المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: في المخصص - تيسير الوصول إلى منهاج الأصول - جـ ٣

[ابن إمام الكاملية]

الفصل: ‌الفصل الثالث: في المخصص

‌الفصل الثالث: في المخصص

والمراد به هنا الدال على التخصيص.

وهو متصل أي: لا يستقل بنفسه، بل يكون متعلقًا باللفظ الذي ذكر فيه العام.

ومنفصل وهو عكس المتصل.

فالمتصل أربعة أقسام:

ص: 328

الاستثناء، والشرط، والصفة والغاية، وزاد ابن الحاجب بدل البعض وتركه المصنف.

الأول: الاستثناء: وهو الإخراج بإلا غير الصفة ونحوها.

فقوله: الإخراج، كالجنس شامل للمخصصات كلها.

وقوله: بإلا، مخرج لما عدا الاستثناء.

وقوله: غير الصفة، احتراز عن إلا إذا كانت للصفة، بمعنى غير، وهي التي تكون تابعة لجمع منكور غير محصور.

كقوله تعالى: } لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا {.

أي: غير الله فيكون صفة لا استثناء.

ص: 329

فإن قلت: لا حاجة إلى تقييد "إلا" بغير الصفة لخروجها، بقوله:"الإخراج" فإن "إلا" التي هي صفة لا إخراج فيها لعدم تناول ما قبلها لما بعدها، ولهذا لم يذكره الإمام.

وأجيب: بأن المراد ما جاز دخوله، لا ما وجب دخوله.

وأيضًا للاحتراز عن نحو قولهم: قام القوم إلا زيد برفع زيد، فإنه جائز على جعل إلا صفة، كما ذكر ابن عصفور وغيره.

وقوله: ونحوها، أراد به الحروف المرادفة لإلا نحو: سوى، وحاشا، وخلا، وعدا، وهي حروف معلومة معينة.

ص: 330

وهو تعريف لفظي، وأخذه "إلا" في التعريف لا يلزم منه تعريف الشيء بنفسه؛ لأن معنى إلا بديهي لا يتوقف على معرفة الاستثناء.

وأراد لفظ إلا لا معناه.

والواو في التعريف بمعنى "أو" الفاصلة، وهو واضح وأخوات "إلا" لشهرتها لم يذكرها ولم يبينها.

والاستثناء المنقطع الذي لا إخراج فيه مثل: قام القوم إلا حمارًا، مجاز على الأصح، فلا يرد على هذا التعريف فإنه للاستثناء الحقيقي وهو المتصل، لأنه المتبادر إلى الفهم، فلا يكون الاستثناء المنقطع أي:

ص: 331

صيغته مشتركًا لفظيًا، ولا موضوعًا للقدر المشترك بين المتصل والمنقطع.

إذ ليس أحد معاني المشترك أو أفراد المتواطئ أولى بالظهور.

والتبادر عند قطع النظر عن عارض أو كثرة ملاحظة. أو نحو ذلك.

ص: 332

واعلم أنا إذا قلنا: جاءني القوم إلا زيدًا، فالاستثناء يطلق على إخراج زيد، وعلى زيد المخرج، وعلى لفظ زيد المذكور بعد إلا، وعلى مجموع لفظ إلا زيدًا، وبهذه الاعتبارات اختلفت العبارات في تفسيره فيجب أن يحمل كل تفسير على ما يناسبه وزاد بعضهم في حد الاستثناء: أن يكون من متكلم واحد.

ورجحه الصفي الهندي.

وفيه أي: في الاستثناء مسائل:

ص: 333

الأولى

شرطة الاتصال عادة، أي: يشترط في الاستثناء اتصاله بالمستثنى منه لفظًا، أو ما هو في حكم الاتصال، فلا يضر قطعه بتنفيس أو سعال أو طول الكلام المستثنى منه، ونحوها، مما لا يعد منفصلاً عادة وعرفًا بإجماع الأدباء أي: أهل اللغة، ولولا ذلك لما استقر عتق ولا طلاق، ولا حنث؛ لجواز الاستثناء بعده بأسهل طريق.

والإجماع بخلافه.

ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما خلافه، أي: جواز الاستثناء المنفصل.

ص: 334

ثم اختلفوا فروى عنه الحافظ أبو موسى المديني أنه يجوز إلى أربعين يومًا، وقال: لا يثبت عن ابن عباس - رضي الله عنهما.

وروى عنه الطبراني في معجمه الأوسط: أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ورواه أبو موسى المديني ثم قال: هذا حديث غير متصل ولا ثابت.

ص: 335

قال: ولو صح عن ابن عباس رضي الله عنهما لاحتمل رجوعه عنه، أو علم أن ذلك كان خاصًا برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى.

وروى عنه إلى شهر، وقيل: إلى سنة، وقيل: ابدًا.

بالجملة لم يثبت الأكثرون شيئًا من هذه الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما بل أولوه.

ص: 336

وكذا عبر المصنف بقوله: ونقل.

ولما اختلفوا في كيفيته على المذاهب المتقدمة عبر بقوله: خلافه. وحكي عن سعيد بن جبير جواز تأخيره أربعة أشهر.

وعن عطاء والحسن: يمتد ما دام المجلس موجودًا.

ص: 337

وعن مجاهد إلى سنتين.

قال بعض المتأخرين: وهي مذاهب شاذة.

واعلم أنه لا بد أن ينوى في الكلام اتفاقًا، إذا شرطنا اتصاله، فلو لم يعرض له نية الاستثناء إلا بعد فراغ المستثنى منه لم يعتد به وتكفي النية قبل فراغه من الكلام على الصحيح.

ص: 338

القائل بجواز الاستثناء المنفصل قال: قياسًا على التخصيص بغيره، أي: بغير الاستثناء من المخصصات المنفصلة، والجامع أن كلا منهما مخصص.

والجواب: النقض بالصفة والغاية.

أي: لو صح القياس لزم جواز تأخير الوصف والغاية في التخصيص بهما بعين ما ذكر، لكنه لا يجوز تأخيرهما اتفاقًا.

وأيضًا: الفرق، فإن المخصص المنفصل مستقل ولذلك جاز انفصاله بخلاف الاستثناء.

وقوله: "وعدم الاستغراق" عطف على الاتصال.

ص: 339

أي يشترط أيضًا أن لا يكون المستثنى مستغرقًا للمستثنى منه، سواء كان مثل المستثنى منه أو أكثر، فإن استغرق فهو باطل بالإجماع، كما حكاه الآمدي وابن الحاجب.

لكن في المدخل لابن طلحة في: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا - قولان في اللزوم وعدمه.

وهو يقتضي صحة الاستثناء المستغرق، كذا قيل.

ومحل الإجماع - إن صح - إذا اقتصر عليه.

ص: 340

فلو أعقبه باستثناء آخر، فالخلاف فيه مشهور. نحو: له علي عشرة إلا عشرة إلا ثلاثة.

فقيل: يلزمه عشرة، وقيل: ثلاثة.

ثم قال الجمهور: يصح استثناء المساوي كقوله: علي عشرة إلا خمسة، والأكثر. واختاره المصنف.

وشرط الحنابلة: على ما نقله: أن لا يزيد على النصف.

لكن نقل ابن الحاجب، تبعًا للآمدي عنهم امتناع المساوي أيضًا.

ص: 341

وشرط القاضي أبو بكر الباقلاني: في آخر أقواله أن ينقص المستثنى منه أي من النصف.

لنا على الحنابلة والقاضي: لو قيل: علي عشرة إلا تسعة لزم واحد إجماعًا.

ولولا أن الاستثناء الأكثر ظاهر في وضع اللغة في بقاء الأقل لامتنع الاتفاق عليه عادة.

ولصار قوم ولو قليلاً إلى أنه يلزمه العشرة لكون الاستثناء لغوًا لأنه غير صحيح كما في المستغرق. وفيه نظر.

ص: 342

ولنا على القاضي: استثناء المخلصين من الغاوين، في قوله تعالى حكاية عن إبليس: } قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين {.

وعكسه، أي: استثناء الغاوين من المخلصين، في قوله تعالى: } إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين {.

إيضاحه: أنهما إن تساويا ثبت استثناء المساوي، وإن تفاوتا ثبت استثناء الأكثر.

وللقاضي أن يقول: الغاوين مستثنى من قوله: } إن عبادي ليس لك عليهم سلطان {.

والعباد الذين ليس لإبليس عليهم سلطان أعم من المخلصين؛ لأن عبادي جمع مضاف يفيد العموم، فإذا خرج عنه الغاوين الذين هم الكفار، بقي العباد غير الكفار، وهو أعم من المخلصين الذين هم

ص: 343

المعصومون، وغيرهم أي: المؤمنون غير المعصومين.

فيكون المستثنى أقل من المستثنى منه.

والمخلصون في الآية الثانية أقل من الغاوين.

فالمستثنى أقل.

اللهم إلا أن يفسر العباد الذين ليس لإبليس عليهم سلطان بالمخلصين، فيستقيم ما ذكره المصنف.

لكن بالنظر إلى مفهومه أعم.

قال القاضي: الأقل ينسى فيستدرك.

يعني أن الاستثناء خلاف الأصل، إذ هو بمنزلة الإنكار بعد الإقرار.

خالفناه في الأقل؛ لأنه قد ينسى لقلة التفات النفس إليه فيستدرك ويبقى معمولاً به في غيره، وهو المساوي والأكثر.

ص: 344

ونقض كلام القاضي بما ذكرنا فيما تقدم من أنه إذا قال: علي عشرة إلا تسعة، فإنه صحيح بإجماع الفقهاء، واستثناء الغاوين من المخلصين.

وأجيب أيضًا: بأنا لا نسلم أن الدليل منعه، وأنه إنكار بعد إقرار؛ لأنه كجملة واحدة؛ لأنه إسناد بعد إخراج، فليس فيه حكمان مختلفان.

الثانية

الاستثناء من الإثبات نفي، وبالعكس، خلافًا لأبي حنيفة

ص: 345

(رضي الله عنه.

لنا: لو لم يكن كذلك، لم يكف "لا إله إلا الله" في التوحيد واللازم باطل بالإجماع.

بيان الملازمة: أنه إنما يتم التوحيد بإثبات الإلهية لله - تعالى - ونفيها عما سواه، والمفروض أنه لا يفيد الإثبات له، وإنما يفيد النفي فقط، فلو تكلم بها دهري منكر لوجود الصانع، وهو لا يفيد إلا نفي الغير لما نفى معتقده، ولم يعلم بها إسلامه.

احتج أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بطهور"

ص: 346

هو بهذا اللفظ لم يحفظ كما قاله الإسنوي والزركشي.

قال العراقي: وليس كذلك بل رواه الدارقطني من حديث عائشة رضي الله عنها.

قال الزركشي: ويقرب منه: "لا يقبل الله صلاة إلا بطهور".

رواه ابن ماجة.

ص: 347

والذي رواه مسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور".

تقديره: لا صحة للصلاة إلا بطهور.

فلو كان الاستثناء من النفي للإثبات، للزم ثبوت الصلاة بمجرد الطهور، وأنه باطل بالاتفاق.

قلنا: الحصر للمبالغة، لا للفني عن الغير، كقوله:"الحج عرفة" وهنا كذلك؛ لأن الطهارة لما كان أمرها متأكدًا صارت كأنه لا

ص: 348

شرط للصحة غيرها.

حتى إذا وجدت توجد الصحة.

وأجيب أيضًا: بأن قولنا: الاستثناء من النفي إثبات، يصدق بإثبات صورة واحدة من كل استثناء؛ لأن دعوى الإثبات لا عموم فيها؛ إذ هي مطلقة، وحينئذ فيقتضي صحة الصلاة عند وجود الطهارة بصفة الإطلاق، لا بصفة العموم.

أي لا يقتضي صحة الصلاة في جميع صور الطهارة، بل يصدق ذلك بالمرة الواحدة.

تنبيه:

المشهور من كلام السادة الشافعية: أن الاستثناء من الإثبات نفي اتفاقًا، وصرح به الإمام الرازي والمحقق.

ص: 349

وإنما الخلاف في كونه من النفي إثباتًا.

والمذكور في كتب الحنفية، ونقله عنهم الصفي الهندي: أنه ليس من الإثبات نفيًا، ولا من النفي إثباتًا، بل هو تكلم بالباقي بعد الثنيا.

ومعناه: إخراج المستثنى، وحكم على الباقي من غير حكم على المستثنى، ففي مثل علي عشرة إلا ثلاثة لا تثبت الثلاثة بالبراءة الأصلية وعدم الدلالة على الثبوت لا بسبب دلالة اللفظ على عدم الثبوت، وفي مثل: ليس علي إلا سبعة: لا يثبت شيء بحسب دلالة اللفظ لغة، وإنما يثبت بحسب العرف، وطريق الإشارة، كما في كلمة التوحيد، حيث يحصل بها الإيمان من المشرك، ومن القائل: بنفي الصانع، بحسب عرف الشرع، ويؤولون كلام أهل العربية، على أنه

ص: 350

من الإثبات نفي، بأنه مجاز، تعبيرًا عن عدم الحكم بالحكم بالعدم لكونه لازمًا.

قال الشيخ سعد الدين: لكن إنكار دلالة ما قام إلا زيد، على ثبوت القيام لزيد، يكاد يلحق بإنكار الضروريات، وإجماع أهل العربية على أنه من النفي إثبات لا يحتمل التأويل.

الثالثة

الاستثناءات المتعددة إن تعاطفت، أي: عطف بعضها على بعض، نحو علي عشرة إلا ثلاثة، وإلا أربعة، وإلا اثنين.

أو استغرق الأخير الأول ولم تكن معطوفة، سواء كان مساويًا، نحو: له علي عشرة إلا اثنين، إلا اثنين، أو أزيد، نحو: عشرة

ص: 351

إلا اثنين إلا ثلاثة.

فإنها في الثلاث صور تعدد إلى المتقدم عليها.

أما في الأول فلو وجب تساوي المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، وأما في الثاني وهي ما إذا لم تكن متعاطفة، وكانت مستغرقة؛ لأنه لو عاد إلى الاستثناء الأول لما صح لكونه مستغرقًا.

ففي الصورة الأولى وهي المعطوفة، يلزمه درهم وفي الثانية (وهي المستغرق المساوي) ستة.

وفي الثالثة وهي المستغرق الزائد خمسة.

وللنحويين في المستغرق مذهبان:

أحدهما: موافقة المصنف.

والثاني: مذهب الفراء، أن الثاني يكون مقرًا به، فيلزمه في المثال الأول من المستغرق عشرة، والثاني: أحد عشر وإلا، أي: وإن لم يكن الثاني معطوفًا، ولا مستغرقًا، فإنه يعود الاستثناء الثاني إلى الاستثناء الأول أي: يكون مستثنى منه.

ص: 352

وهكذا الثالث والرابع إلى غير ذلك؛ لأنه أقرب وهو دليل الرجحان، ولا بد من مراعاة ما تقدم وهو أن الاستثناء من الإثبات نفي وبالعكس، فإذا قال: عشرة، إلا ثمانية، إلا سبعة، فالسبعة مثبتة مستثناة من الثمانية، فتضم إلى ما بقي من العشرة بعد الثمانية وهو اثنان، فيكون مقرًا بتسعة وعليه فقس.

الرابعة

قال الشافعي رضي الله عنه: الاستثناء المتعقب للجمل المعطوف بعضها على بعض كقوله تعالى: } إلا الذين تابوا {، الظاهر أنه يعود

ص: 353

إليها جميعًا عند عدم قرينة الاتصال والانفصال.

وخص أبو حنيفة رضي الله عنه الاستثناء بالجملة الأخيرة.

وتوقف القاضي أبو بكر، والشريف المرتضى، من الشيعة.

ص: 354

إلا أن القاضي: توقف لعدم العلم بمدلوله لغة.

والمرتضى: لكونه مشتركًا بين عوده إلى الكل، وعوده إلى الأخيرة، لأنه ورد لهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فيتوقف إلى ظهور القرينة.

وهو موافق للحنفية في الحكم، وإن خالف في المأخذ، لأنه يرجع إلى الأخيرة فيثبت حكمه فيها، ولا يثبت في غيرها، لكن هما لعدم ظهور تناولها، والحنفية لظهور عدم تناولها.

وقيل: إن كان بينهما، أي بين الجملتين تعلق فللجميع مثل:

ص: 355

أكرم الفقهاء والزهاد، وأنفق عليهم إلا المبتدعة.

فتعلق أحدهما بالأخرى في هذا المثال كون أحدهما مضمرًا في الأخرى.

وكذا اشتراكهما في غرض نحو: أكرم بني تميم، واخلع عليهم، فإن الغرض هو التعظيم فيهما، وإلا أي: وإن لم يكن بينهما تعلق فللأخيرة يرجع الاستثناء فقط.

لنا: على أن الاستثناء يعود على جميع الجمل، أن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات كالحال، والشرط، وغيرهما، من الظرف والمجرور.

فكذلك الاستثناء، والجامع عدم الاستقلال.

وقد يمنع الخصم حكم الأصل.

ص: 356

قيل من قبل الحنيفة: الاستثناء خلاف الدليل؛ لأنه إنكار بعد إقرار، والأصل أنه لا يعود لشيء من الجمل.

لكنه خولف في الجملة الأخيرة للضرورة، وهي صون الكلام عن اللغو، وخصت هي بالاستثناء لأنها أقرب فبقيت الجمل الأولى السابقة على الجملة الأخيرة على عمومها الذي هو الأصل.

قلنا: ما ذكرتم منقوض بالصفة والشرط، فإن دليلكم بعينه جار فيهما، لكونهما خلاف الأصل، مع أنهما عائدان للكل، وقد

ص: 357

عرفت ما في هذا الجواب.

وقد يجاب: بأنا لا نسلم أنه يرجع للضرورة، بل عندنا أن وضعه للجميع، فلا يتقيد بالأخيرة، كما لو دل دليل على عوده إلى الجميع فإنه يعتبر إجماعًا.

ومع جواز وضعه للجميع لا يتم ما ذكرتم، وعليه إشكالات وأجوبتها في الأصل.

تنبيه:

مثل المصنف بالآية وهي قوله تعالى: } والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدًا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا {.

لأن هذا الاستثناء بعد ثلاث جمل: الأولى: آمرة بجلدهم، والثانية: ناهية عن قبول شهادتهم، والثالثة: مخبرة بفسقهم.

ص: 358

ومذهب الشافعي رضي الله عنه جلد القاذف، وعدم قبول شهادته وأنه فاسق.

واستثنى من تاب فلا يبقى فاسقًا ولا مردود الشهادة، لكن الجلد لا يسقط؛ لأن حد الآدمي لا يسقط بالتوبة، فهو خارج عن محل النزاع.

وقول المصنف المتعقب للجمل، احترز به عن الاستثناء المتعقب للمفردات فإنه يعود لكها لعدم استقلالها.

واقتضى كلام جماعة أن هذا متفق عليه.

وقال الرافعي رحمه الله: في الطلاق إذا قال: حفصة وعمرة

ص: 359

طالقان، إن شاء الله تعالى، فهو من باب الاستثناء عقب الجمل.

ومحل عود الاستثناء إلى الجميع إذا لم يدل الدليل على إخراج البعض كما سبق. وشرط إمام الحرمين أيضًا شرطين:

أحدهما: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل، فإن تخلل فالاستثناء يختص بالأخيرة.

ثانيهما: أن تكون معطوفة بالواو خاصة.

وصرح أيضًا بهذا الشرط: الآمدي، وابن الحاجب، وهو الذي في منهاج النووي تبعًا لمحرر الرافعي.

وأطلق الإمام الرازي العطف. وخرج القاضي أبو بكر: بالتعميم في الواو وغيرها. وهو ظاهر إطلاق أصحاب الشافعي العطف.

وصرح المتولي: بعود الشرط إلى الجملتين، ولو كان العطف بثم، حكاه عنه في الروضة، وأصلها في تعدد الطلاق وإقراره.

ص: 360

والشرط قسم من الاستثناء، صرح به الرافعي، وأن لا يدل دليل على خلافه، وإن دل اتبع.

الثاني من المخصصات المتصلة: الشرط: وهو لغة العلامة.

واصطلاحًا - على ما قال المصنف -: ما يتوقف عليه تأثير المؤثر لا وجوده، كالإحصان.

ص: 361

فقوله: ما يتوقف عليه تأثير المؤثر - يدخل فيه جميع ما تقدم من الشرط وغيره.

وقوله: "لا وجوده" عطف على تأثير المؤثر، أي: لا يتوقف عليه وجود المؤثر، وخرج بهذا القيد: علة المؤثر، وجزؤه، وغير ذلك.

مما عدا الشرط، فإن التأثير متوقف على هذه الأشياء بالضرورة لكن ليس هو التأثير فقط، بل التأثير والوجود، بخلاف الشرط، فإن وجود المؤثر لا يتوقف عليه، بل إنما يتوقف عليه تأثيره كالإحصان، فإن تأثير الزنا في الرجم متوقف عليه، وأما نفس الزنا فلا؛ لأن البكر قد تزني.

فإن قلت: هذا التعريف: ينتقض بذات المؤثر، فإن التأثير متوقف عليها بالضرورة، ويصدق عليها أن المؤثر لا يتوقف وجوده عليها لاستحالة توقف الشيء على نفسه.

أجيب: بأن هذا بناء على أن الوجود عين الماهية.

والمصنف لا يراه، بل يختار أن الوجود من الأوصاف الزائدة

ص: 362

العارضة للماهية.

فعلى هذا يصدق أن وجود المؤثر يتوقف على ذات المؤثر.

وللفرار من هذا السؤال عبر بقوله: لا وجوده ولم يقل: لا ذاته.

واعترض عليه أيضًا بأن هذا التعريف إنما يستقيم على رأي المعتزلة، والغزالي، فإنهم يقولون: إن العلل الشرعية مؤثرات، وإن اختلف مأخذها.

وأما المصنف وغيره من الأشاعرة، فإنهم يقولون: إنها أمارات على الحكم، وعلامات عليه فلا تأثير ولا مؤثر عندهم.

ص: 363

واعترض أيضًا: بأنه غير منعكس؛ لأن الحياة شرط في العلم القديم، ولا يصدق عليها أن تأثير المؤثر في العلم يتوقف عليها؛ لأنا فرضناه قديمًا، ولا مؤثر في القديم؛ إذ المحوج إلى المؤثر هو الحدوث.

تنبيه:

الشرط ينقسم إلى عقلي، كالحياة للعلم، وشرعي كمثال المصنف، ولغوي: كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق وهنا فوائد حسنة في الأصل.

وفيه - أي في الشرط - مسألتان:

ص: 364

الأولي:

الشرط إن وجد دفعة، كالتعليق على وقوع طلاق، ونحوه، مما يدخل في الوجود دفعة واحدة، فيوجد المشروط عند أول أزمنة الوجود، إن علق على الوجود، وعند أول أزمنة العدم، إن علق على العدم. وهو معنى قوله:"فذاك".

إلا، أي: وإن لم يوجد دفعة، بل وجد على التدريج، كقراءة الفاتحة مثلاً نظر.

فإن كان التعليق على وجوده، فيوجد المشروط عند تكامل أجزائه.

وإن كان على العدم، كقوله لزوجته، إن لم تقرئي الفاتحة فأنت

ص: 365

طالق.

فيوجد المشروط وهو الطلاق، عند ارتفاع جزء من الفاتحة. لأن الكل ينتفي بانتفاء الجزء. وإليه أشار بقوله: أو ارتفاع جزء إن شرط عدمه.

الثانية:

في تعدد الشرط والمشروط، وهو تسعة أقسام:

لأن الشرط: إما أن يتحد أو يتعدد، وإذا تعدد فإما أن يكون كل واحد شرطًا على الجمع، حتى يتوقف المشروط على حصولهما جميعًا، أو على البدل. حتى يحصل بحصول أيهما كان. فهذه ثلاثة.

والجزاء أيضًا كذلك؛ لأنه إما أن يتحد، أو يتعدد، وإذا

ص: 366

تعدد فإما على الجمع حتى يلزم حصول هذا وذاك، وإما على البدل حتى يلزم حصول أحدهما منهما، فهذه أيضًا ثلاثة.

وإذا اعتبرت التركيب كانت ثلاثة من الشرط، مع ثلاثة من الجزاء. يحصل من الضرب تسعة.

مثال المتحدين: إن قمت قمت، والمتعددين إن قمت وخرجت قمت وخرجت.

وتعدد الشرط على الجمع إن كان زانيًا محصنًا فارجم، (فلا بد من حصول المشروط من الجمع؛ إذ الشرط مجموعهما لا كل منهما.

وإليه أشار بقوله: "يحتاج إليهما")

وعلى البدل إن كان سارقًا أو نباشًا فاقطع، يكفي أحدهما كما تقدم.

وتعدد المشروط: على الجمع: إن شفيت فسالم وغانم حر، فشفي عتقًا.

وعلى البدل: إن شفيت فسالم أو غانم حر، فيعتق واحد منهما

ص: 367

فيعينه السيد.

وإليه أشار بقوله: وإن قال أو فيعتق أحدهما.

ويعين، ولم يذكر المصنف اتحاد الشرط والمشروط اكتفاءًا بما تقدم، وذكر تعدد (هما) على الجمع والبدل كما علمت، ومجموع ذلك أربعة أقسام، لأنه الحاصل من ضرب اثنين في اثنين.

الثالث: من أقسام المخصصات المتصلة.

تخصيص الصفة: وهي قصر الصفة على بعض أفراد العام.

مثل قوله تعالى: } فتحرير رقبة مؤمنة {.

ص: 368

واستشكل هذا المثال لأن رقبة ليس عامًا فهو من تقييد المطلق لا من تخصيص العموم.

وهي أي الصفة كالاستثناء، في اتصالها بما قبلها.

وإذا وردت بعد متعدد: نحو: أكرم بني تميم ومضر، وربيعة الطوال، في عودها للجميع أو للأخيرة.

ص: 369

والمختار المختار.

ولو تقدمت نحو: وقفت على محتاجي أولادي وأولادهم، فيشترط الحاجة في أولاد الأولاد.

أما لو توسطت مثل أولادي المحتاجين وأولادهم.

فقال بعض المتأخرين: لا نعلم فيها نقلاً، ويظهر اختصاصها بما وليته.

ويدل له شيء حكاه الرافعي عن ابن كج مذكور في الأصل.

ص: 370

وهل يجري الخلاف المذكور في الاستثناء في إخراج الأكثر والمساوي في الصفة؟

قال بعض المتأخرين: الظاهر أنه لا يجري، لكن كلام المصنف يشعر بجريانه.

الرابع: من المخصصات المتصلة الغاية: وهي طرفه، أي: غاية الشيء طرفه ومنتهاه، وأعاد الضمير على لفظ الشيء، وهو غير مذكور للعمل به.

قال العراقي: وأقول: بل أعاد الضمير على اسم المفعول المفهوم من الاسم، والتقدير: وهي طرف الشيء.

ونظيره قولهم في قوله تعالى: } اعدلوا هو أقرب للتقوى {.

ص: 371

أي: العدل، فأعاد الضمير إلى المصدر المفهوم من الفعل، وللغاية لفظان: إلى وحتى

وحتى، وحكم ما بعدها خلاف ما قبلها، الضمير في بعدها عائد إلى حرف الغاية لا إلى الغاية. يعني حكم ما بعد حرف الغاية خلاف حكم ما قبله.

قوله: مثل قوله تعالى: } وأتموا الصيام إلى الليل {يدل عليه وكذا التمثيل بالمرافق، فيكون أراد بالغاية (ثانيًا، خلاف ما أراد

ص: 372

بها أولاً، وهو غير ممتنع.

وأطلق على الحرف اسم الغاية) وهو المستعمل في عرف النحاة.

وحاصله: أن ما بعد الحرف ليس داخلاً في الحكم فيما قبله، بل محكومًا عليه بنقيض حكمه.

لأن ذلك الحكم لو كان ثابتًا فيه أيضًا، لم يكن الحكم منتهيًا ومنقطعًا، فلا تكون الغاية غاية، وهو محال.

وما اختاره المصنف طريقة الجمهور.

ومذهب سيبويه: أنه إن اقترن بمن فلا يدخل، وإلا فيحتمل الأمرين.

واختار الآمدي: أن التقييد بالغاية لا يدل على شيء.

وقيل: إن كان منفصلاً عما قبله بمفصل معلوم فإنه لا يدخل،

ص: 373

وإلا فلا. (قال في المحصول: هو الأولى) وفي دخول غاية الابتداء أيضًا مذهبان.

(وذكر السبكي: أنه يستثنى من محل الخلاف شيئان:

أحدهما: الغاية التي لو سكت عليها لم يدل) عليها اللفظ (كقوله عليه الصلاة والسلام: "رفع القلم عن ثلاث

" الحديث).

ص: 374

والثاني: الغاية التي يكون اللفظ الأول قابلاً لها كقولنا: قرأت القرآن من فاتحته إلى خاتمته.

فالأول: لا يدخل الغاية قطعًا.

والثاني: يدخل قطعًا.

وقوله: "ووجوب غسل المرفق للاحتياط": جواب عن سؤال تقديره: لو كان ما بعد الغاية غير داخل فيما قبله، لكان غسل المرفق غير واجب وليس كذلك.

وحاصل الجواب: منع الملازمة، فإن - النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأدار الماء على مرفقيه.

فاحتمل أن يكون غسله واجبًا، وتكون "إلى" بمعنى "مع"، واحتمل أن لا يكون فأوجب للاحتياط.

أو يقال: المرفق لما لم يكن متميزًا عن اليد امتيازًا حسيًا وجب غسله احتياطًا حتى يحصل العلم بغسل اليد.

ص: 375

ولا يقال: على هذا التقدير يكون فيه إشعار باختيار التفصيل المتقدم؛ لأن هذا سند للمنع.

وذكر ابن الحاجب من المخصصات المتصلة: بدل البعض من الكل، وأنكره عليه الأصفهاني، وغيره.

والمخصص المنفصل: وهو الذي يستقل بنفسه أي: لا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ العام معه.

وقسمه إلى ثلاثة أقسام:

قال القرافي: وهي التخصيص بالعوائد، وقرائن الأحوال، والقياس إلا أن يدعي دخوله في السمعي.

ص: 376

الأول: العقل: ضروريًا كان كقوله تعالى: } الله خالق كل شيء {فالعقل قاض ضرورة بخروج القديم الواجب عنه لاستحالة كونه مخلوقًا، ومقدرًا.

أو نظريًا: كقوله تعالى: } ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {فالعقل قاض بخروج من لا يفهم الخطاب، كالأطفال والمجانين، للدليل الدال على امتناع تكليف الغافل.

ص: 377

والتمثيل الأول ينبني على أن المتكلم يدخل في عموم كلامه وأن الشيء يطلق على الله تعالى، وهو الصحيح فيهما.

وما جزم به المصنف من تخصيص العقل موافق للجمهور.

ومنعه طائفة وهو ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه (في

ص: 378

الرسالة) على ما قيل.

فمنهم من جعله (خلافًا محققًا، ومنهم من جعله) لفظيًا، لأن خروج هذه الأمور من العموم لا نزاع فيه إلا أنه لا يسمى تخصيصًا إلا ما كان باللفظ.

الثاني من المخصصات المنفصلة: الحس.

والمراد به المشاهدة وإلا فالدليل السمعي من المحسوسات، وقد جعله قسيمًا له مثل قوله تعالى: عن بلقيس: } وأوتيت من كل شيء {

ص: 379

لأنا نشاهد أشياء لم تؤت منها كالسماوات، وملك سليمان.

الثالث: من المخصصات المنفصلة: الدليل السمعي:

وفيه مسائل: وهي تسع على ما ذكره، الأولى في بيان ضابط كلي على سبيل الإجمال عند تعارض الدليلين السمعيين، والباقية في بيان التخصيص.

الأولي

الخاص إذا عارض العام، أي دل على خلاف ما دل عليه، فيؤخذ بالخاص، علم تقدم العام، أو تقدم الخاص، أو جهل التاريخ،

ص: 380

وإليه أشار بقوله: "يخصصه علم تأخره أو لا".

وأبو حنيفة رضي الله عنه يجعل المتقدم منهما منسوخًا بالمتأخر.

وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه حيث جهل التاريخ فلم يعلم هل الخاص متقدم أو العام.

واعلم أن تحرير الأقسام فيما إذا عارض الخاص العام أن يقال له أحوال:

أحدها: أن يعلم تأخير الخاص عن العام، فإن تأخر عن وقت العمل به كان نسخًا "لقدر مدلوله من العام لا لجميع أفراد العام، فإنه لا خلاف في العمل بالعام في بقية الأفراد في المستقبل، ولم يكن تخصيصًا؛ لأن تأخير بيانه عن وقت العمل به ممتنع.

ص: 381

وإن لم يتأخر عن وقت العمل به فالأكثرون على أنه تخصيص.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه والقاضي وإمام الحرمين: المتأخر ناسخ للمتقدم.

الثاني: تأخر العام عن الخاص سواء تأخر عن وقت العمل به أم لا، فيقدم الخاص فيما تعارضا فيه.

وأبو حنيفة (رحمه الله تعالى) ومن تبعه على أن المتأخر ناسخ.

الثالث: أن يتقاربا أي يوجدا في حالة واحدة سواء تقدم في اللفظ الخاص أو العام، كأن يقول:"فيما سقت السماء العشر".

ص: 382

ثم يقول عقبه" "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق".

أو بالعكس: فيقدم الخاص فيما تعارضا فيه.

وفي أصول الحنفية: أن حكم المقارنة والجهل بالتاريخ واحد، وهو ثبوت حكم التعارض فيما يتناولاه.

الرابع: أن لا يعلم تاريخها فيعمل بالخاص أيضًا. وتقدم فيما نقل عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه.

وإن كان عامًا من وجه خاصًا من وجه، فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح.

ص: 383

قال ابن دقيق العيد: وكأن مرادهم الترجيح الذي لا يخص مدلول العموم كالترجيح بكثرة الرواة، وسائر الأمور الخارجية عن مدلول العموم من حيث هو.

وبهذا التحرير علم ما في كلام المصنف، ثم استدل على مختاره بقوله: لنا إعمال الدليلين أولى.

بيانه: أنا إذا عملنا بالخاص وقدمناه على العام، وخصصنا العام به، فقد أعملنا الدليلين، أما الخاص فواضح.

وأما العام ففي بعض ما دل العام عليه.

وإذا لم نجعله مخصصًا للعام، بل جعلناه منسوخًا بالعام المتأخر أغلينا الخاص بالكلية، ولا شك أن إعمال الدليلين - ولو من وجه - أولى.

انتهى بحمد الله تعالى الجزء الثالث، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع، وأوله:

الثانية

ص: 384