المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل التاسع: في كيفية الاستدلال بالألفاظ - تيسير الوصول إلى منهاج الأصول - جـ ٣

[ابن إمام الكاملية]

الفصل: ‌الفصل التاسع: في كيفية الاستدلال بالألفاظ

‌الفصل التاسع: في كيفية الاستدلال بالألفاظ

أي: بألفاظ كتاب الله تعالى، وحديث (رسول الله) صلى الله عليه وسلم على الأحكام الشرعية، وفيه مسائل:

الأولى:

لا يخاطبنا الله تعالى بالمهمل: الذي لا موضوع له، فلا يفهم منه شيء، لأنه أي: المهمل هذيان، وهو نقص، لا يجوز على الله تعالى.

ص: 77

واحتجت الحشوية: على أن الله - تعالى - خاطبنا بالمهمل بأوائل السور مثل: ألم، وطه، وحم.

قلنا: أسماؤها، أي: أسماء السور عند الأكثرين فليست بمهملة.

ص: 78

واستدلوا أيضًا: بأن الوقف على قوله تعالى: } وما يعلم تأويله إلا الله {، واجب حتى يكون قوله: } والراسخون في العلم {كلاما مستأنفًا، وإلا، أي: لو لم يجب الوقف عليه حتى يكون قوله تعالى: } والراسخون في العلم {عطفًا على قوله: } إلا الله {فيكون المراد بقوله: } يقولون آمنا به {قائلين: } آمنا {فيكون حالاً، وهو باطل.

لأنه: إما أن يكون حالا عن الله تعالى، وعن الراسخين في العلم، فيلزم أن الله - تعالى - والراسخين في العلم} يقولون آمنا به كل من عند ربنا {، وذلك في حق الله تعالى محال.

ولم يذكره لوضوحه.

أو يكون حالا عن الراسخين في العلم فقط، وحينئذ يتخصص

ص: 79

المعطوف بالحال دون المعطوف عليه وهو باطل، لأنه مناف للقاعدة وهي: أن المعطوف في حكم المعطوف عليه، فثبت أن الوقف على قوله تعالى: } إلا الله {واجب

وإذا كان الوقف عليه واجبًا، فقد خاطبنا الله تعالى بما لم نفهمه وهو المهمل.

قلنا: يجوز تخصيص المعطوف بالحال، حيث لا لبس مثل قوله تعالى: } ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة {. فنافلة: حال عن

ص: 80

المعطوف فقط، وهو يعقوب؛ لأن النافلة لغة: ولد الولد، وإنما هو يعقوب دون إسحاق.

أو استئنافًا، أي: جوابًا عن سؤال، كأن سائلاً سأل ما يقول الراسخون في المتشابهات؟

أجيب بقوله: } يقولون آمنا به كل من عند ربنا {.

سلمناه: لكن مخالفة الظاهر أهون من الخطاب بما لا يفيد أصلاً.

قال المحقق: والحق أن الخطاب بما لا يفهم بعيد، وإن كان لا يمتنع على الله تعالى.

قال في الكشاف: والأول هو الوجه، يعني العطف؛ لأنه لو

ص: 81

أريد بيان حظ الراسخين مقابلاً لبيان حظ الزائغين، لكان المناسب أن يقال: وأما الراسخون فيقولون، ولأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ، بل هذا حكم العالمين كلهم ولأنه حينئذ، لا ينحصر الكلام في المحكم والمتشابه.

على ما هو ظاهر العبارة حيث لم يقل: ومنه متشابهات؛ لأن ما لا يكون متضح المعنى ويهتدي العلماء إلى تأويله ورده إلى المحكم لا يكون محكمًا ولا متشابهًا بالمعنى الذي ذكرتم وهو كثير جدًا.

(وقد حكى الطبري والخطابي عن جمهور السلف الوقف على قوله

ص: 82

} إلا الله {.

وروى عبد الرزاق (بسند صحيح) قال: كان ابن عباس رضي الله عنه يقرؤها: } وما يعلم تأويله إلا الله {.

ويقول الراسخون في العلم آمنا به.

وأخرج الطبري، وابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن عائشة -

ص: 83

رضي الله عنها - قالت في قوله تعالى: } والراسخون في العلم {: انتهى علمهم، إلى أن آمنوا بمتشابهه، ولم يعلموا تأويله.

وروى الطبري نحوه عن مالك رضي الله عنه).

قال الشيخ سعد الدين: والحق: أنه إن أريد بالمتشابه ما لا سبيل إليه للمخلوق، فالحق الوقوف على إلا الله، وإن أريد ما لا يتضح بحيث يتناول المجمل والمؤول فالحق العطف.

واستدلوا أيضًا على أن الله - تعالى - يخاطبنا بالمهمل

ص: 84

بقوله - تعالى -: } كأنه رءوس الشياطين {.

ورءوس الشياطين لا معنى له، فيكون مهملاً.

قلنا: مثل في الاستقباح، يعني أنه موضوع لمتخيل يستقبحون ذلك المتخيل ويضربون المثل به في الاستقباح تنفيرًا عنها، فلا يكون مهملاً.

تنبيه: ذكر في المحصول: أن حكم الرسول صلى الله عليه وسلم في الامتناع كحكم الله - تعالى.

ص: 85

قال الأصفهاني في شرحه: ولا أعلم أحدًا ذكر ذلك.

الثانية

لا يعني خلاف الظاهر من غير بيان، أي: لا يتكلم الشارع بلفظ له ظاهر، ويريد خلاف ظاهره، من غير قرينة؛ لأن الظاهر يتبادر إلى الفهم، وهو غير مراد فيوقع في الغلط، ويكون إغراء.

وأيضًا: لأن اللفظ الخالي عن البيان بالنسبة إليه، أي: إلى خلاف الظاهر، مهمل، بالنسبة إلينا، لعدم الشعور به، والمهمل لا يقع الخطاب به.

قال المرجئة:

ص: 86

لا نسلم أن اللفظ المراد به غير ظاهره من غير باين مهمل، فإن المهمل: ما لا فائدة له.

وهذا اللفظ له فائدة؛ لأنه إذا تكلم بكلام ظاهره الوعيد، مع أنه لا يريد ذلك، حصل منه تخويف.

والتخويف يفيد إحجامًا عن المعاصي فهذه فائدة.

وقالوا: إن الله تعالى لا يعذب أحدًا من المؤمنين.

قلنا: حينئذ يرتفع الوثوق، عن قوله - تعالى - وعن قول رسوله صلى الله عليه وسلم.

ص: 87

واقتصر على الأول؛ لأن الثاني في معناه.

إذا ما من خطاب إلا ويحتمل أن يراد به غير ظاهره، وذلك معلوم الفساد.

وأيضًا: الإحجام إنما يتحقق إذا اعتقد العقاب، (وإذا لم يعتقد العقاب يكون إغراء على المعاصي) لا إحجامًا. فانتفت الفائدة، بل تضمن المفسدة.

تنبيه: محل الخلاف في غير الأوامر والنواهي، كما في شرح المحصول للأصفهاني، وإنما خالفت المرجئة في الآيات والأخبار الدالة على العقاب.

الثالثة

الخطاب إما أن يدل على الحكم بمنطوقه.

ص: 88

والتحقيق: أن المنطوق: دلالة اللفظ على المدلول، في محل النطق.

والقيد الأخير: للتمييز بينه وبين المفهوم.

لأن ذلك المدلول، إن كان لما ذكر ونطق به، فالدلالة منطوق وإلا فمفهوم.

فالمنطوق: دلالة اللفظ على المدلول الحاصل بما تعلق به وذكر.

فالشرط في تحققه، مذكورية ماله المدلول لا مذكورية المدلول، فإنه قد يكون مذكورًا فيه وقد لا يكون.

والمفهوم بخلافه.

والمراد بكون المدلول للمذكور كونه حكمًا للمذكور، أو حالاً له. فالحكم واضح.

ص: 89

والحال ما يكون شرطًا للمذكور عقلاً كما في المقدمة العقلية للواجب، نحو: ارم، فإنه مقتضٍ لتحصيل القوس.

أو شرعًا، كما في المقدمة الشرعية للواجب نحو: صل، فإنه مقتضٍ لإيجاب الوضوء.

أو سببًا له، أو مانعًا، فأقسام المنطوق بحسب ذكر الحكم، والحال أربعة:

- دلالة اللفظ على حكم مذكور لما نطق به.

- دلالته على حكم غير مذكور لما نطق به.

- دلالته على حال مذكور لما نطق به.

- دلالته على حال غير مذكور لما نطق به.

وهي مذكورة بأمثلتها في الشرح مع زيادة تحقيق وإيضاح فراجعه منه فإنه موضع مهم.

فإذا ورد خطاب من الشارع فيحمل على المنطوق الشرعي إن أمكن.

ص: 90

لأن عرف الشارع، أن يعرف الأحكام الشرعية، ولذلك بعث، ولم يبعث لتعريف الموضوعات اللغوية، وغير الشرعي.

وإن لم يكن له حقيقة شرعية، أو كان ولم يمكن الحمل عليها، حمل على الحقيقة العرفية الموجودة في عهده - عليه الصلاة والسلام - وهو المعني بقوله:(ثم العرفي) لأنه المتبادر إلى الفهم.

ولأن الشارع يعتبر العرف في كثير من مسائل: الأيمان والطلاق، وإن لم يكن له منطوق عرفي.

ص: 91

فإن لم يكن هناك قرينة صارفة عن المعني اللغوي، حمل على اللغوي، وهو معنى قوله:"ثم اللغوي" لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة.

وهذا لا ينافي قول الفقهاء: أن ما ليس له ضابط في الشرع ولا في اللغة، فإنه يرجع فيه إلى العرف، فإنه: وإن اقتضى تأخر العرف عن اللغة لكن مرادهم العرف في غير زمنه صلى الله عليه وسلم.

ومراد الأصوليين العرف في زمنه صلى الله عليه وسلم كذا جمع به بعضهم.

وقال السبكي: مراد الأصوليين: إذا تعارض معناه في العرف ومعناه في اللغة قدمنا العرف.

ومراد الفقهاء: إذا لم يعرف حده في اللغة فإنه يرجع فيه إلى العرف.

ولهذا قالوا: كل ما ليس له حد في اللغة، ولم يقولوا:

ص: 92

ليس له معنى.

قال العراقي: وعبارة الرافعي ربما تضاد هذا الجمع.

ويجمع بينهما: بأن كلام الفقهاء في الألفاظ الصادرة من غير الشارع، وكلام الأصوليين في ألفاظ الشارع.

وإن كانت قرينة حمل على المدلول المجازي.

وإليه أشار بقوله: "ثم المجازي" لكون اللفظ دالا، وتعذر حمله على الحقيقة، فلو لم يحمل على المجاز خرج اللفظ الدال عن أن يكون دالاً وهو غير جائز.

ويكون الترتيب في مجازات هذه الحقائق كالترتيب المذكور في

ص: 93

الحقائق.

أو بمقهومه، أي: وإن دل الخطاب على الحكم بمفهومه، وهو المسمى بالدلالة المعنوية، والدلالة الالتزامية.

وهو أي: المفهوم (إما أن) يكون لازمًا عن لفظ مفرد، يوقف مدلول اللفظ عليه عقلاً، أو يوقف عليه شرعًا.

ص: 94

فالذي يتوقف عليه عقلاً، مثل قولك: ارم، فإنه يستلزم الأمر بتحصيل القوس، والمرمى؛ لأن العقل يحيل الرمي بدونهما.

والذي يتوقف عليه شرعًا، مثل قولك: أعتق عبدك عني.

فإنه يستلزم سؤال تمليكه، حتى إذا اعتقه تبينا دخوله في ملكه، لأن العتق شرعًا، لا يكون إلا في مملوك، والمستلزم للملك هو: أعتق فقط، بدليل ما لو قال: أعتق غانمًا وهو ملك لغير المخاطب، يفهم منه إيجاب تحصيل تملكه.

وهذا القسم وهو اللازم عن مفرد: يسمى اقتضاء (أي: الخطاب

ص: 95

يقتضيه.

وإن لم يتوقف مدلول اللفظ على المفهوم منه يسمى إيماء) وسيجيء.

أو يلزم المفهوم عن مركب: وهو إما موافق للمنطوق في الحكم، أي: في الجواز، والحرمة، والإيجاب، والسلب، وهو يسمي فحوى الخطاب، أي: معناه وتنبيه الخطاب.

ص: 96

ومفهوم الموافقة: كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب.

فتحريم الضرب، استفدناه من التركيب؛ لأن مجرد التأفيف لا يدل على تحريم الضرب ولا على إباحته، بخلاف مجرد الرمي، فإنه يتوقف على القوس.

وكدلالة جواز المباشرة إلى الصبح في قوله تعالى: } أحل لكم ليلة الصيام الرفث {إلى قوله تعالى: } حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر {.

ص: 97

على جواز الصوم جنبًا، إذ لو لم يجز، لوجب أن يحرم الوطء في آخر جزء من الليل بقدر ما يصح فيه الغسل، وهو مخالف لمنطوق الآية، أعني جواز المباشرة إلى طلوع الفجر، لكون حتى لانتهاء الغاية.

فالحكم المفهوم من اللفظ في محل السكوت في هاتين الآيتين، موافق لمدلوله في محل النطق، وهو التحريم في الآية الأولى، والجواز في الثانية.

ومثل بالمثالين إشارة إلى أن مفهوم الموافقة قد يكون أولى بالحكم من المنطوق، كالمثال الأول وقد يكون مساويًا، كالمثال الثاني، وهو المختار في جمع الجوامع، وظاهر كلام ابن الحاجب في

ص: 98

موضع، وخالف في موضع آخر، فاشترط الأولوية، فلا يكون المساوي مفهوم موافقة، وهو مقتضى نقل إمام الحرمين عن الشافعي رضي الله عنه.

والخلاف في التسمية؛ فإنهم اتفقوا على الاحتجاج بالمساوي كالأولى.

وقال العلامة: المساوي لا يسمى موافقة ولا مخالفة.

وأشار المصنف أيضًا: بالمثالين إلى أن مفهوم الموافقة قد يكون من مكملات المعنى المنطوق كما في المثال الأول وقد لا يكون كالثاني.

ص: 99

فإن قلت التنبيه بالأدنى على الأعلى والمساوي، لو كان من مفهوم الموافقة لكان جميع صور القياس بالطريق الأولى والمساوي من مفهوم الموافقة والثابت به ثابت بالنص.

أجيب: بأن الملازمة ممنوعة، لجواز أن يكون حكم الأصل ثابتًا بالإجماع لا بالنص، وعلى تقدير ثبوته بالنص يجوز أن يكون الفرع أدنى من الأصل فيما أثبت لأجله الحكم، فإنه لا تكون دلالته بالمفهوم اتفاقًا.

وقد جوز بعضهم القياس فيه على ما ذكره المصنف في تقسيم القياس، وإن لم يجوزه ابن الحاجب قاله الأبهري، وفيه نظر يأتيك تحقيقه في القياس.

القسم الثاني: أن يكون المفهوم مخالفًا للمنطوق، وإليه أشار بقوله:"أو مخالف كلزوم نفي الحكم عما عدا المذكور، ويسمى دليل الخطاب"(ولحن الخطاب)، ومفهوم المخالفة، كمفهوم الشرط، والصفة، ونحوهما مما سيأتي واعلم أن عد المصنف دلالة الاقتضاء مثل: ارم

ص: 100

ودلالة قوله تعالى: } أحل لكم ليلة الصيام {الآية من أقسام المفهوم، ليس كما ينبغي لما تقدم لك تحقيقه في المنطوق والمفهوم؛ لأن الدلالة فيهما على حكم وحال لما نطق به وإيضاحه التام في الشرح.

الرابعة

فيها من مفاهيم المخالفة: اللقب والصفة، وقدم اللقب لكونه غير

ص: 101

حجة.

ولأن الكلام فيه أقل، فقال: تعليق الحكم بالاسم: الجامد علمًا كان، أو اسم جنس.

ويقال له: مفهوم اللقب، لا يدل على نفيه، أي: نفي ذلك الحكم عن غيره، أي: عن غير ذلك الاسم، مثلاً إذا قيل:"زيد قائم" لا يدل على نفي القيام عن غيره، وإلا أي: لو دل تعليق الحكم بالاسم على نفي ذلك الحكم عن غير ذلك الاسم لما جاز القياس؛ لأن النص الدال على ثبوت الحكم في الأصل، إن كان متناولاً للفرع فلا

ص: 102

قياس، لثبوت الحكم أيضًا فيه بالنص، وإن لم يكن متناولاً له فكذا؛ لأن التنصيص على حكم الأصل حينئذ يكون دالاً على نفي الحكم عن غيره، والفرع غيره، فيكون دالاً على نفي الحكم عن الفرع.

فلا يمكن إثبات الحكم في الفرع بالقياس؛ لأنه قياس في مقابلة النص فلا يعتبر.

خلافًا لأبي بكر الدقاق، وبعض الحنابلة في قولهم: إن

ص: 103

التخصيص بالاسم يدل على نفي الحكم عما عدا ذلك الاسم.

الثاني: مفهوم الصفة: وهو تعليق الحكم بصفة من صفات الذات، وإليه أشار بقوله: وبإحدى صفتي الذات.

أي: وتعليق الحكم بإحدى صفتي الذات مثل: "في سائمة

ص: 104

الغنم الزكاة".

رواه البخاري بلفظ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في سائمة غنم زكاة" فإن الغنم اسم ذات، ولها صفتان: السوم، والعلف.

وقد علق الوجوب على إحدى صفتيها، وهو السوم، فإنه يدل على عدم الوجوب في المعلوفة من جنس الغنم.

ص: 105

وقيل: في المعلوفة مطلقًا.

والمراد بتخصيص الوصف: ما يفيد نقص الشيوع.

وقصر العام على البعض، لا مجرد ذكر صفة لموصوف، فلا يرد ما يكون لمدح أو ذم أو تأكيد أو نحوه.

وقال الأبهري: ليس المراد بالصفة هنا النعت، بل المتعرض لقيد في الذات سواء كان نصًا أو غيره من المشتق وظرف الزمان والمكان.

ومحل حجية مفهوم المخالفة: ما لم يظهر للتخصيص فائدة أخرى غير نفي الحكم، حتى لو كان له فائدة أخرى غيره لم يدل عليه، ككونه جوابًا لمن سأل، أو كان هو الغالب، أو لرده عادة

ص: 106

مذمومة، أو كان المسكوت عنه أولى بالحكم أو مساويًا له.

فإذا ظهر للوصف إحدى هذه الفوائد ونحوها، بطل وجه دلالته على المخالفة.

وما اختاره المصنف، من كون مفهوم الصفة حجة بالشرط المتقدم نقل عن الشافعي، والإمام أحمد، والأشعري وكثير من العلماء.

خلافًا لأبي حنيفة، وابن سريج، والقاضي أبي بكر، وإمام الحرمين، والغزالي في قولهم: ليس بحجة مطلقًا.

ص: 107

وفي النقل عن إمام الحرمين نظر، فقد صرح في البرهان بأنه حجة بشرط مبين في الشرح.

ولعل له قولان:

لنا على حجيته أنه المتبادر من نحو قوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" متفق عليه.

ص: 108

فإنه يتبادر منه إلى الفهم أن مطل غير الغني ليس بظلم.

والمطل: (المد مع التأخير).

وإذا ثبت ذلك في العرف ثبت في اللغة؛ لأن الأصل عدم النقل، لاسيما وقد فهم ذلك أبو عبيد وهو عالم بلغة العرب فالظاهر فهمه ذلك لغة.

ص: 109

وكذلك يتبادر إلى الفهم من قولهم: الميت اليهودي لا يبصر، أن الميت غير اليهودي يبصر. ولهذا يستهزأ بقائله ويضحك منه، ولولا أنه يدل لما تبادر إلى الفهم عرفًا.

ولأن ظاهر التخصيص يستدعي فائدة، وإلا لكان التخصيص عبثًا، وهو لا يليق بكلام البلغاء، فضلاً عن كلام الشارع.

وتخصيص الحكم المذكور فائدة، والفائدة التي استدعاها التخصيص، إما تخصيص الحكم بالمذكور، أو غيرها، وغيرها منتف بالأصل، فتعين أن الفائدة منحصرة فيه.

فإن الكلام فيما إذا لم يظهر للتخصيص فائدة.

وهنا في الشرح ما يتعين الوقوف عليه.

ص: 110

ولنا أيضًا: أن الترتيب يشعر بالعلية كما ستعرفه في باب القياس من أن ترتب الحكم على وصف يشعر بعلية ذلك الوصف لذلك الحكم.

وحينئذ: فإما أن يكون لذلك الحكم علة أخرى غير ذلك الوصف، أو لا يكون.

والأصل ينفي علة أخرى، فبطل الأول، وتعين الثاني.

وحينئذ تنحصر العلية في ذلك الوصف، وإذا كان كذلك فينتفي

ص: 111

الحكم بانتفائها، أي انتفاء ذلك الوصف لانتفاء المعلول عند انتفاء علته، وإذا انتفى الحكم بانتفاء الوصف، ثبت أن تعليق الحكم بإحدى صفتي الذات يدل على نفي الحكم عما ليس له تلك الصفة.

قيل: لو دل تعليق الحكم على صفة على نفي الحكم عما عدا المذكور، لدل عليه إما مطابقة، أو التزامًا، أو تضمنًا، لانحصار الدلالة فيها لكنه لا يدل.

أما المطابقة والتضمن؛ فلأن نفي الحكم عما عدا المذكور ليس هو عين إثبات الحكم في المذكور حتى يكون مطابقة ولا جزأه حتى يكون تضمنًا.

وأما الالتزام فالانتفاء شرطه وهو اللزوم الذهني؛ لأنه قد يتصور السامع المنطوق ويغفل عن المفهوم.

ص: 112

واقتصر على المطابقة واللزوم؛ لأن التضمن داخل في الالتزام لغة لكون الجزء لازمًا للكل.

قلنا: اللفظ دل على نفي الحكم عما عدا المذكور التزامًا، لما ثبت أن الترتيب يدل على العلية.

أي: علية ذلك الوصف لذلك الحكم.

وثبت حصر العلية في ذلك الوصف لانتفاء غيره بالأصل، فثبت أن الوصف علة مساوية لذلك الحكم، وإذا ثبت ذلك لزم نفي الحكم عما عدا المذكور، وذلك؛ لأن انتفاء العلة يستلزم انتفاء معلولها المساوي لها.

والمراد المساوي: أن لا يكون له علة أخرى غير هذه العلة، ليخرج ماله علتان فلا يلزم من انتفاء أحدهما انتفاؤه، كما عرفت.

ص: 113

قيل: لو دل تعليق الحكم بالصفة على نفي الحكم عما عدا المذكور لكان قوله تعالى: } ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق {، دالاً على جواز قتل الأولاد عند عدم الخشية عن الفقر لكنه ليس كذلك.

لأن تحريم قتل الأولاد ثابت إجماعًا فبطل دلالته.

قلنا: غير المدعي إذ قد شرطنا في حجية المخالفة عدم فائدة أخرى غير نفي الحكم، وفي هذه الآية فائدة أخرى، وهي رد عادتهم المذمومة.

وأيضًا: يدل على أن المسكوت عنه بطريق الأولى فيكون مفهوم موافقة، فيبطل مفهوم المخالفة.

ص: 114

الخامسة

التخصيص بالشرط: يعني أن مفهوم الشرط: تعليق الحكم على شيء بكلمة الشرط مثل قوله تعالى: } وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن {، علق وجوب الإنفاق على الحمل بكلمة:"إن"، فدل على انتفاء الإنفاق عنه عند انتفاء الحمل، لإجماع النحاة على أن "إن"

ص: 115

للشرط، فينتفي المشروط بانتفائه.

أي: بانتفاء شرطه.

قيل: تسمية "إن" حرف شرط إنما هو اصطلاح للنحاة، وليس ذلك مدلولاً لغويا، فتكون منقولة عن موضوعها الأصلي، فلا يلزم من انتفائه انتفاء الحكم.

قلنا: استعمالها الآن للشرط، يدل على أنها في اللغة كذلك، إذ لو لم تكن، لكانت منقولة عن مدلولها، والأصل عدم النقل.

قيل: عليه: سلمنا أن "إن" للشرط، لكن لا نسلم أنه ينتفي المشروط بانتفاء الشرط، وإنما يلزم ذلك، لو لم يكن للشرط بدل يقوم مقامه.

ص: 116

قلنا: لو كان للشرط بدل يقوم مقامه، فيلزم حينئذ أن يكون الشرط أحدهما، أي: البدن أو المبدل منه، فما فرض شرطًا لم يكن شرطًا، وحينئذ إذا لم ينتف المشروط بانتفائه لا يقدح في مدعانا.

وهو المراد بقوله: "وهو غير المدعى"؛ لأن المدعى أن الشرط واحد بعينه، فإذا وجد بدل يقوم مقام الشرط فلا يكون الشرط واحدًا بعينه، بل أحد الأمرين لا بعينه، وذلك خارج عن محل النزاع.

هذا إذا كان عبارة المتن "غير المدعى" بالراء.

فإن كانت بالنون، فتوجيهه: أن الشرط حينئذ يكون أحد الأمرين وانتفاء أحد الأمرين لا على التعيين يكون بانتفائهما، وينتفي

ص: 117

المشروط بانتفائهما، وهو عين المدعى.

قيل: لو كان المعلق "بإن" ينتفي عند انتفاء ما دخلت عليه "إن" لكان قوله تعالى: } ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا {دليلاً على أن الإكراه لا يحرم إذا لم يرد التحصن، ولا ليس ذلك، بل هو حرام مطلقًا.

قلنا: لا نسلم أن الحرمة غير منتفية عنه، إذ لا يمكن الإكراه حينئذ، لأنهن إذا لم يردن التحصن لم يكن البغاء مكروهًا عندهن.

ص: 118

والإكراه إنما هو: إلزام فعل مكروه، وإذا لم يمكن لم يتعلق به التحريم؛ لأن شرط التكليف الإمكان.

أو يقال: خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم له.

وإن سلم أن المفهوم اقتضى التحريم، لكن قد انتفى لمعارض أقوى منه،

وهو الإجماع، فلم يجز العمل بالمفهوم.

السادسة

التخصيص بالعدد لا يدل على الحكم الزائد على ذلك العدد، ولا الناقص منه بمجرد العدد لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأن الأعداد إن لم تتخالف بالحقيقة جاز اشتراكها في حكم.

ص: 119

وإن تخالفت فيها فكذلك؛ لأن المشتركين قد يختلفان في حكم والمصنف في هذا، تابع للإمام والآمدي.

وفي البرهان عن الشافعي، والجمهور: خلافه.

وقال في المحصول: قد يدل عليه دليل منفصل، وإيضاحه في الشرح.

ص: 120

السابعة

النص: إما أن يستقل بإفادة الحكم أي: لا يحتاج إلى انضمام شيء، أو لا يستقل، أي: يحتاج إلى شيء آخر ينضم إليه، والمقارن له.

إما نص: آخر، مثل دلالة قوله تعالى: } أفعصيت أمري {مع قوله

تعالى: } ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم {، فإنهما يدلان على أن تارك الأمر يستحق العقاب.

ص: 121

فإن قوله: } أفعصيت أمري {يدل على مقدمة وهي: أن تارك الأمر عاص، وقوله: } ومن يعص الله {يدل على مقدمة أخرى، وهي: أن كل عاص بصدد العذاب (فينتجان: أن تارك الأمر بصدد العذاب).

أو يكون أحد النصين دالاً على ثبوت الحكم لشيئين، والنص الآخر دالاً على ثبوت بعض ذلك الحكم لأحدهما فقط، فيجب القطع بأن باقي الحكم ثابت للثاني، مثل دلالة قوله تعالى: } وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا {، مع قوله تعالى: } والوالدات يرضعن أولادهن {الآية.

على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإن قوله تعالى: } وحمله

ص: 122

وفصاله ثلاثون شهرًا {يدل على أن مدة الشيئين وهما الحمل والرضاع ثلاثون شهرًا.

وقوله تعالى: } والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين {على أن أكمل مدة الرضاع سنتان فوجب الحكم بأن باقي المدة، وهي ستة أشهر مدة الحمل.

أو يكون الضميمة إلى النص (إجماعًا مقارنًا).

مثل دلالة ما دل على إرث الخال من النص نحو قوله تعالى: } وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله {مع الإجماع الدال على أن الخالة بمثابة الخال في النسبة إلى الميت، لكون كل منهما فرعين لأصل أصل الميت على إرث الخالة وهذا على سبيل التقدير.

ص: 123

وإليه أشار بقوله: "كالدال على أن الخالة بمثابة الخال في إرثها إذا دل نص عليه فنستفيد إرثها من ذلك النص بواسطة الإجماع فقد تكون الضميمة القياس مثاله: النص الدال على كون البر ربويًا وسكت عن التفاح فثبت حرمة الربا فيه قياسًا على البر.

وقد تكون الضميمة قرائن حال المتكلم مثل ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الاثنان فما فوقهما جماعة" رواه ابن ماجة.

ص: 124

دل على أن الجمع اثنان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام مبعوث لبيان أحكام الشرع لا اللغة.

* * *

ص: 125