الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني: في الأوامر
جمع أمر، والنواهي جمع نهي وتحقيقه في الشرح،
وفيه فصول:
الأول: في لفظ الأمر
أي: فالأمر لا يعني به مسماه، كما هو المتعارف في الإخبار عن الألفاظ إن تلفظ بها.
والمراد مسمياتها، بل لفظة الأمر، وهو: ألف - ميم - راء، كما يقال: زيد مبتدأ، وضرب فعل ماض، وفي حرف جر.
فعلى هذا: مسمى الأمر لفظ، وهو صيغة "افعل"، ومسمى صيغة "افعل" الوجوب على الأصح، أو غير ذلك مما يأتي:
وفيه مسألتان:
الأولى
أنه حقيقة في القول الطالب للفعل، لسبقه إلى الفهم عند إطلاقه، فكان حقيقة فيه، غير مشترك بينه وبين غيره، وإلا لبادر غيره، أو لم يبادر شيء.
وليس متواطئًا، وإلا لكان أعم من القول الطالب، فلم يفهم منه القول الطالب. لأن الأعم لا يدل على الأخص، كما لا يفهم من الحيوان الإنسان خاصة.
فقوله: "القول": أخرج الطلب بالإشارة، والقرائن المفهمة،
فلا يكون أمرًا حقيقة.
وقوله: "الطالب" أخرج: الخبر وشبهه والأمر النفساني، فإنه طلب لا طالب، ولا شك أن الطالب حقيقة هو المتكلم، وإطلاقه على الصيغة مجاز من باب تسمية المسبب باسم سببه الفاعلي.
وقوله: "للفعل" أخرج: النهي فإنه طالب لترك الفعل.
وقد تقدم في تقسيم الألفاظ تقييد الطلب بالذات أي: بالوضع. ولا بد منها هنا، لئلا يرد: أنا طالب منك كذا.
ولم يقيده هنا به؛ لأنه حيث أطلق ينصرف إلى الطالب بالوضع، ولأنه قدمه.
وما يقال: أنه لا بد من قيد آخر وهو: المانع من النقيض سهو.
ولا يعتبر العلو ولا الاستعلاء على ما اختاره المصنف.
قال المحقق: وهو الحق.
واعتبرت المعتزلة: العلو في حد الأمر.
وهو: أن يكون الآمر أعلى رتبة من المأمور في الواقع دون
الاستعلاء:
وهو أن يطلب (على وجه) الغلظة، وإظهار تعاظم، وبه قال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ والسمعاني.
ونقله القاضي عبد الوهاب عن أهل اللغة، وجمهور أهل العلم، واختاره.
وشرطه (أبو الحسين) البصري، من المعتزلة الاستعلاء دون
العلو.
وبه قال الإمام الرازي، والآمدي، وابن الحاجب.
واشترطهما: ابن القشيري، ونقل عن القاضي عبد الوهاب.
ويفسدهما، أي: يفسد اشتراط العلو والاستغلاء، قوله تعالى: حكاية عن فرعون: } ماذا تأمرون {فأطلق الأمر على القول الطالب للفعل الصادر عن قوم فرعون بلا علو؛ لأن فرعون كان أعلى رتبة منهم، ولا استعلاء؛ لأنه كان يدعي إلهيتهم.
وما يقال: لعله لم يكن العلو والاستعلاء شرطًا في لغة فرعون، ويكون شرطًا في لغة العرب بعيد؛ لأن الله تعالى حكى عنهم بالمعنى، فلا بد من الموافقة معنى.
وما اختاره المصنف هنا لا يناقض ما تقدم له لما تقدم.
وليس حقيقة في غيره، دفعًا للاشتراك، فإن الأصل عدمه، ولو كان مجازًا لأنه خير من الاشتراك.
وقال بعض الفقهاء: إنه مشترك بينه، أي: بين القول المخصوص وبين الفعل أيضًا؛ لأنه يطلق عليه أي: على الفعل مثل قوله
تعالى: } وما أمرنا {أي: وما فعلنا إلا واحدة.
ومثل قوله تعالى: } وما أمر فرعون {، أي: وما فعل فرعون برشيد والأصل في الإطلاق الحقيقة.
قلنا: المراد في الآيتين: الشأن مجازًا لما مر من كونه حقيقة في القول الطالب.
فمعنى الآية الأولى: إن شأننا شيء واحد، وهو أنا إذا أردنا شيئًا أن نقول له: كن فيكون.
وحمل الأمر على الشأن في الثانية أشمل لمذمة فرعون من الفعل.
وقال أبو الحسين البصري: إذا قيل: أمر فلان، ترددنا بين القول والفعل والشيء والشأن والصفة، وهو آية، أي: علامة الاشتراك.
لأنه إذا أطلق لفظ الأمر غير مقيد بما يخصصه بأحد الأمور الخمسة لم يدر الذهن أي هذه الأمور أريد.
فإذا قيد بشيء من المخصصات.
وقيل: أمر بالصلاة فهم القول، أو فعل أمره، فهم الفعل، أو تحرك لأمر فهم الشيء، (أو ساد) لأمر فهم الصفة، أو أمره مستقيم فهم الشأن.
قلنا: لا نسلم تردد الذهن عند إطلاقه، بل يتبادر القول الطالب وهو علامة الحقيقة، وتوقف الباقي على القرينة، وهو علامة المجاز.
تنبيه:
صرح أبو الحسين في المعتمد وشرح العمدة، بأن الأمر ليس موضوعًا للفعل بخصوصه، وإنما يدخل في الشأن.
الثانية
الطلب بديهي التصور، أي: لا يحتاج في معرفته إلى تعريف بحد
أو رسم، كالجوع وسائر الوجدانيات؛ لأن كل من لم يمارس الحدود والرسوم يعرف مفهوم الطلب ويميزه عن غيره، ويطلب في موضع الطلب.
ولولا أنهم عارفون بمفهومه لما تأتي منهم ذلك.
وهو أي: الطلب، غير العبارات المختلفة المعبر بها عنه لاختلافها، وعدم اختلاف الطلب.
والطلب غير الإرادة، خلافًا للمعتزلة في أن ماهية الطلب هي إرادة المأمور به.
فالطلب معنى قائم بالنفس، ومعناه: ميل نفساني إلى ما فيه نفع أو ضر لمن يمكن ذلك في حقه ويؤول في حق الله - تعالى - بما يليق بجلاله.
والإرادة: هذا المعنى يفيد تحصيل المراد من القوة إلى الفعل.
فمعنى الإرادة أخص، ومعنى الطلب أعم، فكل مراد مطلوب، وليس كل مطلوب مراد.
لنا: أن الإيمان من الكافر مطلوب وليس بمراد، لما عرفت في مسألة التكليف بالمحال أن الإيمان من الكافر الذي علم الله - تعالى أنه لا يؤمن، كأبي لهب مطلوب بالاتفاق، مع أنه ليس بمراد لله تعالى لأن الإيمان - والحالة هذه - ممتنع، لأن خلاف علم الله - تعالى - لا يقطع قطعًا، وإذا كان إيمانه ممتنعًا فلا تصح إرادته بالاتفاق.
وليس للمعتزلة أن يقولوا: فلا يكون الممتنع مطلوبًا؛ لأن المطلوب أعم فيجوز كونه ممتنعًا.
ولنا أيضًا: أن الممهد لعذره في ضرب عبده بأنه إنما يضربه لأنه لا يمتثل أمره، إذا أراد عصيان العبد يأمره ولا يريد منه ذلك حذرًا من اللوم.
مثلاً: لو أنكر السلطان ضرب سيدٍ لعبده، متوعدًا له بالإهلاك، إن ظهر أن العبد لا يخالف أمر سيده، والسيد يدعي مخالفة العبد له في أوامره ليدفع عن نفسه الهلاك، فإنه يأمر عبده بحضرة السلطان ليعصيه، ويشاهد السلطان عصيانه له، فيزول إنكاره ويخلص من الهلاك، فهنا قد أمره، وإلا لم يظهر عذره، وهو مخالفة الأمر، ولا يريد منه الفعل؛ لأنه لا يريد ما يفضي إلى هلاك نفسه، وإلا كان مريدًا لهلاك نفسه، وأنه محال.
وعليه إشكالات وأجوبتها (تطلب من) الشرح.
وهذان الوجهان: كما دلا على تغاير الأمر للإرادة، دلا على عدم اشتراط الأمر بالإرادة.
اعترف أبو علي الجبائي، وابنه أبو هاشم بالتغاير بين الأمر والإرادة، وشرطا الإرادة في الدلالة.
قالا: لأن صيغة الأمر كما ترد للطلب، ترد للتهديد أيضًا، فلا بد من تمييز ليتميز الطلب عن التهديد، ولا مميز إلا الإرادة، لكون المأمور مرادًا في الطلب غير مراد في التهديد.
قلنا: دلالة الألفاظ على معانيها إنما هي بحسب وضع اللفظ لها.
وحينئذ كونه مجازًا في التهديد حقيقة في الطلب كاف في الفرق بينهما، فيجب عند إطلاقه حمله على الحقيقة، وهو الطلب، وفي التهديد لا بد من قرينة.
تنبيه:
قال ابن برهان: لنا ثلاث إيرادات:
إرادة إيجاد الصيغة، وهي شرط اتفاقًا.
وإرادة صرف اللفظ عن غير جهة الأمر إلى جهة الأمر، شرطها المتكلمون دون الفقهاء.
وإرادة الامتثال، وهي محل النزاع بيننا وبين أبي علي وابنه.
وذكر الثلاث أيضًا: إمام الحرمين، والغزالي، وغيرهما.
لكن حكى الخلاف في إرادة إيجاد الصيغة ابن المطهر المتأخر الرافضي في كتاب له في أصول الفقه.