الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
الإيضاح
هذا شروع فى بيان المحرمات التي أشير إليها فى أول السورة بقوله (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) وهى عشرة أنواع:
(الأول الميتة) ويراد بها عرفا ما مات حتف أنفه: أي بدون فعل فاعل، ويراد بها فى عرف الشرع ما مات ولم يذكه الإنسان لأجل أكله. والحكمة فى التحريم:
1) استقذار الطباع السليمة لها.
2) أن فى أكلها مهانة تنافى عزة النفس وكرامتها.
3) الضرر الذي ينشأ من أكلها سواء كانت قد ماتت بمرض أو شدة ضعف أو بجراثيم (ميكروبات) انحلت بها قواها.
4) تعويد المسلم ألا يأكل إلا مما كان له قصد فى إزهاق روحه.
(الثاني الدم) والمراد به الدم المسفوح: أي المائع الذي يسفح ويراق من الحيوان وإن جمد بعد ذلك، بخلاف المتجمد طبيعة كالطحال والكبد وما يتخلل اللحم عادة فإنه لا يسمى مسفوحا.
وحكمة تحريم الدم الضرر والاستقذار أيضا، أما الضرر فلأنه عسر الهضم جدّ العسر، ويحمل كثيرا من الموادّ العفنة التي تنحلّ من الجسم، وهى فضلات لفظتها
الطبيعة كما تلفظ البراز ونحوه واستعاضت عنها بموادّ جديدة من الدم، وقد يكون فيه جراثيم بعض الأمراض المعدية وهى تكون فيه أكثر مما تكون فى اللحم ومن أجل هذا اتفق الأطباء على وجوب غلى اللبن قبل شربه، لقتل ما عسى أن يكون قد علق به من جراثيم الأمراض المعدية.
(الثالث لحم الخنزير) لما فيه من الضرر والاستقذار لملازمته للقاذورات ورغبته فيها، أما ضرره فقد أثبته الطب الحديث، إذ أثبت أن له ضررا يأتى من أكله القاذورات، فإن أكله يولد الديدان الشريطية كالدودة الوحيدة ودودة أخرى تسمى الشعرة الحلزونية وهى تنشأ من أكله الفيران الميتة، كما أثبت أن لحمه أعسر اللحوم هضما لكثرة الشحم فى أليافه العضلية، وأن الموادّ الدهنية التي فيه تمنع وصول عصير المعدة إلى الطعام فيعسر هضم الموادّ الزلالية وتتعب معدة آكله ويشعر بثقل فى بطنه واضطراب فى قلبه، فإن ذرعه القيء فقذف هذه المواد الخبيثة خفّ ضرره، وإلا تهيجت المعدة وأصيب بالإسهال، ولولا أن العادة قد جرت بتناول السموم أكلا وشر با وتدخينا ولولا ما يعالجون به لحم الخنزير لتخفيف ضرره لما أمكن الناس أن يأكلوه ولا سيما أهل البلاد الحارة.
(الرابع ما أهلّ لغير الله به) الإهلال رفع الصوت، يقال أهلّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتّلبية له (لبيك اللهم لبيك) واستهلّ الصبىّ إذا صرخ عند الولادة والمراد به ما ذبح على ذكر غير الله تعالى من المخلوقات التي يعظمها الناس تعظيما دينيا ويتقربون إليها بالذبائح، وكانوا يذبحون لأصنامهم فيرفعون أصواتهم بقولهم باسم اللات أو باسم العزّى.
وحكمة التحريم فى هذا أنه من عبادة غير الله، فالأكل منه مشاركة لأهله ومشايعة لهم عليه، وهو مما يجب إنكاره لا إقراره.
ويدخل فى ذلك ما ذكر عند ذبحه اسم نبى أو ولىّ كما يفعل بعض أهل الكتاب وجهلة المسلمين الذين اتبعوا من قبلهم وساروا على نهجهم باعا فباعا وذراعا فذراعا.
(الخامس المنخنقة) وقد روى ابن جرير فى تفسيرها أقوالا فعن السدى أنها التي تدخل رأسها بين شعبتين من شجرة فتختنق فتموت، وعن ابن عباس والضحاك هى التي تختنق فتموت، وفى رواية عن الضحاك هى الشاة توثق فيقتلها خناقها، ثم قال:
وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: هى التي تختنق إما فى وثاقها أو بإدخال رأسها فى الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت.
وهى بهذا المعنى من قبيل ما مات حتف أنفه من حيث إنه لم يمت بتذكية الإنسان له لأجل أكله فهى داخلة فى الميتة، وإنما خصها بالذكر لأن بعض العرب فى الجاهلية كانوا يأكلونها، ولئلا يشتبه فيها بعض الناس لأن لموتها سببا معروفا.
والعبرة فى الشرع بالتذكية التي تكون بقصد الإنسان لأجل الأكل حتى يكون واثقا من صحة البهيمة التي يريد التغذي بها.
(السادس الموقوذة) الوقذ: شدة الضرب، وشاة وقيذ وموقوذة، والموقوذة هى التي تقتل بعصا أو بحجارة لاحدّ لها فتموت بلا ذكاة، وكانوا يأكلونها فى الجاهلية.
والوقذ يحرم فى الإسلام، لأنه تعذيب للحيوان،
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب الإحسان على كل شىء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته» رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن.
ولما كان الوقذ محرما حرم ما قتل به، وهى تدخل فى عموم الميتة على الوجه الذي ذكرنا، فإنها لم تذكّ تذكية شرعية، ويدخل فى الموقوذة ما رمى بالبندق (وهو نحو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها) لما
ففى هذا الحديث نص على العلة وهو أنه تعذيب للحيوان وليس سببا مطردا ولا غالبا للقتل.
أما بندق الرّصاص المستعمل الآن وما فى حكمه فإنه يصيد وينكأ، ولذا أفتى العلماء بجواز الصيد به.
(السابع المتردّية) وهى التي تقع من مكان مرتفع كجبل، أو منخفض كبئر ونحوها فتموت، وهى فى حكم الميتة، لأنه لم يكن للإنسان عمل فى إماتتها ولا قصد به إلى أكلها.
(الثامن النطيحة) وهى التي تنطحها بهيمة أخرى فتموت من النّطاح من غير أن يكون للإنسان عمل فى أمانتها.
(التاسع ما أكل السبع) وهو ما قتله بعض سباع الوحوش كالاسد والذئب والنمر ليأكله، وأكله منه ليس بشرط للتحريم، إذ يكفى فرسه إياه وقتله فى تحريمه.
وكان العرب فى الجاهلية يأكلون بعض فرائس السباع، ولكنه مما تأنفه أكثر الطباع، وأكثر الناس يعدّ أكله ذلة ومهانة وإن كانوا لا يخشون منه ضررا.
(إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي إلا ما أدركتموه وفيه بقية حياة ويضطرب اضطراب المذبوح فذكيتموه وأمتموه إماتة شرعية لأجل أكله- وهو استثناء من جميع ما تقدم ذكره من المحرمات سوى ما لا يقبل التذكية من الميتة والدم والخنزير وما أكل السبع، وذلك هو- ما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة.
وخلاصة المعنى- ولكن لا يحرم عليكم ما ذكيتموه بفعلكم مما يقبل التذكية، ويكفى فى صحة إدراك ذكاة ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة بأن يطرف بعينه أو يضرب بذنبه،
وقد قال على كرم الله وجهه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهى تحرك يدا أو رجلا فكلها.
(العاشر ما ذبح على النصب) والنصب واحد الأنصاب، وهى حجارة كانت حول الكعبة عددها ثلاثمائة وستون حجرا وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة.
ومن هذا تعلم أن ما ذبح على النصب هو من جنس ما أهلّ به لغير الله من حيث إنه يذبح بقصد العبادة لغير الله تعالى، وخص بالذكر لإزالة وهم من يتوهم أنه قد يحل
لقصد تعظيم البيت الحرام إذا لم يذكر اسم غير الله عليه، وهو من خرافات الجاهلية التي جاء الإسلام بمحوها.
وخلاصة ما تقدم- إن الله تعالى أحلّ أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان، ما دبّ منها على الأرض، وما طار فى الهواء، وما سبح فى البحر، ولم يحرم إلا الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله.
وقد كان بعض العرب يذبح الحيوان على اسم غير الله وهو شرك وفسق، وبعضهم يأكل الميتة ويقول لم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ ولكن الفارق بينهما ما فى هذا من مظنة الضرر، وفيه مهانة للنفس، ومن ثم جعل الله حل أكل المسلم لذلك منوطا بإتمام موته والإجهاز عليه بفعله هو ليذكر اسم الله عليه فلا يكون من عمل الشرك، ولئلا يقع فى مهانة أكل الميتة وخسة آكلها بأكله المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وفريسة السبع- إلى ما فى الموقوذة من إقرار الواقذ على القسوة وظلم الحيوان وذلك محرم شرعا.
ثم أضاف إلى محرمات الطعام التي كان أهل الجاهلية يستحلونها عملا آخر من أعمالهم وخرافاتهم فقال:
(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) الأزلام واحدها زلم: وهو قطعة من الخشب على هيئة السهم، لكن لا يركب فيه النصل الذي يجرح ما يرمى به من صيد وغيره وكانت الأزلام ثلاثة، كتب على أحدها «أمرنى ربى» وعلى الثاني «نهانى ربى» والثالث غفل ليس عليه شىء، فإذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو زواجا أو بيعا أو نحو ذلك أجال «حرّك» هذه الأزلام، فإن خرج له الزلم المكتوب عليه «أمرنى ربى» مضى لما أراد، وإن خرج المكتوب عليه «نهانى ربى» أمسك عن ذلك ولم يمض فيه، وإن خرج الغفل الذي لا كتابة عليه أعاد الاستقسام، وهو: طلب معرفة ما قسم له دون ما لم يقسم بواسطة الأزلام.
أي وحرّم عليكم أن تطلبوا علم ما قسم لكم بالأزلام كما كانت تفعل العرب فى الجاهلية.
وحكمة هذا التحريم أنه من الخرافات والأوهام التي لا يركن إليها إلا من كان ضعيف العقل، يفعل ما يفعل من غير بينة ولا بصيرة، ويترك ما يترك كذلك، ويجعل نفسه ألعوبة للكهنة والسّدنة، ويتفاءل ويتشاءم بما لا فأل فيه ولا شؤم، ومن ثمّ أبطل ذلك دين العقل والبصيرة كما أبطل التطيّر والكهانة والعيافة والعرافة وسائر خرافات الجاهلية، إلى أن فيها افتراء على الله إن أرادوا بقولهم «أمرنى ربى» الله عز وجل، وجهلا وشركا إن أرادوا به الصنم، إلى أن فيه طلبا لعلم الغيب الذي استأثر الله به.
وقد استنّ بعض جهال المسلمين بسنة مشركى الجاهلية، أو بما يشبهها فتراهم يستقسمون بالسّبح وغيرها ويسمون ذلك استخارة أو فألا فيقتطعون طائفة من حب السّبحة ويحركونها حبة بعد أخرى، يقولون:«افعل» على واحدة «لا تفعل» على الثانية، ويكون الحكم الفصل للحبة الأخيرة، وما هذا بالاستخارة التي ورد الإذن بها، بل قد ورد ما يؤيد تحريمها.
ومنهم من يستقسم أو يأخذ الفأل من القرآن الكريم فيصبغون عملهم بصبغة الدين ويلبسون الباطل ثوب الحق، ولم يرد فى هذا نص يجوّز العمل به، ولكن الإلف والعادة جعلا هذا البدع مستحسنة وتأولوا لها اسم الفأل الحسن
ورووا فى ذلك حديث أبى هريرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يعجبه الفأل الحسن»
وليس هذا من الفأل الحسن، بل الفأل ضد الطيرة التي أبطلتها الأحاديث.
والعجيب من أمر بعض المسلمين أنهم تركوا الاهتداء بالقرآن وحرموه على أنفسهم واكتفوا من الإيمان به والتعظيم له بالاستقسام به كما كانت الجاهلية تستقسم بالأزلام، أو الاستشفاء بمداد تكتب به آياته فى كاغد أو جام (فنجان) وكل هذا من الضلالات والخرافات التي لم يرد شىء منها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف الصالح.
وأعجب من ذلك جعل بعض الدجالين الاستقسام من قبيل الاستخارة وجعل بعضهم له من قبيل القرعة المشروعة، وكل ذلك ضلال، إذ لا بينة فيه ولا سلطان.
والاستخارة التي وردت بها السنة هى التوجه إلى الله والالتجاء إليه بالصلاة والدعاء بأن يزيل عن المستخير الحيرة ويرشده إلى ما فيه الفائدة فيما تتعارض فيه الدلائل والبينات، فلا يستبين له إن كان الخير فى الإقدام أو فى الترك، فإذا شرح الله صدره لشىء أمضاه.
وقد روى أحمد والشيخان وأصحاب السنن من حديث جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلّمنا الاستخارة كما يعلمنا سورة من القرآن يقول:
والقرعة تشبه هذا بل أمرها أظهر، فإنها إنما تكون للترجيح بين المتساويين قطعا كالقسمة بين اثنين، إذ لا وجه لإلزام من تقسم بينهما بأن يأخذ زيد منهما هذه الحصة وعمرو الأخرى، فتكون القرعة طريقة حسنة عادلة.
(ذلِكُمْ فِسْقٌ) أي كل محرم مما سلف فسق وخروج من طاعة الله ورغبة عن شرعه إلى معصيته.
(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) اليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة وكان يوم جمعة، وهو اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية المبينة لما يقر من الأحكام التي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها
وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم فى زواله، ولا حاجة معه إلى شىء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.
روى البيهقي فى كتاب شعب الإيمان عن ابن عباس فى قوله: «الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ» يقول يئس أهل مكة أن ترجعوا إلى دينهم، وهو عبادة الأوثان أبدا (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فى اتباع محمد (واخشون) فى عبادة الأوثان وتكذيب محمد.
والخلاصة- إن الله أخبر المؤمنين بأن الكفار قد يئسوا من زوال دينهم، وأنه ينبغى لهم- وقد بدّلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمنا، وبفقرهم غنى- ألّا يخشوا غيره، وقد عرفوا فضله وإعزازه لهم.
وإجمال المعنى- اليوم انقطع رجاؤهم من إبطال دينكم ورجوعكم عنه، لما شاهدوا من فضل الله عليكم، إذ وفّى بوعده، وأظهره على الدين كله.
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فى الآية بشارات ثلاث فسرها السلف بما سنذكره بعد:
روى عن ابن عباس أنه قال: لما كان النبي صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات نزل عليه جبريل وهو رافع يده والمسلمون يدعون الله (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) أي حلالكم وحرامكم، فلم ينزل بعده حلال ولا حرام (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي منّتى فلم يحج معكم مشرك (وَرَضِيتُ) أي اخترت (لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) .
وقد مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضه الله إليه.
وروى ابن جرير وابن المنذر عنه أيضا أنه قال: أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخط أبدا:
وقال صاحب الكشاف: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) كفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك، وكمل لنا ما نريد.
إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومنافعهم.
(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية وإبطال مناسكها وأن لم يحج معكم مشرك ولم يطف بالبيت عريان.
(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) يعنى اخترته لكم من بين الأديان وآذنتكم بأنه هو الدين المرضى وحده «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» اه.
(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) الاضطرار: حمل الإنسان على ما يضره وإلجاؤه إليه، والمخمصة: المجاعة تخمص لها البطون: أي تضمر، والمتجانف للإثم:
المائل المنحرف إليه المختار له، أي فمن وقع فى ضرورة تناول شىء من المحرمات بسبب مجاعة تخمص لها البطون ويخاف منها الموت أو مبادئه حال كونه غير مختار للإثم، بأن يأكل منه ما يزيد على ما يمسك به رمقه، فإن ذلك حرام كما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة رضى الله عنهم.
وفى معنى الآية ما جاء فى سورة البقرة «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ» أي فمن اضطر غير طالب له ولا متعدّ ومتجاوز قدر الضرورة فلا إثم عليه.
وإنما اشترط هذا لأن الإباحة للضرورة وهى تقدّر بقدرها، وذلك نافع للمضطر أدبا وطبعا لأنه يمنعه أن يتجرأ على ما تعود فيه مهانة له وضرر.
(فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي فمن اضطر إلى أكل شىء مما ذكر فأكل فى مجاعة لا يجد فيها غيره وهو غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه متجاوز قدر الضرورة، فإن الله غفور لمثله لا يؤاخذه عليه، وهو رحيم به يرحمه ويحسن إليه.
ولما كان الأصل فى الأشياء الحلّ، لأن الله سخر لنا ما فى الأرض جميعا لننتفع به، والمحظور علينا هو ما يضرنا، ولكن الناس يتصدّون أحيانا لفعل ما يضرهم وترك ما ينفعهم، كما كانت تفعل العرب إذا استباحت أكل الميتة والدم ونحوها من الخبائث وحرمت على نفسها بعض الطيبات من الأنعام بخرافات وأوهام باطلة كالبحيرة والسائبة ونحوهما- كانت الحاجة ماسة إلى بيان ما يحله الله تعالى مما حرموه بعد بيان ما حرمه مما أحلوه فقال: