الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(3)
إنهم يفضلونهم على أنفسهم ويعطونهم ما هم فى أشد الحاجة إليه، وما ذاك إلا لأن الله عصمهم من الشح المردي والبخل المهلك، الذي يدسى النفوس ويمنعها من اكتساب الخير وعمل البر.
ثم ذكر أن التابعين لهم بإحسان، وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة، يدعون لأنفسهم ومن سبقهم من المؤمنين بالمغفرة، ويطلبون من الله ألا يجعل فى قلوبهم حقدا وحسدا لهم.
الإيضاح
(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي إنه أراد بهؤلاء الأربعة السالفين فقراء المهاجرين الذين اضطرهم كفار مكة إلى الخروج من ديارهم وترك أموالهم طلبا لمرضاة ربهم ونيلا لثوابه ونصرة لله ورسوله، وإعلاء لشأن دينه.
(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي هؤلاء هم الصادقون فى إيمانهم، إذ قد فعلوا ما يدل على الإخلاص فيه والرغبة الصادقة من نيل المغفرة والكرامة عند ربهم، فهم قد أخرجوا من ديارهم، وهى العزيزة على النفوس، المحببة إلى القلوب.
بلادي وإن جارت علىّ عزيزة
…
وأهلى وإن ضنوا علىّ كرام
وتركوا الأموال والمال شقيق الروح، وكثيرا ما يقتل المرء فى سبيل الذّود عنه، وانتزاعه من أيدى غاصبيه، وما فعلوا ذلك إلا لإعلاء منار الدين، ورفعة شأنه، وذيوع ذكره، فحقّ لهم من ربهم النعيم المقيم، وجزيل الثواب بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، كفاء ما قاموا به من جليل الأعمال، وعظيم الخلال.
روى أن الرجل منهم كان يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ منهم الحفيرة فى الشتاء ماله دثار غيرها.
وعن سعيد قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم «بشّروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة، يدخلون الجنة قبل الناس بنصف يوم، وذلك خمسمائة سنة» أخرجه أبو داود.
ثم مدح سبحانه الأنصار وأثنى عليهم حين طابت نفوسهم عن الفيء إذ جعل للمهاجرين دونهم فقال:
(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي والذين سكنوا المدينة، وأشربت قلوبهم حب الإيمان من قبل هجرة أولئك المهاجرين، لهم صفات كريمة، وشيم جليلة تدل على كرم النفس، ونبل الطباع، فهم:
(1)
يحبون المهاجرين ويتمنون لهم من الخير ما يتمنون لأنفسهم، وقد آخى رسول الله بينهم وبينهم، وأسكن المهاجرين فى دور الأنصار معهم، ونزل بعض الأنصار عن بعض نسائهم للمهاجرين، طيّبة بذلك نفوسهم، قريرة به أعينهم.
وقال عمر: وأوصى الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم كرامتهم. وأوصى بالأنصار خيرا، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبل، أن يقبل من محسنهم، وأن يعفو عن مسيئهم.
(2)
لا يطمحون إلى شىء مما أعطيه أولئك المهاجرون من الفيء وغيره.
(3)
يقدمون ذوى الحاجة على أنفسهم، ويبدءون بسواهم قبلهم، حتى إن من كان عنده امرأتان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدا من المهاجرين.
ثم بين سوء عاقبة الشح فقال:
(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي ومن يحفظوا أنفسهم من الحرص على المال والبخل به فأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
أخرج الترمذي وأبو يعلى وابن مردويه عن أنس مرفوعا «لا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان نار جهنم فى جوف عبد أبدا، ولا يجتمع الإيمان والشح فى قلب عبد أبدا» .
وأخرج أحمد والبخاري فى الأدب ومسلم والبيهقي عن جابر عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم» .
وروى الأموى عن ابن مسعود أن رجلا أتاه فقال: إنى أخاف أن أكون قد هلكت، قال وما ذاك؟ قال: سمعت الله يقول (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) وأنا رجل
شحيح لا أكاد أخرج من يدى شيئا فقال ابن مسعود: ليس ذاك الذي ذكر الله تعالى، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذلك البخل، وبئس الشيء البخل- ففرق بين الشح والبخل.
وليس المراد من تقوى الشحّ الجود بكل ما يملك
فقد روى أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «برئ من الشح من أدى الزكاة، وقرى الضيف، وأعطى فى النائبة» .
(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) أي والتابعون للفريقين بالإحسان إلى يوم القيامة يقولون: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واغفر لإخواننا فى الدين الذين سبقونا بالإيمان.
قال ابن أبى ليلى: الناس على ثلاث منازل: المهاجرين، والذين تبوءوا الدار والإيمان، والذين جاءوا من بعدهم، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل.
وفى هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، لأنه جعل لمن بعدهم حظا فى الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، ومن أبغضهم أو أبغض واحدا منهم أو اعتقد فيهم شرا فلا حق له فى الفيء.
وإنما بدءوا فى الدعاء بأنفسهم
لقوله صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» .
(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي ويدعون الله ألا يجعل فى قلوبهم حسدا وحقدا للمؤمنين جميعا.
والحقد والحسد هما رأس كل خطيئة، وينبوع كل معصية، فهما يوجبان سفك الدماء والبغي والظلم والسرقة، وسائر أنواع الفجور.
ونحو الآية قوله فى سورة براءة «وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ»