الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإيضاح
(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) أي فسجنوه ودخل معه فتيان مملو كان من غلمان ملك مصر أحدهما خبازه والآخر ساقيه- لخيانة نسبت إليهما كانت ستودى بحياته، وبعد أن استقر بيوسف المقام فى السجن- سأله من فيه عن عمله فقال إنى أعبر الرؤى، فقال أحد الفتيين لصاحبه تعالى فلنجرّ به وكان من شأنهما معه ما قصه الله علينا بقوله (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) أي قال صاحب شرابه: إنى رأيت فى المنام أنى أعصر خمرا أي عنبا ليكون خمرا، إذ الخمر لا يعصر، وقيل إن عرب غسان وعمّان يسمون العنب خمرا. روى أنه قال رأيت حبلة من كرم حسنة لها ثلاثة أغصان فيها عناقيد فكنت أعصرها وأسقى الملك.
(وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ) أي وقال الآخر وهو الخباز، وقد روى أنه قال: رأيت أنى أخرج من مطبخ الملك وعلى رأسى ثلاث سلال فيها خبز والطير تأكل من أعلاه.
(نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي قال كل واحد منهما: نبئنى بتأويل ما رأيت أي بتفسيره الذي يئول إليه فى الخارج إذا كان حقا لا أضغاث أحلام.
ثم بينا له ثقتهما به فقالا:
(إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يحسنون تأويل الرؤيا، وما قالا هذا إلا بعد أن رأيا من سعة علمه وحسن سيرته مع أهل السجن ما جعله كعبة قصادهم وقبلة استفتائهم.
وقد يكون المعنى: إنا نراك من الذين يحسنون بمقتضى غريزتهم، ويريدون الخير للناس وإن لم يكن لهم فيه منفعه خاصة لهم.
وقد وجد يوسف عليه السلام من ثقة السائلين بعلمه وفضله واهتمامهما بما يسمعان من تأويله لرؤياهما ما جعله يحدثهما بما هو المهم عنده وهو دعوتهما وجميع من فى السجن
إلى توحيد الله، ولكنه جعل فى صدر كلامه ما يطمئنهم على الثقة بصدقه، وذلك بإظهار ما منّ الله به عليه من تعليمه ما شاء من أمور الغيب، وأقرب ذلك إلى اقتناعهم ما يختص بمعيشتهم، ومن ثم جعله بدء الحديث معهم كما حكى سبحانه عنه.
(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي قال لهما لا يأتيكما طعام إلا أخبرتكما به وهو عند أهله وبما يريدون من إرساله وما ينتهى إليه بعد وصوله إليكما روى أن رجال الدولة كانوا يرسلون إلى المجرمين طعاما مسموما يقتلونهم به، وأن يوسف أراد هذا من كلامه.
وفى ذلك إيماء إلى أنه أوتى علم الغيب، وهذا يجرى مجرى قول عيسى عليه السلام:«وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ» .
ومن هذا يعلم أن وحي الرسالة جاءه وهو فى السجن، وبذلك تحقق قوله:
«رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ» كما أن وحي الإلهام جاءه حين إلقائه فى غيابة الجب كما تقدم ذكره، وكأنه سبحانه جعل فى كل محنة منحة، وفى كل ما ظاهره أنه بلاء نعمة.
(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) أي ذلكما الذي أنبأتكما به بعض ما علمنى ربى بوحي منه إلى لا بكهانة ولا عرافة ولا ما يشبه ذلك من تعليم بشرى يلتبس به الحق بالباطل ويشتبه فيه الصواب بالخطأ.
(إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) القوم هنا الكنعانيون وغيرهم من سكان أرض الميعاد، والمصريون الذين هو بينهم فقد كانوا يعبدون آلهة منها الشمس ويسمونها (رع) ومنها عجلهم (أبيس) ومنها فراعنهم، وكان التوحيد خاصا بحكمائهم وعلمائهم، ومعنى تركها أنه ترك دخولها واتباع أهلها من عبدة الأوثان على كثرة أهلها، وفى ذلك لفت لأنظارهما لأن يتركا تلك الملة التي هم عليها.
والمعنى- إنى برئت من ملة من لا يصدق بالله ولا يقر بوحدانيته وأنه خالق السموات والأرض وما بينهما.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) أي وهم يكفرون بالآخرة والحساب والجزاء على الوجه الذي دعا إليه الأنبياء، إذ أنهم كانوا يصورون حياة الآخرة على صور مبتدعة، منها أن فراعنتهم يعودون إلى الحياة الآخرة بأجسادهم المحنطة ويرجع إليهم الحكم والسلطان كما كانوا فى الدنيا، ومن ثم كانوا يضعون معهم فى مقابرهم جواهرهم وحليهم، ويبنون الأهرام لحفظ جئثهم وما معهم، ولهم معتقدات أخرى فى تلك الحياة لا تشا كل ما جاء عنها على ألسنة الرسل عليهم السلام.
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) أي واتبعت ملة آبائي الذين دعوا إلى التوحيد الخالص وهم إبراهيم وإسحق ويعقوب، وفى ذكر ذلك ترغيب لصاحبيه فى الإيمان والتوحيد وتنفير لهما عما هما فيه من الشرك والضلال.
ثم بين أساس الملة التي ورثها عن أولئك الآباء الكرام فكانت يقينا له بقوله:
(ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) أي لا ينبغى لنا معشر الأنبياء أن نشرك بالله شيئا فنتخذه ربا مدبرا معه ولا إلها معبودا من الملائكة أو البشر كالفراعنة، فضلا عما دونهما من البقر كالعجل أبيس أو من الشمس والقمر، أو ما يتخذ من التماثيل والصور لهذه الآلهة.
(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ) أي عدم الإشراك من فضل الله علينا، إذ هدانا إلى معرفته وتوحيده فى ربوبيته وألوهيته، بوحيه وآياته فى الأنفس والآفاق، وعلى الناس بإرسالنا إليهم، ننشر فيهم الدعوة، ونقيم عليهم الحجة، فنهديهم سبيل الرشاد، ونبين لهم محجة الصواب، ونبعدهم عن طرق الغواية والضلال.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) نعم الله عليهم، فيشركون به أربابا وآلهة من خلقه، يذلون أنفسهم بعبادتهم، وهم مخلوقون لله مثلهم أو أدنى منهم.