الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ألوهيته وهى جريان السفن فى البحار، فتارة يجعل الريح ساكنة فتظل السفن على سطحها، وأخرى تعصف الرياح فتفرقها أو تنجو بحسب تقديره تعالى.
الإيضاح
(وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ) أي ولو أعطى عباده من الرزق فوق حاجتهم لحملهم ذلك على البغي والطغيان وطلب ما ليس لهم طلبه، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة لمن اعتبر، ولكن يرزقهم ما فيه صلاحهم وهو أعلم بحالهم، فيغنى من يستحق الغنى ويفقر من يستحق الفقر بحسب ما يعلم من المصلحة فى ذلك كما
ورد فى الأثر «إن من عبادى من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادى من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه» .
والخلاصة- إنه تعالى خبير بما يصلح عباده من توسيع الرزق وتضييقه، فيقدر لكل منهم ما يصلحه، فيبسط ويقبض، ويعطى ويمنع، ولو أغناهم جميعا لبغوا، ولو أفقرهم جميعا لهلكوا.
فنظام العالم لا يستقر إلا على هذا الوضع القائم الجامع بين الأمرين، فخوف الأغنياء يزعهم عن الظلم، وخوف الفقراء من الأغنياء يدعوهم إلى التعاون معهم، ليفوزوا بمبتغاهم ويزعهم عن البغي.
عن أبى هانىء الخولاني قال: سمعت عمرو بن خريت وغيره يقولون: «إنما نزلت هذه الآية فى أهل الصّفّة، فإنهم قالوا لو أن لنا فتمنوا الدنيا» . رواه السيوطي بسند صحيح.
قال قتادة: كان يقال: خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك.
وبعد أن بين أنه لا يعطى عباده ما زاد على حاجتهم، لأنه يعلم أن الزيادة تضرهم فى دينهم- ذكر أنهم لو احتاجوا إلى الغيث فهو لا يمنعه عنهم فقال:
(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) أي وهو الذي ينزل المطر من السماء فيغيثهم به من بعد يأسهم من نزوله حين حاجتهم إليه، وينشر بركات الغيث ومنافعه وما يحصل به من الخصب، وهو الذي يتولى عباده بإحسانه ويحمد على ما يوصله إليهم من رحمته.
قال قتادة: ذكر لنا أن رجلا قال لعمر بن الخطاب رضى الله عنه: قحط المطر وقنط الناس يا أمير المؤمنين، فقال عمر: مطرتم ثم قرأ الآية.
ثم أقام الأدلة على ألوهيته فقال:
(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ) أي ومن دلائل عظمته وقدرته وسلطانه القاهر- خلق السموات والأرض وما نشر فيهما من دابة تدبّ وتتحرك، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوان على اختلاف أشكالهم وألوانهم.
(وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) أي وهو يجمعهم يوم القيامة، فيجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق فى صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ثم يحكم بينهم بحكمه العدل وهو اللطيف الخبير.
وقصارى ذلك- إنه قدير على جمع ما بث فيهما من دابة إذا شاء جمعه، كما لم يتعذر عليه خلقه وتفريقه.
ثم ذكر دستورا للناس فى أعمالهم إذا تأملوه أفعلوا عما يرتكبونه من الآثام فقال:
(وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) أي وما يحل بكم أيها الناس من المصايب فى الدنيا، فإنما تصابون به عقوبة لكم على ما اجترحتم
من الآثام، واقترفتم من الشرور والمعاصي، ويعفو لكم عن كثير من جرائمكم فلا يعاقبكم بها.
فالله سبحانه جعل الذنوب أسبابا لها نتائجها ومسبباتها: فشارب الخمر يصاب بكثير من الأمراض الجسمية والعقلية فى الدنيا وهى أثر من آثار ما اجترح من الذنب. والتاجر غير الأمين أو الكذاب تصاب تجارته بالكساد ويشهر بين الناس بالخيانة فيحجمون عن معاملته. والحكام المرتشون الظلمة الذين يجمعون أموالهم بالسحت يصابون بالفقر والعدم ويصبحون مثلا بين الناس، وإن لم يصبهم الفقر بصب أولادهم فيصبحوا بحال يرثى لها ويصيروا أحاديث الخاصة والعامة. والأمم الظالمة التي لا تناصر بين أفرادها، بل بينها التقاطع، ويبتز بعض أفرادها أموال بعض آخر، تصاب بالمهانة بعد العظمة والذلة بعد العزة، وما الأمثال فى ذلك بعزيزة، فها هى ذى الأمم الشرقية إنما أصابها ما أصابها من الضعف والخمول والاضمحلال ثم الزوال من صفحة الوجود بما اجترحت من ظلم وإفساد فى الأرض، وأكل بعضها أموال بعض واحتجان عظمائها الأموال فى خزائنهم، وابتزازها من أيدى الضعفاء وقد اقتص الله لهم منهم، فأضاع ملكهم، وأذهب ريحهم، وجعلهم لقمة سائغة للمستعمرين الذين تحكموا فيهم وجعلوهم كالعبيد، يتصرفون فيهم بحسب أهوائهم، وما تمليه عليهم مصالحهم، وما يدرّ عليهم الخير لبلادهم وشعوبهم.
وفى هذا عبرة لمن ادّكر، وقد تقدم أن قلنا فى غير موضع إن عقاب الأفراد فى الدنيا ليس بالمطرد، إذ كثيرا ما نرى سكيرا عربيدا لا يصاب بأذى مما يفعل، ونرى تاجرا يخون الأمانة ولا يصاب بكساد فى تجارته، وحينئذ يكون عقاب كل منهما مؤجلا ليوم الحساب إن شاء ربك عاقب، وإن شاء عفا بعد التوبة عما فرط منهما من الذنوب والآثام.
أما عقاب الأمم على ما تجترح من السيئات فهو محقق فى الدنيا، ولدينا عظة التاريخ فى القديم والحديث، فما من أمة تركت أوامر دينها وخالفت نواميس العمران،
إلا زالت وصارت كأمس الدابر، وأصبحت عبرة للباقين، ومثلا للآخرين، فالرومان والفرس والعرب فى الشرق وفى الأندلس والترك- مثل ماثلة أمامنا تجلّى لنا تلك القضية «فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ» .
ونحو الآية قوله تعالى: «وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ»
وفى الحديث الصحيح «والذي نفسى بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا همّ ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها» .
ولما نزلت هذه الآية
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر» .
وروى الترمذي وجماعة عن علىّ كرم الله وجهه قال: «ألا أخبركم بأفضل آية فى كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) قال وسأفسرها لك يا على: ما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء فى الدنيا فبما كسبت أيديكم، والله أكرم من أن يثّنى عليكم العقوبة فى الآخرة، وما عفا الله تعالى عنه فى الدنيا فالله أكرم من أن يعود بعد عفوه»
والآثار فى هذا الباب كثيرة.
والخلاصة- إنه يكفّر عن العبد بما يصيبه من المصايب، ويعفو عن كثير من الذنوب وقد ثبت بالأدلة الصحيحة أن جميع ما يصاب به الإنسان فى الدنيا يؤجر عليه أو يكفّر عنه من ذنوبه.
(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي وإنكم لا تعجزون الله حيثما كنتم، فلا تسبقونه بهربكم منه فى الأرض حتى لا تنالكم المصايب، بل هى لا حقة بكم أينما تكونوا، والخلاصة- إن ما قضاه الله عليكم واقع بكم لا محالة ولا مفرّ منه.
وبعد أن نفى المهرب مما قدّر نفى النصير والمعين الذي يمنع حلول المقدور فقال:
(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي وما لكم من دون الله ولىّ يليكم بالدفاع عنكم إذا أراد عقوبتكم على معصيتكم، ولا لكم نصير ينصركم إذا هو عاقبكم، فينتصر لكم، فاحذروا معاصيه واتقوا مخالفة أوامره، فإنه لا دافع لعقوبته إذا أحلها بعبد من عباده.
ثم ذكر سبحانه آية أخرى من آيات عظمته الدالة على توحيده وصدق ما وعد به فقال:
(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي ومن دلائل قدرته، وباهر حكمته، وعظيم سلطانه- تسخيره البحر لتجرى فيه الفلك بأمره كالجبال الشاهقة، والمدن العالية.
(إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) أي إن يشأ الله الذي قد أجرى هذه السفن فى البحر ألا تجرى فيه. أسكن الريح التي تجرى بها، فتثبت فى موضع واحد وتقف على ظهر الماء لا تتقدم ولا تتأخر.
ثم أتى بجملة معترضة بين ما مضى وما سيأتى فقال:
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن فى جرى هذه الجواري فى البحر بقدرته تعالى- لحجة بينة على قدرته على ما يشاء، لكل ذى صبر على طاعته، شكور لنعمه وأياديه عنده.
والمؤمن إذا كان فى ضراء كان من الصابرين، وإذا كان فى سرّاء كان من الشاكرين، وقال عون بن عبد الله: فكم من منعم عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر، وقال قطرب: نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر. وقد قيل: الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) أي وإن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق السفن بذنوب راكبيها، ولكنه يعفو عن كثير من ذنوبهم، ولو آخذهم بجميع ما يجترحون منها لأهلك كل من ركب البحر..
(4- مراغى- الخامس والعشرون)