الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: في العموم والخصوص
وفيه فصول:
الفصل الأول: في العموم
العموم من عوارض الألفاظ حقيقة.
فإذا قيل: هذا اللفظ عام صدق حقيقة.
وأما في المعنى: فإذا قيل: هذا المعنى عام فهل هو حقيقة:
فيه مذاهب:
والمختار عند ابن الحاجب: أنه يصدق حقيقة كما في الألفاظ.
والعام: لفظ يستغرق جميع ما يصلح له بوضع واحد.
فقوله: لفظ، كالجنس.
مع الإشعار بأن العموم من عوارض الألفاظ.
لكن سيأتي له جواز تخصيص العلة والمفهوم وغيرهما.
والتخصيص فرع العموم.
وأجيب: بأنه يجوز أن يكون إطلاق العموم هناك على سبيل المجاز - كما رآه الجمهور - وكلامه هنا في المدلول الحقيقي.
والعموم هناك بحسب اللغة، وهنا بحسب الاصطلاح.
وقوله: "يستغرق"، خرج به المطلق، فإنه لا يدل على شيء من الأفراد -
كما سيجيء - فضلاً عن استغراقها.
وعن النكرة في الإثبات مفردًا كان أو مثنى أو مجموعًا.
فإنه يتناول كل واحد بدلاً لا استغراقًا.
وعن الأعلام والضمائر وأسماء العدد نحو العشرة، فإنه لا يتناول جميع العشرات إلا بدلاً.
وقوله: جميع ما يصلح له احتراز عما لا يصلح.
فإن عدم استغراق من، لمن لا يعقل، وأولاد زيد لأولاد عمرو، لا يمنع كونه عامًا لعدم صلاحيته له.
والمراد بالصلاحية أن يصدق عليه حقيقة.
وقوله: "بوضع واحد" متعلق بيصلح، والباء فيه للسببية؛ لأن صلاحية اللفظ لمعنى دون معنى سببها الوضع، لا المناسبة الطبيعية، أو حالاً من "ما"، أي: جميع المعاني الصالحة له في حال كونها حاصلة بوضع واحد.
واحترز به: عن خروج المشترك؛ إذ لولا هذا القيد، لما صدق الحد على لفظ العين المتناول لجميع أفراد الباصرة، مع أنه عام وللزم في عمومه استغراقه لجميع أفراد معانيه المتعددة.
وهذا معنى قول الإمام الرازي: إن قولنا: بوضع واحد، احتراز عن المشترك والذي له حقيقة ومجاز، فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول
مفهوميه معًا.
بيانه: أن العين قد وضعت مرتين: مرة للمبصرة ومرة للفوارة، مثلاً فهي صالحة لهما.
فإذا قال: رأيت العيون، وأراد بها العيون المبصرة دون الفوارة، أو بالعكس، فإنها لم تستغرق جميع ما يصلح لها مع أنها عامة.
لأن الشرط إنما هو استغراق الأفراد الحاصلة من وضع واحد وقد وجد، والذي لم يدخل فيها هو أفراد وضع آخر، فلا يضر.
(فلو لم) يذكر هذا القيد، لاقتضى أن لا تكون عامة، وما كان له حقيقة ومجاز يعمل فيه هذا العمل.
فيكون المقصود بهذا القيد، إدخال بعض الأفراد لا الإخراج.
ويجوز أنه احترز: بوضع واحد، عن استعمال اللفظ في حقيقته كالعين، وفي حقيقته ومجازه كالأسد، فإنه يصدق أنه لفظ مستغرق
لجميع ما يصلح له، وليس بعام، فخرج بوضع واحد.
وهنا اعتراضات وأجوبتها في الأصل.
وفيه مسائل:
الأولى:
أن لكل شيء حقيقة هو بها هو، مثلاً: الجسم الإنساني حقيقة ذلك الجسم، فتلك الحقيقة إنسان، فالدال، أي اللفظ الدال عليها، أي: على تلك الحقيقة، من حيث هي، أي من غير اعتبار شيء من المفهومات، كالوحدة والكثرة معه، وإن لم تخل عنه في الواقع، تسمى المطلق، كقولنا: الرجل خير من المرأة، أي: حقيقة الذكر من بني آدم، من غير التفات إلى شيء من الأفراد، خير من حقيقة الأنثى من بني آدم.
والفرق بين الحقيقة والماهية.
أن الحقيقة ماهية بقيد الوجود في الخارج، والماهية أعم، والدال عليها بوحدة أي: بقيد الوحدة شخصًا أو نوعًا أو جنسًا.
فإن كانت معينة: فهي المعرفة، كزيد والإنسان والحيوان، وإن كانت غير معينة: فهي النكرة كرجل.
والدال على الحقيقة مع وحدات متعددة، أي: محصورة لا يتناول ما بعدها العدد كعشرة.
وإن كانت غير محصورة: بل مستوعبة لكل فرد من أفراد تلك الحقيقة (فهي العام).
وإليه أشار بقوله: ومع كل جزئياتها العام كالمشركين.
وهذا تقسيم اعتباري، كما سبق في تقسيم الألفاظ.
فإن العام والعدد قد يكونان معرفتين كالرجال والخمسة، وقد
يكونان نكرتين، كرجل وخمسة في قولك: لا رجل.
الثانية
للعموم صيغة موضوعة حقيقة، كما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه والمحققون.
ولا يتصور نزاع في إمكان التعبير عن العموم بعبارة مثل: كل رجل.
ووقع النزاع في الصيغ المخصوصة التي يدعى عمومها:
هل هي للعموم أم لا؟
فقال الأكثر: له صيغة هي حقيقة فيها.
ثم العموم إما لغة بنفسه، أي: إما مستفاد من اللغة، وهو الأكثر.
وهو على قسمين:
الأول: الدال على العموم بنفسه من غير انضمام قرينة.
وهو إما عام في ذوي العلم وغيرهم، فأي للكل، فإنها عامة فيما يضاف إليه من الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، ولا بد من تقييدها، بالاستفهامية والشرطية والموصولة؛ ليخرج الصفة: كمررت برجل أي رجل، بمعنى كامل، والحال: نحو مررت بزيد أي رجل - بفتح أي - بمعنى كامل أيضًا، أو مناديًا: نحو: يا أيها الرجل، فإنها لا تفيد العموم.
ومثل أي العامة: كل وجميع، والذي والتي.
و"كل" أقوى صيغ العموم.
وإما في البعض وإليه أشار بقوله: "ومن" أي الشرطية أو الاستفهامية للعالمين - بكسر اللام - أي "من" عام في ذوي العلم، وهو متناول للباري تعالى كقوله تعالى: "ومن لستم له برازقين {.
و"ما" عام لغيرهم، أي في غير ذوي العلم نحو: اشتر ما رأيت إلا أن تكون نكرة موصوفة نحو: مررت بما معجب لك، أي شيء، أو تعجبيه نحو: ما أحسن زيدًا، فلا يعم.
"وأين" عام للمكان خاصة نحو: أين تجلس أجلس.
"ومتى" عام للزمان نحو متى تجلس أجلس.
وقيد ابن الحاجب: ذلك بالزمان المبهم.
قال الإسنوي: ولم أر هذا الشرط في الكتب المعتمدة.
القسم الثاني:
الدال على العموم بقرينة، وإليه أشار بقوله: أو بقرينة، وتلك
القرينة إما في الإثبات: كالجمع المحلى بالألف واللام، والمضاف بالألف واللام، والإضافة في الجمع، هما قرينة العموم فيهما، وسواء فيه جمع السلامة والتكسير، هذا قول الأكثرين.
وقيل: لا يفيد الجمع المحلى باللام العموم، بل الجنس مطلقًا.
ومحل الخلاف: إذا لم يكن هناك عهد.
فإن كان انصرف إلى المعهود، ولا يعم.
وقول سيبويه وغيره: جمع السلامة للقلة، وهي من الثلاثة إلى العشرة. لا ينافي قول المصنف: إن الجمع المحلى باللام للعموم.
لأن قول سيبويه محمول على النكرة.
وكذا اسم الجنس، أي: وكذا تحصيل العموم بقرينة الإثبات في اسم الجنس كالجمع، وهي أل والإضافة كقوله تعالى: } ولا تقربوا الزنا {وقوله تعالى: } فليحذر الذين يخالفون عن أمره {.
وشرط تعميمه أن لا يتحقق عهد فإن كان هناك انصرف إليه قطعًا.
ولو عبر بالمفرد لكان أحسن، لشموله الاسم الذي ليس بجنس، وهو ما يتغير لفظه، عند تكثير مدلوله نحو دينار.
وكون اسم الجنس المفرد يفيد العموم إذا دخل عليه الألف واللام هو الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه ونقله الآمدي عنه وعن
الأكثرين وهو قول أبي إسحاق والمبرد وصححه ابن الحاجب.
وصحح الإمام، وأتباعه أنه لا يعم.
قال العراقي: وعموم المفرد غير عموم الجمع فالأول يعم المفردات، والثاني يعم المجموع؛ لأن أل قد دخلت على جمع، وهي تعم أفراد ما دخلت عليه.
وفائدة هذا: تعذر الاستدلال بالجمع على مفرد في حالة النفي أو النهي لأنهما وردا على أفراد المجموع.
والواحد ليس بجمع كذا قال.
فإن قلت: إذا حلف بالطلاق وحنث لا يقع عليه غير واحدة وكان مقتضى العموم وقوع الثلاث.
أجاب الشيخ (عز الدين) بن عبد السلام بأن هذه يمين
ويراعي فيها العرف لا موضوع اللغة.
وأجاب السبكي: بأن الطلاق حقيقة واحدة وهي قطع عصمة النكاح، وليس له أفراد حتى يقال: إنما يندرج في العموم، ولكن مراتبه مختلفة.
فإذا لم يذكر الثلاثة ولا نواها لم يحمل إلا على أقل المراتب، ثم بسطه.
وهنا أبحاث حسنة في الأصل.
أو لقرينة في النفي، هو معطوف على قوله: في الإثبات، أي يفيد العموم بقرينة في النفي كالنكرة في سياقه، أي سياق النفي، والمراد النكرة المعنوية ليدخل المطلق.
وليس المراد النكرة الصناعية القابلة للمعرفة سواء باشرها النفي نحو: ما أحد قائم.
أو باشر عاملها نحو ما قام أحد.
وسواء كان النافي "ما" أو "لم" أو غيرهما.
ثم إن كانت النكرة صادقة على القليل والكثير "كشيء" أو ملازمة للنفي نحو "أحد" أو داخلاً عليها من نحو: ما من رجل، أو واقعة بعد "لا" العاملة عمل إن، وهي لا التي لنفي الجنس.
فواضح كونها للعموم، وما عدا ذلك نحو: لا رجل قائمًا، وما في الدار رجل.
فالأصح: أنها ظاهرة في العموم لا نصًا.
واستثنى صاحب التلقيحات سلب الحكم عن العموم، كقولنا ما كل عدد زوجًا.
فإن هذا ليس من باب عموم السلب، أي: ليس حكمًا بالسلب على كل فرد، وإلا لم يكن فيه زوج، وذلك باطل.
بل المقصود إبطال قول من قال: كل عدد زوج، وذلك سلب الحكم عن العموم.
وقوله: أو عرفًا، عطف على لغة، مثل قوله تعالى: } حرمت عليكم أمهاتكم {.
فإن أهل العرف حولوا هذا التحريم، وهو تحريم العين إلى تحريم أنواع الاستمتاعات؛ لأن الاستمتاع يفهم عرفًا إذا قيل:"حرمت عليك هذه المرأة" دون تحريم العين، أو الخدمة.
أو يفيد العموم عقلاً، وهو عطف على عرفًا، كترتيب الحكم
على الوصف المناسب، نحو: حرمت الخمر للإسكار، فإن ترتيبه عليه يشعر بالعلية، والعقل يحكم؛ لأنه كلما وجدت العلة، وجد المعلول، وكلما انتفت انتفى.
وأما في الغلة فإنه لم يدل على هذا العموم.
أما في المفهوم فواضح، وأما في المنطوق فلما مر أن تعليق الشيء بالوصف لا يدل على التكرار من جهة اللفظ.
ومعيار العموم جواز الاستثناء.
أي: يعرف العموم به، فإنه أي الاستثناء يخرج ما يجب اندراجه
لولاه، أي: لولا الاستثناء.
فلزم من ذلك دخول جميع الأفراد في المستثنى منه.
وإلا أي: لو لم يجب دخوله فيه لجاز أن يستثنى من الجمع المنكر، لكن الاستثناء منه لا يجوز باتفاق النحاة.
قالوا: إلا أن يكون المستثنى منه مختصًا، نحو: جاء رجال كانوا في دارك إلا زيدًا منهم.
فإن قلت: لو كان الاستثناء معيارًا للعموم، لكان أسماء العدد عامًا لجواز الاستثناء منها، وليس كذلك.
أجيب: بأن جواز الاستثناء معيار العموم إذا كان استثناء بعض ما يصلح اللفظ له عن بعض أفراده والعدد ليس كذلك، فإن بعض العشرة لا تصلح العشرة له.
قيل: لو وجب أن تناول المستثنى منه المستثنى، لامتنع الاستثناء لكونه نقضًا؛ لأن المتكلم دل بأول كلامه على أن المستثنى داخل فيه، ودل بالاستثناء على عدم دخوله.
قلنا: منقوض بالاستثناء من العدد، فلو كان الاستثناء عن لفظ العام مع وجوب تناوله للمستثنى نقضًا، لكان الاستثناء عن العدد نقضًا، لوجوب التناول في العدد، لكونه نصًا في وجوب اندراج جميع الآحاد فيه، لكنه ليس بنقض، وإلا لم يوجد في كلام الله تعالى، وقد وجد فيه.
وتحقيقه كما قال الأكثرون: إن المراد بعشرة ونحوها في قوله: على عشرة إلا ثلاثة، إنما هو سبعة، وإلا ثلاثة، قرينة لإرادة السبعة من العشرة، إرادة الجزء باسم الكل كما في التخصيص بغيره حيث
يقول: } اقتلوا المشركين {والمراد الحربيون بدليل يخرج الذمي.
وقال القاضي أبو بكر: المجموع، وهو عشرة إلا ثلاثة بإزاء سبعة كأنه وضع له اسمان مفرد وهو سبعة، ومركب وهو عشرة إلا ثلاثة".
وقيل: المراد بعشرة في هذا التركيب هو معنى عشرة باعتبار أفراده لم يعتبر فهو يتناول السبعة والثلاثة معًا، ثم أخرجت عنه الثلاثة بقوله: إلا ثلاثة، فدل "إلا" على الإخراج، وثلاثة على العدد المسمى بها حتى بقي سبعة.
ثم أسند إليه فلم يسند إلا إلى سبعة، فلا ثم
إلا إثبات ولا نفي أصلاً فلم يتناقض.
قال ابن الحاجب: وهذا هو الصحيح. وله زيادة تحقيق في الأصل يتعين نظرها.
وأيضًا عطف على، ومعيار العموم، فيكون دليلاً ثانيًا على أن هذه الصيغ للعموم، فإن الأول: دليل على ذلك، وهو استدلال الصحابة رضي الله عنهم بعموم ذلك، أي: استدلوا بعموم الصيغ في الوقائع من غير إنكار عليهم، وشاع وذاع فيكون إجماعًا.
فمنها استدلالهم بعموم الجنس المحلى بأل مثل قوله تعالى: } الزانية والزاني فاجلدوا {.
ومنها استدلال فاطمة على أبي بكر رضي الله عنهما
(في الإرث بقوله تعالى: } يوصيكم الله في أولادكم {ولم ينكر عليها أبو بكر) ولا أحد من الصحابة بل عدل أبو بكر إلى تخصيصه بالحديث الآتي، فيكون إجماعًا منهم على أن الجمع المضاف، وإن كان جمع فإنه عام.
وقيل: الاستدلال إنما هو بقرينة العقل وهو واضح في الأصل.
ومنها: استدلال عمر رضي الله عنه بقوله - صلى الله عليه
وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله" متفق عليه.
وذلك لما هم أبو بكر رضي الله عنه بقتال مانعي الزكاة، فاحتج عليه بعموم اسم الجنس المحلى بالألف واللام، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولا أبو بكر رضي الله عنهم، لأنهم ما قالوا: إن اللفظ ما يفيده، بل استدل أبو بكر - رضي الله عنه - بالاستثناء المذكور في الحديث، وهو قوله عليه السلام:"إلا بحقه" أي: بحق هذا القول الذي هو كلمة الشهادة.
وهنا تدقيق وفوائد تتعلق بالحديث في الأصل.
ومنها: احتجاج أبي بكر رضي الله عنه بما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأئمة من قريش" رواه النسائي مرفوعًا، وفيه بكير بن وهب.
قال الذهبي: تبعًا ليحيي القطان: لا يعرف حاله، لكن وثقه ابن حبان: وله طرق يقوي بعضه بعضًا، وقرره الصحابة، ولولا أن الصيغة للعموم لما كان فيه حجة في الصورة الجزئية.
ومنها: استدلال أبي بكر رضي الله عنه على منع فاطمة رضي الله عنها من إرثه صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة"
وهذا الحديث معزو إلى الترمذي في غير جامعه، وروى النسائي في سننه الكبرى:"إنا معاشر الأنبياء لا نورث" رواه الترمذي وقال حسن غريب.
والنبي اسم جنس يعم كل الأنبياء، وغير ذلك مما لا يحصى كثيره شائعًا من غير نكير.
وتجويز كون العموم في هذه الأشياء يحتمل أن يكون لقرينة لا تنافي الظهور مع أن الأصل عدمها.
الثالثة
الجمع المنكر إذا لم يكن مضافًا نحو: رجال لا يقتضي العموم.
لأنه يحتمل كل أنواع العدد، بدليل صحة تقسيمه إليه، وتفسير الإقرار به وإطلاقه عليه ووصفه به.
كرجالٍ ثلاثة وعشرة.
ومورد التقسيم، وهو الجمع، أعم من أقسامه، فيكون الجمع أعم وكل فرد أخص.
ومن جملة أقسامه: الجمع المستغرق، والأعم لا يدل على الأخص ولا يستلزمه فلا يدل عليه، بخصوصه فلا يحمل عليه.
وقوله: في كل أنواع العدد، أي من الثلاثة فصاعدًا وإلا فيرد
الاثنان.
وقال الجبائي: الجمع المنكر حقيقة في كل أنواع العدد بدليل صحة حمله لغة على كل عدد، بطريق الحقيقة، فيحمل على جميع حقائقه، لأنه أولى.
قلنا: لا، أي: ليس حقيقة في كل أنواع العدد، بل حقيقة في القدر المشترك.
بيانه: أنك إن أردت الاشتراك اللفظي فممنوع، ولا يلزم
من إطلاقه على كل نوع أن يكون حقيقة فيه بخصوصه حتى يكون مشتركًا لفظيًا.
وإن أردت أنه مشترك اشتراكًا معنويًا فمسلم، لكن لا يدل على النوع المستغرق، لكونه أعم منه.
فلا دلالة له على خصوص أصلاً، كما، قدمته.
الرابعة
نفي المساواة في قوله تعالى: } لا يستوى أصحاب النار وأصحاب
الجنة {يحتمل نفي الاستواء من كل وجه، ومن بعضه، فهو مشترك، بدليل صحة تقسيمه إليهما، فلا يبقى الاستواء من كل وجه؛ لأن الأعم لا يستلزم الأخص، (و) لأن الأعم لا إشعار له بالأخص بوجه من الوجوه، فلا يلزم من نفيه نفيه.
وهذا الدليل ضعيف؛ لأن الأعم لا يدل على الأخص في طرف الإثبات، لا في طرف النفي، فإن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص ضرورة.
فإن الإنسان ينتفي بانتفاء الحيوان قطعًا، ولولا ذلك لجاء مثله في كل نفي فلا يصح أبدًا؛ إذ يقال في: لا رجل، أعم من الرجل، بصفة العموم، فلا يشعر به.
وهو خلاف ما ثبت بالدليل.
وما اختاره المصنف من أن نفي المساواة لا يقتضي العموم، تابع فيه الإمام الرازي. ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يقتضي العموم أي: يدل على عدم جميع وجوه المساواة.
وصححه ابن برهان، والآمدي وابن الحاجب.
فلا يقتل مسلم بكافر ولو ذميًا، وهنا نفائس في الأصل.
وقوله: لا آكل عام في المأكول فيحمل على التخصيص، كما لو قيل: لا آكل أكلاً.
وفرق أبو حنيفة رحمه الله بأن أكلاً: يدل على التوحيد وهو ضعيف: فإنه للتوكيد فيستوى فيه الواحد والجمع.
اعلم أنه إذا حلف على الأكل وتلفظ بشيء معين، كقوله مثلاً: والله لا آكل التمر، أو لم يتلفظ به لكن أتى بالمصدر ونوى به شيئًا معينًا، كقوله: والله لا آكل آكلاً، فلا خلاف بين الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما أنه لا يحنث بغيره.
فإن لم يتلفظ بالمأكول ولم يأت بالمصدر، ولكنه خصصه بنيته، كما إذا نوى التمر بقوله: والله لا أكلت، أو إن أكلت فعبدي حر.
ففي تخصيص الحنث به مذهبان منشؤهما أن هذا الكلام هل هو عام أم لا؟
فعلم أن صورة المسألة المختلف فيها: أن يكون فعلاً متعديًا لم يقيد بشيء، كما ذكره إمام الحرمين، والغزالي والآمدي وغيرهم.
وأن يكون واقعًا بعد النفي أو الشرط، كما صوره ابن الحاجب وغيره.
وهذه الأمور مأخوذة من تمثيل المصنف.
فمذهب أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه ليس بعام، فلا يقبل التخصيص لأنه فرع العموم.
ومذهب الشافعي - رضي الله تعالى عنه - أنه عام لأنه نكرة في سياق النفي، أو الشرط فيعم.
ولأن لا آكل، يدل على نفي حقيقة الأكل الذي تضمنه الفعل، أعني المصدر، فلو لم ينتف بالنسبة إلى بعض المأكولات لم تكن حقيقة منتفية، ولا معنى للعموم إلا ذلك، وإذا ثبت أنه عام فيقبل التخصيص.
واستدل المصنف على أن لا آكل عام، بالقياس على لا آكل أكلاً. فإن أبا حنيفة - رضي الله تعالى عنه - سلم أنه قابل للتخصيص بالنية كما مر.
فكذلك لا آكل إذ المصدر موجود فيه أيضًا.
وفرق أبو حنيفة رضي الله (عنه) بينهما بأن أكلاً مصدر يدل على التوحيد، فيكون كالنكرة في سياق النفي، فيفيد العموم.
ويقبل التخصيص ببعض المأكولات بخلاف لا آكل بدون أكلاً، فهو لنفي الحقيقة، وتخصيصه تفسير له بما لا يحتمله.
قال المصنف: وهو - أي: الفرق - ضعيف.
فإنا لا نسلم أن أكلاً للتوحيد، بل هو للتأكيد باتفاق النحاة.
والمصدر المؤكد يطلق على الواحد والجمع ولا يفيد فائدة زائدة على فائدة المؤكد، فلا فرق بين الأول والثاني.
ولو سلمنا أن لا أكل ليس بعام، لكنه مطلق والمطلق يصح تقييده اتفاقًا وهنا فوائد نفيسة في الأصل.
* * *