الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعنى الجملي
بعد أن ذكر دلائل توحيده وعظيم قدرته وسلطانه بخلق السموات والأرض وجرى السفن ماخرات فى البحار- أردف ذلك التنفير من الدنيا وزخرفها، لأن المانع من النظر فى الأدلة إنما هو الرغبة فيها طلبا للرياسة والجاه، فإذا صغرت الدنيا فى عين المرء لم يلتفت إليها، وانتفع بالأدلة ووجّه النظر إلى ملكوت السموات والأرض، ثم أبان أن ما عند الله خير لمن آمن به، وتوكل عليه، واجتنب كبائر الذنوب والفواحش، وكان منقادا له مطيعا لأوامره، تاركا لنواهيه، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، ولم يبرم أمرا إلا بعد مشورة، وانتصر لنفسه ممن ظلمه.
الإيضاح
(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي وكل ما تعطونه أيها الناس من الغنى والسعة فى الرزق والمال والبنين، فهو متاع قليل، تتمتعون به فى مدى قصير، يذهب وينقضى، ولله در القائل:
إنما الدّنيا فناء
…
ليس للدنيا ثبوت
إنما الدنيا كبيت
…
نسجته العنكبوت
وفى هذا تحقير لشأن هذه الحياة وزينتها وما فيها من النعيم الزائل.
ثم رغبهم فى ثواب الآخرة وما عند الله من النعيم المقيم فقال:
(وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي وما عند الله من الثواب والنعيم خير من زهرة الدنيا، لأنه باق سرمدىّ، وما فيها زائل فان، والعقل قاض بترجيح الباقي على الفاني.
ثم بين أنه لا يكون خيرا إلا لمن اتصف بصفات:
(1)
(لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي للذين صدقوا الله وآمنوا برسوله.
(2)
(وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي وعلى من ربّاهم على إحسانه يعتمدون، ويفوضون إليه أمورهم، ولا يلتفتون إلى غيره فى مهامّ أمورهم. روى أن الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه حين تصدق بماله فلامه المسلمون وخطأه الكافرون.
(3)
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) أي والذين يتباعدون عن ارتكاب كبائر الآثام كالقتل والزنا والسرقة، وعن الفواحش التي ينكرها الشرع والعقل والطبع السليم، من قول أو فعل.
(4)
(وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) أي وإذا ما غضبوا كظموا غيظهم، إذ من سجاياهم الصفح والعفو، وليس من طباعهم الانتقام وقد ثبت فى الصحيح «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تتهك حرمات الله» .
(5)
(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) أي والذين أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه، من توحيده والبراءة من عبارة كل ما يعبد من دونه.
(6)
(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) المفروضة فى أوقاتها على أكمل وجوهها، وخص الصلاة من بين أركان الدين، لما لها من الخطر فى صفاء النفوس، وتزكية القلوب، وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(7)
(وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي وإذا حزبهم أمر تشاوروا فيما بينهم، ليقتلوه بحثا وتمحيصا، ولا سيما الحروب ونحوها.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه فى الكثير من الأمور، ولم يكن يشاورهم فى الأحكام، لأنها منزلة من عند الله، أما الصحابة فكانوا يتشاورون فيها، ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها حتى انتهى أمرهم إلى تولية أبى بكر، وتشاوروا فى قتال من ارتدوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فاستقرّ رأى أبى بكر على القتال، وقد كان فيه الخيرة للاسلام والمسلمين، وشاور عمر رضى الله عنه الهرمزان حين وقد عليه مسلّما.
ونحو الآية قوله: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمرهم. وقال ابن العربي: الشورى ألفة للجماعة، وصقال للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هدوا. ولأمر ما أصبحت الحكومات فى العصر الحاضر لا تبتّ فى مهام الأمور إلا إذا عرضت على مجالس الشورى (البرلمان- مجلس الشيوخ والنواب) وكأنى بك قد سمعت قول بشار بن برد فى فوائد الشورى:
إذا بلغ الرأى المشورة فاستعن
…
برأى لبيب أو مشورة حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
…
قريش الخوافي قوة للقوادم
وما خير كف أمسك الغلّ أختها
…
وما خير كف لم تؤيد بقائم
(8)
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون مما آتاهم ربهم فى سبل الخير، والبذل فيما فيه منفعة للفرد والمجتمع، ورفعة الأمة وعلوّ شأنها وعزها.
(9)
(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أي والذين إذا بغى عليهم باغ ينتصرون ممن ظلمهم من غير تعدّ عليه.
والمؤمنون فريقان:
(1)
فريق يعفو اتباعا لقوله تعالى: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى» وقوله:
«خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ» وقوله: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» .
(ب) فريق ينتصر ممن ظلمه وهو المذكور فى هذه الآية.
والخلاصة- إن العفو ضربان:
(1)
ضرب يكون فيه العفو سببا لتسكين الفتنة، وتهدئة النفوس، ومنع استفحال الشر، وهذا محمود وحثت عليه الآيات الكريمة التي ذكرت آنفا.
(2)
ضرب يكون فيه العفو سببا لجراءة الظالم وتماديه فى غيّه، وهذا مذموم وعليه تحمل الآية التي نحن بصدد تفسيرها.