِفٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ مِقْسَمٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ:(لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) عَنْ بَدْرٍ وَالْخَارِجُونَ إِلَى بَدْرٍ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَهْلُ الضَّرَرِ هُمْ أَهْلُ الْأَعْذَارِ إِذْ قَدْ أَضَرَّتْ بِهِمْ حَتَّى مَنَعَتْهُمُ الْجِهَادَ. وَصَحَّ وَثَبَتَ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ- وَقَدْ قَفَلَ مِنْ بَعْضِ غَزَوَاتِهِ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا مَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا وَلَا سِرْتُمْ مَسِيرًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ أُولَئِكَ قَوْمٌ حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ). فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَاحِبَ الْعُذْرِ يُعْطَى أَجْرُ الْغَازِي، فَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَجْرُهُ مُسَاوِيًا، وَفِي فَضْلِ اللَّهِ مُتَّسَعٌ، وَثَوَابُهُ فَضْلٌ لَا اسْتِحْقَاقٌ، فَيُثِيبُ عَلَى النِّيَّةِ الصادقة مالا يُثِيبُ عَلَى الْفِعْلِ. وَقِيلَ: يُعْطَى أَجْرَهُ مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ فَيَفْضُلُهُ الْغَازِي بِالتَّضْعِيفِ لِلْمُبَاشَرَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ رِجَالًا) وَلِحَدِيثِ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ قَوْلُهُ عليه السلام (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ) الْحَدِيثَ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (آلِ عِمْرَانَ «2»). وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى اكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي الصِّحَّةِ إِلَى أَنْ يَبْرَأَ أو أقبضه إلي).

(1). الكتف: عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب كانوا يكتبون فيه لقلة القراطيس عندهم. [ ..... ]

(2)

. راجع ج 4 ص 215. وراجع ج 8 ص 292.

ص: 342

الثَّانِيةُ- وَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ أَهْلِ التَّطَوُّعِ، لِأَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ لَمَّا كَانُوا مُتَمَلِّكِينَ بِالْعَطَاءِ، وَيُصَرَّفُونَ فِي الشَّدَائِدِ، وَتُرَوِّعُهُمُ «1» الْبُعُوثُ وَالْأَوَامِرُ، كَانُوا أَعْظَمَ مِنَ الْمُتَطَوِّعِ، لِسُكُونِ جَأْشِهِ وَنِعْمَةِ بَالِهِ فِي الصَّوَائِفِ «2» الْكِبَارِ وَنَحْوِهَا. قَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: أَصْحَابُ الْعَطَاءِ أَفْضَلُ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ لِمَا يُرَوَّعُونَ. قَالَ مَكْحُولٌ: رَوْعَاتُ الْبُعُوثِ تَنْفِي رَوْعَاتِ الْقِيَامَةِ. الثَّالِثَةُ- وَتَعَلَّقَ بِهَا أَيْضًا مَنْ قَالَ: إِنَّ الْغِنَى أَفْضَلُ مِنَ الْفَقْرِ، لِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالَ الَّذِي يُوصَلُ بِهِ إِلَى صَالِحِ الْأَعْمَالِ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّ مَا أَحْوَجَ مِنَ الْفَقْرِ مَكْرُوهٌ، وَمَا أَبْطَرَ مِنَ الْغِنَى مَذْمُومٌ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ، لِأَنَّ الْغَنِيَّ مُقْتَدِرٌ وَالْفَقِيرَ عَاجِزٌ، وَالْقُدْرَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْعَجْزِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ النَّبَاهَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ الْفَقْرِ، لِأَنَّ الْفَقِيرَ تَارِكٌ وَالْغَنِيُّ مُلَابِسٌ، وَتَرْكُ الدُّنْيَا أَفْضَلُ مِنْ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ السَّلَامَةِ. وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى تَفْضِيلِ التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْفَقْرِ إِلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى لِيَصِلَ إِلَى فَضِيلَةِ الْأَمْرَيْنِ، وَلِيَسْلَمَ مِنْ مَذَمَّةِ الْحَالَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَرَى تَفْضِيلَ الِاعْتِدَالِ وَأَنَّ (خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا). وَلَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ الْحَكِيمُ حَيْثُ قَالَ:

أَلَا عَائِذًا بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ الْغِنَى

وَمِنْ رَغْبَةٍ يَوْمًا إِلَى غَيْرِ مُرْغَبِ

الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قِرَاءَةُ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَبُو عَمْرٍو (غَيْرُ) بِالرَّفْعِ، قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ نَعْتٌ لِلْقَاعِدِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقْصَدْ بِهِمْ قَوْمٌ بِأَعْيَانِهِمْ فَصَارُوا كَالنَّكِرَةِ فَجَازَ وَصْفُهُمْ بِغَيْرِ، وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ. وَالْمَعْنَى لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ الْأَصِحَّاءُ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ (غَيْرِ) جَعَلَهُ نَعْتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ مِنَ المؤمنين الأصحاء.

(1). في نسخ الأصل اختلاف في هذه العبارة والذي أثبتناه هو ما في ابن عطية، وهو الواضح.

(2)

. الصائفة: الغزوة في الصيف.

ص: 343

وَقَرَأَ أَهْلُ الْحَرَمَيْنِ (غَيْرَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الْقَاعِدِينَ أَوْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ إِلَّا أُولِي الضَّرَرِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَوُونَ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ. وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْقَاعِدِينَ، أَيْ لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْأَصِحَّاءِ أَيْ فِي حَالِ صِحَّتِهِمْ، وَجَازَتِ الْحَالُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ لَفْظَهُمْ لَفْظُ الْمَعْرِفَةِ، وَهُوَ كَمَا تَقُولُ: جَاءَنِي زَيْدٌ غَيْرُ مَرِيضٍ. وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَبَبِ النُّزُولِ يَدُلُّ على معنى النصب، والله أعلم. الخامسة- قوله تعالى:(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) وَقَدْ قَالَ بَعْدَ هَذَا: (دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً) فَقَالَ قَوْمٌ: التَّفْضِيلُ بِالدَّرَجَةِ ثُمَّ بِالدَّرَجَاتِ إِنَّمَا هُوَ مُبَالَغَةٌ وَبَيَانٌ وَتَأْكِيدٌ. وَقِيلَ: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ مِنْ أُولِي الضَّرَرِ بِدَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى القاعدين من غير عذر درجات، قاله ابْنُ جُرَيْجٍ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى دَرَجَةٍ عُلُوٌّ، أَيْ أَعْلَى ذِكْرَهُمْ وَرَفَعَهُمْ بِالثَّنَاءِ والمدح والتقريظ. فهذا معنى درجة، ودرجات يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ مُحَيْرِيزٍ: سَبْعِينَ دَرَجَةً بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ حُضْرُ «1» الْفَرَسِ الْجَوَادِ سبعين سنة. و (دَرَجاتٍ) بَدَلٌ مِنْ أَجْرٍ وَتَفْسِيرُ لَهُ، وَيَجُوزُ نَصْبُهُ أَيْضًا عَلَى تَقْدِيرِ الظَّرْفِ، أَيْ فَضَّلَهُمْ بِدَرَجَاتٍ، ويجوز أن يكون توكيدا لقوله (أَجْراً عَظِيماً) لِأَنَّ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ هُوَ الدَّرَجَاتُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ، وَيَجُوزُ الرَّفْعُ، أَيْ ذَلِكَ دَرَجَاتٌ. و (أَجْراً) نُصِبَ بِ (فَضَّلَ) وَإِنْ شِئْتَ كَانَ مَصْدَرًا وَهُوَ أَحْسَنُ، وَلَا يَنْتَصِبُ بِ (فَضَّلَ) لِأَنَّهُ قد استوفى مفعولية وهما قوله (الْمُجاهِدِينَ) و (عَلَى الْقاعِدِينَ)، وَكَذَا (دَرَجَةً). فَالدَّرَجَاتُ مَنَازِلُ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (أَنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ (.) وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى كُلًّا منصوب ب (وَعَدَ) و (الْحُسْنى) الْجَنَّةُ، أَيْ وَعَدَ اللَّهُ كُلًّا الْحُسْنَى. ثُمَّ قِيلَ: الْمُرَادُ (بِكُلٍّ) الْمُجَاهِدُونَ خَاصَّةً. وَقِيلَ: الْمُجَاهِدُونَ واو لو الضرر. والله أعلم.

(1). الحضر (كقفل): ارتفاع الفرس في عدوه.

ص: 344