المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ آداب الصبر

في البيت بعد المصيبة (1).

وقال خالد بن أبي عثمان: مات ابن لي فرآني سعيد بن جبير مقنعاً، فقال لي: إياك والتقنع فإنه من الاستكانة (2).

وليس الجزع -أخي الحبيب- أن تدمع العينان ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيء والظن السيء (3).

ومن‌

‌ آداب الصبر

استعماله في أول الصدمة وحين وقوع الفاجعة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"(4).

ومن الآداب سكون الجوارح واللسان، فأما البكاء فجائز.

قال بعض الحكماء: الجزع لا يرد الفائت ولكن يسر الشامت.

ومن حسن الصبر أن لا يظهر أثر المصيبة على المصاب (5).

وأما البكاء والحزن من غير صوتٍ ولا كلامٍ محرمٍ، فهو لا ينافي الصبر والرضا.

قال تعالى حكايةً عن يعقوب عليه السلام: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} (6).

(1) عدة الصابرين 326.

(2)

تسلية أهل المصائب 224.

(3)

عدة الصابرين 326.

(4)

متفق عليه

(5)

مختصر منهاج القاصدين 299.

(6)

يوسف: 84.

ص: 19

قال قتادة: كظيم على الحزن، قلم يقل إلا خيراً، مع قوله تعالى:{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (1). وقوله تعالى عنه في أول السورة: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} .

وقد جاء في أثرٍ مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "من بث لم يصبر" لكن يعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من البكاء ولم يناف حُزنه وبكاؤه وصبره، فإنه عليه السلام ما شكا بثه وحزنه إلى مخلوق، وإنما شكاه إلى الله (2).

وحُكي عن شريح أنه قال: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات وأشكره، إذ لم تكن أعظم مما هي، وإذ رزقني الصبر عليها، وإذ وفقني الاسترجاع لما أرجوه فيه من الثواب، وإذ لم يجعلها في ديني (3).

ومما ينافي الصبر شق الثياب عند المصيبة، ولطم الوجه، والضرب بإحدى اليدين على الأخرى، وحلق الشعر، والدعاء بالويل (4).

وقد روى مسلم في صحيحه من حديث أم سلمة -رضى الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمر الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في

(1) يوسف: 86.

(2)

تسلية أهل المصائب 223.

(3)

تسلية أهل المصائب 290.

(4)

عدة الصابرين 325.

ص: 20

مصيبتي وأخلف لي خيراً منها، إلا أخلف الله له خيراً منها". [الحديث].

وقد جعل الله كلمات الاسترجاع وهى قول المصاب "إنا لله وإنا إليه راجعون" ملجأً وملاذاً لذوي المصائب، وعصمة للممتحنين من الشيطان لئلا يتسلط على المصاب فيوسوس له بالأفكار الرديئة، فيهيج ما سكن، ويظهر ما كمن (1).

وليعلم المصاب أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها، وهو في الحقيقة يزيد في مصيبته، بل يعلم المصاب أن الجزع يشمت عدوه، ويسوء صديقه، ويغضب ربه، ويسر شيطانه، ويحبط أجره، ويضعف نفسه، وإذا صبر واحتسب أخزى شيطانه، وأرضى ربه، وسر صديقه، وساء عدوه، وحمل عن إخوانه وعزاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات في الأمر الديني قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر" فهذا هو الكمال الأعظم، لا لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بالويل والثبور، والتسخط على المقدور.

قال بعض الحكماء: العاقل يفعل في أول يومٍ من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام، ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم (2).

قال عبدالله بن المبارك رحمه الله: أتى رجل يزيد بن يزيد

(1) تسلية أهل المصائب 16.

(2)

تسلية أهل المصائب 39.

ص: 21

وهو يصلي وابنه في الموت، فقال: ابنك يقضي وأنت تصلي؟ ! فقال: إن الرجل إذا كان له عمل يعمله فتركه يوماً واحداً كان ذلك خللاً في عمله (1).

قال ابن عبد العزيز لأم مات ابنها: اتقي الله واحتسبيه عند الله واصبري، فقالت: مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع (2).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الصبر على المصائب واجب باتفاق أئمة الدين، وإنما اختلفوا في وجوب الرضا (3).

ومما يقدح في الصبر والرضا وينافيهما: إظهار المصيبة، والتحدث بها وإشاعتها، سواء كان كلامًا بها بين الأصحاب أو غيرهم، اللهم إلا أن يقول لأصحابه أو لأقاربه: مات فلان، يعني والده أو ولده، ونحو ذلك، وما يريد به إظهار المصيبة، وإنما يريد إعلامهم لأجل الصلاة عليه وتشييعه ونحو ذلك مما هو من فروض الكفايات، ويحصل لهم بذلك القراريط من الأجر (4).

قال شقيق البلخي: من شكا مصيبة به إلى غير الله، لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوةً أبداً (5).

وما يصيب الإنسان محن وابتلاء من الله -جل وعلا- فالفتنة

(1) تسلية أهل المصائب 224.

(2)

تسلية أهل المصائب 224.

(3)

الفتاوى 11/ 260.

(4)

تسلية أهل المصائب 226.

(5)

منهاج القاصدين 301.

ص: 22

كير القلوب، ومحك الإيمان وبها يتبين الصادق من الكاذب، قال تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} . فالفتنة قسمت الناس إلى صادق وكاذب، ومؤمن ومنافق، وطيب وخبيث فمن صبر عليها، كانت رحمةً في حقه، ونجا بصبره من فتنةٍ أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنةٍ أشد منها (1).

قال ثابت: أصيب عبدالله بن مطرق بمصيبة فرأيته أحسن شيء شارة وأطيبه (2).

وكان علي بن أبي طالب يقول: من إجلال الله ومعرفة حقه أن لا تشكو وجعك ولا تذكر مصيبتك (3).

وعندما سأل رجلٌ الإمام أحمد: كيف تجدك يا أبا عبدالله؟ قال: بخير في عافية، فقال له: حممت البارحة؟ قال: إذا قلت لك: أنا في عافية فحسبك، لا تخرجني إلى ما أكره (4).

وما يكرهه رحمه الله التحدث عن المرض وعدم كتمانه وذلك لما يرجوه من كتمان المرض. فكيف يشتكي العبد ربه إلى مخلوق مثله، وأما إذا كان الإخبار على سبيل الاستعانة بإرشاده أو معاونته والتوصل إلى زوال ضرره، لم يقدح ذلك في الصبر.

(1) إغاثة اللهفان 2/ 162.

(2)

تسلية أهل المصائب 224.

(3)

مختصر منهاج القاصدين 299.

(4)

مختصر منهاج القاصدين 299.

ص: 23

* بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه برسالة إلى أبي موسى الأشعري فيها: عليك بالصبر واعلم أن الصبر صبران، أحدهما أفضل من الآخر، الصبر في المصيبات حسن وأفضل منه الصبر عما حرم الله تعالى (1).

وإذا تأملت -أخي- حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجل الغايات وأكمل النهايات، التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله، كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة، ومنّة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان (2).

قال وهب بن منبه: رءوس النعم ثلاثة: فأولها نعمة الإسلام التي لا تتم نعمة إلا بها، والثانية نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها والثالثة نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا به (3).

ولو رأيت في نفسك وفي من حولك لحمدت الله الذي أسبغ عليك نعمه ظاهرةً وباطنةً ولا نخرج في حالنا عن ما قاله عبد الملك

(1) الإحياء 4/ 65.

(2)

مفتاح دار السعادة 299.

(3)

عدة الصابرين 181.

ص: 24

بن إسحاق: ما من الناس إلا مُبتلى بعافية لينظر كيف شكره؟ أو بلية لينظر كيف صبره؟ (1).

والبلاء والمصائب في عمر الإنسان أيامٌ معدودة .. لحظاتٌ ثم تنجلي.

كان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء قال: سحابة صيف ثم تنقشع (2).

فالحمد لله على نعمه وعلى ما قضى .. ذكر ابن أبي الدنيا: أن داود قال: يا رب، أخبرني ما أدنى نعمك عليّ، فأوحى الله إليه: يا داود، تنفس، فتنفس، قال: هذا أدنى نعمي عليك (3).

وتمام النعمة وكمال العطاء ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن تمام النعمة فوز من النار ودخول في الجنة".

وقال ابن أبي الحواري: قلت لأبي معاوية: ما أعظم النعمة علينا في التوحيد؟ نسأل الله أن لا يسلبنا إياه، قال: يحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه، والله أكرم من أن ينعم بنعمة إلا أتمها، ويستعمل بعمل إلا قبله (4).

وذُكر عن هلال بن بساق قال: كنا قعوداً عند عمار بن ياسر، فذكروا الأوجاع، فقال أعرابي: ما اشتكيت قط، فقال

(1) عدة الصابرين 172.

(2)

عدة الصابرين 125.

(3)

عدة الصابرين 176.

(4)

عدة الصابرين 175.

ص: 25

عمار: ما أنت منا أو لست منا، إن المسلم يُبتلى ببلاء، فتحط عنه ذنوبه كما يحط الورق من الشجر، وإن الكافر أو قال الفاجر يُبتلى ببلية، فمثله مثل البعير إن أطلق لم يدر لم أطلق؟ وإن عُقل لم يدر لم عُقل؟ (1).

والحمد لله على هذا الفضل العظيم والإحسان الجزيل قالت عائشة -رضى الله عنها-: "إن الحمى تحط الخطايا كما تحط الشجرة ورقها".

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله ليكفر عن المؤمن خطاياه كلها بحمى ليلة".

قال ابن أبي الدنيا: كانوا يرجون في حمى ليلة كفارة ما مضى من الذنوب (2).

أخي الحبيب: أرأيت ما نكرهه ونتأذى من وجوده .. يرحمنا الله به ويحط به ذنوباً سلفت لا إله إلا هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.

قال معروف الكرخي: إن الله ليبتلي عبده المؤمن بالأسقام والأوجاع، فيشكو إلى أصحابه، فيقول الله تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي ما ابتليتك بهذه الأوجاع والأسقام إلا لأغسلك من الذنوب فلا تشتكني (3).

(1) عدة الصابرين 114.

(2)

عدة الصابرين 116.

(3)

عدة الصابرين 122.

ص: 26

وحين مرض كعب، عاده رهط من أهل دمشق، فقالوا: كيف تجدك يا أبا إسحاق؟ قال: بخير، جسدٌ أخذ بذنبه إن شاء ربه عذبه وإن شاء رحمه، وإن بعثه بعثه خلقاً جديداً، لا ذنب له (1).

وقال وهب بن منبه: لا يكون الرجل فقيهاً كامل الفقه حتى يعد البلاء نعمة ويعد الرخاء مصيبة، وذلك أن صاحب البلاء ينتظر الرخاء، وصاحب الرخاء ينتظر البلاء (2).

وفسر الفضيل قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} بقوله: صبروا على ما أمروا به ، وصبروا عما نهوا عنه (3).

أما بكر بن عبدالله فقد سأله أخ له أن يوصيه فقال: ما أدري ما أقول غير أنه ينبغي لهذا العبد أن لا يفتر من الحمد والاستغفار (4).

فإن ابن آدم بين نعمة وذنب: ولا تصلح النعمة إلا بالحمد والشكر، ولا يصلح الذنب إلا بالتوبة والاستغفار وقد يظن القارئ أن المصيبة هى موت قريبٍ أو فقد حبيب، وربما كانت مرضاً عارضاً أو حادثاً مروعاً .. ولكن نعمة الله وسعت كل شيءٍ .. حتى الشوكة يشاكها المؤمن له فيها سهم من الخير.

(1) عدة الصابرين 118.

(2)

عدة الصابرين 122.

(3)

عدة الصابرين 97.

(4)

عدة الصابرين 177.

ص: 27

في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما يصيب المؤمن من وصبٍ ولا نصبٍ ولا هم ولا حزنٍ ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".

فتلمس أخي موضع قدمك ومكان ألمك ومتى ما أصبت بأقل شيء فقل: "إنا لله وإنا إليه راجعون" .. واحمد الله الذي رزقنا هذا الفضل وهذا الإحسان.

كان شميط بن عجلان يقول: إن العافية سترت البر والفاجر، فإذا جاءت البلايا استبان عندها الرجلان، فجاءت البلايا إلى المؤمن، فأذهبت ماله وخادمه ودابته، حتى جاع بعد الشبع، ومشى بعد الركوب، وخدم نفسه بعد أن كان مخدوماً، فصبر ورضي بقضاء الله عز وجل وقال: هذا نظر من الله عز وجل، هذا أهون لحسابي غداً.

وجاءت البلايا إلى الفاجر فأذهبت ماله وخادمه ودابته، فجزع وهلع وقال: والله ما لي بذا طاقة، والله لقد عودت نفسي عادة، ما لي عنها صبر في الحلو والحامض والحار والبارد ولين العيش. فإن هو أصابه من الحلال وإلا طلبه في الحرام والظلم ليعود إلى ذلك العيش (1).

وعاد رجل من المهاجرين مريضاً، فقال إن للمريض أربعا: يرفع عنه القلم، ويكتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته،

(1) صفة الصفوة 3/ 346.

ص: 28

ويتبع المرض كل خطيئة من مفصل من مفاصله فيستخرجها، فإن عاش عاش مغفوراً له، وإن مات مات مغفوراً له، فقال المريض: اللهم لا أزال مضطجعاً (1).

وكانت امرأة من العابدات بالبصرة تصاب بالمصائب فلا تجزع، فذكروا لها ذلك، فقالت: ما أصابُ بمصيبة فأذكر معها النار إلا صارت في عيني أصغر من الذباب (2).

وقال أحمد بن حاتم: بلغني أن عروة بن الزبير قطعت رجله من الأكلة فقال: إن مما يطيب نفسي عنكِ، أني لم أنقلك إلى معصية لله قط (3).

وحينما دخل رجلٌ على داود الطائي في فراشه فرآه يرجف فقال: "إنا لله وإنا إليه راجعون" فقال: مه، لا تعلم بهذا أحداً، وقد أقعد قبل ذلك أربعة أشهر لا يعلم بذلك أحد (4).

أخي المسلم:

الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه ولو عرف الناس لما شكا إليهم (5).

(1) عدة الصابرين 123.

(2)

تسلية أهل المصائب 40.

(3)

الورع لابن أبي الدنيا 96.

(4)

عدة الصابرين 327.

(5)

الفوائد 114.

ص: 29

قال بعض السلف: رأيت جمهور الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت، وهل ينتظر الصحيح إلا السقم؟ والكبير إلا الهرم؟ والموجود سوى العدم؟

على ذا مضى الناس اجتماعٌ وفرقةٌ

وميتٌ ومولودٌ وبشرٌ وأحزانُ

ثم قال: ولعمري إن أصل الانزعاج لا ينكر، إذ الطبع مجبول على الأمن من حلول المنايا، وإنما الإفراط فيه والتكليف، كمن يخرق ثيابه ويلطم وجهه ويعترض على القدر، فإن هذا لا يرد فائتاً، لكنه يدل على خور الجازع ويوجب العاقبة (1).

وكتب ابن أبي نجيح يعزي بعض الخلفاء: إن أحق من عرف حق الله تعالى فيما أخذ منه من عظم حق الله تعالى عنده فيما أبقاه له، واعلم أن الماضي قبلك هو الباقي لك، والباقي بعدك هو المأجور فيك، واعلم أن أجر الصابرين فيما يصابون به أعظم من النعمة عليهم فيما يعافون منه (2).

وقال حسان بن أبي جبلة في قوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} قال: لا شكوى فيه (3).

(1) تسلية أهل المصائب 33.

(2)

الإحياء 4/ 77.

(3)

عدة الصابرين 127.

ص: 30

والصبر مكانته عظيمة ومنزلته رفيعة كما قال علي بن أبي طالب: ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم، ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا

صبر له (1).

وقال عمر بن الخطاب: وجدنا خير عيشنا بالصبر (2).

وذكر سلمان الفارسي أن رجلاً بسط له من الدنيا، فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله عز وجل ويثني عليه حتى لم يكن له فراش إلا بوري، فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط للآخر في الدنيا فقال لصاحب البوري: أرأيتك أنت على ما تحمد الله عز وجل؟ قال: أحمد الله على ما لو أعطيت به ما أعطى الخلق لم أعطهم إياه، قال: وما ذاك؟ قال أرأيت بصرك؟ أرأيت لسانك؟ أرأيت يدك؟ أرأيت رجلك؟ (3).

ومر وهب بمبتلى أعمى مجذوم، مقعد عريان، به وضح، وهو يقول: الحمد لله على نعمه، فقال رجل كان مع وهب: أي شيء بقى عليك من النعمة تحمد الله عليها؟ فقال له المبتلى: ارم ببصرك إلى أهل المدينة، فانظر إلى كثرة أهلها، أفلا أحمد الله أنه ليس فيها أحد يعرفه غيري (4).

(1) عدة الصابرين 124.

(2)

عدة الصابرين 124.

(3)

جامع العلوم والحكم 294.

(4)

عدة الصابرين 181.

ص: 31

أي أن الله -جل وعلا- خصه بالبلاء ليمحصه ويطهره.

قال أبو الدرداء: من يتفقد يفقد، ومن لا يعد الصبر لفواجع الأمور يعجز (1).

واعلم أخي أن الذي أنزل الداء أنزل الدواء ووعد الشفاء، فالصبر وإن كان شاقاً أو ممتنعاً فتحصيله ممكن.

وليعلم أهل المصائب أنه لولا محن الدنيا ومصائبها، لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وحفظاً لصحة عبوديته، واستفراغاً للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة، فسبحان من يرحم ببلائه، ويبتلي بنعمائه كما قيل:

قد يُنعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

فلولا أنه سبحانه وتعالى يداوي عباده بأدوية المحن والابتلاء لطغوا وبغوا وعتوا وتجبروا في الأرض، وعاثوا فيها بالفساد، فإن من شيم النفوس إذا حصل لها أمرٌ ونهي، وصحة وفراغ، وكلمة نافذة من غير زاجر شرعي يزجرها، تمردت وسعت في الأرض فساداً مع علمهم بما فُعل بمن قبلهم، فكيف لو حصل لهم مع ذلك إهمال؟ ! ولكن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيراً سقاه

(1) حلية الأولياء 1/ 181.

ص: 32

دواءً من الابتلاء والامتحان على قدر حاله، يستفرغ منه الأدواء المهلكة، حتى إذا هذبه ونقاه، وصفّاه، أهله لأشرف مراتب الدنيا وهى عبوديته، ورقّاه أرفع ثواب الآخرة وهى رؤيته (1).

وهذا أبو الدرداء يُعلمنا بثلاثة أمور تُضعف الإنسان وتجعله قريباً إلى خالقه فقال: ثلاثة أحبهن ويكرههن الناس: الفقر والمرض والموت، أحب الفقر تواضعاً لربي، والموت اشتياقاً لربي، والمرض تكفيراً لخطيئتي (2).

وقال بعض السلف: ثلاثة يُمتحن بها عقول الرجال: كثرة المال، والمصيبة، والولاية (3).

وقال يزيد بن ميسرة: إن العبد ليمرض المرض، وما له عند الله من عمل خير، فَيُذَكِّره الله سبحانه بعض ما سلف من خطاياه، فيخرج من عينه مثل رأس الذباب من الدمع من خشية الله، فيبعثه الله إن بعثه مطهراً، أو يقبضه إن قبضه مطهراً (4).

ولا يصيب العبد من المصائب إلا بذنوبه قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} .

هذا محمد بن سيرين يقول لما ركبه الدين واغتم لذلك: إني

(1) تسلية أهل المصائب 34.

(2)

السير 20/ 149.

(3)

تسلية أهل المصائب 17.

(4)

عدة الصابرين 150.

ص: 33

لأعرف هذا الغم بذنب أحدثته منذ أربعين سنة (1).

وهو سبحانه بمنه وكرمه يعفو عن كثير وإلا لو كانت مصائبنا على قدر ذنوبنا لعظمت وكثرت.

أخي المسلم:

ينبغي للعبد أن لا ينكر في هذه الدنيا وقوع هذه المصائب على اختلاف أنواعها، وما استخبر العقل والنقل أخبراه بأن الدنيا مارستان المصائب، وليس فيه لذةٌ على الحقيقة إلا وهى مشوبة بالكدر، فكلُ ما يظن في الدنيا أنه شراب فهو سراب وعمارتها وإن حسنت صورتها خراب، وجمعها فهو للذهاب، ومن خاض الماء الغمر لم يخل من بلل، ومن دخل بين الصفين لم يخل من وجل، فالعجب كل العجب ممن يده في سلة الأفاعي كيف ينكر اللسع، وأعجب منه من يطلب من المطبوع على الضِّر النفع.

أخي:

طُبعت على كدرٍ وأنت تريدها

صفواً من الأقذاء والأكدار

قال أبو الفرج الجوزي: ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تعتور فيها الأمراض والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار، فآدم يعاني المحن إلى أن خرج من الدنيا، ونوح بكى ثلاثمائة عام، وإبراهيم يكابد النار وذبح الولد، ويعقوب بكى حتى

(1) حلية الأولياء 2/ 271.

ص: 34

ذهب بصره، وموسى يقاسي فرعون ويلقى من قومه المحن، وعيسى ابن مريم لا مأوى له إلا البراري في العيش الضنك، ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين يصابر الفقر، وقُتل عمه حمزة وهو من أحب أقربائه إليه، ونفور قومه عنه، وغير هؤلاء من الأنبياء والأولياء مما يطول ذكره، ولو خلقت الدنيا للذة لم يكن حظ للمؤمن منها (1).

قال شقيق البلخي: ذهب بصر عبد العزيز بن أبي رواد عشرين سنة فلم يعلم به أهله ولا ولده فتأمله ابنه ذات يوم فقال له: يا أبت ذهبت عيناك؟ قال: نعم يا بني، الرضا عن الله أذهب عين أبيك منذ عشرين سنة (2).

وقال علي بن الحسن: كان رجل بالمصيصة ذاهبٌ نصفه الأسفل لم يبق منه إلا روحه في بعض جسده، ضريرٌ على سرير مثقوب، فدخل عليه داخل فقال له: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: ملك الدنيا منقطع إلى الله عز وجل ما لي إليه من حاجةٍ إلا أن يتوفاني على الإسلام (3).

أخي الحبيب أين نحن من هؤلاء؟ !

إن من جواهر البر كتمان المصيبة حتى يُظن أنك لم تصب قط. فالمؤمن الموفق -نسأل الله تعالى حسن التوفيق- من يتلقى

(1) تسلية أهل المصائب 31.

(2)

حلية الأولياء 8/ 191.

(3)

صفة الصفوة 4/ 287.

ص: 35

المصيبة بالقبول، ويعلم أنها من عند الله لا من عند أحدٍ من خلقه، ويجتهد في كتمانها ما أمكن (1).

فمن كمال الصبر كتمان المرض وسائر المصائب، ومن كنوز البر كتمان المصائب والأوجاع والصدقة (2).

نقل عن الحسن بن عرفة قال: دخلت على أحمد بن حنبل بعد المحنة، فقلت له: يا أبا عبدالله قمت مقام الأنبياء، فقال لي: اسكت، فإني رأيت الناس يبيعون أديانهم، ورأيت العلماء ممن كان معي يقولون ويميلون فقلت: من أنا وما أنا؟

وما أقول لربي غداً إذا وقفت بين يديه جل جلاله؟ فقال لي: بعت دينك كما باعه غيرك ففكرت في أمري ونظرت إلى السيف والسوط فاخترتهما، وقلت: إن أنا مت صرت إلى ربي عز وجل فأقول: دعيت إلى أن أقول في صفة من صفاتك مخلوقة، فلم أقل فالأمر إليه، إن شاء عذب وإن شاء رحم فقلت: وهل وجدت لأسواطهم ألماً؟

قال لي: نعم، وتجلدت إلى أن تجاوزت العشرين، ثم لم أدر بعد ذلك، فلما حل العاقبان كأني لم أجد له ألماً، وصليت الظهر قائماً، قال الحسن: فبكيت فقال لي: ما يبكيك؟ قلت: بكيت مما نزل بك، قال: أليس لم أكفر؟ ما أبالي لو تلفت (3).

(1) تسلية أهل المصائب 24.

(2)

الإحياء 4/ 78.

(3)

طبقات الحنابلة 1/ 140.

ص: 36

وقال عنه رحمه الله شابك التائب: لقد ضُرب أحمد بن حنبل ثمانين سوطاً لو ضُربت على فيلٍ لهدته (1).

وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل صبر فظفر وهو في حالٍ كما قال عون بن عبدالله: الخير الذي لا شر معه: الشكر مع العافية والصبر مع المصيبة (2).

ولقد فُقد الأول وضَعُفَ الثاني .. فالكثير الآن ينسى شكر النعم قولاً وفعلاً والكثير ينزعج لنزول البلاء انزعاج من لا يرى أنها من الله -جل وعلا- ويجب الرضا عن قضائه وقدره والصبر على ابتلائه وتمحيصه.

هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت (3).

وقدم سعيد الجريري من الحج فجعل يقول: أنعم الله علينا في سفرنا بكذا وكذا، ثم قال: تعداد النعم من الشكر (4)

وعن عمارة بن سعيد بن وهب قال: دخلت مع سلمان رضي الله عنه على صديق له من كندة يعوده فقال له سلمان: إن الله تعالى يبتلي عبده المؤمن بالبلاء ثم يعاقبه فيكون كفارة لما مضى، فيستعتب فيما بقى، وإن الله عز اسمه يبتلي عبده الفاجر بالبلاء ثم

(1) السير 11/ 295.

(2)

تسلية أهل المصائب 24.

(3)

أدب الدنيا والدين 276.

(4)

عدة الصابرين 181.

ص: 37

يعاقبه، فيكون كالبعير عقلوه ثم أطلقوه فلا يدري فيم عقلوه؟ حين عقلوه، ولا فيم أطلقوه حين أطلقوه؟ (1).

وحين ضربت أم إبراهيم العابدة دابة فكسرت رجلها، فأتاها قوم يعزونها فقالت: لولا مصائب الدنيا وردنا مفاليس (2).

أخي:

لئن ساءني دهر سرني دهر

وإن مسني عسر فقد مسني يسر

لكل من الأيام عندي عادةٌ

فإن ساءني صبرٌ وإن سرني شكر (3)

قال ابن المبارك: من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع (4).

وتأمل في قول أبي سعيد الحزار: العافية سترت البّر والفاجر، فإذا جاءت البلوى يتبين عندها الرجال (5).

وانظر إلى -رحمة الله- بالعباد وعظيم إحسانه .. قال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبد نعمة، فانتزعها منه، فعاضه مكانها الصبر، إلَّا كان ما عوضه خيراً مما انتزعه (6).

(1) حلية الأولياء 1/ 206.

(2)

صفة الصفوة 4/ 38.

(3)

ديوان الإمام علي 87.

(4)

جامع العلوم والحكم 195.

(5)

صفة الصفوة 2/ 438.

(6)

عدة الصابرين 24.

ص: 38

ويجب على المؤمن أن يكون شاكراً في نعمائه صابراً في ضرائه منيباً إلى ربه في جميع أحواله وفي حديث ابن عباس -رضى الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة".

فمن تعرف إلى الله في النعمة والرخاء عرفه الله وحفظه حين الضراء والبأساء ولكن ..

نحن ندعو الإله في كل كرب

ثم ننساه عند كشف الكروب (1)

قال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعّاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوتٌ معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعّاء في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله تعالى قالت الملائكة: صوتٌ ليس بمعروف فلا يشفعون له.

وقال رجل لأبي الدرداء: أوصني، فقال: اذكر الله في السراء يذكرك الله عز وجل في الضراء (2).

فمن خاف الله وحفظه في صحته، حفظه في مرضه، ومن راقب الله في خطرٍ حرسه الله في حركاته وسكناته (3).

وقال بعض السلف: يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة،

(1) جامع العلوم والحكم 130.

(2)

جامع العلوم والحكم 189.

(3)

تسلية أهل المصائب 38.

ص: 39

أكثرت فيها قرع باب سيدك (1).

قال أبو الدرداء: ادع الله في يوم سرائك لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك، وأعظم الشدائد التي تنزل بالعبد في الدنيا الموت وما بعده أشدّ منه إن لم يكن مصير الصبر إلى خير (2).

فالسعادة كلها في طاعة الله والأرباح كلها في معاملته، والمحن والبلايا كلها في معصيته ومخالفته فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته، إن ربنا لغفور شكور، أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة.

يُطاع فيشكر، وطاعته من توفيقه وفضله. ويُعصى فيحلم، ومعصية العبد من ظلمه وجهله، ويتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له، الحسنة عنده بعشر أمثالها، أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران، وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات والأرض إلى آخر الزمان، إن ربنا لغفور شكور، بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار، وسماء عطاء لا تقلع عن الغيث، بل هي مدرار، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار، لا يلقى وصاياه إلا الصابرون، ولا يفوز بعطاياه إلا الشاكرون، ولا يهلك عليه إلا الهالكون، ولا يشقى بعذابه إلا المتمردون.

(1) تسلية أهل المصائب 236.

(2)

جامع العلوم والحكم 231.

ص: 40

أهل شكره أهل زيادته، وأهل ذكره أهل مجالسته، وأهل طاعته أهل كرامته، وأهل معصيته لا يقنطهم من رحمته (1).

أخي الكريم وطِّن نفسك على الشكر حين الشكر وعلى الصبر حين المصيبة فإن الدنيا لا تخلو من أمرين حلوٌ ومُر وسعادة وشقاء .. وصفاءٌ وكَدرَ.

لا بد للمرء من ضيق ومن سعة

ومن سرور يوافيه ومن حزن

والله يطلب منه شكر نعمته

ما دام فيها ويبغي الصبر في المحن

فما على شدة يبقى الزمان يكن

ولا على نعمة تبقى على الزمن (2)

قال سفيان الثوري: ما كان الله ليُنعم على عبدٍ في الدنيا فيفضحه في الآخرة، ويحق على المنعم أن يتم النعمة على من أنعم عليه (3).

وفي الحديث عن أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراًَ له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له". [رواه مسلم].

(1) عدة الصابرين باختصار 339.

(2)

البداية والنهاية 13/ 83.

(3)

عدة الصابرين 175.

ص: 41

وما ننعم به من نعم الأمن وسعة العيش وتيسر المواصلات وكثيرٌ لا يحصيه إلا الله إنما هى بلية إذا لم تكن مما يقرب إلى الله وإذا لم تكن وسيلة إلى الطاعة والعبادة.

قال سلمة بن دينار: كل نعمة لا تقرب من الله عز وجل فهى بلية (1).

ويجب أن نستفيد من هذه النعم في الدعوة إلى الله وإلى نشر العلم الشرعي بين الناس وإلى كل عمل يحبه الله ويقربنا إليه زلفى.

قال يونس بن محمد المكي: زرع رجل من أهل الطائف زرعاً، فلما بلغ أصابته آفة فاحترق فدخلنا عليه لنسليه فيه، فبكى وقال: والله ما عليه أبكي ولكن سمعت الله تعالى يقول: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} (2).

فأخاف أن أكون من أهل هذه الصفة، فذلك الذي أبكاني (3).

احمد الله على كل حال

إنما الدنيا كفيء الظلال

إنما الدنيا مناخٌ لراكب

يسرع الحث بشد الرحال

(1) صفة الصفوة 2/ 157.

(2)

آل عمران: 117.

(3)

تسلية أهل المصائب 58.

ص: 42

ربَّ مغترٍ بها قد رأينا

نفسه فوق رقاب الرجال (1)

قال ثابت البناني: انطلقنا مع الحسن إلى صفوان بن محرز نعوده، فخرج إلينا ابنه، وقال: هو مبطون لا تستطيعون أن تدخلوا عليه، فقال الحسن: إن أباك إن يؤخذ اليوم من لحمه ودمه فيوجد فيه، خير من أن يأكله التراب (2).

وليعلم المصاب أن ما يعقبه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرة أضعاف ما يحصل له ببقاء ما أصيب به لو بقى عليه، ويكفيه من ذلك بيت الحمد الذي يُبنى له في الجنة على حمده لربه واسترجاعه على مصيبته، فلينظر أي المصيبتين أعظم، مصيبته العاجلة بفوات محبوبه، أو مصيبته بفوات بيت الحمد في جنة الخلد؟

وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يود ناسٌ لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل الدنيا".

وليعلم المصاب الجازع، وإن بلغ به الجزع غايته ونهايته فآخر أمره إلى صبر الاضطرار وهو غير محمود ولا مثابٌ عليه. فإنه استسلم للصبر وانقاد إليه على رغم أنفه (3).

وقد نظر علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى عدي بن

(1) أبو العتاهية 361.

(2)

عدة الصابرين 120.

(3)

تسلية أهل المصائب 36.

ص: 43

حاتم كئيباً فقال: يا عدي مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: وما يمنعني وقد قتل أبنائي وفقئت عيني؟ فقال: يا عدي، من رضي بقضاء الله كان له أجر ومن لم يرض بقضاء الله حبط عمله (1).

وقدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد وكان من أحسن الناس وجها، فدخل يوماً على الوليد في ثياب وش، وله غديرتان، وهو يضرب بيديه، فقال الوليد: هكذا تكون فتيان قريش، فعانه فخرج من عنده متوسناً. فوقع في إصطبل الدواب، فلم تزل الدواب تطأه بأرجلها حتى مات. ثم إن الأكلة وقعت في رجل عروة، فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك، فعزم على قطعها فنشروها بالمنشار فلما صار المنشار إلى القصبة وضع رأسه على الوسادة ساعة، فغشي عليه، ثم أفاق والعرق يتحدر على وجهه وهو يهلل ويكبر، فأخذها وجعل يقبلها في يده، ثم قال: أما والذي حملني عليك إنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام، ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضي الله. ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت في قطيفة، ثم بعث بها إلى مقابر المسلمين، فلما قدم من عند الوليد إلى المدينة تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه، فجعل يقول: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، ولم يزد عليه ثم قال: لا أدخل المدينة إنما أنا بها بين شامت بنكبة أو حاسد لنعمة، فمضى إلى قصر بالعقيق فأقام

(1) تسلية أهل المصائب 205.

ص: 44

هنالك. فلما دخل قصره قال له عيسى بن طلحة: لا أباً لشانئك، أرني هذه المصيبة التي نعزيك فيها، فلما كشف عن ركبته فقال له عيسى: أما والله ما كنا نعدك للصراع، قد أبقى الله أكثرك، عقلك ولسانك وبصرك ويديك وإحدى رجليك فقال له: يا عيسى؛ ما عزاني أحدٌ بمثل ما عزيتني به.

ولما أرادوا قطع رجله قالوا له: لو سقيناك شيئاً كيلا تشعر بالوجع فقال: إنما ابتلاني ليرى صبري أفأعارض أمره (1).

وقال مسلمة بن محارب: وقعت في رجل عروة بن الزبير الأكلة وقطعت، ولم يدع تلك الليلة وردة وقطعت ولم يمسكه أحد (2).

رحمنا الله أين نحن من هؤلاء؟

قال عبيد الله بن أبي نوح: قال لي رجل على بعض السواحل: كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟ قلت: ما أحصي ذلك كثرة، قال: فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك؟ قلت: لا والله. ولكنه أحسن إليّّ وأعانني قال: فهل سألته شيئاً فلم يعطكه؟ قلت: وهل منعني شيئاً سألته؟ ما سألته شيئاً قط إلا أعطاني، ولا استعنت به إلا أعانني، قال: أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنت

(1) عدة الصابرين 125 وانظر البداية والنهاية 9/ 114.

(2)

صفة الصفوة 2/ 86.

ص: 45

أقدر له مكافأة ولا جزاء، قال: فربك أحق وأحرى أن تدأب نفسك له في أداء شكره وهو المحسن قديماً وحديثاً إليك والله لشكره أيسر من مكافأة عباده، إنه تبارك وتعالى رضي من العباد بالحمد شكراً (1).

وعندما سئل سفيان بن عيينة عن الزهد في الدنيا فقال: إذا أنعم عليه فشكر، وإذا ابتلي ببلية فصبر، فذلك الزهد (2).

وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} يبكي ويرددها ويقول: إنك إن بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا (3).

فاللهم ارحمنا برحمتك والطف بنا في قضائك وارحم ضعفنا واجبر كسرنا.

أخي .. عندما نسمع ما حل بالقوم ورضاهم عن الله -جل وعلا- وصبرهم على المصائب واحتسابهم الأجر .. نرى البون الشاسع بين حالنا وحالهم .. لنستمع إلى هذه الواقعة .. ونقيسها على ما بنا من مصائب ومحن .. إنها نقطة في بحر ورذاذٌ من مطر.

قال حكيم من الحكماء: مررت بعريش مصر وأنا أريد الرباط فإذا برجل في مظلة قد ذهبت عيناه ورجلاه، وبه أنواع البلاء وهو

(1) عدة الصابرين 174.

(2)

السير 8/ 468.

(3)

الإحياء 4/ 384.

ص: 46