المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ ثواب الشدة

الآخرة وكان يقول هو والأنبياء عليهم السلام: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وغيرها (1).

يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة ، قد رفع لك علم، فشمر إليه فقد أمكن التشمير، واجعل سيرك بين مطالعة منيته ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير، فتعلق بحبل الرجاء وادخل من باب التوبة والعمل الصالح، إنه غفورٌ شكور، واعلم - رحمك الله - أن الأعمال بخواتيمها، فإنه ربما أضله في اعتقاده، وربما حيل بينه وبين التوبة، فينبغي للمصاب بنفسه أو بغيره أن يعلم أو يعلم لغيره أنها صبر ساعة فيتجلد ويحارب العدو جهد طاقته، فبصدقه تحصل له عليه الإعانة من الله (2).

أخي الحبيب:

قال شفيق البلخي: من يرى‌

‌ ثواب الشدة

، لا يشتهي المخرج منها.

فاللهم لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت .. أعطيت فأجزلت وقضيت فلطفت .. لا نرجو سواك ولا نلجأ إلا إليك.

قال الله -جل وعلا-: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ

(1) الإحياء 4/ 140.

(2)

تسلية أهل المصائب باختصار 37.

ص: 73

وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة". [رواه الترمذي]

وعنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك" قال ابن جريح في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} قال: إنهما معونتان على رحمة الله (1).

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نُعي إليه ابن له، فاسترجع وقال: عورة سترها الله، ومؤنة كفاها الله، وأجر قد ساقه الله تعالى، ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال: قد صنعنا ما أمر الله تعالى، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} .

وما دمنا على هذه الأرض نسير فوق ثراها فإننا معرضون للبلاء والمصائب تارةً في النفس وأخرى في المال وثالثة في الأبناء.

هذا نبي الله ابيضت عيناه من الحزن على ابنه يوسف وهو كما قال الله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} قال

(1) تسلية أهل المصائب 189.

ص: 74

همام بن قتادة: كظيم على حزن فلم يقل إلا خيراً (1).

وقد روى عن شمر أنه كان إذا عزى مصاباً قال: اصبر لما حكم ربك (2).

وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قال: لما أخذ برأس الأمر جعلناهم رءوساً (3).

وقد جمع الله للصابرين ثلاثة أمور: لم يجمعها لغيرهم وهى: الصلاة منه عليهم، ورحمته لهم، وهدايته إياهم، قال تعالى:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .

قال بعض السلف، وقد عُزي على مصيبة نالته: ما لي لا أصبر. وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها (4).

عن محمد بن خلف قال: كان لإبراهيم الحربي ابن كان له إحدى عشرة سنة، حفظ القرآن ولقنه من الفقه جانباً كبيراً، قال: فمات، فجئت أعزيه فقال كانت أشتهي موت ابني هذا، قال:

(1) عدة الصابرين 127.

(2)

عدة الصابرين 125 تسلية أهل المصائب 175.

(3)

عدة الصابرين 125.

(4)

عدة الصابرين 99.

ص: 75

فقلت له: يا أبا إسحاق أنت عالم الدنيا تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ولقنته الحديث والفقه؟ قال: نعم، رأيت في منامي كأن القيامة قد قامت، وكأن صبياناً بأيديهم قلال فيها ماء يستقبلون الناس فيسقونهم، وكان اليوم حاراً شديداً حره، قال: فقلت لأحدهم: أسقني من هذا الماء، قال: فنظر إليّ وقال: ليس أنت أبي، قلت: فأي أنتم؟ قال: فقال لي: نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا وخلفنا آباؤنا فنستقبلهم فنسقيهم الماء، قال: فلهذا تمنيت موته (1).

أخي: إنه لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه ألبتة، ولهذا ذكر الله -تعالى- في غير موضع أنه لا بد أن يُبتلى الناس، والابتلاء يكون بالسراء والضراء، ولا بد أن يبتلى الإنسان بما يسره وما يسوءه، فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكورا، قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (2).

قال قيس بن الحجاج في قول الله: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} قال: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو (3).

وقد مات ابن لبعض قضاة البصرة، فاجتمع إليه العلماء والفقهاء، فتذاكروا ما يتبين به جزع الرجل من صبره، فأجمعوا أنه

(1) تسلية أهل المصائب 43.

(2)

الفوائد 271.

(3)

عدة الصابرين 128.

ص: 76

إذا ترك شيئاً مما كان يصنعه فقد جزع (1).

عزى رجلٌ رجلاً في ابنه فقال: إنما يستوجب على الله وعده من صبر له بحقه، فلا تجمع إلى ما أصبت به من المصيبة الفجيعة بالأجر، فإنها أعظم المصيبتين عليك وأنكى الرزيتين لك والسلام (2).

أما والذي لا خُلد إلا لوجهه

ومن ليس في العز المنيع له كفو

لئن كان بدء الصبر مراً مذاقه

لقد يُجنى من غبته الثمر الحلو

أخي الحبيب:

من نزلت به بلية فأراد تمحيقها، فليتصورها أكثر مما هى تَهُن، وليتخيل ثوابها وليتوهم نزول أعظم منها، يرى الربح في الاقتصار عليها، وليتلمح سرعة زوالها، فإنه لولا كرب الشدة، ما رجيت ساعة الراحة، وليعلم أن مدة مقامها عنده، كمدة مقام الضيف، يتفقد حوائجه في كل لحظة، فيا سرعة انقضاء مقامه، ويا لذة مدائحه وبشره في المحافل ووصف المضيف بالكرم. فكذلك المؤمن في الشدة. ينبغي أن يراعي الساعات، ويتفقد فيها أحوال النفس، ويتلمح الجوارح، مخافة أن يبدو من اللسان كلمة، أو من القلب

(1) عدة الصابرين 326.

(2)

عدة الصابرين 128.

ص: 77

تسخط، فكأن قد لاح فجر الأجر، فانجاب ليل البلاء، ومدح الساري بقطع الدجى، فما طلعت شمس الجزاء إلا وقد وصل منزل السلامة ومن عرف جريان الأقدار ثبت لها وصبر لها ساعة (1).

لما مات عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز دفنه عمر وسوى عليه، ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس فقال: رحمك الله

يا بني، قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت مُذ وهبك الله لي مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أسر بك سروراً ولا أرجى

بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه (2).

ولما مات أبوبكر الصديق قال علي بن أبي طالب: رضينا عن الله قضاءه وسلمنا له أمرنا إنا لله وإنا إليه راجعون (3).

وعندما أصيب مطرف بن عبدالله في ابن له، فأتاه قوم يعزونه، فخرج إليهم أحسن ما كان بشراً، ثم قال: إني لأستحي من الله أن أتضعضع لمصيبة (4).

صبرت فكان الصبر خير مغبة

وهل جزع يجدي عليّ فأجزع

(1) صيد الخاطر 104.

(2)

مختصر منهاج القاصدين 201.

(3)

تسلية أهل المصائب 213.

(4)

عدة الصابرين 129.

ص: 78

ملكت دموع العين حتى رددتها

إلى ناظري فالعين في القلب تدمع (1)

أخي الكريم:

ليحذر العبد كل الحذر أن يتكلم في حال مصيبته وبكائه بشيء يحبط به أجره ويُسخط به ربه، مما يشبه التظلم، فإن الله تعالى عادلٌ لا يجور، وعالم لا يضل ولا يجهل، وحكيمٌ أفعاله كلها حكم ومصالح، ما يفعل شيئاً إلا بحكمه، وهو الفعال لما يريد، القادر على ما يشاء له الخلق والأمر، بل إنما يتكلم بكلام يُرضي به ربه، ويكثر به أجره، ويرفع الله به قدره (2).

كان صلة بن أشيم في غزاة له ومعه ابن له فقال له: أي بني! تقدم فقاتل حتى أحتسبك، فحمل فقاتل حتى قتل، ثم تقدم فقُتل، فاجتمعت النساء، فقامت امراته معاذة العذرية فقالت للنساء: مرحباً إن كنتن جئتن لتهنئنني مرحباً بكن، وإن كنت جئتن لغير ذلك فارجعن (3).

حدث يزيد بن أبي حبيب: أن ابناً لعياض بن عقبة حضرته الوفاة، وكان عياض غائباً فقالت أم الغلام: لو كان أبو وهب حاضراً لقرت عينه، فلما حضرت وفاة عياض بن عقبة قال لأخيه أبي عبيد: يهنئك الظفر قد كنت أرجو أن تكون قبلي

(1) عدة الصابرين 128.

(2)

تسلية أهل المصائب 58.

(3)

مختصر منهاج القاصدين 299.

ص: 79

فأحتسبك (1).

أي أنك تحتسبني وتصبر على مصيبتي وينالك الأجر بذلك.

وحين مات عبدالله بن مطرف، خرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد أدهن، فغضبوا وقالوا: يموت عبدالله، ثم تخرج في ثياب من هذه مدهناً؟ قال: أفأستكين لها، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال، كل خصلة منها أحب إليَّ من الدنيا وما فيها قال الله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (2).

ولنتأمل مسابقتهم إلى ذلك الخير ورغبتهم فيما عند الله ورضاهم عن الله -جل وعلا- قال سهيل بن الحنظلية الأنصاري - وكان لا يولد له - لأن يولد لي ولد سقط، فأحتسبه أحب إليّ من أن يكون لي الدنيا بأجمعها، وكان ابن الحنظلية ممن بايع تحت الشجرة (3).

أخي الحبيب:

الدنيا وضعت لبلاء فينبغي للعاقل أن يوطن نفسه على الصبر، وأن يعلم أن ما حصل من المراد فلطف، وما لم يحصل فعلى أصل الخلق والجبلة للدنيا.

(1) تسلية أهل المصائب 44.

(2)

مختصر منهاج القاصدين 299.

(3)

تسلية أهل المصائب 44.

ص: 80

وهنا تتبين قوة الإيمان وضعفه، فليستعمل المؤمن من أدوية هذا المرض التسليم للمالك والتحكيم لحكمته (1).

ستمضي مع الأيام كل مصيبة

وتحدث أحداث تنسي المصائب (2)

نسير مع هذه الصور الحية الناطقة في حياة من سبقنا ونرى كيف صبرهم ونلمس رضاهم عن الله -جل وعلا- في كل المصائب.

قال عمر بن عبدالعزيز لابنه: كيف تجدك؟ قال: في الموت، قال: لأن تكون في ميزاني أحب إليَّ أن أكون في ميزانك، فقال: والله يا أبت، لأن يكون ما تحب أحب إليَّ من أن يكون ما أحب (3).

وعندما قيل لبعض الصالحين: قتل ولدك في سبيل الله! فبكى، فقيل له: أتبكي وقد استشهد؟ فقال: إنما أبكي كيف كان رضاه عن الله عز وجل حين أخذته السيوف (4).

أخي أين نحن من هؤلاء؟

روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن سفيان، قال: سمعت سفيان يقول: ما في الأرض أحب إلي من سعيد، وما في الأرض أحدٌ يموت

(1) صيد الخاطر 507.

(2)

بغداد 6/ 259.

(3)

تسلية أهل المصائب 213.

(4)

تسلية أهل المصائب 210.

ص: 81

أحب إلي منه، فمات فرأيته يبكي، قال: قد كنت تتمنى موته، قال أذكر قوله: آه جنبي (1).

ومات ابن لعبدالرحمن بن مهدي فجزع عليه جزعاً شديداً. فبعث إليه الشافعي يقول له: يا أخي، عزّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك، واعلم أن أمضَّ المصائب فقد سرورٍ وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر، فتناول حظِّك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد تنأى عنك، ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرز لنا بالصبر أجراً (2).

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة

إذا اخضر منها جانبٌ جف جانب

وما الدهر والآمال إلا فجائعٌ

عليها وما اللذات إلا مصائب

فلا تكتمل عيناك منها بعبرة

على ذاهب منها فإنك ذاهب (3)

سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في الابتلاء.

فمن تلمح بحر الدنيا وعلم كيف تُتَلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام لم يستهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل

(1) تسلية أهل المصائب 46.

(2)

تسلية أهل المصائب 175.

(3)

البداية والنهاية 11/ 320.

ص: 82

رخاء (1).

كان عروة بن الزبير قد صحب معه بعض أولاده وكان من جملتهم ابنه محمد، وكان أحبهم إليه، فدخل دار الدواب فرفسته فرسٌ فمات، فأتوه، فعزوه فيه فقال: الحمد لله كانوا سبعة فأخذت منهم واحداً وأبقيت ستة، فلئن كنت قد ابتليت فلطالما عافيت، ولئن كنت قد أخذت فطالما أعطيت (2).

مكانة الصبر عظيمة يقول عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبده نعمة فانتزعها منه فعاضها مكانها الصبر إلا كان ما عوَّضه خيراً مما انتزعه منه.

وعندما سئل الجنيد عن الصبر قال: هو تجرع المرارة من غير تعبس (3).

والمصائب تنزل حولنا وتحف بنا .. كيف قلوبنا .. عامرةٌ بالصبر، عامرةٌ بالتقوى والرضا .. مستعدة لأشد بلاء يقابل المسلم .. ألا وهو الموت.

عزى صالح المري رجلاً قد مات ولده فقال: إن كانت مصيبتك أحدثت لك عظة في نفسك فنعم مصيبتك، وإن كانت لم تحدث لك عظة في نفسك فمصيبتك بنفسك أعظم من مصيبتك

(1) صيد الخاطر 236.

(2)

البداية والنهاية 9/ 115.

(3)

تسلية أهل المصائب 193.

ص: 83

بابنك (1).

ولنسمع عن فضل الله وإحسانه على عباده.

عن أبي بكر قال: إن المسلم ليؤجر في كل شيء حتى في النكبة وانقطاع شسعه، والبضاعة تكون في كمه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في غبة (2).

وقد مات لعقبة ابن يقال له: يحيى فلما نزل في قبره قال له رجل: والله إن كان لسيد الجيش فاحتسبه، فقال والده: وما يمنعني أن أحتسبه وكان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات (3).

أخي الكريم: لينظر المصاب في كتاب الله وسنة رسول الله فيجد أن الله تعالى أعطى لمن صبر ورضي ما هو أعظم من فوات تلك المصيبة بأضعاف مضاعفة، وأنه لو شاء لجعلها أعظم مما هي .. ومن أنفع الأمور للمصاب. أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وليعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت من أصيب فمنهم من أصيب مرة، ومنهم من أصيب مراراً، وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب فيصاب، أسوة أمثاله ممن تقدمه، فإنه إن نظر يمنة فلا يرى إلا محنة، وإن نظر يسرة

(1) تسلية أهل المصائب 128.

(2)

تاريخ الخلفاء 96.

(3)

تسلية أهل المصائب 42.

ص: 84

فلا يرى إلا حسرة (1).

فإذا علم المصاب أنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه فسرور الدنيا أحلام نوم، أو كظل زائل، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرت يوماً ساءت دهراً، وإن متعت قليلاً منعت طويلاً وما ملأت داراً حبرة إلا ملأتها عبرة، وما حصلت للشخص في يوم سروراً، إلا خبأت له في يوم شروراً (2).

عن الأحوص قال: دخلنا على ابن مسعود رضي الله عنه وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير فجعلنا نتعجب من حسنهم فقال: كأنهم يغبطونني؟ قلنا أي والله لبمثل هؤلاء يغبط المسلم فرفع رأسه إلى سقف البيت وقد عشعش فيه خطاف وباض فقال: والذي نفسي بيده لأن أكون قد نفضت يدي من تراب قبورهم أحب إليَّ من أن يسقط عش هذا الخطاف وينكسر بيضه، ثم قال: ما أصبحت على حال فتمنيت أني على سواها (3).

وقال عمر بن ميمون بن مهران: كنت مع أبي ونحن نطوف بالكعبة، فلقى أبي شيخاً فعانقه أبي، ومع الشيخ فتى قريباً مني، فقال له أبي: من هذا؟ قال: ابني، فقال: وكيف رضاك عنه؟ قال: ما

(1) تسلية أهل المصائب 20.

(2)

تسلية أهل المصائب 21.

(3)

تسلية أهل المصائب 45.

ص: 85

بقيت خصلة يا أبا أيوب من خصال الخير إلا وقد رأيتها فيه إلا واحدة، قال: وما هى؟ قال: كنت أحب أن يموت وأوجر فيه!

قال: ثم فارقه أبي، قال: فقلت لأبي من هذا الشيخ؟ قال: هذا مكحول (1).

هذا يحيى بن معاذ يقول في درر من الكلام: ابن آدم .. ما لك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت (2)؟

قال بعض السلف وقد سأله رجل فقال: عظني؟ ! فقال: انظر منك إلى آدم هل ترى منهم عينٌ تطرف؟ فقال حسبك (3).

كتب الموت على الخلق فكم

فل من جيش وأفنى من دول

قال عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه: أبتلينا بالضراء فصبرنا وأبتلينا بالسراء فلم نصبر، ولذلك قال الله تعالى:{لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وقال تعالى:

{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} وقال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} (4).

وقال الزجاج .. أعلمهم الله عز وجل أن الأموال والأولاد

(1) تسلية أهل المصائب 46.

(2)

تسلية أهل المصائب 40.

(3)

تسلية أهل المصائب 40.

(4)

منهاج القاصدين 296.

ص: 86

مما يفتنون به، وهذا عام في جميع الأولاد، فإن الإنسان مفتون بولده لأنه ربما عصى الله تعالى بسببه، وتناول الحرام لأجله، ووقع في العظائم إلا من عصمه الله تعالى (1).

عن يعلى بن الوليد قال: لقيت أبا الدرداء فقلت: ما تحب لمن تُحب؟ قال: الموت، قلت: فإن لم يمت؟ قال: يقل ماله

وولده (2).

ومما يسلي العبد قول بعض الحكماء .. قد مات كل نبي، ومات كل نبيه ولبيب وفقيه وعالم، فلا تجزع ولا يوحشنك طريق الخلائق فيها (3).

أخي .. كلنا سائرون في طريق نهايته معروفة .. الموت هادم اللذات ولكن

اصبر لكل مصيبةًَ وتجلد

واعلم بأن المرء غير مخلد

أو ما ترى أن المصائب جمة

وترى المنية للعباد بمرصد

من لم يصب ممن ترى بمصيبة

هذا سبيل لست عنه بأوحد

(1) إغاثة اللهفان 2/ 160.

(2)

السير 2/ 349.

(3)

تسلية أهل المصائب 40.

ص: 87

وإذا ذكرت مصيبة تسلو بها

فاذكر مصابك بالنبي محمد (1)

فمن أعظم مصائبنا التي نحتسبها عند الله موته صلى الله عليه وسلم ومن أعظم البشارات لمن أصيب بمصيبة فذكرها بعد مدة طويلة فجدد لها استرجاعاً وصبراً، ما له عند الله من الأجر كلما ذكرها واسترجع. قال صلى الله عليه وسلم:"ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدد الله له عنه ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب" بها.

مات لرجل من السلف ولدٌ، فعزاه سفيان بن عيينة وآخرون وهو في حزن شديد حتى جاءه الفضيل بن عياض فقال: يا هذا أرأيت لو كنت في سجن وابنك، فأفرج عن ابنك قبلك أما كنت تفرح؟ قال: بلى قال: فإن ابنك خرج من سجن الدنيا قبلك، فسرى عن الرجل وقال: تعزيت (2).

وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي في "عيون الحكايات" قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدناها فسلمنا فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: وما أنتم؟ قلنا: قوم ضالون عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم فقالت: يا هؤلاء ولُّو وجوهكم عني حتى أقضي من

(1) تسلية أهل المصائب 25.

(2)

تسلية أهل المصائب 120.

ص: 88

حقكم ما أنتم له أهل، ففعلنا، فألقت لنا مسحاً فقالت: اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها إلى أن رفعتها فقالت: أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني، فوقف الراكب عليها، فقال: يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل، قالت ويحك مات ابني؟ قال: نعم قالت: وما سبب موته؟ قال: ازدحمت الإبل فرمت به في البئر، فقالت: انزل فاقض ذمام القوم، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه وقرب إلينا الطعام فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا خرجت إلينا وقد تكّورت فقالت: يا هؤلاء: هل منكم من أحد يُحسن من كتاب الله شيئاً؟ قلت نعم، قالت: اقرأ عليَّ من كتاب الله آيات أتعزى بها، قلت يقول الله عز وجل في كتابه:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} قالت: الله إنها لفي كتاب الله هكذا؟ قلت: الله إنها لفي كتاب الله هكذا، قالت: السلام عليكم، ثم صفت قدميها وصلت ركعات ثم قالت:"إنا لله وإنا إليه راجعون" عند الله أحتسب عقيلاً، تقول ذلك ثلاثاً، اللهم إني فعلت ما أمرتني به فانجز لي ما وعدتني (1).

وعن مسلم بن يسار قال: قدمت البحرين، فأضافتني امرأة لها بنون ورقيق ومال ويسار فكنت أراها محزونة، فلما خرجت من

(1) تسلية أهل المصائب 194.

ص: 89

عندها قلت لها ألك حاجة؟ قالت: نعم. إن أنت قدمت بلدتنا هذه أن تنزل عليّ، فغبت عنها كذا وكذا سنة، ثم أتيتها فلم أر ببابها أنيساً، فاستأذنت عليها فإذا هي ضاحكة مسرورة، قلت لها ما شأنك؟ قالت: إنك لما غبت عنا لم نرسل في البحر شيئاً إلا غرق، ولا في البر شيئاً إلا عطب، وذهب الرقيق ومات البنون، فقلت لها: يرحمك الله رأيتك محزونة في ذلك اليوم ومسرورة في هذا اليوم؟ فقالت: نعم إني لما كنت فيه من سيئة الدنيا خشيت أن يكون الله قد عجل حسناتي في الدنيا، فلما ذهب مالي وولدي ورقيقي رجوت أن يكون الله قد أدخر لي عنده خيراً ففرحت (1).

اعلم أخي الكريم أن الرضا بالمصائب أشق على النفوس من الصبر، وقد تنازع العلماء والمشايخ في الرضا بالقضاء هل هو واجب أو مستحب، على قولين فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، فالعبد قد يصبر على المصيبة ولا يرضى بها، فالرضا أعلى من مقام الصبر، لكن الصبر اتفقوا على وجوبه والرضا اختلفوا في وجوبه، والشكر أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد المصيبة نعمة، فيشكر المبلى عليها قال عبدالواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا وسراج العابدين (2).

فعليك أخي: بالشكر لما قضى وقدر والرضى بما جرى

(1) تنبيه الغافلين 134.

(2)

تسلية أهل المصائب 208.

ص: 90

والصبر على ما كان .. فإن للبلايا مهما طالت نهايات مقدرة عند الله عز وجل.

وتأمل في قول الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} . فإن في هذه الآية عدة حكم وأسرار ومصالح للعبد، فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه، لم يأمن من أن توافيه المضرة من جانب المسرة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة لعدم علمه بالعواقب، فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد، وأوجب له ذلك أموراً:

منها: أنه لا أنفع له من امتثال الأمر وإن شق عليه في الابتداء، لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات ولذاتٌ وأفراح، وإن كرهته نفسه فهو خيرٌ لها وأنفع، ومن أسرار هذه الآية أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور والرضا بما يختاره له ويقضيه له، لما يرجو فيه من حسن العاقبة.

ومنها: أنه لا يقترح على ربه ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم، فلعل مضرته وهلاكه فيه وهو لا يعلم، فلا يختار على ربه شيئاً. بل يسأله حسن الاختيار له، وأن يرضيه بما يختاره فلا أنفع له من ذلك.

ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له، أمده فيما يختاره له بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه، وأراه من حسن عواقب اختياره له ما لم

ص: 91

يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.

ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الاختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات التي يصعد منها في عقبة وينزل في أخرى، ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله، أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم غير ملطوف به فيه، لأنه مع اختيار لنفسه، ومتى صح تفويضه ورضاه، اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به، فيصير بين عطفه ولطفه، فعطفه يقيه ما يحذره، ولطفه يهون عليه ما قدَّره (1).

أخي الحبيب:

في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب عبداً همٌ ولا حزنٌ فقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همّي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكانه فرحاً، قال: يا رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال: بلى. ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن".

سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين: عمن يتسخط إذا نزلت به مصيبة؟

فأجاب بقوله: الناس حال المصيبة على مراتب أربع:

(1) الفوائد باختصار 179.

ص: 92

المرتبة الأولى: التسخط وهو على أنواع:

النوع الأول: أن يكون بالقلب كأن يتسخط على ربه يغتاظ مما قدره الله عليه، فهذا حرام، وقد يؤدي إلى الكفر قال تعالى:

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ} .

النوع الثاني: أن يكون التسخط باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وهذا حرام.

النوع الثالث: أن يكون التسخط بالجوارح كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور وما أشبه ذلك وكل هذا حرام منافٍ للصبر الواجب.

المرتبة الثانية:

الصبر وهو كما قال الشاعر:

والصبرُ مثل اسمه مر مذاقته

لكن عواقبه أحلى من العسل

فيرى أن هذا الشيء ثقيل عليه لكنه يتحمله، وهو يكره وقوعه ولكن يحميه من السخط، فليس وقوعه وعدمه سواء عنده، وهذا واجب لأن الله تعالى أمر بالصبر فقال:{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} .

المرتبة الثالثة: الرضا بأن يرضى الإنسان بالمصيبة بحيث يكون وجودها وعدمها سواء فلا يشق عليه وجودها، ولا يتحمل لها حملاً ثقيلاً، وهذه مستحبة وليست بواجبة على القول الراجح، والفرق

ص: 93

بينها وبين المرتبة التي قبلها ظاهر لأن المصيبة وعدمها سواء في الرضا عند هذا، أما التي قبلها فالمصيبة صعبة عليه لكن صبر عليها.

المرتبة الرابعة: الشكر: وهو أعلى المراتب، وذلك بأن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة حيث عرف أن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته قال صلى الله عليه وسلم:"ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها حتى الشوكة يشاكها"(1).

أخي الحبيب: إن كانت الدنيا أطلقت سهامها وسلت سيوفها .. فإنا رضينا بقضاء الله وقدره نشكره على قضائه ونصبر على طاعته، فهو صاحب الإحسان الجزيل والعطاء الكثير .. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} .

جعلني الله وإياك من الشاكرين الراضين الصابرين المحتسبين .. وجمعني وإياك في جنات عرضها السموات والأرض فيها السعادة بلا شقاء والحياة بلا موت والنعيم بلا زوال.

وجعلني الله وإياكم من الصابرين {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (2).

(1) مجموع فتاوى ابن عثيمين 2/ 109.

(2)

البقرة، الآيتان 156 - 157.

ص: 94