الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
به هنا المال المدّخر، ومفاتحه: أي خزائنه واحدها مفتح (بفتح الميم) وتنوء: من ناء به الحمل ينوء: إذا أثقله حتى أماله. قال ذو الرمة:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها
…
وتمشى الهوينى عن قريب فتبهر
والعصبة: الجماعة الكثيرة يتعصب بعضهم لبعض بلا تعيين عدد خاص، والقوة:
الشدة، لا تفرح: أي لا تبطر وتتمسك بالدنيا ولذاتها حتى تتلهى عن الآخرة، قال بيهس العذرى:
ولست بمفراح إذا الدهر سرّنى
…
ولا جازع من صرفه المتقلّب
والدار الآخرة: أي ثواب الله بإنفاق المال فيما يوصل إلى مرضاته، على علم عندى: أي على حسن تصرف فى المتاجر واكتساب الأموال.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه حديث أهل الضلالة وما يلقونه من الإهانة والاحتقار يوم القيامة، ومناداتهم على رءوس الأشهاد بما يفضحهم ويبين لهم سوء مغبتهم. أعقبه بقصص قارون، ليبين عاقبة أهل البغي والجبروت فى الدنيا والآخرة، فقد أهلك قارون بالخسف، وزلزلت به الأرض، وهوت من تحته، ثم أصبح مثلا يضرب للناس فى ظلمه وعتوّه، ويستبين لهم به سوء عاقبة البغاة، وما يكون لهم من النكال والوبال فى الدنيا والآخرة. فيندمون على ما فعلوا:
ندم البغاة ولات ساعة مندم
…
والبغي مرتع مبتغيه وخيم
الإيضاح
(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) أي إنه كان من بنى إسرائيل، لأنه ابن عم
موسى، فموسى هو ابن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب عليه السلام، وقارون ابن يصهر بن قاهث إلخ.
وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أحفظ بنى إسرائيل للتوراة، وأقرأهم لها، لكنه نافق كما نافق السامري وقال: إذا كانت النبوة لموسى، والمذبح والقربان لهرون، فما لى إذا؟.
(فَبَغى عَلَيْهِمْ) أي تجاوز الحد فى احتقارهم. والقرابة كثيرا ما تدعو إلى البغي.
ثم ذكر سبب بغيه وعتوه بقوله:
(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) أي وأعطيناه المال المذخور الذي يثقل حمل مفاتيح خزائنه على العدد الكثير من الأقوياء من الناس.
روى عن ابن عباس أن مفاتيح خزائنه كان يحملها أربعون رجلا من الأقوياء، وكانت أربعمائة ألف يحمل كل رجل عشرة آلاف، ولا شك أن مثل هذا التحديد يحتاج إلى سند قوى يعسر الوصول إليه، ومثل هذا الأسلوب يدل على إرادة الكثرة دون تحديد شىء معين.
وبعد أن ذكر بغيه ذكر وقته فقال:
(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) أي إنه أظهر التفاخر والفرح بما أوتى حين قال له قومه من بنى إسرائيل: لا تظهر الفرح والبطر بكثرة مالك، فإن ذلك يجعلك تتكالب على جمع حطام الدنيا، وتتلهى عن شئون الآخرة، وفعل ما يرضى ربك.
ثم علل النهى عن الفرح بكونه مانعا محبة الله فقال:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي إنه تعالى لا يكرم الفرحين بزخارف الدنيا ولا يقرّبهم من جواره، بل يبغضهم ويبعدهم من حضرته.
وأثر عن بعضهم أنه قال: لا يفرح بالدنيا إلا من رضى بها واطمأن إليها، أما من يعلم أنه سيفارقها عن قريب فلا يفرح بها، وما أحسن ما قال المتنبي:
أشدّ الغم عندى فى سرور
…
تيقّن عنه صاحبه انتقالا
وأحسن منه وأوجز قوله سبحانه: «لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» .
ثم نصحوه بعدة نصائح فقالوا:
(1)
(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي واستعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل، والنعمة الطائلة فى طاعة ربك، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب فى الدنيا والآخرة،
وفى الحديث: «اغتنم خمسا قبل خمس:
شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» .
(2)
(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي ولا تترك حظك من لذات الدنيا فى مآكلها، ومشاربها وملابسها فإن لربك عليك حقا، ولنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا،
وروى عن ابن عمر: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا»
وعن الحسن: «قدّم الفضل وأمسك ما يبلّغ» .
(3)
(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) أي وأحسن إلى خلقه، كما أحسن هو إليك فيما أنعم به عليك، فأعن خلقه بمالك وجاهك، وطلاقة وجهك، وحسن لقائهم، والثناء عليهم فى غيبتهم.
(4)
(وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) أي ولا تصرف همتك، بما أنت فيه إلى الفساد فى الأرض، والإساءة إلى خلق الله.
ثم أتبعوا هذه المواعظ بعلتها فقالوا:
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) أي إن الله لا يكرم المفسدين، بل يهينهم ويبعدهم من حظيرة قربه، ونيل مودته ورحمته.
ثم بين أنه مع كل هذه المواعظ أبى وزاد فى كفران النعمة فقال:
(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي قال قارون لمن وعظوه: إنما أوتيت هذه الكنوز لفضل علم عندى، علمه الله منى، فرضى بذلك عنى، وفضّلنى بهذا المال عليكم.
وتلخيص ذلك: إنى إنما أعطيته لعلم الله أنى له أهل.
ونحو الآية قوله «فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» .
فرد الله عليه مقاله بقوله:
(أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي أنسى ولم يعلم، حين زعم أنه أوتى الكنوز لفضل علم عنده، فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتى؟ أن الله قد أهلك من قبله من الأمم، من هم أشد منه بطشا، وأكثر جمعا للأموال؟ ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ورضاه عنه، لم يهلك من أهلك من أرباب الأموال، الذين كانوا أكثر منه مالا، لأن من يرضى الله عنه، فمحال أن يهلكه وهو عنه راض، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا، ألم يشاهد فرعون وهو فى أبّهة ملكه، وحقّق أمره يوم هلكه.
وفى هذا الأسلوب تعجيب من حاله، وتوبيخ له على اغتراره بقوته وكثرة ماله، مع علمه بذلك.
وبعد أن هدده سبحانه بذكر إهلاك من قبله من أضرابه في الدنيا- أردف ذلك تهديد المجرمين كافة بما هو أشد من عذاب الآخرة وهو عدم سؤالهم عن ذنوبهم، إذ أنه يؤذن بشدة الغضب عليهم، والإيقاع بهم لا محالة، فقال:«وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» أي إنه تعالى حين إرادة عقابهم لا يسألهم عن مقدار ذنوبهم