الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: في صيغته
أي: في صيغة القول الطالب، فإنه المراد بصيغة الأمر، وهو أمر المخاطب، وأمر الغائب، واسم الفعل بمعنى الأمر، وفيه مسائل:
الأولى أن صيغة: "افعل" ترد لستة عشر معنى:
الأول: الإيجاب، كقوله تعالى: } وأقيموا الصلاة {.
الثاني: الندب، مثل قوله تعالى: } فكاتبوهم {.
ومنه، أي: ومن الندب، التأديب كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر بن أبي سلمة:"كل مما يليك" متفق عليه.
فالأدب مندوب إليه، ونص على أنه منه؛ لأن بعضهم جعله قسما آخر.
والفرق بينهما: ما بين العام والخاص؛ لأن الأدب متعلق بمحاسن الأخلاق، والمندوب أعم.
وأنت خبير بأن المثال للتفهيم، فلا يضر كون الشافعي رضي الله عنه نص على تحريم الأكل مما لا يلي الإنسان.
ويكفي في ذلك أن الندب قيل به في الجملة.
الثالث: الإرشاد، كقوله تعالى: } واستشهدوا {، والفرق بين الإرشاد والندب، أن الندب لثواب الآخرة، والإرشاد (لمنافع الدنيا.
والعلاقة بين الوجوب والندب والإرشاد) المشابهة المعنوية لاشتراكهما في الطلب.
الرابع: الإباحة مثل قوله تعالى: } وكلوا واشربوا ولا تسرفوا {يفهم منه إرادة فوق سد الرمق إلى الشبع وليس بواجب.
ويجب أن تكون الإباحة معلومة من غير الأمر حتى تكون قرينة لجملة على الإباحة، والعلاقة هي الإذن، وهي مشابهة معنوية.
قال العراقي: أورد عليه أن الأمر في هذه الآية للوجوب.
ونحن نقول: لم يرد هذه الآية، بل قوله تعالى: } كلوا من الطيبات {.
الخامس: التهديد كقوله تعالى: } اعملوا ما شئتم {.
فإنه فهم بالقرينة أنها صغية مذكورة فيه في معرض التهديد.
ومنه الإنذار كقوله تعالى: } قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار {. ونص عليه؛ لأن جماعة جعلوه قسمًا آخر.
والفرق بينهما أن التهديد هو نفس التخويف، والإنذار هو الإبلاغ، ولا يكون إلا في التخويف، قاله الجوهري.
فقوله تعالى: } قل تمتعوا {أمر بإبلاغ هذا الكلام المخوف الذي عبر عنه بالأمر، وهو تمتعوا فيكون أمرًا بالإنذار.
والعلاقة التي بينه وبين الإيجاب هي المضادة؛ لأن المهدد عليه هو الحرام.
السادس: الامتنان كقوله تعالى: } كلوا مما رزقكم الله {.
والفرق بينه وبين الإباحة: أن الإباحة هي الإذن المجرد، والامتنان أن يقترن به ذكر احتياجنا إليه، أو عدم قدرتنا عليه، ونحوه كالتعرض في هذه الآية إلى أن الله تعالى هو الذي رزقه.
وفرق بعضهم بأن الإباحة تكون في الشيء الذي سيوجد بخلاف الامتنان.
والعلاقة فيه مشابهة الإيجاب في الإذن، لأن الامتنان إنما يكون في مأذون فيه.
السابع: الإكرام، نحو قوله تعالى: } ادخلوها بسلام آمنين {فإن ضم السلامة والأمن للأمر بدخول الجنة قرينة لكونها للإكرام.
والعلاقة هي المشابهة في الإذن أيضًا.
الثامن: التسخير كقوله تعالى: } كونوا قردة خاسئين {.
والفرق بينه وبين التكوين، أن التكوين سرعة الوجود عن العدم، وليس فيه انتقال من حالة إلى حالة.
والتسخير هو الانتقال إلى حالة ممتهنة؛ إذ هو لغة الذلة: والامتهان في العمل، والباري تعالى خاطبهم بذلك في معرض التذليل لهم.
والعلاقة فيه وفي التكوين هي: المشابهة المعنوية، وهي التحتم في وقوع هذين، وفي فعل الواجب أو العلاقة الطلب.
ولا يقال الصواب السخرية، وهو الاستهزاء، فإنه ذهول عن
المدلول السابق، وتغليط للأئمة، إذ سماه القفال، والغزالي، والإمام، وأتباعه، بالتسخير لا بالسخرية، وتكرير لما يأتي؛ إذ لا يخرج الاستهزاء عن الإهانة (أو التحقير).
التاسع: التعجيز كقوله تعالى: } فأتوا بسورة من مثله {.
أعجزهم بطلب المعارضة عن الإتيان بمثله.
والعلاقة المضادة؛ لأن التعجيز إنما هو في الممتنعات، والإيجاب
في الممكنات.
العاشر: الإهانة مثل قوله تعالى: } ذق إنك أنت العزيز الكريم {إذ فهم بالقرينة أنها في معرض الإهانة.
والعلاقة فيه وفي الاحتقار هي المضادة؛ لأن الإيجاب على العباد تشريف لهم لما فيه من تأهيله لخدمته؛ إذ كل أحد لا يصلح لخدمة الملك، ولما فيه من رفع درجاتهم.
الحادي عشر: التسوية بين الشيئين، مثل قوله تعالى: } اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم {.
وعلاقته هي المضادة؛ لأن التسوية بين الفعل والترك مضادة
لوجوب الفعل.
الثاني عشر: الدعاء، كقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت
…
" إلى آخره رواه مسلم.
والعلاقة فيه وفيما بعده ما عدا الأخير هو الطلب.
وقد تقدم لبعضها علاقة أخرى.
الثالث عشر: التمني، كقول امرئ القيس:
"ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي"
وجعل الشاعر متمنيًا ولم يجعله مترجيًا؛ لأن الترجي في الممكنات، والتمني في المستحيلات، كما مر.
وليل المحب لطوله كأنه مستحيل الانجلاء، ولذا قال الشاعر:
................ *** وليل المحب بلا آخر
الرابع عشر: الاحتقار، نحو قوله تعالى حكاية عن موسى - عليه الصلاة والسلام يخاطب السحرة: } ألقوا ما أنتم ملقون {. يعني أن السحر في مقابلة المعجزة حقير.
والفرق بينه وبين الإهانة أنها تكون بقول أو فعل أو ترك قول، أو ترك فعل كترك إجابته، ولا يكون بمجرد الاعتقاد، والاحتقار، قد يحصل بمجرد الاعتقاد.
الخامس عشر: التكوين، وهو الإيجاد، كقوله تعالى: } كن فيكون {.
السادس عشر: وروده بمعنى الخبر، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستحي
فاصنع ما شئت" رواه البخاري.
معناه: صنعت ما شئت.
وقيل: المعنى إذا لم تستحي من شيء لكونه جائزًا فاصنعه، إذ الحرام يستحى منه بخلاف الجائز.
وقد يرد عكسه، أي: الخبر بمعنى الأمر، كقوله تعالى: } والوالدات يرضعن أولادهن {أي: ليرضعن.
قال الإمام: والسبب في جواز هذا المجاز، أن الأمر والخبر يدلان على وجود الفعل.
وقوله: "لا تنكح المرأة المرأة" يعني به: أن الخبر يقع موقع النهي، كما وقع موقع الأمر.
كما رواه الدارقطني في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزوج المرأة المرأة"، وفيه جميل، وثقه ابن حبان، فإن المراد منه النهي، وصيغته صيغة الخبر.
وأهمل عكس هذا القسم، وذكره الإمام وقال:"وجه المجاز أن النهي وهذا الخبر يدلان على عدم الفعل".
ولا شك أن مجيء الخبر بمعنى الأمر أو النهي لا تعلق له بالمقصود الذي هو بيان مدلولات صيغة الأمر، وإنما ذكره استطرادًا.
وبقي من مدلولات صيغة الأمر:
التفويض، مثاله: } فاقض ما أنت قاض {.
والتعجب، كقوله تعالى: } انظر كيف ضربوا لك الأمثال {.
والتكذيب، كقوله تعالى: } قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين {.
والمشورة، كقوله تعالى: } فانظر ماذا ترى {.
والاعتبار، كقوله تعالى: } انظروا إلى ثمره {.
الثانية
أنها حقيق في الوجوب، مجاز في البواقي، عند الجمهور، وهو الحق.
وهل ذلك بوضع اللغة، أو الشرع، أو العقل؟
[فيه] أقوال:
صحح الشيخ أبو إسحاق الأول، وحكاه في البرهان عن الشافعي رضي الله عنه واختار هو الثاني.
وقال أبو هاشم: إنه للندب حقيقة، ونقل عن الشافعي رضي الله عنه.
وقيل: للإباحة حقيقة.
وقيل: مشترك بين الوجوب والندب اشتراكًا لفظيًا.
وقيل: للقدر المشترك بينهما، وهو الطلب.
وقيل: لأحدهما حقيقة، ولا نعرفه، وهو قول الحجة.
وفي نسبته للغزالي نظر.
وقيل: مشترك بين الثلاثة، أي: موضوع للوجوب، والندب، والإباحة، بالاشتراك اللفظي.
وقيل: بالاشتراك المعنوي.
وقيل: مشترك بين الخمسة فقيل: أراد بالخمسة الوجوب والندب والإباحة والتحريم والكراهة.
وفيه نظر:
فإن الحرمة، والكراهة، لم يردا في المعاني الستة عشر.
إلا أن يقال: ورد التهديد، وهو محتمل التحريم فقط فتبقى الكراهة.
وقيل: بين الخمسة المذكورة في المتن بالترتيب، وهي الوجوب،
والندب، والإرشاد، والإباحة، والتهديد.
ويؤيده أن في بعض النسخ بين الخمسة الأول.
والأول حكاه في المحصول.
ولا خلاف أنها ليست حقيقة في جميع هذه المعاني.
لنا: على أن صيغة الأمر للوجوب حقيقة وجوه خمسة:
الأول: أنه - تعالى - ذم إبليس على ترك السجدة في قوله تعالى: } ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك {.
إذ الاستفهام على الله - تعالى - محال، لعلمه بالمانع، فالمراد الذم قطعًا، فيكون السؤال في معرض الإنكار والاعتراض.
والمراد بالأمر: } اسجدوا {في قوله تعالى: } وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس {.
ولولا أن صيغة} سجدوا {للوجوب لما كان متوجهًا ولا ملامًا؛ لأنه حينئذ لم يلزم، لكنه (ذم على ترك المأمور فيكون واجبًا.
ولا قائل بالفرق بين هذا الأمر وغيره).
الثاني: قوله تعالى: } وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون {.
ذمهم على مخالفة الأمر، وهو معنى الوجوب، وليس هو للإخبار؛ لأن ذلك معلوم.
قيل: إنما ذم على التكذيب، أي: تكذيب الرسل في التبليغ؛ لأنه رتب العذاب على التكذيب في قوله تعالى: } ويل يومئذ للمكذبين {ولم يقل: ويل يومئذ للتاركين للأمر.
قلنا: الظاهر أنه، أي: أن الذم للترك، أي: لترك الأمر؛ لترتب} لا يركعون {الدال على الذم على قوله: } اركعوا {، والترتيب يشعر بالعلية.
وأن الويل إنما هو للتكذيب، وأيضًا فلتكثير الفائدة في كلام الله تعالى. وحينئذ، فإن صدر الترك والتكذيب من طائفتين عذبت كل منهما على ما فعلته، وإن صدرا من طائفة واحدة عذبت عليهما معا، كما تقدم.
قيل: لا يلزم من كون} اركعوا {للوجوب أن يكون مجرد الأمر للوجوب، لاحتمال أن تكون قرينة اقتضت الوجوب في هذه الصورة، فلذلك ذمهم على الترك وإليه أشار بقوله:"لعل قرينة أوجبت".
قلنا: رتب الأمر على ترك مجرد افعل - أي: على مجرد ترك الأمر لما قيل لهم: } اركعوا {ولم تظهر قرينة، والأصل عدمها.
فدل على أنه منشأ الذم لا القرينة.
الثالث:
تارك الأمر مخالف للأمر، كما أن الآتي موافق له، فالمخالفة تقابل الموافقة، والمخالف للأمر على صدد العذاب، أي: يقرب أن ينزل عليه العذاب لقوله تعالى: } فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم {.
هدد مخالف الأمر، والتهديد دليل الوجوب.
بيانه: أن} الذين يخالفون {فاعل} فليحذر {} وأن تصيبهم {مفعوله، وهذا الأمر للإيجاب قطعًا.
إذ لا معنى لندب الحذر عن العذاب وإباحته.
ومعنى} يخالفون عن أمره {: يتركون امتثاله والإتيان بما أمروا به، من قولهم: خالفني فلان عن هذا إذا أعرض عنه، وأنت قاصد إيتاءه.
والمعني: يخالفون المؤمنين عن أمر الله - تعالى - أو أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ويجوز أن يكون على تضمين المخالفة معنى الإعراض.
وإذا وجب على مخالف الأمر الحذر عن العذاب كان تهديدًا على مخالفة الأمر، وهو دليل على كون الأمر للوجوب؛ إذ لا تهديد على غير الواجب.
قيل: لا نسلم أن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه حتى ينتج ما قلتم، بل الموافقة اعتقاد حقية الأمر أي: كونه حقًا واجبًا قبوله.
فالمخالفة اعتقاد فساده وكذبه، لا ترك الأمر فلا يلزم ما ذكرتم.
قلنا: مخالفة الأمر عبارة عن: ترك المأمور به كما دللنا عليه، وأما اعتقاد حقية الأمر فذلك موافقة لدليل الأمر لا له.
فإن موافقة الشيء عبارة عما يستلزم تقرير مقتضاه، فإن دل على كون الشيء صدقًا لدليل الأمر، فموافقته هي اعتقاد الحقية، وإن دل على إيقاع الفعل كالأمر، فموافقته هي الإتيان بذلك الفعل.
قيل: لا نسلم أن الآية، تدل على أنه - تعالى - أمر المخالفين بالحذر، بل على أنه - تعالى - أمر بالحذر عن المخالفين، لأن الفاعل} ليحذر {ضمير و} الذين يخالفون {مفعول} ليحذر {لا فاعل له.
قلنا: الإضمار خلاف الأصل، فإضمار الفاعل مع وجود ما يصلح أن يكون فاعلاً خلاف الأصل.
ومع هذا الإضمار فلا بد له، أي للضمير من مرجع، أي: من
اسم ظاهر يرجع إليه وهو مفقود هنا.
قيل: مرجعه} الذين يتسللون {المقدم ذكرهم.
قلنا: هم المخالفون للأمر فكيف يؤمرون بالحذر عن أنفسهم؟
وإن سلم أن المراد من الآية بالحذر عن مخالفي الأمر، لكن يلزم منه أن يصير التقدير:
فليحذر الذين يتسللون منكم لواذًا عن الذين يخالفون.
وحينئذ فيضيع قوله تعالى: } أن تصيبهم فتنة {لكون} فليحذر {قد استوفى فاعله، ومفعوله، وليس هو مما يتعدى إلى
مفعولين.
ولا يقال: إنه مفعول لأجله؛ لأنه يلزم أن يكون مجامعًا للحذر، إذ يجب أن يجامع الفعل علته فيه، واجتماعهما مستحيل.
وأيضًا: ضمير} فليحذر {مفرد} والذين يتسللون {جمع، فلا يعود إليه.
قيل: سلمنا أن المخالفين للأمر مأمورون بالحذر عن
العذاب.
ولكن لم قلتم بأن المأمور بالحذر يجب عليه الحذر، وإنما يجب أن لو كان الأمر وهو قوله - تعالى: -} فليحذر {للوجوب، وهو ممنوع، إذ هو محل النزاع.
وإليه أشار بقوله: } فليحذر {لا يوجب.
قلنا: يحسن، وهو دليل قيام المقتضى، يعني نحن لا ندعى أن} ليحذر {يوجب الحذر، بل يدل على حسن الحذر، وحسن الحذر عن العذاب، يدل على قيام المقتضى للعذاب، إذ لو لم يوجد المقتضى له، لكان الأمر بالحذر عنه سفها وعبثًا، وهو على الله تعالى محال.
ولا مقتضى للعذاب إلا ترك المأمور به، فلزم كون الأمر للوجوب؛ لأن المقتضي للعذاب ترك الواجب لا ترك المندوب.
قيل: قوله تعالى: } عن أمره {.
لا يعم لأنه مطلق.
قلنا: عام لجواز الاستثناء منه، إذ يصح أن يقال: فليحذر الذين يخالفون عن أمره إلا مخالفة الأمر الفلاني، والاستثناء معيار العموم، على أن الإطلاق كاف في المطلوب، وهو كون الأمر المطلق للوجوب خاصة، إذ لو كان حقيقة لغيره أيضًا لم يترتب الذم والتهديد على مخالفة مطلق الأمر.
الرابع:
تارك الأمر عاص لقوله تعالى: } أفعصيت أمري {أي: تركت مقتضاه إجماعًا.
فحكم على تارك المأمور بأنه عاص.
وقوله تعالى في صفة الملائكة: } لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون {كذلك.
والعاصي يستحق النار، لقوله تعالى: } ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدًا {.
ويلزم من المقدمتين، أن تارك الأمر يستحق النار، فيكون للوجوب، إذ لا معنى لكون الأمر للوجوب إلا استحقاق تاركه النار.
واللام في قوله: تارك الأمر عاص للاستغراق.
قيل: لو كان العصيان ترك الأمر لتكرر قوله تعالى: } ويفعلون
ما يؤمرون {؛ لأن قوله تعالى: } لا يعصون الله ما أمرهم {حينئذ معناه: يفعلون المأمور به.
قلنا: الأول وهو} لا يعصون الله ما أمرهم {ماض أو حال، أي: لا يعصون الله ما أمرهم به في الماضي أو الحال.
والثاني: مستقبل أي: ويفعلون ما يؤمرون في الاستقبال.
قيل: وقول المصنف: العصيان (ترك المأمور به.
فيه نظر: لأن النزاع إنما وقع في أن ترك المأمور به هل هو عصيان) لا في كون العصيان ترك المأمور به والعصيان أعم.
ونظر فيه: من جهة أن النحاة نصوا على أن "لا" لنفي المستقبل، واستعمالها بمعنى "إن" قليل - مجاز، فيجتمع المجاز في الفعل المضارع، وفي لا أيضًا، لكن كثر استعمال الفعل المضارع في الحالة المستمرة.
قال العراقي: والأحسن في الجواب ما ذكره بعضهم أن قوله: } لا يعصون {إخبار عن الواقع منهم.
وقوله: } يفعلون {إخبار عن سجيتهم التي طبعوا عليها أعني الطاعة.
قيل: المراد، بقوله تعالى: } ومن يعص الله ورسوله {
الكفار، لا تارك الأمر، لقرينة الخلود، فإن المؤمن العاصي لا يخلد في النار، لقوله تعالى: } (إن الله) لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {.
قلنا: المراد من الخلود: المكث الطويل لا الدائم كما يقال: حبس فلان جبسًا مخلدًا ويراد به طول المكث.
الخامس: أنه عليه الصلاة والسلام احتج لذم أبي سعيد الخدري
(رضي الله عنه على ترك استجابته حال كونه مصليًا، (وهو يصلي) بقوله تعالى: } استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم {.
فهذا السؤال ليس طلبًا لفهم العذر؛ إذ لا حاجة إليه، فإن الصلاة عذر لترك الكلام، بل هو للذم والتوبيخ لترك المأمور به وهو الاستجابة.
بدليل أنه احتج عليه لذمه بقوله: } استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم {فإذا كان ترك الأمر موجبًا للذم - وخصوصًا عند حصول عذر تركه - كان للوجوب لا محالة؛ إذ لا معنى بكونه للوجوب سوى ذلك.
قال العبري: وفيه نظر؛ لأن الوجوب في هذه الصورة مستفاد من القرينة،
وهي قوله: } إذا دعاكم {لا من مجرد {استجيبوا} .
تنبيه: وقع في نسخ المنهاج تبعًا للمستصفى والمحصول أبو سعيد الخدري وهو سهو، إنما هو أبو سعيد بن المعلى (كما رواه) البخاري عنه قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي فقال: صلى الله عليه وسلم: "ألم يقل الله: } استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم {؟ " وقد رواه النسائي عن أبي بن كعب أيضًا.
قال العراقي: ولا نعلم هذا روي عن أبي سعيد الخدري بوجه من الوجوه، وهو شيخ الإسلام في الحديث وغيره.
احتج أبو هاشم: بأن الفارق بين السؤال والأمر هو الرتبة، والسؤال للندب فكذا الأمر.
كذا وقع في كثير من النسخ، وفيه نظر. لأن الاحتجاج الثاني والثالث لا يوافق مذهب أبي هاشم.
وفي بعضها احتج المخالف، وفي بعضها احتجوا، وهما
واضحان. ويمكن تصحيح الأول بتعسف.
وحاصل احتجاج أبي هاشم: أن أهل اللغة قالوا:
الفرق بين السؤال والأمر الرتبة، فإن رتبة الآمر المكي من رتبة السائل، والسؤال للندب، فكذا الأمر؛ لأن الأمر لو دل على الإيجاب، كان بينهما فرق آخر وهو خلاف ما قاله أهل اللغة.
قلنا: السؤال إيجاب؛ لأن السائل يستعمل الصيغة للإيجاب وإن لم يتحقق الوجوب على المسئول منه؛ إذ الوجوب من الشارع.
واحتج القائل: بأن الصيغة حقيقة في القدر المشترك بين الوجوب والندب، وهو رجحان الفعل على الترك، بأن الصيغة لما استعملت فيهما، أي: في الوجوب والندب، فلو كانت حقيقة في كل واحد منهما لزم الاشتراك أو حقيقة في أحدهما، لزم المجاز، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فتكون في القدر المشترك بينهما وهو طلب الفعل.
وعلم من هذا بطلان المذهب القائل: بالاشتراك إما بين الوجوب والندب فقط، أو بينهما وبين الإباحة فقط، أو بين الأحكام الخمسة.
ولذا لم يتعرض المصنف لهذه المذاهب، وإن أوردها في أول المسألة.
قلنا: يجب المصير إلى المجاز، لما بينا من الدليل الدال على كون الصيغة حقيقة في الوجوب وإن كان المجاز خلاف الأصل.
واحتج القائل بالوقف.
بأن تعرف مفهومها لا يمكن بالعقل، لأنه لا مدخل له في اللغات، وكذا النقل؛ لأنه لم يتواتر، وإلا لكان مفهوم الأمر معلومًا قطعًا، فكان لا يختلف فيه، فيكون من باب الآحاد، والآحاد لا تفيد القطع لما سيجيء.
فثبت أن تعرف مفهوم الأمر على سبيل القطع غير ممكن، وإذا لم يمكن، لم يمكن الحكم بكونه حقيقة في أحدهما على التعيين، لكون المسألة وهو الحكم على الصيغة بذلك علمية، فلا يكفي فيه غير القطع، وإذا لم يمكن الحكم على الصيغة بكونها حقيقة في أحدهما على التعيين، يلزم التوقف في ذلك؛ إذ هو عينه.
قلنا: المسألة وإن كانت أصولية لكنها وسيلة إلى العمل؛ لأن
المقصود من كون الأمر للوجوب هو العمل به لا مجرد اعتقاده، والعمليات يكتفي فيها بالظن، وكذا ما كان وسيلة إلى العمل فيكفيها الظن.
وأيضًا: الحصر ممنوع، فإن هنا قسمًا آخر، وهو أنه يتعرف بتركيب عقلي من مقدمات نقلية، كما سبق من أن تارك الأمر عاص، وكل عاص يستحق النار، فتارك الأمر يستحق النار.
فإنه دل على أن الأمر للوجوب.
وكذا الجمع المحلى باللام، يدخله الاستثناء.
والاستثناء: إخراج ما لولاه لدخل فيه، فيدل على أن الجمع المعرف باللام للعموم.
فقوله: كما سبق، يحتمل كلاً من المثالين.
والأول: أولى للتصريح به فيما أخذ منه.
ولكونه دليلاً على المتنازع فيه ولأنه أقرب، واقتصر العبري على
الثاني.
الثالثة:
الأمر بعد التحريم للوجوب، وبه قال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق، وأبو المظفر السمعاني، والإمام الرازي.
وقيل: للإباحة، ورجحه ابن الحاجب، ونص عليه الشافعي رضي الله عنه كما نقله جماعة، ونقله ابن برهان عن أكثر الفقهاء والمتكلمين.
لنا: أن الأمر يفيده، أي: يفيد الوجوب، ووروده بعد الحرمة لا يدفعه؛ لأن وروده بعد الحرمة ليس معارضًا حتى يدفع ما ثبت له.
لأن الوجوب والإباحة منافيان للتحريم، ومع ذلك لا يمتنع الانتقال من التحريم إلى الإباحة فكذا إلى الوجوب.
فقد ثبت أنه غير مانع، وصيغة الأمر مقتضية للإيجاب، فوجب حمله على الوجوب عملاً بالمقتضى السالم عن المعارض، وفيه نظر.
قيل: غلب في عرف الشرع فيها، فيقدم على الوجوب، وذلك؛ لأن الإباحة هي السابقة إلى الفهم.
في نحو قوله تعالى: } وإذا حللتم فاصطادوا {فيكون للإباحة.
قلنا: معارض بقوله تعالى: } فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا {.
فإن القتال فرض كفاية، بعد أن كان حرامًا.
فإذا تعارضا تساقطا، وبقي دليلنا سالمًا فيفيد الوجوب.
والأمر بعد الاستئذان، كالأمر بعد التحريم، قاله الإمام.
- واختلف القائلون بالإباحة: في النهي الوارد بعد الوجوب:
- فمنهم من قال: للإباحة قياسًا على الأمر.
ومنهم من قال: إنه للتحريم، وحكي عن الجمهور.
ونقل الماضي أبو بكر والأستاذ الاتفاق عليه. كما لو ورد ابتداء.
بخلاف الأمر بعد التحريم؛ لأن مقتضى النهي، وهو الترك موافق للأصل، لأن الأصل عدم الفعل بخلاف مقتضى الأمر، وهو الفعل.
الرابعة:
الأمر المطلق: أي: العاري عن التقييد بالمرة أو بالتكرار أو
بالصفة أو بالشرط، فإنه لا يفيد التكرار ولا يدفعه، بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به من غير إشعار بالمرة والمرات، لكن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال، فهي من ضروريات الإتيان بالمأمور به.
وقيل: هو للمرة، فلا يحمل على التكرار إلا بدليل، وبه قال كثير.
قال الشيخ أبو حامد: وهو مقتضى قول الشافعي - رضي الله
عنه.
وقيل: بالتوقف إما للاشتراك بينهما لفظًا، ولا قرينة معه فيجب التوقف، أو الجهل بالحقيقة أي: لا يدري حقيقته أهو التكرار أو المرة.
لنا: أنه صح تقييده بالمرة والمرات من غير تكرار ولا نقض، فلو كان للمرة لكان تقييده بها تكرارًا وبالمرات تناقضًا.
ولو كان للتكرار لكان تقييده به تكرارًا وبالمرة نقضًا.
ولا يقال: هذا لا يثبت المدعى، إذ عدم التكرار والنقض قد لا يكون لكونه موضوعًا للماهية من حيث هي، بل لكونها مشتركًا أو لأحدهما، ولا نعرفه كما سبق فيكون التقييد لأحدهما؛ لأنه سيبطلها.
ولنا: أنه - أي: الأمر المطلق - ورد مع التكرار شرعًا كآية الصلاة، وعرفًا نحو: احفظ دابتي.
وورد مع عدمه شرعًا كآية الحج، وعرفًا كقوله: ادخل الدار.
فيكون حقيقة في القدر المشترك بين التكرار والمرة، وهو طلب الإتيان به - أي: بالفعل - مع عدم قطع النظر عن التكرار والمرة دفعًا للاشتراك والمجاز؛ لأنه لو كان حقيقة في كل منهما لزم الاشتراك.
أو في أحدهما لزم المجاز وهما خلاف الأصل.
ولنا أيضًا: أنه لو كان للتكرار لعم الأوقات كلها لعدم أولوية وقت دون وقت فيكون تكليفًا بما لا يطاق، وأنه باطل.
ولنا أيضًا: أنه لو كان للتكرار لكان ينسخه كل تكليف بعده لا يجامعه في الوجود؛ لأن الاستغراق الثابت بالأول، يزول بالاستغراق الثابت بالثاني، واللازم باطل قطعًا.
وأنت خبير بأن النزاع إنما هو فيما يمكن، كما نقله الشيخ أبو إسحاق، وإمام الحرمين، وغيرهما.
وإلزامه بالنسخ فيه نظر؛ لأنه إنما يلزم إذا كان التكليف مطلقًا
غير مخصص. وهذا غير واقع في الشرع.
أما إذا خصص الثاني بوقت فلا ينسخ الأول بل يخصصه.
قيل: إن أهل الردة لما منعوا الزكاة تمسك أبو بكر الصديق رضي الله عنه على التكرار بقوله تعالى: } وآتوا الزكاة {.
متفق عليه من غير نكير من أحد من الصحابة، فكان إجماعًا منهم على أنها للتكرار.
قلنا: لعله، عليه (الصلاة والسلام) بين تكراره أي تكرار} وآتوا الزكاة {وقد رواه أبو داود من جهة عبد الله بن معاوية رفعه
"ثلاث من فعلهن طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وهلم أنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه في كل عام".
الحديث
…
ولم يصل سنده.
ووصله الطبراني في معجمه.
قيل: النهي يقتضي التكرار، فكذا الأمر والجامع أن كلا منهما
طلب
قلنا: الانتهاء أبدًا ممكن دون الامتثال؛ لأن مقتضى النهي عن الشيء الانتهاء، ومقتضى الأمر بالشيء الإتيان به.
وإذا كان كذلك، فالفرق بينهما في الاستغراق بمقتضاهما ظاهر؛ لأن استغراق الأوقات كلها بمقتضى النهي وهو الانتهاء عن الشيء أبدا ممكن، واستغراقها بمقتضى الأمر وهو امتثال المأمور والإتيان به دائمًا غير ممكن، فلا يصح القياس لظهور الفرق.
هذا إذا تنزلنا وسلمنا حكم الأصل، فإن منعناه فواضح، ولذا تنزل المصنف فلا يكون مناقضًا لما يأتي له من أن النهي كالأمر.
لكن فيه نظر: من جهة أن القائل به يشترط الإمكان كما مر.
فالأحسن أن يجاب: بأن مقتضى الأمر الإتيان بالمأمور به، وذلك يصدق بمرة واحدة، بخلاف النهي، فإنه لما كان مقتضاه الكف عن المنهي عنه لم يتحقق ذلك إلا بالامتناع المستمر.
قيل: لو لم يتكرر لم يرد النسخ بعده؛ لأن ورود النسخ بعد الأمر، إنما هو لرفع الحكم الثابت بالأمر.
فإذا لم يكن للتكرار، كان منتهيًا بنفسه، فلا يحتاج إلى ناسخ، لكن النسخ ورد كثيرًا بعد الأمر فيكون للتكرار.
قلنا: الأمر وإن لم يقتض التكرار لكنه لا ينافيه لما مر أنه حقيقة في القدر المشترك، فيجوز حمله في بعض الصور على التكرار لقرينة تدل عليه. وحينئذ إذا ورد النسخ عليه كان وروده قرينة التكرار.
قيل: حسن الاستفسار عن الأمر بأنه للمرة أو للمرات دليل الاشتراك اللفظي.
ولذلك قال سراقة للنبي صلى الله عليه وسلم: "أحجنا هذا لعامنا أم للا بد" مع أنه من أهل اللسان، وأقره عليه.
فلو كان الأمر موضوعًا في لسان العرب للتكرار أو للمرة لاستغنى عن الاستفسار، ولم يحسن.
قلنا: حسن الاستفسار لا يدل على الاشتراك اللفظي بخصوصه لأنه يجري في الألفاظ المتواطئة، فإنه قد يستفسر عن أفراد المتواطئ، حتى إذا قال: أعتق رقبة، حسن أن يستفسر أمؤمنة أم كافرة؟ سليمة أم معيبة، إلى غير ذلك.
الخامسة:
الأمر المعلق بشرط أو صفة، مثل قوله تعالى: } وإن كنتم جنبًا فاطهروا {، ومثل قوله تعالى: } والسارق والسارقة فاقطعوا {، لا يقتضي التكرار لفظًا ويقتضيه قياسًا.
أما أنه لا يقتضيه لفظًا، وهو المعني بقوله: أما الأول فلأن ثبوت الحكم مع الصفة أو الشرط يحتمل التكرار وعدمه، فإن اللفظ إنما دل على تعليق شيء على شيء وهو أعم من تعليقه عليه في كل الصور، أو في صورة واحدة بدليل تقسيمه إليهما، والأعم لا يدل على الأخص. فالتعليق لا يدل على التكرار.
ولأنه لو قال لزوجته: إن دخلت الدار فأنت طالق، لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول، ولو كان يدل عليه (من جهة) اللفظ لتكرر. كما لو قال: كلما.
واعلم أن هذا من باب تعليق الإنشاء على الشرط والكلام في تعليق الأمر، فينبغي أن يقال: وإذا ثبت في هذا ثبت في ذاك
بالقياس.
أو يمثل بقوله لموكله: طلق زوجتي إن دخلت الدار.
نعم إن كان تعليق الخبر والإنشاء، كتعليق الأمر في ثبوت الخلاف حصل المقصود.
وكلام الإحكام يقتضي أن الإنشاء لا يتكرر اتفاقًا وصرح به في الخبر.
وأما الثاني: وهو أن هذا الأمر يقتضي التكرار قياسًا؛ فلأن الترتيب أي: ترتيب الحكم على الصفة أو الشرط يفيد العلية كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
فيتكرر الحكم بتكررها؛ لأن المعلول يتكرر بتكرر علته.
واعترض عليه تاج الدين ابن السبكي بأنهم إنما ذكروا في القياس ترتيب الحكم على الوصف، لا على الشرط.
قال: ولم أر من صرح بمساواته له.
واختار ما ارتضاه القاضي أبو بكر، وهو أن المعلق بشرط لا يقتضي التكرار دون المعلق بصفة.
وإنما لم يتكرر الطلاق في مثل قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، بتكرر دخول الدار، لعدم اعتبار تعليله، أي: تعليل المكلف في أحكام الله تعالى؛ لأن من نصب علة لحكم، فإنما يتكرر حكمه
بتكرر علته لا حكم غيره.
ولهذا لو قال: أعتقت غانمًا لسواده، لا يلزم عتق عبيده السود.
إلا أنه وقع به الطلاق مرة لئلا يكون كلام المكلف لغوًا.
السادسة:
الأمر المجرد
عن القرائن، لا يفيد الفور، خلافًا للحنفية ولا التراخي، خلافًا لقوم، بل يدل على مطلق الفعل، وأيهما حصل
أجزأ.
وقيل: مشترك بين الفور والتراخي.
لنا: ما تقدم في الكلام على أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار.
فيقال هنا: إن الأمر المطلق لو دل على الفور بعينه (أو على التراخي بعينه) لكان تقييده بأحدهما تكرارًا أو نقضًا.
فإذا قلت: افعل غدًا وهو يدل على الفور كان نقضًا، أو الآن كان تكرارًا، لكنه يصح من غير تكرار ولا نقض فيكون لمطلق الطلب.
وأيضًا: ورد الأمر تارة للفور، كالواجب المضيق، وتارة للتراخي كالحج، فلو كان حقيقة فيهما كان مشتركًا. أو في أحدهما كان مجازًا.
فلا بد أن يجعل للقدر المشترك دفعًا للاشتراك والمجاز. وتقدم دليل لا يأتي هنا.
قيل: إنه تعالى ذم إبليس على الترك، أي: ترك المبادرة بالسجدة لآدم - صلى الله وسلم عليه - ولو لم يقتض ذلك
الفور، لما استحق الذم، لإمكان السجود وعدم تعين المبادرة.
قلنا: لعل هناك قرينة عينت الفورية (أي: يحتمل أن يكون ذلك مقرونًا) بما يدل على أنه للفور.
فإن قلت: الأصل عدم القرينة؟
أجيب: بأن الآية فيها قرينتان دالتان على الفور:
الفاء في قوله تعالى: } فقعوا له ساجدين {فإنها للتعقيب بلا مهلة، فالفورية مستفادة من الفاء لا من الأمر.
وفعل الأمر وهو قوله تعالى: } فقعوا {.
عامل في إذا، لأنها ظرف، والعامل فيها جوابًا على رأي البصريين.
فصار التقدير فقعوا له ساجدين وقت تسويتي إياه.
فيكون زمان السجود بعينه زمان التسوية، فالفورية مستفادة منه، لا من الأمر.
وقال العراقي: نص النحاة على أن الفاء الواقعة في جواب الشرط لا تقتضي تعقيبًا. وهي لا تقتضي الفورية، إلا إذا كانت للتعقيب.
قيل: قوله تعالى: } وسارعوا {يوجب الفور، والمسارعة: التعجيل، وهي إلى نفس المغفرة غير ممكن؛ لأنها فعل الله تعالى، بل المراد سبب المغفرة على المجاز، من باب إطلاق اسم المسبب على السبب، فتكون المسارعة واجبة، ولا معنى للفور إلا ذلك.
قلنا: فمنه أي: الفور مستفاد من قوله تعالى: } وسارعوا {لا من لفظ الأمر.
يعني أن حصول الفورية ليس من صيغة الأمر، بل من جوهر اللفظ؛ لأن لفظ المسارعة دال عليه كيفما تصرف.
أو ثبوت الفورية في المأمورات ليس مستفادًا من مجرد الأمر بهأ، بل من دليل منفصل وهو قوله تعالى: } وسارعوا {.
قيل: لو جاز التأخير.
وقلنا: إن الأمر ليس للفور - فإما أن يكون مع بدل،
فإذا أتى بالبدل فيسقط عنه التكليف بالمأمور به، لأن البدل هو الذي يقوم مقام البدل مطلقًا، لكنه لا يسقط اتفاقًا.
ولا يقال: لم لا يجوز أن يقوم البدل مقام المبدل في ذلك الوقت لا مطلقًا؟ لأنه: إنما يتأتي على القول بأن الأمر يفيد التكرار، وقد أبطلناه. أو لا يكون التأخير معه، أي مع بدل.
فلا يكون واجبًا؛ لأنه لا معنى لغير الواجب إلا ما جاز تركه بلا بدل.
وأيضًا: لو جاز التأخير فحينئذ إما أن يكون للتأخير أمد، فلا بد أن يكون معينًا.
لأن القائلين به اتفقوا على أن ذلك الأمد المعين هو ظن الفوات على
تقدير الترك.
وإليه أشار بقوله: وهو إذا ظن فواته "وهو غير شامل لأن كثيرًا من الشباب يموتون فجأة، ويقتلون غيلة فيقتضي ذلك عدم الوجوب عليهم في نفس الأمر؛ لأنه لو كان واجبًا لامتنع تركه"
والغرض أنا جوزنا له الترك في كل الأزمان المتقدمة على ذلك الظن، وهو باطل أو لا يكون للتأخير أمد، فلا يكون واجبًا، لأن تجويز التأخير أبدًا ينافي الوجوب.
قلنا: منقوض بما إذا صرح به أي: بالآمر بجواز التأخير، فقال: أوجبت عليك أن تفعل كذا في أي وقت شئت، فلو صح ما
ذكرتم في الدليلين، لزم امتناع التأخير في هذه.
إذ دليلاكم جاريان فيه بعينه فما هو جوابكم هو جوابنا.
قيل: النهي يفيد الفور، فإنه يفيد الانتهاء عن المنهي عنه في الحال، فكذا الأمر يوجب الامتثال في الحال قياسًا عليه والجامع الطلب.
قلنا: لأنه أي النهي يفيد التكرار في جميع الأوقات ومن جملتها زمان الحال فلزم بالضرورة الفور بخلاف الأمر فافترقا.
وقد يقال: النهي يقتضي انتفاء الحقيقة، وهو بانتفائه في جميع الأوقات، والأمر يقتضي إثباتها وهو يحصل بمرة.
ويمكن حمل كلام المصنف عليه، فلا ينافي ما بعد هذا من أن النهي لا يقتضي التكرار.
واعلم أن الخلاف بين القائلين بأن الأمر لا يقتضي التكرار.
أما من قال بأنه يقتضي التكرار، فمن ضرورته الفورية.