الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التأويل:
الم الألف إظهار الوحدة مطلقا ذاتا وصفة. فإن الألف واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب، ومتفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف، ويشير باستقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغيره عن الوجود الوحداني أزلا وأبدا.
فإن الألف مصدر جميع الحروف، فإن من استقامته يخرج كل حرف معوج. ثم في اللام والميم المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوف بالإثنينية وذلك قسمان: قسم لم يكن فكان ثم يزول، وقسم ما كان فكان ولا يزول. وهذان قسمان محدثان وموجدهما الواحد القديم الذي لا زال كان ولا يزال يكون وإليه الإشارة بالألف.
وأما اللام فإشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يكون باقيا وهو عالم الصورة والملك والأجساد. فوقوعه في المرتبة الثانية، من الألف إشارة إلى أنه مسبوق بالوجود والألف سابق عليه، والانكسار فيه يشير إلى تغيره وزواله. والميم إشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يزال يبقى وهو عالم المعنى والملكوت والأرواح. وذلك أن الميم أول حرف من اسمه المبدئ وآخر حرف من اسمه القيوم، فيشير إلى أنه كما أبدأه المبدئ حين لم يكن يقيمه القيوم حين كان لا يزال. وبوجه آخر الألف إشارة إلى وجود حقيقي قائم بذاته، واللام يشير إلى إثبات ونفي. فالإثبات في لام التمليك لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنفي في «لا» النافية أي لا وجود لشيء بالحقيقة سواه، والميم يشير أيضا إلى إثبات ونفي. فالإثبات ميم اسمه القيوم والنفي «ما» النافية أي ما في الوجود حقيقة إلا هو. ودليل الوجهين في الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ف اللَّهُ إثبات ذات القديم، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ نفى الشرك عن وجوده وإثبات وحدته في وجوده والْحَيُّ الْقَيُّومُ إثبات جميع صفات كماله ونفي جميع سمات النقص عن ذاته. وقد أودع مجموع معاني هذه الآية في قوله الم فمعنى قوله اللَّهُ أودع في أول حرف من حروفه وهو الألف، ومعنى قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أودع في أول حرف من حروفه وهو اللام. ومعنى قوله الْحَيُّ الْقَيُّومُ أودع في آخر حرف من حروفه وهو الميم. وإنما أودع في آخر حروفه هاهنا ليكون السر مودعا في الآية من أول حرفها إلى آخر حرفها مكتوما فيما بينهما. والحروف الثلاثة من قوله الم يكون الألف من أولها دالا على المعنى الذي هو في الكلمة الأولى وهي اللَّهُ واللام من أوسطها دالا على المعنى الذي في الثانية وهي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ والميم من آخرها دالا على المعنى الذي هو مودع في الثالثة وهو الْحَيُّ الْقَيُّومُ فيكون الاسم الأعظم مودعا في الم كما روي عن سعيد بن جبير وغيره،
وهو سر القرآن وصفوته كما روي عن أبي بكر وعلي عليه السلام.
ثم إنه تعالى بعد أن أظهر أسرار ألوهيته المودعة في الم بقوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم
فقال نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك، مخيفة عن زورك، فصرت مشاهدا لسر الله المودع في الم وهو الذي بين يدي اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فصرت مصدقا له تصديق تحقيق لا تصديق تقليد فأفهم إذ لم تتعلم، ولا تعلم أنك لا تفهم لأنه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطيارين ولا من السيارين.
وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً [الشورى:
52] حتى صرت مكاشفا عند تجلي أنواره بأسراره، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قارئ، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة هُدىً لِلنَّاسِ وكنت مخصوصا بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال: وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52] وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب على صورة الأنبياء، ويفرق بين تعليمك القرآن وبين تعليمهم الكتب. فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ [الأنعام:
91] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً [الأعراف: 145] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة. ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وكيف يخفى وإنه هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ عن نقص الأحكام الْحَكِيمُ فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام. وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ
المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها يحوّلها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس التي منها صدر إلى عالم الإنس، فيتكون الجنين في رحم القلب وهو طفل خليفة الله في أرضه فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأنبيائه وأوليائه يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [النحل:
2] كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22] فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون. الآيات المحكمات تنزيلها شرب الخواص والعوام لبسط الشرع والاهتداء، والمتشابهات تأويلها شرب الخواص وخواص الخواص لإخفاء الأسرار عن الأغيار والابتلاء فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ ألبست قلوبهم غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب وهم أهل الأهواء والبدع فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ ليضلوا بأهوائهم وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ ليضلوا الناس بآرائهم وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ بما شاهدوا من أنوار الحق في تحقيق التأويل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا بتوفيقه وإعلامه وتعريفه وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ الذين خرجوا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور لباب وجودهم الروحاني، وهم الراسخون في قشور العلوم الكسبية الواصلون إلى حقائق لباب العلوم اللدنية من لدن حكيم خبير. وفي الآية إشارة إلى أن علوم الراسخين كلها بتعليم الله تعالى إياهم في الميثاق إذ تجلى بصفة الربوبية للذرّات، وأشهدهم على أنفسهم بشواهد الربوبية ألست بربكم؟ فبشهود تلك الشواهد ركز في جبلة الذرّات علم التوحيد فقالوا: بلى. ويندرج في علم التوحيد كل العلوم كما قال: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة: 31] فلما ردّت الذرّات الى الأصلاب واحتجبت بصفات البشرية، ثم نقلت إلى الأرحام وتنقلت بقدم الأربعينات من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن الحضرة إلى أن وضع الحمل، وردت النفس العالمة بعلم التوحيد الناطقة به إلى أسفل سافلين القالب محتجبة بحجب البشرية ناسية تلك العلوم والتنطق بها. ثم أبواه يذكرانه تلك العلوم بالرموز والقرائن حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية وأستار الأطوار، وينطق بلسان الأبوين لا بلسانه الذي أجاب به الرب وقال بلى، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك. وكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المستمع المجيب في الميثاق. فسمعه قشر ذلك السمع الذي استمع خطاب الحق، وبصره قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق، وقلبه قشر ذلك القلب الذي فقه خطاب الحق، وعلومه قشر تلك العلوم التي تعلمت من الحق. فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليذكره حقيقة تلك العلوم التي كان أبواه يذكرانه قشرها كما قال فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية: 21] فالتذكير عام ولكن التذكر خاص فلهذا قال وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا