الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على الافتراء، يمحو: أي يزيل، يحق: أي يثبت، وكلماته: هى حججه وأدلته، يستجيب الذين آمنوا: أي يجيب دعاءهم.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر فى الآيات السالفة أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتمتعون بالنعيم فى روضات الجنات، وأنه يعطيهم من فضله ما فيه قرّة أعينهم رحمة من لدنه- ذكر هنا أن ذلك كائن لهم لا محالة ببشارة منه لهم، ثم أعقب هذا بأن أمر رسوله أن يقول لهم:
إنه لا يسألهم على هذا البلاغ والنصح أجرا، وإنما يطلب منهم التقرب إلى الله وحسن طاعته، ثم رد عليهم قولهم: إن القرآن مفترى بأنه لا يفترى الكذب على الله إلا من كان مختوما على قلبه، ومن سنن الله إبطال الباطل ونصرة الحق، فلو كان محمد كذابا مفتريا لفضحه وكشف باطله، ولكن أيده بالنصر والقوة، ثم ندبهم إلى التوبة مما نسبوه إلى رسوله من افترائه للقرآن، ثم وعد المؤمنين بأنه يجيب دعاءهم إذا هم دعوه، ويزيدهم من نعمه، وأوعد الكافرين بشديد العقاب كفاء ما اجترحوا من الشرور والآثام.
الإيضاح
(ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي هذا الذي أخبرتكم بأنى أعددته فى الآخرة من النعيم والكرامة لمن آمن بالله ورسوله وعمل صالح الأعمال- البشرى التي أبشركم بها فى الدنيا، ليتبين لكم أنها حق وأنها كائنة لا محالة.
والخلاصة- إن هؤلاء الجامعين بين الإيمان والعمل بما أمر الله به وترك ما نهى عنه- هم المبشرون بتلك البشارة.
وبعد أن ذكر سبحانه ما أخبر به نبيه صلى الله عليه وسلم من هذه الأحكام التي اشتمل عليها كتابه- أمره أن يخبرهم بأنه لا يطلب منهم بسبب هذا التبليغ أجرا فقال:
(قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) أي قل لهم: لا أسالكم على تبليغ ما أبلغكم به من هذا لدين القويم نقعا منكم فى دنياى، لكن أسألكم أن تودوا الله ورسوله فى تقربكم إليه بالطاعة والعمل الصالح، قاله الحسن البصري، ويدخل فى ذلك مودة النبي صلى الله عليه وسلم ومودة قرابته ومودة ذوى القربى من المسلمين.
وقال ابن عباس: إلا أن تودونى فى نفسى لقرابتى منكم، وتحفظوا القرابة التي بينى وبينكم. وعن الشعبي قال: أكثر الناس علينا فى هذه الآية «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى» فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسط النسب فى قريش، ليس بطن من بطونهم إلّا وله فيه قرابة فقال الله: قل لا أسألكم الآية، أي أن تودونى لقرابتى منكم وتحفظوني بها.
وروى عن ابن عباس قال: «قالت الأنصار فعلنا وفعلنا وكأنهم فخروا، فقال العباس لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فى مجالسهم فقال: يا معشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال أفلا تجيبون؟ قالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟
ألم يكذبوك فصدقناك؟ ألم يخذلوك فنصرناك؟ فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا أموالنا وما فى أيدينا لله ورسوله فنزلت هذه الآية» ،
وعلى هذه الرواية فالآية مدنية، والأصح أنها مكية.
(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) أي ومن يعمل عملا فيه طاعة لله ورسوله نزد له فيه أجرا وثوابا، فنجعل له مكان الحسنة عشرة أضعافها إلى سبعمائة ضعف إلى ما فوق ذلك فضلا منا ورحمة.
ونحو الآية قوله: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً» .
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) أي إنه تعالى يغفر الكثير من السيئات، ويكثّر القليل من الحسنات، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر، قال قتادة: غفور للذنوب، شكور للحسنات.
ثم أنكر عليهم نسبة افتراء القرآن إلى الرسول ووبخهم على مقالهم فقال:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) أي أيقع فى قلوبهم ويجرى على ألسنتهم أن ينسبوا مثله إلى الافتراء على الله وهو أقبح أنواع الفرية وأفحشها؟
وهذا المقال منهم أفظع من الشرك الذي جعلوه شرعا لهم، فإنهم قد جعلوا الحق الأبلج الذي يعاضده الدليل ويؤيده البرهان- افتراء على الله واختلافا للكذب عليه- وفى ذلك أتم دلالة على بعده صلى الله عليه وسلم من الافتراء.
وخلاصة ذلك- إنهم قالوا إن هذا الذي يتلوه علينا من القرآن ما هو إلا اختلاق من قبل نفسه وليس بوحي من عند ربه كما يدّعى.
ثم زاد فى استبعاد الافتراء من مثله عليه السلام والإنكار له على أتم وجه فقال:
(فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) أي فإن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك لتجترىء بالافتراء عليه، فإنه لا يفعل مثل هذا إلا من كان فى مثل حالهم قد ختم الله على قلبه وأعمى بصيرته.
والخلاصة- إنه إن يشأ يجعلك منهم، لأنهم هم المفترون الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به الله.
وما أجمل هذا التعريض بأنهم مفترون، وأنهم فى نسبة الافتراء إليه مفترون أيضا، وشبيه بالآية قول أمين نسب إلى الخيانة: لعل الله خذلنى، لعل الله أعمى بصيرتى-
لا يريد بمقالة إثبات الخذلان وعمى القلب، بل يريد استبعاد الخيانة من مثله، وأن من نسبه إلى ذلك فقد ركب شططا، وأتى أمرا إدّا، وقال قولا نكرا.
ثم أكد استبعاد الافتراء منه وزاده إيضاحا فقال:
(وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي كيف يكون منه الافتراء على الله، وقد جرت سنته تعالى أن يمحو الباطل ويمحقه ويثبت الحق وينشره بين الناس، وها هو ذا يزداد ما أوتيه محمد كل يوم قوة وانتشارا، فلو كان مفتريا كما تدّعون لكشف افتراءه ومحقه، وقذف بالحق على باطله فدمغه.
وقد يكون المعنى- إن هذه عدة من الله لرسوله بالنصر ويكون المراد- يمحو الله باطلهم وما بهتوك به، ويثبت الحق الذي أنت عليه بقضائه الذي لا مرد له، فيكون هذا كلاما معترضا بين ما قبله وما بعده مؤكدا لما سبق من الكلام من كونهم مبطلين فى نسبة الافتراء إلى من هو أصدق الناس حديثا.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فيعلم ما تكنّه الضمائر، وتنطوى عليه السرائر، وتجرى الأمور بحسب علمه الواسع المحيط بكل شىء.
ثم امتنّ على عباده بقبول توبتهم إذا هم تابوا ورجعوا إليه فقال:
(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) بالتجاوز عما فرط منهم من الذنوب، واقترفوا من السيئات.
والتوبة الندم على المعصية، والإقلاع عنها، والعزم على عدم العودة إليها، وهذه شروط ثلاثة فيما بين العبد وربه، فإذا كملت صحت التوبة، وإن فقد واحد منها لم تكن توبة صحيحة، أما فيما يتعلق بحقوق العباد فيزاد على ذلك أن يبرأ من حق صاحبها.
ومن علامات التوبة النصوح- صدق العزيمة على ترك الذنب، وألا يجد له حلاوة فى قلبه عند ذكره.
وقد ورد فى الحضّ على التوبة كثير من الأحاديث فى الصحيحين وغيرهما، فمن ذلك:
(1)
ما رواه أبو هريرة من قوله صلى الله عليه وسلم «لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالّته فى المكان الذي يخاف أن يقتله فيه العطش» .
(2)
ما
رواه جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
اللهم إنى أستغفرك وأتوب إليك وكبّر، فلما فرغ من صلاته قال له علىّ كرم الله وجهه:
إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى التوبة، فقال:
يا أمير المؤمنين ما التوبة؟ قال التوبة اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، وإذابتها فى الطاعة كما ربيتها فى المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) أي يقبل التوبة فى المستقبل ويعفو عن السيئات فى الماضي.
(وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) أي ويعلم الذي تفعلونه كائنا ما كان خيرا أو شرا، فيجازى بالثواب والعقاب، أو يتجاوز بالعفو بحسب ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح.
وفى هذا حث على لزوم الحذر منه تعالى والإخلاص له وإمحاض التوبة.
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) أي ويجيب الذين آمنوا إذا دعوه، ويزيدهم من فضله على ما طلبوه بالدعاء.
وبعد أن ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب أردف ذلك ما أعده للكافرين من العذاب فقال: