الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير المفردات
نتلو عليك: أي ننزل عليك، والنبأ: الخبر العجيب، علا: تجبر واستكبر، شيعا: أي فرقا يستخدم كل صنف فى عمل من بناء وحفر وحرث إلى نحو ذلك من الأعمال الشاقة، ويغرى بينهم العداوة والبغضاء حتى لا يتفقوا، يستضعف: أي يجعلهم ضعفاء مقهورين، والطائفة هنا هم بنو إسرائيل، ونمن: أي نتفضل، والأئمة: واحدهم إمام وهو من يقتدى به فى الدين أو فى الدنيا، ويقال مكّن له إذا جعل له مكانا موطّأ ممهدا يجلس عليه، والمراد به هنا التسلط على أرض مصر والتصرف فيها، وهامان وزير فرعون، يحذرون: أي يتوقعونه من ذهاب ملكهم وهلكهم على يد مولود من بنى إسرائيل.
الإيضاح
(طسم) تقدم أن قلنا إن أحق الآراء وأجدرها بالقبول فى معنى هذه الحروف المقطعة أنها حروف يراد بها التنبيه، كما يراد مثل ذلك من معنى (يا) فى النداء و (ألا) ونحوهما، وينطق بها بأسمائها هكذا (طاسين ميم)(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي هذه آيات الكتاب الكريم، الذي أنزلته إليك أيها الرسول واضحا جليا كاشفا لأمور الدين وأخبار الأولين، لم تتقوله ولم تتخرّصه كما زعم المشركون المنكرون له ولرسالة من أوحى إليه.
ثم ذكر ما هو كالدليل على أنه وحي يوحى وليس هو من وضع البشر فقال:
(نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي نتلو عليك بعض أخبار موسى ومحاجته لفرعون وغلبته إياه بالحجة، وإخبار فرعون وجبروته وطغيانه، وكيف قابل الحق بالباطل، ولم تجد معه البراهين الساطعة، والمعجزات الواضحة، فأخذناه أخذ عزيز مقتدر، فكانت عاقبته الدمار والوبال، وأغرق ومن معه من جنده أجمعون، نتلوها عليك تلاوة على وجه الحق كأنك شاهد حوادثها، مبصر وقائعها، تصف ما ترى وتبصر عيانا، لقوم يصدقون بك وبكتابك. لتطمئن به قلوبهم وتثلج به صدورهم، ويعلموا أنه الحق من ربهم، وأن سنته فيمن خالفك وعاداك من المشركين هى سنته فيمن عادى موسى ومن آمن معه من بنى إسرائيل، وأن النصر دائما للمتقين ويخزى الله المكذبين:«فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» .
وإنما جعل التلاوة للمؤمنين وهو يتلى على الناس أجمعين، لبيان أنه لا يعتبر بها إلا من كان له قلب واع وأذن سامعة تذكر وتتعظ بآياته، أما من أعرض عنه، وأبى واستكبر، وقال إن هذا إلا سحر يؤثر، فلا تفيده الآيات والنذر، ولا يلقى له بالا، ولا يعى ما فيه من حكمة، ولا ما يسوقه من عبرة، فهو على نحو ما حكى الله عنهم:
«وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» .
ثم فصل هذا المجمل ووضحه بقوله:
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) أي إن فرعون تجبر فى مصر وقهر أهلها وجاوز الغاية فى الظلم والعدوان وساس البلاد سياسة غاشمة.
ومما مكّن له فى ذلك ما بينه الله سبحانه بقوله:
(وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي وفرقهم فرقا مختلفة، وأحزابا متعددة، وأغرى بينهم العداوة والبغضاء، كيلا يتفقوا على أمر ولا يجمعوا على رأى، ويشتغل بعضهم بالكيد لبعض، وبذا يلين له قيادهم، ولا يصعب عليه خضوعهم واستسلامهم، وتلك هى سياسة الدول الكبرى فى العصر الحاضر، وذلك هو دستورها فى حكمها
لمستعمراتها، وقد نقش حكامها فى صدورهم ذلك الدستور الذي ساروا عليه «فرّق تسد» وطالما أجدى عليهم فى سياسة تلك البلاد، التي يعمّها الجهل ويطغى على أهلها حب الظهور. ويرضون بالنّفاية والقشور.
رحماك، اللهم رحماك، بسطت لعبادك سنتك فى الأكوان، وأبنت لهم طبيعة الإنسان، وأنه محب للظلم والعدوان.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
…
ذا عفة فلعلة لا يظلم
(يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) أي يجعل جماعة منهم أذلاء مقهورين، يسومهم الخسف، ويعاملهم بالعسف، وهم بنو إسرائيل.
ثم فسر هذا الاستضعاف بقوله:
(يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) أي يذبح أبناءهم حين الولادة، وقد وكل بذلك عيونا تتجسس، فكلما ولدت امرأة منهم ذكرا ذبحوه، ويستبقى إناثهم، لأنه كان يتوجس خيفة من الذكران الذين يتمرسون الصناعات، وبأيديهم زمام المال، فإذا طال بهم الأمد استولوا على المرافق العامة، وغلبوا المصريين عليها والغلب الاقتصادى فى بلد ما أشدّ وقعا وأعظم أثرا فى أهلها من الغلب الاستعمارى، ومن ثمّ لم يشأ أن يقتل النساء.
روى السّدّى أن فرعون رأى فى منامه أن نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتغلت على بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بنى إسرائيل، فسأل علماء قومه، فأخبره الكهنة أنه سيخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك مصر على يديه، فأخذ يفعل ما قص علينا الكتاب الكريم.
قال الزجاج: والعجب من حمق فرعون، فإن الكاهن الذي أخبره بذلك إن كان صادقا عنده فما ينفع القتل، وإن كان كاذبا فلا داعى للقتل اهـ.
ولا يعنينا من أمر هذه الرواية شىء فسواء صحت أو لم تصح، فإن السرّ المعقول ما قصصناه عليك أوّلا.
ثم علل اجتراحه لتلك الجرائم، وإزهاقه للأرواح البريئة بقوله:
(إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ومن ثم سولت له نفسه أن يفعل ما فعل من تلك الفظائع، وقتل سلائل الأنبياء بلا جريمة ارتكبوها، ولا ذنب جنوه، وقد كانت هناك وسائل عديدة ليصل بها إلى اتقاء شرور اليهود بحسب ما يزعم، وكان له فيها غنية عن سفك الدماء، ولكن قساة القلوب غلاظ الأكباد تتوق نفوسهم إلى الولوغ فى الدم، ويجعلونه الترياق الشافي لحزازات نفوسهم، وسخائم أفئدتهم.
ثم ذكر سبحانه ما أكرم به هذه الأمة وما أتاح لها من السلطان الديني والدنيوي، فتأسست لهم دولة عظيمة فى بلاد الشام، وصاروا يتصرفون فى أرض مصر كما شاءوا فقال:
(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) أي ونريد أن نتفضل بإحساننا على من استضعفهم فرعون وأذلهم، وننجيهم من بأسه، ونريهم فى أنفسهم وفى أعدائهم فوق ما يحبون، وأكثر مما يؤملون.
(وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) مقتدى بهم فى الدين والدنيا.
(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) لملك الشام لا ينازعهم فيه منازع، وقد جاء فى آية أخرى:
«وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا» وفى ثالثة «كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ» .
(وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي ونسلطهم على أرض مصر يتصرفون فيها كيفما شاءوا بتأييدهم بكليم الله ثم بالأنبياء من بعده.
ثم بين ما نال عدوهم من النكال والوبال فقال:
(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي ونرى أولئك الأقوياء والأعداء والألداء على أيدى بنى إسرائيل من المذلة والهوان وما كانوا يتوقعونه من زوال الملك والسلطان على يد مولود منهم، ولكن لا ينجى حذر من قدر، فنفذ حكم الله الذي جرى به القلم من القدم على يد هذا الغلام الذي احترز من وجوده وقتل بسببه ألوفا من الولدان، وكان منشؤه ومرباه على فراشه وفى داره، وغذاؤه
من طعامه، وكان يدلله ويتبناه، وحتفه وهلاكه وهلاك جنوده على يديه، ليعلم أن رب السموات والأرض هو الغالب على أمره، الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
وخلاصة ما سلف:
(1)
إن فرعون علا فى الأرض.
(2)
استضعف حزبا من أحزاب مصر.
(3)
قتل الأبناء.
(4)
استحيا النساء.
(5)
إنه كان من المفسدين.
وقد قابل سبحانه هذه الخمسة بخمسة مثلها تكرمة لبنى إسرائيل:
(1)
إنه منّ عليهم بإنقاذهم من بطش فرعون وجبروته.
(2)
إنه جعلهم أئمة مقدّمين فى الدارين.
(3)
إنه ورّثهم أرض الشام.
(4)
إنه مكن لهم فى أرض الشام ومصر.
(5)
إنه أرى فرعون وهامان وجنودهما ما كانوا يحذرون من ذهاب ملكهم على أيديهم:
هذان عظمة وضعف يعقب أحدهما الآخر كما يعقب الليل النهار، سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا:«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ» .
انظر إلى الدولتين الفارسية والرومية، وما كان لهما من مجد بازخ، وملك واسع، كيف دالت دولتهما، وذهب ريحهما بظلم أهلهما، وتقسّم ملكهما، ثم قامت بعدهما الدولة العربية وعاشت ما شاء الله أن تعيش، ثم قام بعدها بنو عثمان وملكوا أكثر مما كان بيد الأمة العربية، ثم هرمت دولتهم وشاخت واستولت عليها ممالك أوروبا.