الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وارتفع، والمراد منه هنا اشتداد غضب الله على أولئك المشركين الظالمين لأنفسهم وللناس، وحلول وقت انتقامه منهم، والتنور: ما يخبز فيه الخبز، اتفقت فيه لغة العرب والعجم وأهل بيت الرجل: نساؤه وأولاده وأزواجهم، ومجريها ومرساها: أي إجراؤها وإرساؤها، ومعزل: أي مكان عزلة وانفراد، وآوى: أي ألجأ، وعصمه: حفظه، والبلع: ازدراد الطعام والشراب بسرعة، وغاض الماء غار فى الأرض ونضب، والجودي: جبل بالموصل.
المعنى الجملي
هذه الآيات غاية لما ذكر قبلها من الاستعداد لهلاكهم، ومقابلة السخرية بغير ابتئاس ولا ضجر.
الإيضاح
(حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) أي حتى إذا جاء وقت أمرنا بهلاكهم، ونبع الماء من التنور وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها، وكان ذلك علامة لنوح عليه السلام، والأقرب أن يكون المراد من التنور وجه الأرض، ويكون المعنى حتى إذا نبع الماء من وجه الأرض.
(قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي حتى إذا أمرنا قلنا لنوح آنئذ: احمل فى السفينة من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين اثنين ذكرا وأنثى، لتبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض.
(وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل فيها أهل بيتك ذكرانا وإناثا إلا من سبق عليه القول بأنهم من المغرقين بسبب ظلمهم كما قال: (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) واحمل من صدقك واتبعك من قومك.
(وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) منهم، قيل إنهم كانوا ثمانية: نوحا عليه السلام وأهله
وأبناءه الثلاثة وأزواجهم، ولم يبين الله ورسوله لنا عددهم، فحصره فى عدد معين من قبيل الحدس والتخمين، كما لم يبين لنا أنواع الحيوان التي حملها ولا كيف حملها وأدخلها السفينة، وقد فصل ذلك فى سفر التكوين.
(وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي فحملهم نوح وقال اركبوا فيها باسم الله جريانها وإرساؤها، فهو الذي يتولّى ذلك بحوله وقوته، وحفظه وعنايته، وقد يكون المعنى: إن نوحا أمرهم بأن يقولوها كما يقولها على تقدير: اركبوا فيها قائلين باسم الله أي بتسخيره وقدرته مجراها حين تجرى، ومرساها حين يرسيها، لا بحولنا ولا بقوتنا.
(إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إن ربى لواسع المغفرة لعباده حيث لم يهلكهم بذنوبهم، بل يهلك الكافرين الظالمين منهم، رحيم بهم إذ سخر لهم هذه السفينة لنجاة بقية الإنسان والحيوان من هذا الطوفان الذي اقتضته مشيئته.
أخرج الطبراني وغيره عن الحسن بن على رضى الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا الفلك أن يقولوا: باسم الله الملك الرحمن الرحيم (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) الآية» .
(وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) أي هى تجرى بهم فى موج يشبه الجبال فى علوه وارتفاعه وامتداده، ومن كابد ما يحدث فى البحار العظيمة من الأمواج حين ما تهيجها الرياح الشديدة عرف أن المبالغة فى هذا التشبيه غير بعيدة، فإن السفينة لترى كأنها تهبط فى غور عميق كواد سحيق يرى البحر من جانبيه كجبلين عظيمين يكادان يطبقان عليها، وبعد هنيهة يرى أنها قد اندفعت إلى أعلى الموج كأنها فى شاهق جبل تريد أن تنقضّ منه، والملاحون يربطون أنفسهم بالحبال على ظهرها وجوانبها لئلا يجرفهم ما يفيض من الموج عليها.
ثم بين أن نوحا دعته الشفقة على ابنه فناداه كما أشار إلى ذلك بقوله:
(وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)
أي وناداه حين الركوب فى السفينة، وقبل أن تجرى بهم، وكان فى مكان منعزل بعيد عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، يا بنى اركب معنا الفلك ولا تكن مع الكافرين الذين قضى عليهم بالهلاك.
فردّ ابنه عليه:
(قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي قال سأصير إلى جبل أتحصن به من الماء فيحفظنى من الغرق:
فأجابه نوح مبيّنا له خطأه:
(قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي قال نوح لابنه لا شىء يعصم أحدا فى هذا اليوم العصيب من عذاب الله الذي قضاه على الكافرين، فليس الأمر أمر ماء يتّقى بالأسباب العادية، وإنما هو انتقام من أشرار العباد الذين أشركوا بالله وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بطغيانهم فى البلاد، لكنه يحفظ من رحم ويعصمه، وقد اختص بهذه الرحمة من حملهم فى السفينة، وكان الماء قد بدأ يرتفع أثناء الحديث حتى حال بين الولد ووالده فكان من المغرقين الهالكين.
وقد وصف سبحانه هذا الطوفان فى سورة القمر قال: «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ، فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ، فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ، وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ، وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ، وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ، فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» .
وإنه لمنظر تشيب من هوله الولدان، ماء ينهمر من السماء انهمارا، وأرض تتفجر فتفيض ماء ثجاجا يصير بحرا متلاطم الأمواج، تغطت من تحته الأرض بجبالها ووديانها،