الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزع واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الثياب ونحوهما (1).
و
حقيقة الصبر
خُلقٌ فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يُحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها وحين سُئل الجنيد عن الصبر قال: تجرع المرارة من غير تعبس.
وقال ذو النون: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عن تجرع غُصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وقيل: الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب (2).
-أخي الكريم- لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه ألبته، ولهذا ذكر الله -تعالى- في غير موضع أنه لا بد أن يُبتلى الناس، والابتلاء يكون بالسراء والضراء، ولا بد أن يبتلى الإنسان بما يسره وما يسوؤه، فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكوراً .. قال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} . وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3).
(1) عدة الصابرين 27.
(2)
عدة الصابرين. 29.
(3)
الفوائد. 271.
ولو تبصر الإنسان في من حوله لوجدهم بين أمرين وفي أحد حالين: إما سراء أو ضراء ولكن النفوس البشرية تغفل عن فتنة السراء ولا ترى إلا فتنة الضراء وهى الظاهرة في شكاوى البشر .. فما من إنسان إلا له ألمٌ أو فجيعةٌ أو هم أو غم أو نكد، ولا يكاد يمر يوم في هذه الدنيا دون تنكيد وتنغيص قال تعالى {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (1).
قيل في تفسير هذه الآية: يكابد أمراً من أمر الدنيا وأمراً من أمر الآخرة وفي رواية يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة (2).
عن عبد الملك بن أبحر قال: ما من الناس إلا مبتلى بعافية، لينظر كيف شُكره أو مبتلى ببلية لينظر صبره (3).
أما نعمة الضراء .. فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، فإن فتنة السراء أعظم من فتة الضراء (4).
والفقر يصلح عليه خلق كثير، والغنى لا يصلح عليه إلا أقل منهم، ولهذا كان أكثر من يدخل الجنة المساكين، لأن فتنة الفقر أهون، وكلاهما يحتاج إلى الصبر والشكر، لكن لما كان في السراء اللذة وفي الضراء الألم اشتهر ذكر الشكر في السراء والصبر في
(1) سورة البلد: 4.
(2)
تفسير ابن كثير 4/ 513.
(3)
حلية الأولياء. 5/ 85.
(4)
الفتاوى 14/ 305.
الضراء (1).
وقد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت
…
ويبتلي الله بعض القوم بالنعم (2)
أخي الكريم: إذا فجعتك المصائب ونزلت بك الهموم وادلهمت بك الطرق وأظلمت عليك الدروب من حوادث الدنيا المقدرة .. فإن عليك بمنزلة الرضا لما قدر الله وقضى فإنها المنزلة الأولى ..
فارض بقضاء الله وقدره {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} .
والدرجة الثانية: الصبر على البلاء وهذه لمن لم يستطع الرضا بالقضاء، فالرضا فضل مندوب إليه مستحب، والصبر واجبٌ على المؤمن حتم.
والفرق بين الرضا والصبر، أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك، وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع، والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بالألم، لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية (3).
(1) الفتاوى 14/ 305.
(2)
موارد الظمآن 2/ 75.
(3)
جامع العلوم والحكم باختصار 194.
وينقسم الصبر إلى: واجب، ومندوب، ومحظور، ومكروه، ومباح.
فالصبر الواجب ثلاثة أنواع: أحدها: الصبر عن المحرمات. والثاني: الصبر على أداء الواجبات، والثالث: الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها، كالأمراض والفقر وغيرها.
أما الصبر المندوب: فهو الصبر عن المكروهات والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله (1).
والصبر المحمود: أنواع: منه صبر على طاعة الله عز وجل ومنه صبر عن معاصي الله عز وجل ومنه صبر على أقدار الله عز وجل (2).
قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (3) قال: صبروا على ما أمروا به، وصبروا عما نهوا عنه (4).
ويذكر عن علي رضي الله عنه أنه قال: الصبر ثلاثة: فصبرٌ على المصيبة، وصبرٌ على الطاعة، وصبر عن المعصية، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة، ومن صبر على الطاعة حتى يؤديها كما أمر الله كتب الله له ستمائة
(1) عدة الصابرين 50.
(2)
جامع العلوم والحكم 266.
(3)
الرعد: 24.
(4)
تسلية أهل المصائب 193.
درجة.
ومن صبر عن المعصية خوفاً من الله ورجاء ما عنده كتب الله له تسعمائة درجة (1).
وقال ميمون بن مهران: الصبر صبران: فالصبر على المصيبة حسن، وأفضل منه الصبر عن المعصية (2).
واحتمال الأذى فهو الصبر ولكنه أشق، وهو بضاعة الصديقين، وشعار الصالحين وحقيقته أن يؤذى المسلم في ذات الله -تعالى- فيصبر ويتحمل، فلا يرد السيئة بغير الحسنة، ولا ينتقم لذاته (3).
والله -جل وعلا- يجازيه على صبره: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (4).
أخي المسلم:
إن الشخص البالغ العاقل ما دام في دار التكليف والأقلام جارية عليه، لا يستغني عن الصبر في حالة من الأحوال، فإنه بين أمرٍ يجب عليه امتثاله، والصبر لا بد منه قولاً وفعلاً، وبين نهي يجب عليه اجتنابه وتركه، والصبر لا بد له منه، وبين قضاء وقدر يجب عليه الصبر فيهما، وبين نعمة عليه شكر المنعم عليها والصبر عليه، وإذا
(1) عدة الصابرين 97.
(2)
تسلية أهل المصائب 193.
(3)
الصبر وأثره 19.
(4)
الزمر: 10.