المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المقدمة الحمد لله الذي جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا - اصبر واحتسب

[عبد الملك بن قاسم]

الفصل: ‌ ‌المقدمة الحمد لله الذي جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا

‌المقدمة

الحمد لله الذي جعل الصبر جواداً لا يكبو، وصارماً لا ينبو، وحصناً حصيناً لا يُثلم .. والصلاة والسلام على خير الصابرين والشاكرين والحامدين محمد بن عبد الله .. وبعد:

في هذه الدنيا سهام المصائب مُشرعة ورماح البلاء مُعدةً مرسلة .. فإننا في دار ابتلاء وامتحان ونكد وأحزان. وقد بلغ الضعف والوهن ببعضنا إلى التجزع والتسخط من أقدار الله .. فأضحى الصابرون الشاكرون الحامدون هم القلة القليلة.

وسُنن الله في خلقه ثابتة لم تتغير وقضاؤه على عباده سائرٌ لم يتبدل .. نلاحظ أن النوازل تنزل والقوارع تطرق والناس في هذا الزمن غلبت عليهم أمورٌ أربعة:

الأول: عدم الرضا والصبر والاحتساب .. بل البعض يسلو كما تسلو البهائم.

الثاني: الجزع والتسخط .. وكأن الدنيا ما خلقت إلا للصفو والنعيم ..

الثالث: عدم احتساب الأجر سوى في المصائب الكبيرة كالموت وغيره وتناسوا أن الأمر سواء على كل ما يسوء المرء حتى الشوكة تُصيب قدمه.

الرابع: ظن الكثير أن الامتحان والابتلاء هو زمن المصيبة فحسب، وما عدوا النعمة والغنى بلية وطامة إن لم تُعن على الطاعة والعبادة.

ص: 4

وهذا هو الجزء الرابع من سلسلة "أين نحن من هؤلاء؟ " نرى فيه كيف كان رضا وصبر وشكر من كانوا قبلنا وقد أبتلي بعضهم بأشد مما يُصيبنا.

وهذا الكتاب فيه تعزية للمُصاب وتسلية للمُبتلى وإعانة على الصبر والاحتساب.

جعلنا الله من الصابرين الشاكرين ممن يُنادي يوم القيامة: (سلامٌ عليكم بما صبرتم فنعم عُقبى الدار* وصلى الله على نبينا محمد.

عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم

ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم

إن العبد في تنقلاته في هذه الحياة وأطواره فيها لا يخلو من حالتين: إما أن يحصل له ما يُحب ويندفع عنه ما يكره، فوظيفته في هذه الحالة الشكر والاعتراف بأن ذلك من نعم الله عليه، فيعترف بها باطناً ويتحدث بها ظاهراً، ويستعين بها على طاعة الله وهذا هو الشاكر حقاً ..

الحالة الثانية .. أن يحصل للعبد المكروه أو يفقد المحبوب، فيُحدث له، هماً وحزناً وقلقاً فوظيفته الصبر لله، فلا يتسخط ولا يضجر ولا يشكو للمخلوق ما نزل به، بل تكون شكواه لخالقه سبحانه وتعالى، ومن كان في الضراء صابراً وفي السراء شاكراً فحياته كلها خير وبذلك يحصل على الثواب الجزيل ويكتسب الذكر الجميل (1).

والبلاء الذي يصيب العبد لا يخرج عن أربعة أقسام: إما أن يكون في نفسه، أو في ماله، أو في عرضه، أو في أهله ومن يحب، والناس مشتركون في حصولها، فغير المؤمن التقي يلقى منها أعظم مما يلقى المؤمن كما هو مشاهد (2). ورأيت جميع الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذلك وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم، والكبير إلا الهرم

(1) الصبر وأثره ص 5.

(2)

الصبر وأثره ص 12.

ص: 6

والموجود سوى العدم (1).

ولا بد أن يعلم المصاب أن الذي ابتلاه بمصيبته أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل البلاء ليُهلكه به ولا ليعذبه، ولا ليجتاحه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرّعه وابتهاله وليراه طريحاً على بابه لائذاً بجنابه، مكسور القلب بين يديه رافعاً قصص الشكوى إليه (2) قال تعالى:

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} (3).

وقال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4).

وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} (5).

وقد ذكر الله الصبر في القرآن في نيف وتسعين موضعاً وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرة له، وجمع للصابرين بين أمورٍ لم يجمعها لغيرهم فقال تعالى:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} فالهدى

(1) الثبات عند الممات ص 19.

(2)

تسلية أهل المصائب ص 225.

(3)

البقرة: 155.

(4)

الزمر: 10.

(5)

محمد: 31.

ص: 7

والرحمة والصلوات مجموعةٌ للصابرين (1).

وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} . وقال تعالى: {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (2).

وقال عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيراً يُصب منه"(3).

والحمد لله على فضله وجزيل عطائه فقد بشرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذىً ولا غم، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه"(4).

والأنبياء عليهم السلام يتوالى عليهم البلاء مثل كافة الناس وإن كانوا أشد بلاءً فعن أبي سعيد الخدري - رضى الله عنه- قال: قلت يا رسول الله، أي الناس أشد بلاءً؟ قال:"الأنبياء" قلت: ثم من؟ قال: "الصالحون إن كان أحدهم ليُبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحتويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء"(5).

(1) عدة الصابرين، 98 مكاشفة القلوب 237.

(2)

مجموع فتاوى شيخ الإسلام. 10/ 9.

(3)

رواه البخاري.

(4)

متفق عليه.

(5)

رواه ابن ماجه.

ص: 8