الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنك نشدتنى بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني فى كتابنا الرجم، ولكنه كثر فى أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شىء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم إنى أول من أحيا أمرك إذ أماتوه وأمر به فرجم فأنزل الله (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ- إلى قوله- إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ» .
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) خاطب الله محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله يا أيها النبي فى مواضع كثيرة وما خاطبه بيا أيها الرسول إلا فى هذا الموضع وموضع آخر بعده «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» وهذا الخطاب للتشريف والتعظيم وتأديب المؤمنين وتعليمهم أن يخاطبوه بوصفه كما كان يفعل بعض أصحابه بقولهم (يا رسول الله) وجهل هذا بعض الأعراب لخشونتهم وسذاجة فطرتهم فكانوا ينادونه (يا محمد) حتى أنزل الله «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً» فكفّوا عن ندائه باسمه.
أي لا تهتمّ أيها الرسول بهؤلاء المنافقين الذين يسارعون فى إظهار الكفر والتحيز إلى أعدائه المؤمنين عند ما يرون الفرصة سانحة، فالله يكفيك شرهم، ويقيك ضرّهم، وينصرك عليهم وعلى من شايعهم وناصرهم.
والنهى عن الحزن وهو أمر طبعى وليس للإنسان اختيار فيه يراد به النهى عن لوازمه التي يفعلها الناس مختارين من تذكر المصايب وتعظيم شأنها، وبذا يتجدد الألم ويبعد أمد السلوى.
ثم بين أن أولئك المسارعين فى الكفر من المنافقين ومن اليهود فقال:
(مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي لا يحزنك الذين يسارعون فى الكفر من المنافقين الذين ادعوا الإيمان بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.
(وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) الذين هادوا هم اليهود، والمراد بالسماع سماع القبول والاعتقاد بصحة ما يقال، والمراد بالكذب ما يقوله رؤساؤهم فى النبي صلى الله عليه وسلم وفى أحكام دينهم التي يتلاعبون فيها بأهوائهم.
أي إن هؤلاء القوم كثيرو الاستماع لكلام الرسول صلوات الله عليه والإخبار عنه لأجل الكذب عليه بالتحريف واستنباط الشبهات، فهم جواسيس بين المسلمين لأعدائهم يبلغون الرؤساء أعداء الإسلام كل ما يقفون عليه، ليكون ما يفترون عليه من الكذب متقبلا، لأنه مبنى على وقائع معينة، يزيدون فى روايتها وينقصون، ويحرفون منها ما يحرفون وقد جرت العادة بأن الكذب لا يجد له نفوقا بين الناس إلا ممن يشاهد ويرى، أما البعيد فيظهر اختلاق كذبه سريعا، ولهذا كانوا ينقلون تلك الأكاذيب لمن لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤساء وذوى الكيد، ليسمعوا منه بآذانهم إما كبرا وتمردا وإما خوفا على أنفسهم وهذا معنى قوله: سماعون لقوم آخرين لم يأتوك، أي سماعون لأجلهم.
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ) أي يحرفون كلم التوراة من بعد وضعه
فى مواضعه إما تحريفا لفظيا بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو بالزيادة فيه أو بالنقص منه، وإما تحريفا معنويا بحمل اللفظ على غير ما وضع له.
(يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا) أي يقولون لمن أرسلوهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليسألوه عن حكم الرجل والمرأة اللذين زنيا منهم وأرادوا أن يحابوهما بعدم رجمهما، إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها وارضوا بها، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبول ذلك ولا ترضوا به.
وقد سبق أن ذكرنا أنهم جاءوا فسألهم عن حد الزناة فى التوراة فقالوا:
نفضحهم ويجلدون، وجاءوا بالتوراة فوضع أحدهم يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها، وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع فإذا هى آية الرجم فاعترفوا بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وظهر كذبهم وعبثهم بشريعتهم وكتابهم.
(وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً) أي ومن يرد الله أن يختبر فى دينه فيظهر الاختبار كفره وضلاله فلن تملك له أيها الرسول من الله شيئا من الهداية والرشد فهؤلاء المنافقون والجاحدون من اليهود قد أظهرت لك فتنة الله واختباره إياهم مقدار فسادهم، فهم يقبلون الكذب دون الحق وهم محرفون كاتمون لأحكام كتابهم، اتباعا لأهؤائهم ومرضاة لرؤسائهم، وذوى الجاه فيهم:
فلا تحزن بعد هذا على مسارعتهم فى الكفر، ولا تطمع فى جذبهم إلى الإيمان، فإنك لا تملك لأحد نفعا، وإنما عليك البلاغ والبيان، ولا تخف عاقبة نفاقهم فإنما العاقبة للمتقين من أهل الإيمان، ولهم الخزي والهوان.
(أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) أي إن أولئك الذين بلغت منهم الفتنة ذلك المبلغ هم الذين لم يريد الله تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق، لأن إرادته إنما تتعلق بما اقتضته سننه العادلة فى نفوس البشر، من أنها إذا دأبت على الباطل ومرنت على الكيد والشر، وألفت الخلاف والضر، تحيط بها خطيئتها، وتطبق عليها ظلمتها، فلا يبقى لديها لنور الحق منفذ، وتصبح غير قابلة للاستبصار والاعتبار الذي
جعله الله وسيلة للاتعاظ والهداية فهؤلاء الرؤساء من اليهود وأعوانهم لا تقبل طباعهم سواها، فلا تتعلق إرادته سبحانه بتطهيرهم، وإلا كان ذلك خلافا لما اقتضته سننه وتبديلا لنظمه فى خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
(لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فخزى المنافقين فى الدنيا هتك أستارهم باطلاع الرسول على كذبهم وخوفهم من القتل، وخزى اليهود فضيحتهم بظهور كذبهم فى كتمان نصوص كتابهم فى إيجاب الرجم، وعلوّ الحق على باطلهم، وقد صدق الوعيد على كل يهود الحجاز، كما يصدق على كل من يفسدون كفسادهم ولا يغنى عنهم الانتساب إلى نبىّ لم يتبعوه ولا تنفعهم دعوى الإيمان بكل نبى لم يتبعوه وعذابهم فى الآخرة نجزم بحصوله ولا نعلم مقدار كنهه، وحقيقة أمره.
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) أعاد الله وصفهم بكثرة السماع للكذب للتأكيد وتقرير المعنى، وإفادة اهتمام المتكلم بأمره وبيان أن أمرهم كله مبنى على الكذب الذي هو شر الرذائل وأضر المفاسد، وهكذا شأن الأمم الذليلة تلوذ بالكذب وتدرأ به عن نفسها ما تتوقع من ضر بما يلحقها.
وكذلك انتشر بين أفرادها أكل السحت، لأنها كانت تعيش بالمحاباة والرشا فى الأحكام، ففسدت بينها أمور المعاملات وكذلك استبدلت الطمع بالعفة وكان أحبار اليهود ورؤساؤهم عصر التنزيل كذابين أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات، كما هو دأب سائر الأمم عهد فسادها، وأزمان انحطاطها.
(فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم والإعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم، وهذا التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة، فلا يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين الأجانب الذين هم فى بلادهم وإن تحاكموا إليهم، بل هم مخيرون يرجحون فى كل حال ما يرونه من المصلحة.
وأما أهل الذمة فيجب الحكم بينهم إذا تحاكموا إلينا، لأن من أخذت منه الجزية تجرى عليه أحكام الإسلام فى البيوع والمواريث وسائر العقود إلا فى بيع الخمر والخنزير، فإنهم يقرّون عليه، ويمنعون من الزنا كالمسلمين فإنهم نهوا عنه ولا يرجمون، إذ من شروط الرجم الإسلام.
(وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً) أي وإن اخترت الإعراض عنهم ولم تحكم بينهم فلن يضروك شيئا من الضرر فالله حافظك من ضرهم.
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي وإن اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بالعدل الذي أمرت به، وهو ما تضمنه القرآن واشتملت عليه شريعة الإسلام.
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي وكيف يحكمونك فى قضية كقضية الزانيين وعندهم التوراة وهى شريعتهم فيها حكم الله فيما يحكمونك فيه ثم يتولون عن حكمك بعد أن رضوا به وآثروه على شريعتهم لموافقته إياها.
وخلاصة ذلك- إن أمرهم لمن أعجب العجب، وما سبب ذلك إلا أنهم ليسوا مؤمنين بالتوراة إيمانا صحيحا ولا هم مؤمنين بك، إذ المؤمن بشرع لا يرغب عنه إلى غيره إلا إذا آمن بأن ما رغب إليه شرع من الله أيضا أيد به الأول أو نسخه لحكمة اقتضت ذلك.
ولكن هؤلاء تركوا حكم التوراة التي يدعون الإيمان بها لأنه لم يوافق أهواءهم وجاءوك يطلبون حكمك، رجاء أن يوافق أهواءهم ثم يتولون ويعرضون عنه، إذ لم يأت وفق مرادهم.
وقد جاء فى سفر التثنية بعد بيان أن من تزوج عذراء فوجدها ثيبا ترجم عند باب بيت أبيها (وإذا وجد رجل مضطجع مع امرأة زوج بعل يقتل الاثنان، الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة، فتنزع الشر من إسرائيل، وإذا كانت فتاة عذراء مخطوبة