المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ حسن التوفيق

يقول: الحمد لله حمداً يوافي محامد خلقك بما أنعمت عليّ وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلا، فقلت: لأنظرن شيء يملكه أم ألهمه الله إلهاماً؟ فقلت: على أي نعمة من نعمه تحمده أم على أي فضيلة تشكره، فوالله ما أرى شيئاً من البلاء إلا هو بك، فقال: ألا ترى ما قد صنع بي؟ فوالله لو أرسل السماء عليَّ ناراً فأحرقتني، وأمر الجبال فدكتني وأمر البحار فأغرقتني، ما ازددت له إلا حمداً وشكراً، وإن لي إليك حاجة: بنيَّة كانت تخدمني وتتعاهدني عند إفطاري انظر هل تحس بها؟ فقلت: والله إني لأرجو أن يكون لي في قضاء حاجة هذا العبد الصالح قربةً إلى الله عز وجل فخرجت أطلبها بين تلك الرمال فإذا السبع قد أكلها فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون من أين آتي هذا العبد الصالح فأخبره بموت ابنته؟ فأتيته فقلت له: أنت أعظم عند الله منزلة أم أيوب عليه السلام؟ ابتلاه الله في ماله وولده وأهله وبدنه حتى صار عرضاً للناس، فقال: لا، بل أيوب، قلت: فإن ابنتك التي أمرتني أن أطلبها أصبتها وإذا السبع قد أكلها. فقال: الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا وفي قلبي منها شيء فشهق شهقة فمات (1).

اعلم أخي أن من‌

‌ حسن التوفيق

وأمارات السعادة الصبر على الملمات والرفو عند النوازل (2).

(1) صفة الصفوة 4/ 334.

(2)

أدب الدنيا والدين 276.

ص: 47

تنكر لي دهري ولم يدر أنني

أغر وأحداث الزمان تهون

وظل يريني الدهر كيف اغتراره

وبت أريه الصبر كيف يكون (1)

فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا وإما أن لا يقول آمنا، بل يستمر على عمل السيئات، فمن قال: آمنا، امتحنه الرب عز وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا، فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإن أحداً لن يعجز الله تعالى، هذه سنته تعالى يُرسل الرسل إلى الخلق فيكذبهم الناس ويؤذونهم قال تعالى:

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} .

وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل له ما يؤلمه أعظم وأدوم، فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداءً، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والكافر تحصل له النعمة ابتداءً ثم يصير في الألم (2).

(1) البداية والنهاية 11/ 190.

(2)

الفوائد لابن القيم 269.

ص: 48

والمصائب لا تكون فقط في موت حبيب أو قريب بل وليست مخصوصة بمرضٍ ونحوه بل كل ما أصابك حتى وإن صغر فهو مصيبة تُحتسب عند الله.

انقطع شسع نعل عمر بن الخطاب فاسترجع وقال: كل ما ساءك مصيبة (1).

فليتنا نداوم على الاسترجاع في كل ما أساءنا لعل الله أن يعوضنا خيراً منها.

وليعلم العبد أن ما أصابه هو بسبب ذنوبه ويعفو جل وعلا عن كثير.

قال عبد الله بن السري، قال لي ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل علي به الدين، قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس.

قال أبو سليمان الداراني: قَلَّت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبنا فليس ندري من أين نؤتى (2).

وشكا ابن أخ للأحنف بن قيس وجع ضرسه فقال له الأحنف بن قيس: لقد ذهبت عيني من أربعين سنة ما ذكرتها لأحد (3).

(1) تاريخ عمر 212.

(2)

حلية الأولياء 2/ 272.

(3)

الزهد 337.

ص: 49

ولنستمع إلى التوجيه النبوي الكريم: "إذا أصاب أحدكم همّ أو لأواء، فليقل: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً".

وقال صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء".

ومن عرف حقيقة الدنيا وعرف أن الله يختار للعبد ما فيه خيرٌ له رضي بذلك فإن الله أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين.

قال عمر -رضى الله عنه-: ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خيرٌ لي (1).

وفي الأثر: يا ابن آدم: البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك (2).

والله تبارك وتعالى يبتلي عبده ليسمع شكواه وتضرعه ودعاءه وصبره ورضاه بما قضاه عليه، فهو سبحانه وتعالى يرى عباده إذا نزل بهم ما يختبرهم به من المصائب وغيرها، ويعلم خائنة أعينهم وما تخفي صدورهم، فيثيب كل عبد على قصده ونيته، وقد ذم الله تعالى من لم يتضرع إليه ولم يستكن له وقت البلاء كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} (3).

(1) الإحياء 3/ 336.

(2)

تسلية أهل المصائب 237.

(3)

تسلية أهل المصائب 229.

ص: 50

أخي الحبيب:

عليك بالصبر إن نابتك نائبة

من الزمان ولا تركن إلى الجزع

وإن تعرضت الدنيا بزينتها

فالصبر عنها دليل الخير والورع (1)

قال الحسن: ما جرعتين أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة محزنة ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر وجرعة غيظ ردها بحلم (2).

قال بعض السلف: فقد الثواب على المصيبة أعظم من المصيبة (3).

وقد قال الفضيل بن عياض: إذا أحب الله عبداً أكثر غمه، وإذا أبغض عبداً وسع عليه دنياه (4).

ومن تسلية أهل المصائب: أن ينظر المصاب ويفرق بين أعظم اللذتين والمتعتين تمتع الحياة الدنيا الفانية، وتمتع الدار الآخرة الباقية، وأدومهما لذة وتمتعاً بما أصيب به، ولذة تمتعه بثواب الله له على قوله وفعله من استرجاع وصبر ونحوه فإن ظهر له الرجحان فآثر الراجح فليحمد الله على توفيقه له. وإن آثر المرجوح من كل وجه

(1) مكاشفة القلوب 132.

(2)

127 عدة الصابرين.

(3)

تسلية أهل المصائب 173.

(4)

شذرات الذهب 1/ 318.

ص: 51

فليعلم أن مصيبته في عقله وقلبه ودينه، أعظم من مصيبته التي أصيب بها في دنياه (1).

وعن سفيان قال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة (2).

وهذا عكس فهمنا اليوم فنحن نعد الرخاء نعمة والبلاء مصيبة .. وما ذاك إلا من ضعف علمنا وقصر فهمنا وحبنا للدنيا الفانية ورغبتنا في الراحة والدعة.

قال سفيان رحمه الله قد أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه إليه فيها (3).

والغالب اليوم ينسى الدعاء حتى تصيبه المصائب، والله -جل وعلا- يحب عبده الداعي .. فيجب -يا أخي- الإكثار من الدعاء في حال العافية والسلامة ومتى ما أصيب الإنسان كانت الحاجة إلى الدعاء أكبر لتفريج الهم وإزالة البلاء.

مر الربيع بن أبي راشد برجل به "زمانة"(4) فجلس يحمد الله ويبكي، فمر رجل فقال: ما يبكيك رحمك الله؟ فقال: ذكرت أهل الجنة وأهل النار فشبهت أهل الجنة بأهل العافية، وأهل النار بأهل

(1) تسلية أهل المصائب 28.

(2)

السير 7/ 66.

(3)

تسلية أهل المصائب 172.

(4)

* الزمانة مرض يدوم ولا يرجى برؤه.

ص: 52

البلاء فذلك الذي أبكاني (1).

وقال أبو الدرداء وكأنة يرى حالنا الآن: تلدون للموت وتعمرون للخراب وتحرصون على ما يفنى، وتذرون ما يبقى، ألا حبذا المكروهات الثلاث: الموت والمرض والفقر (2).

والأمر اليوم خلاف ذلك ولكن يا أخي من أحب البقاء فليعد للمصائب قلباً صبوراً ولساناً ذاكراً شكوار.

جاء أحمد بن صالح يوصى أبا عبدالله "أحمد بن حنبل" يوماً وقد بل أبو عبد الله خرقة فألقاها على رأسه فقال له أحمد بن صالح: يا جدي أنت محموم، قال أبو عبدالله: وأنى لي بالحمى؟

لم يتجزع رحمه الله ولم يخبر بمرض أو يشتكي.

أين نحن من هؤلاء؟ !

كثير الآن قبل أن تسأله يروي لك رحلته مع الأطباء وأنه ما نام البارحة ولا ذاق طعاماً ولا شرب شراباً، حديثٌ طويل ..

ثم يُعدد بعد ذلك أنواع الأدوية التي يأخذها .. ويُعرج في حديثه على مستوى الأطباء وخدمات المستشفى .. ولا ينسى أن يلوم فلانٌ وفلان .. لأنهم لم يزوروه.

حديثٌ طويل .. الصبر والرضا .. ليسا فيه.

قال الفضيل لرجل يشكو إلى رجل: يا هذا تشكو من يرحمك

(1) الشكر 29.

(2)

شرح الصدور 15.

ص: 53

إلى من لا يرحمك (1).

تلذ له الشكوى وإن لم يجد بها

صلاحاً كما يتلذ بالحكَّ أجربُ (2)

ولكن لنعود لمريض من سلفنا كيف كانت زيارته وماذا يقول لزائريه؟

قال عبدالعزيز بن أبي روّاد: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة، فكأنه رأى ما شق عليَّ منها، فقال: تدري ما لله عليَّ في هذه القرحة من نعمة؟ قال: فسكت فقال: حيث لم يجعلها على حدقتي ولا طرف لساني ولا على طرف ذكري، قال: فهانت علي قرحته (3).

أخي الحبيب:

ليس المؤمن بالذي يؤدي فرائض العبادات صورة ويتجنب المحظورات فحسب، إنما المؤمن هو الكامل، لا يختلج في قلبه اعتراض، ولا يساكن نفسه فيما يجري وسوسة، وكلما اشتد البلاء عليه زاد إيمانه وقوي تسليمه، وقد يدعو فلا يرى للإجابة أثراً، وسره لا يتغير لأنه يعلم أنه مملوك وله مالكٌ يتصرف بمقتضى إرادته، فإن اختلج في قلبه اعتراض خرج من مقام العبودية إلى مقام المناظرة، كما جرى لإبليس والإيمان القوي يبين أثره عند قوة

(1) السير 1/ 439.

(2)

موارد الظمآن 2/ 47.

(3)

صفة الصفوة 3/ 268.

ص: 54

البلاء (1).

قال الإمام النووي -رحمه الله تعالى- في شرح مسلم: عند قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يشاك بشوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومُحيت عنه بها خطيئة" وفي رواية: "إلا رفعه الله بها درجة أو حط عنه خطيئة" قال: وفي هذه الأحاديث بشارةُ عظيمة للمسلمين فإنه قل أن ينفك الواحد منهم ساعة من شيء من هذه الأمور، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام ومصائب الدنيا وهمومها وإن قلت مشقتها (2).

وروي في الخبر أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} قال أبو بكر -رضي الله تعالى عنه-: يا رسول الله كيف الفرح بعد هذه الآية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر؟ ألست تمرض؟ أليس يصيبك الأذى؟ أليست تنصب؟ أليس تحزن؟ فهذا مما تجزون به". يعني أن جميع ما يصيبك يكون كفارة لذنوبك.

واعلم أن العبد لا يدرك منزلة الأخيار إلا بالصبر على الشدة والأذى وقد أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر فقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (3).

(1) صيد الخاطر 360.

(2)

تسلية أهل المصائب 292.

(3)

تنبيه الغافلين 13.

ص: 55

وروي عن مالك بن أنس من حديث عطاء بن يسار أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مرض العبد بعث الله إليه ملكين فقال: انظرا ماذا يقول لعُواده؟ فإن هو إذا جاءوه حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله -وهو أعلم- فيقول لعبدي عليَّ إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحماً خيراً من لحمه، ودماً خيراً من دمه، وأن أكفر عنه سيئاته".

وعندما مرض أبو بكر فعادوه، فقالوا: ألا ندعوا لك الطبيب؟ فقال: قد رآني الطبيب، قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: إني فعَّال لما أريد (1).

وقال أبو هريرة: إذا مرض العبد المسلم، نودي صاحب اليمين: أن أجر على عبدي صالح ما كان يعمل وهو صحيح، ويقال لصاحب الشمال: أقصر عن عبدي ما دام في وثاقي، فقال رجل عند أبي هريرة: يا ليتني لا أزال ضاجعاً، فقال أبو هريرة: كره العبد الخطايا (2).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: اكتب له مثل عمله إذا كان طلقاًَ .. ".

فالحمد لله الذي أجرى الخير لابن آدم وهو لم يعمل فالحمد

(1) تسلية أهل المصائب 193.

(2)

عدة الصابرين 114.

ص: 56

لله ربٌ رحيم جوادٌ كريم ..

وقد يحصل للعابد الجاهل بمصيبته من الجزع ما يسوء الناظر إليه، والسامع عنه، من الاعتراض على الأقدار، وما ذاك إلا لإدلاله بعبادته، فإنه قد شوهد أن خلقاً كثيراً من أهل الدين والخير عند موت أحبابهم جرى منهم أمورٌ ينكرها العقال من الناس فمنهم من خرق ثيابه، ومنهم من لطم خده، ومنهم من اعترض على القضاء والقدر (1).

فلا شيء أنفع من العلم، لأن العالم لو حصل له هلعٌ شديد في مصيبته يعلم أنها زلة منه، فيدري كيف يتنفس، والعابد الجاهل كلما غاص إلى أسفل يظن أنه صاعدٌ إلى فوق فإذا امتحن الشخص ينبغي له أن يتداوى بالأدوية الشرعية (2).

أما علمت -أخي- أنه لا بد من الفرقة، ومن المرض بعد الصحة .. ومن البعد بعد القرب .. فهذه حال الدنيا.

وأنت يا أخي:

لن تستطيع لأمر الله تعقيباً

فاستنجد الصبر أو فاستثمر الحُوبا

وافزع إلى كنف التسلم وارض

بما قضى المهيمن مكروهاً ومحبوبا (3)

(1) تسلية أهل المصائب 34.

(2)

تسلية أهل المصائب 34.

(3)

السير 14/ 280.

ص: 57

روي عن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريل: "يا محمد عش ما عشت فإنك ميتٌ، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه".

إن الموت قادم بعد الحياة والمرض بعد العافية .. نفارق من نحب ونودع من نعز .. هذه الدنيا لا تُبقي على أحد ..

ولكن نعوذ بالله من عدم الصبر عند المحنة، ونسأله الثبات في الأمر، فإنه والعياذ بالله يُخاف على الشخص من سوء الخاتمة إذا سخط الأقدار، ونازع القضاء والقدر أهله، فنسأل الله تعالى حسن الخاتمة.

كان عبدالأعلى التيمي يقول: أكثروا من سؤال الله العافية، فإن المبتلى وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن من البلاء، وما المبتلون اليوم إلَاّ من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم ولو كان البلاء يجر إلى خير ما كانا من رجال البلاء، إنه رب بلاء قد أجهد في الدنيا وأخزى في الآخرة، فما يؤمن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقي له في بقية عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الآخرة (1).

قال ميمون بن مهران: ما نال أحد شيئاً من ختم الخير فما دونه إلاّ بالصبر (2).

(1) عدة الصابرين 178.

(2)

عدة الصابرين 124.

ص: 58

وقال بعض السلف: البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديق (1).

لا يفتر لسانك من ذكر وشكر المُنعم المتفضل ولا تنسى حال المصيبة كلمة الاسترجاع فقد تضمنت كلمة "إنا لله وإنا إليه راجعون" علاجاً من الله ورسوله لأهل المصائب.

فإنها من أبلغ علاج المصائب وأنفعه للعبد في عاجله وآجله، فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.

أحد الأصلين: أن يتحقق العبد أن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله عز وجل حقيقة، وقد جعله الله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ عاريته من المستعير وأيضاً: فإنه محفوف بعدمين، عدمٍ قبله، وعدمٍ بعده، وملك العبد له متعة معارة في زمن يسير.

وأيضاً: فإنه ليس هو الذي أوجده عن عدم، حتى يكون ملكه حقيقةً ولا هو الذي يحفظه من الآفات بعد وجوده ولا يبقى عليه وجوده فليس له فيه تأثير ولا ملك حقيقي.

وأيضاً فإنه متصرف فيه بالأمر، تصرف العبد المأمور المنهي، لا تصرف المالك، ولهذا لا يباح له من التصرفات فيه إلا ما وافق مالكه الحقيقي.

(1) تسلية أهل المصائب 198.

ص: 59

والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويأتي ربه يوم القيامة فرداً، كما خلقه أول مرة، بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن يأتيه بالحسنات والسيئات، فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوله فيه، ونهايته وحاله فيه، فكيف يفرح العبد بولد أو مال أو غير ذلك من متاع الدنيا، أم كيف يأسى على مفقود، ففكرة العبد في بدايته ونهايته من أعظم علاج المصائب.

ومن علاجه أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (1).

ولا ينبغي للمؤمن أن ينزعج من مرض أو نزول موت، وإن كان الطبع لا يملك إلا أنه ينبغي له التصبر مهما أمكن، إما لطلب الأجر بما يعاني، أو لبيان أثر الرضا بالقضاء، وما هي إلا لحظات ثم تنقضي.

وليتفكر المعافى من المرض في الساعات التي كان يقلق فيها، أين هي في زمن العافية؟ ذهب البلاء، وحصل الثواب، كما تذهب اللذات المحرمة ويبقى الوزر، ويمضي زمان التسخط بالأقدار ويبقى العتاب. وهل الموت إلا آلام تزيد فتعجز النفس عن حملها فتذهب، فليتصور المريض وجود الراحة بعد رحيل النفس، وقد هان ما يلقى كما يتصور العافية بعد شرب الشربة المرة، ولا ينبغي أن يقع جزع

(1) تسلية أهل المصائب 19.

ص: 60

بذكر البلى، فإن ذلك شأن المركب، أما الراكب ففي الجنة أو في النار. وإنما ينبغي أن يقع الاهتمام الكلي بما يزيد في درجات الفضائل قبل نزول المعوق عنها. فالسعيد من وفق لاغتنام العافية، ثم يختار تحصيل الأفضال فالأفضل في زمن الاغتنام. وليعلم أن زيادة المنازل في الجنة على قدر التزيد من الفضائل ههنا. والعمر قصير والفضائل كثيرة فليبالغ في البدار فيا طول راحة التعب، ويا فرحة المغموم، ويا سرور المحزون، ومتى تخايل دوام اللذة في الجنة من غير منغص ولا قاطع، هان عليه كل بلاء وشدة (1).

رضيت بالله في عسري وفي يسري

فلست أسلك إلا أوضح الطرق (2)

قال كعب: من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها (3).

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما قضى الله فيّ بقضاء فسرني أن يكون قضى لي بغيره، ما أصبح لي هوى إلا في مواقع القدر (4).

وجاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً في حاله ومعاشه واغتماماً بذلك فقال: أيسرك ببصرك مائة ألف؟ قال: لا،

(1) صيد الخاطر 368.

(2)

بغداد 7/ 76.

(3)

شرح الصدور 220.

(4)

الإحياء 3/ 336.

ص: 61

قال: فبسمعك؟ قال: لا، قال فبلسانك؟ قال: لا، ثم قال يونس: أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة (1).

ولننظر في حال من سبقنا ماذا يرجون في حال المرض؟ قال الحسن .. كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة لما سلف من الذنوب.

وقال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون للمريض أن يجهد عند الموت (2).

وكانوا يقولون: آخر شدة يلقاها المؤمن عند الموت (3).

ولنرى سعد بن أبي وقاص وهو المعروف بإجابة الدعوة قيل له: لو دعوت الله لبصرك -وكان قد أضّر- فقال: الله أحبّ إليّ من بصري (4).

والحمد لله حمداً كثيراً كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه فإن الأمر كما قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم (5).

ومن نعم تسلية أهل المصائب: أن ينظر العبد بعين بصيرته، فليعلم أن مرارة الدنيا هى بعينها حلاوة في الآخرة، يقبلها الله تعالى، وحلاوة الدنيا هي بعينها مرارة في الآخرة، ولأن ينتقل من

(1) السير 6/ 292.

(2)

تسلية أهل المصائب 37.

(3)

تسلية أهل المصائب 97.

(4)

جامع العلوم والحكم 448.

(5)

كتاب الشكر 11.

ص: 62