الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) أي فهلا وجد من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم فى الأرض جماعة أو لو عقل ورأى وصلاح ينهونهم عن الفساد فى الأرض باتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم، فيحولون بينهم وبين الفساد، ومن سنة الله ألا يهلك قوما إلا إذا عمّ الفساد والظلم أكثرهم.
(إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ) أي ولكن كان هناك قليل من الذين أنجيناهم مع رسلهم منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم مهددين مع رسلهم بالإبعاد والأذى.
(وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ) أي واتبع الظالمون وهم الأكثرون ما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا واستكبروا وصدوا عن سبيل الله، وكانوا ذوى جرائم بما ولده الترف والنعيم، فكان هو المسخّر لعقولهم، وبذا رجّحوا ما أتوا على اتباع الرسل.
وخلاصة ذلك- إن العقول السليمة كافية لفهم ما فى دعوة الرسل من الخير والصلاح لو لم يمنع استعمال هدايتها الافتتان بالترف والنعيم بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر المنعم عليه، وقد هدت التجارب إلى أن الترف هو الباعث على الفسوق والعصيان والظلم والإجرام، ويظهر ذلك بديئا فى الرؤساء والسادة، ومنهم ينتقل إلى الدهماء والعامة فيكون ذلك سببا فى الهلاك بالاستئصال، أو فى فقد العزة والاستقلال، وتلك هى سنة الله فى خلقه كما قال:«وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً» .
ثم بين سبحانه ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال:
(وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) الظلم هو الشرك أي إنه تعالى ليس من سنته أن يهلك القرى بشرك أهلها ماداموا مصلحين فى أعمالهم الاجتماعية والعمرانية والمدنية، فلا يبخسون الناس حقوقهم كما فعل قوم شعيب، ولا يبطشون بالناس
بطش الجبارين كقوم هود، ولا يذلّون لمتكبر جبار كقوم فرعون ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون فى ناديهم المنكر كقوم لوط، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد فى الأعمال والأحكام، ويفعلوا الظلم المدمّر للعمران، ومن ثم قالوا: الأمم تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم والجور، ويؤيد هذا ما
أخرجه الطبراني والديلمي وابن مردويه عن جرير بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن تفسير هذه الآية فقال: «وأهلها ينصف بعضهم بعضا» .
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) أي ولو شاء ربك أيها الرسول الكريم، الشديد الحرص على إيمان قومك، الحزين من أجل إعراض أكثرهم عن إجابة دعوتك واتباع هديك- لجعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا اختيار لهم فيما يفعلون، فكانوا فى حياتهم الاجتماعية أشبه بالنمل والنحل، وفى حياتهم الروحية أشبه بالملائكة مفطورين على طاعة الله واعتقاد الحق وعدم الميل إلى الزيغ والجور، لكنه تعالى خلقهم كاسبين لا ملهمين، وعاملين بالاختيار لا مجبورين ولا مضطرين وجعلهم متفاوتين فى الاستعداد وكسب العلم، وكانوا فى أطوارهم الأولى لا اختلاف بينهم، ثم لما كثرت وتنوعت حاجاتهم وكثرت مطالبهم ظهر فيهم الاستعداد للاختلاف كما قال تعالى:«وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا» .
(وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) أي ولا يزالون مختلفين فى شئونهم الدنيوية والدينية بحسب استعدادهم الفطري، إلا من رحم الله منهم فإنهم يتفقون على حكم كتابه فيهم وهو الذي عليه مدار جمع كلمة الأمة ووحدتها.
(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي ولمشيئته تعالى فيهم الاختلاف والتفرق فى علومهم ومعارفهم وآرائهم، وما يتبع ذلك من الإرادة والاختيار فى الأعمال- خلقهم، وبهذا كانوا خلفاء فى الأرض، ومن ذلك اختلافهم فى الدين والإيمان والطاعة والعصيان، وبذا كانوا مظهر لأسرار خلقه الروحية والجسدية أو المادية والمعنوية، وقال ابن عباس