الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
في ذكر بعض وَرَعه
كان رضي الله عنه في الغاية التي يُنتهى إليها في الوَرَع؛ لأنّ الله تعالى أجراه مدة عمره كلّها عليه، فإنه ما خالط الناس في بيع ولا شراء ولا معاملة ولا تجارة ولا مشاركة ولا زراعة ولا عمارة، ولا كان ناظرًا مباشرًا لمال وقف، ولم يكن يقبل جراية ولا صلة لنفسه من سلطان ولا أمير ولا تاجر، ولا كان مُدَّخرًا دينارًا ولا درهمًا ولا متاعًا ولا طعامًا، وإنما كانت بضاعته مدّة حياته، وميراثه بعد وفاته ــ رضي الله عنه ــ العلم، اقتداءً بسيّد المرسلين وخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، فإنه قال:«إنّ العلماء ورثة الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورّثوا العلم فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍّ وافر»
(1)
.
وكان ينبّه العاقل بحسن الملاطفة ورقيق المخاطبة ليختار لنفسه طريقتهم، ويسلك سبيلهم، وإن كان دونها من الطرائق من اتخاذ المباحات جائز، لكن العاقل يدلّه عقله على طلب الأعلى. فانظر بعين الإنصاف إلى ما وفّق الله له هذا الإمام وأجرى، ممّا أقعد عنه غيره وخذله عن طلبه، لكن لكل شيء سبب، وعلامة عدم التوفيق سلب الأسباب، ومن أعظم الأسباب: تركُ فضول الدنيا [و] التخلّي
(2)
عن غير الضروري منها. فلما
(1)
أخرجه أبوداود (3643)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. صححه ابن الملقن في «البدر المنير»:(7/ 587).
(2)
العبارة في (ط): «لترك
…
التخلي» ولعلّها ما أثبت.
وفّق الله هذا الإمام لرفض غير الضروري منها انصبّت عليه العواطف الإلهية، فحصل بها كلَّ فضيلة جليلة، بخلاف غيره من علماء الدنيا، مختاريها وطالبيها والساعين لتحصيلها، فإنهم لمّا اختاروا ملاذّها وزينتها ورياستها= انسدّت عليهم غالبًا طُرُق الرشاد، فوقعوا في شَرَكها يخبطون خبط عشواء، ويحطبونها كحاطب ليل، لا يُبالون ما يأكلون ولا ما يلبسون ولا ما يتأولون
(1)
إلا ما يُحصّل لهم أغراضَهم الدنيئة، ومقاصدهم الخبيثة الخسيسة، فهم متعاضدون على طلبها، متحاسدون بسببها، أجسامهم ميتة، وقلوبهم من غيرها فارغة، وظواهرهم مزخرفة معمورة، وقلوبهم خربة مأبورة.
ولم يكفهم ما هم عليه حتى أصبحوا قالين رافضها، معادين باغضها، ولمّا رأوا هذا الإمام عالم الآخرة، تاركًا ما هم عليه من تحصيل الحطام من المشتبه الحرام، رافضًا الفضل المباح فضلًا عن الحرام، تحقّقوا أنّ أحواله تفضح أحوالهم، وتوضح خفيّ انفعالهم، وأخذتهم الغيرة النفسانية على صفاتهم الشيطانية، المباينة لصفاته الروحانية، فحرصوا على الفتك به أين ما وَجدوا، وأُنْسوا أنهم ثعالب وهو أسد. فحماه الله تعالى منهم بحراسته، وصنع له غير مرّة كما صنع لخاصّته، وحفظه مُدّة حياته وحماه، ونشر له عند وفاته علمًا في الأقطار بما والاه.
(1)
كذا في (ط، ك)، ولعلها:«يتناولون» .