الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالطابع على ما يراد حفظه حتى لا يؤخذ منه شىء، لا يفقهون: أي لا يعلمون، تعجبك أجسامهم: أي لصباحتها وتناسب أعضائها، تسمع لقولهم: أي لفصاحتهم وحسن حديثهم، خشب: واحدها خشباء وهى الخشبة التي نخرجوفها، والصيحة: الصوت، قاتلهم الله: أي لعنهم وطردهم من رحمته، يؤفكون: أي يصرفون عما هم عليه.
المعنى الجملي
وصف الله تعالى المنافقين بأوصاف هى منتهى الشناعة والقبح:
(1)
أنهم كذابون يقولون غير ما يعتقدون.
(2)
أنهم لا يبالون بالحلف بالله كذبا، سترا لنفاقهم، وحقنا لدمائهم.
(3)
أنهم جبناء، فهم على ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم، يظنون أن كل مناد ينادى إنما يقصدهم للإيقاع بهم.
الإيضاح
(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبىّ وصحبه قالوا نشهد شهادة لا نشك فى صدقها، إنك رسول من عند الله حقا، أوحى إليك وحيه، وأنزل عليك كتابه رحمة منه بعباده.
ثم أنى بجملة معترضة بين ما قبلها وما بعدها، تحقيقا لرسالته فقال:
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) أي والله يعلم إنك لرسوله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا، لتنقذهم من الضلال إلى الهدى.
ثم بيّن كذبهم فى مقالهم الذي حدّثوا به فقال:
(وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فيما أخبروا به، لأنهم لا يعتقدون صدق ما يقولون ولا تواطئ قلوبهم ألسنتهم فى هذه الشهادة.
ثم ذكر أنهم يحتالون على تصديق الناس لهم بكل يمين محرجة فقال:
(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا أيمانهم الكاذبة وقاية وسترا لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، فيحلفون بالله إنهم لمنكم، ويقولون نشهد إنك لرسول الله، حتى لا تجرى عليهم أحكام الكفار من القتل والأسر وأخذ الأموال غنيمة.
قال قتادة: كلما ظهر عليهم ما يوجب مؤاخذتهم حلفوا كاذبين، عصمة لدمائهم وأموالهم.
وفى هذا تعداد لقبائح أفعالهم، وأن من عادتهم أن يستجنّوا بالأيمان الكاذبة، كما استجنوا بالشهادة الكاذبة.
ثم حكى عنهم جريمة أخرى وهى إضلال الناس وصدهم عن الإسلام فقال:
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي فمنعوا الناس عن الدخول فى الإسلام، وعن الإنفاق كما حكى عنهم سبحانه بعد.
وقصارى ذلك- أنهم أجرموا جرمين:
(1)
أعدوا الأيمان الكاذبة وهيئوها لوقت الحاجة، ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة.
(2)
أنهم يمنعون الناس عن الدخول فى الإسلام وينفّرونهم منه متى استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ثم بين قبح مغبّة ما يعملون، ووبال ما يصنعون فقال:
(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي قبح فعلهم إذ آثروا الكفر على الإيمان، وأظهروا خلاف ما أضمروا، وسيلقون نكالا ووبالا فى الدنيا والآخرة.
أما فى الدنيا فسيفضحهم الله على رءوس الأشهاد، ويظهر نفاقهم للمؤمنين بنحو قوله:«ولا تصلّ على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره، إنّهم كفروا بالله ورسوله» .
وأما فى الآخرة فحسبهم جهنم وبئس المهاد.
ثم ذكر ما جرأهم على الكذب والاستخفاف بالأيمان المحرجة فقال:
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) أي ذلك الذي فعلوه لسوء سريرتهم، وقبح طويتهم، فاستهانوا بما يأتون وما يذرون، ولم يكن همهم إلا المحافظة على دمائهم وأموالهم، ومن ثم أظهروا للناس إيمانا وأبطنوا كفرا، وقد ختم على قلوبهم فلا تهتدى إلى حق، ولا يصل إليها خير، ومن جراء ذلك عموا عما نصب من الأدلة على صدق الرسول، وصمت الآذان عن سماع ما يوجب الإيمان، فهم صم بكم عمى فهم لا يعقلون.
ثم ذكر ما لهم من جمال فى الصورة واعتدال فى القوام فقال:
(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي لاستواء خلقهم، وجمال صورهم.
كما وصفهم بالفصاحة وذرابة اللسان فقال:
(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) لحلاوة منطقهم وحسن توقيع حديثهم فإذا سمعهم سامع أحب أن يصفى إليهم، وأن يطول حديثهم جهد الاستطاعة.
ثم وصفهم بأن أفئدتهم هواء لا عقول لهم ولا أحلام فقال:
(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) أي هم أشباح بلا أرواح، لهم جمال فى المنظر، وقبح فى المخبر، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم، فكانت كالخشب الجوفاء التي نخرها السوس، فهى مع حسنها لا ينتفع فيها بعمل، ولا يستفاد منها خير، ولله در أبى نواس:
لاتخذ عنك اللحى ولا الصّور
…
تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسراب منتشرا
…
وليس فيه لطالب مطر
فى شجر السّرو منهم مثل
…
له رواه وما له ثمر
ثم وصفهم بالجبن والذلة فقال:
(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) أي كلما نادى مناد فى العسكر، أو انفلتت دابة أو نشدت ضالة- ظنوا أن العدو قد فجأهم، وأن أمرهم قد افتضح، وأنهم هالكون لا محالة، ولقد قالوا: يكاد المريب يقول خذونى، ويكاد السارق يقول إذا رأى القيد: ضعوه فى يدى، لما ألقى من الرعب فى قلوبهم، فهم يخافون أن تهتك أستارهم، وتكشف أسرارهم، ويتوقعون الإيقاع بهم ساعة فساعة.
ونحو الآية قوله تعالى: «أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ، فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ» وقد نظر المتنبي إلى الآية فى قوله:
وضاقت الأرض حتى ظن هاربهم
…
إذا رأى غير شىء ظنه رجلا
(هُمُ الْعَدُوُّ) الذي بلغ الغاية فى العداوة.
(فَاحْذَرْهُمْ) ولا تأمنهم على سر، ولا تلتفت إلى ظاهرهم، فقلوبهم متحرقة حسدا وبغضا، وأعدى الأعداء العدو المداجى الذي يكاشرك (يبتسم لك) وتحت ضلوعه الداء الدوىّ، والشر المستطير.
ثم زاد سبحانه فى ذمهم وتوبيخهم، وعجّب من حالهم فقال:
(قاتَلَهُمُ اللَّهُ) أي لعنهم الله وطردهم من رحمته، فما أفظع حالهم، وما أشدهم غفلة عن مآلهم.
وهذا تعليم منه لعباده المؤمنين أن يلعنوهم، فكأنه قال: قولوا قاتلهم الله.
(أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وقد كان لهم مدّكر فيما حولهم، وفيما أمامهم من صدق الداعي بما أتى به من البينات الدالة على أنه مرسل من ربه.
وإن تعجب من شىء فاعجب من جهالتهم وظنهم الفاسد أنهم على الحق، فما أعظمها محنة، وأعجب بها نقمة، جازاهم الله بها على سوء أعمالهم، وقبح فعالهم