الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
في غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسَعَة نقله في فتاويه ودروسه البديهية ومنصوصاته
أمّا غزارة علومه فمنها: ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه الغاية التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يُعوَّل عليها. ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آياتٌ من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس بزمنه، وهو في تفسير بعض آيةٍ منها.
وكان مجلسه في وقت مقدَّر بقدر ربع النهار. يفعل ذلك بديهةً من غير أن يكون له قارئٌ مُعيَّن يقرأ له شيئًا معيّنًا يُبَيّته
(1)
ليستعدّ لتفسيره، بل كان من حضر يقرأ ما تيسّر، ويأخذ هو في القول على تفسيره. وكان غالبًا لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضيّ الزمن المعتاد لأورد أشياء أُخر في معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظرًا في مصالح الحاضرين.
ولقد أملى في تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مجلّدًا كبيرًا. وقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} نحو خمس وثلاثين كرّاسة.
ولقد بلغني أنّه شرع في جمع تفسير لو أتمّه لبلغ خمسين مجلدًا.
(1)
(ط): «ببيته يستعد» والمثبت من (ك).
أمّا معرفته وبصره بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقواله وأفعاله وقضاياه ووقائعه وغزواته، وسراياه وبعوثه، وما خصّه الله تعالى من كراماته ومعجزاته، ومعرفته بصحيح المنقول عنه وسقيمه، والمنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في أقوالهم وأفعالهم وقضاياهم وفتاويهم وأحوالهم، وأحوال مجاهداتهم في دين الله، وما خُصوا به من بين الأمة= فإنه كان ــ رضي الله عنه ــ من أضبط الناس لذلك، وأعرفهم فيه، وأسرعهم استحضارًا لما يريده منه.
فإنه قلّ أن ذَكَر حديثًا في مصنّفٍ وفتوى، أو استشهد به، أو استدلّ به، إلا عزاه في أيّ دواوين الإسلام هو، ومن أيّ قسم من الصحيح أو الحسن أو غيرها. وذَكَر اسم راويه من الصحابة. وقلّ أن يُسأل عن أثرٍ إلا وبيّن في الحال حاله، وحال أمره
(1)
وذكره.
ومن أعجب الأشياء في ذلك: أنه في محنته الأولى بمصر
(2)
لمّا أُخِذَ وسُجن، وحيل بينه وبين كتبه، صنف عدّة كتب صغارًا وكبارًا، وذكر فيها ما احتاج إلى ذكره من الأحاديث والآثار وأقوال العلماء وأسماء المحدِّثين والمؤلفين ومؤلفاتهم، وعزا كلَّ شيء من ذلك إلى ناقليه وقائليه بأسمائهم، وذكر أسماء الكتب التي ذلك فيها، وفي أي موضع هو منها. كلُّ ذلك بديهة من حفظه؛ لأنّه لم يكن عنده حينئذٍ كتاب يُطالعه. ونُقِّبَت
(3)
(1)
كذا، ولعلها:«راويه» أو نحوه.
(2)
سنة (705).
(3)
في (ل): «نقيت» وفي (ط المنجد): «نُفِيت» .
واعْتُبِرَت فلم يوجد فيها بحمد الله خلل ولا تغيّر. ومن جملتها كتاب «الصارم المسلول على شاتم الرسول»
(1)
، وهذا من الفضل الذي خصَّه الله تعالى به.
ومنها ما منحه الله تعالى من معرفة اختلاف العلماء ونصوصهم، وكثرة أقوالهم واجتهادهم في المسائل، وما رُوي عن كلٍّ منهم من راجح ومرجوح، ومقبول ومردود، في كل زمان ومكان وعصر، من الصحيح الثاقب الصائب للحقّ مما قالوه ونقلوه، وعَزْوه ذلك إلى الأماكن التي بها أودعوه، حتى كان إذا سئل عن شيء من ذلك كأنّ جميع المنقول عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والعلماء فيه من الأولين والآخرين متصوَّر مسطور بإزائه. يقول ما شاء الله، ويذكر
(2)
ما يشاء. وهذا قد اتفق عليه كلّ من رآه، أو وقف على شيء من علمه، ممن لم يُغلِظ عقلَه الجهلُ والهوى.
وأمّا مؤلفاته ومصنفاته فإنها أكثر من أن أقدر على إحصائها، أو يحضرني جملة أسمائها، بل هذا لا يقدر عليه غالبًا أحد؛ لأنّها كثيرة جدًّا، كبارًا وصغارًا. وهي منشورة في البلدان. فقلَّ بلدٌ نزلتُه إلا ورأيت فيه من تصانيفه.
(1)
الراجح أن تأليف كتاب الصارم .. كان في الشام قبل سفر الشيخ إلى مصر بمدة طويلة، عقب حادثة عسَّاف النصراني، سنة (693). انظر «الجامع لسيرة شيخ الإسلام» (ص 406 - 407). وقد ألف الشيخ في مصر عددًا من الكتب من أهمها «منهاج السنة النبوية» ، و «جواب الاعتراضات المصرية» ، و «الرد على البكري» ، وفتاوى جمعت فكانت نحو ست مجلدات كبار. وغير ذلك.
(2)
لعلها: «ويترك» .
- فمنها ما يُبلغ اثنى عشر مجلدًا، كتخليص
(1)
التلبيس على أساس التقديس وغيره.
- ومنها ما يبلغ سبع مجلدات، كالجمع بين العقل والنقل.
- ومنها ما يبلغ خمس مجلّدات، ومنها منهاجُ الاستقامة والاعتدال ونحوه.
- ومنها ما يبلغ ثلاث مجلّدات، كالرَّد على النصارى وشِبْهه.
- ومنها مجلدان، كنكاح المحلّل، وإبطال الحيل
(2)
، وشرح العقيدة الأصبهانية.
- ومنها مجلّد ودون ذلك. وهذان القِسْمان من مؤلفاته فهي كثيرة جدًّا لا يمكنني استقصاؤها، لكن أذكر بعضها استئناسًا:
- كتاب تفسير سورة الإخلاص، مجلد.
- كتاب الكلام على قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
- كتاب الصارم المسلول على شاتم الرسول، مجلد.
- كتاب الفرق المبين بين الطلاق واليمين.
- كتاب الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان.
- كتاب اقتضاء الصراط المستقيم.
- كتاب الكلم الطّيب.
(1)
(ط، ك): «كتلخيص
…
» وسيأتي (ص 755) كما أثبتّ، ولعله الصواب.
(2)
«نكاح المحلل، وإبطال الحيل» كتاب واحد، وهو المسمى «بيان الدليل على بطلان التحليل» مطبوع في مجلد واحد. وسيعيده المؤلف على أنه مجلد واحد.
- كتاب إثبات الكمال
(1)
.
- كتاب الردّ على تأسيس التقديس
(2)
.
- كتاب نقض أقوال المبتدعين.
- كتاب الردّ على النصارى
(3)
.
- كتاب إبطال الحيل ونكاح المحلّل
(4)
.
- كتاب شرح العقيدة الأصبهانية.
- كتاب الفتاوى.
- كتاب الدرّ الملتقط.
- كتاب أحكام الطلاق.
- كتاب الرسالة
(5)
.
- كتاب اعتقاد الفرقة الناجية.
- كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام.
- كتاب تقرير مسائل التوحيد.
- كتاب الاستغاثة والتوسّل.
(1)
كذا في (ط)، ولعل صوابه:«إثبات الكرامات» . انظر «العقود الدرية» (ص 62).
(2)
هو الذي سبق عنده باسم «تلخيص التلبيس على أساس التقديس» . في اثني عشر مجلدًا، إلا إن وقع تصحيف في الاسم.
(3)
سبق للمؤلف أنه ثلاثة مجلدات.
(4)
سبق للمؤلف أنه والذي يليه مجلدان.
(5)
كذا! ولم يبيِّن أي رسالة أراد.
- كتاب المسائل
(1)
الحموية.
- كتاب المسائل الجزرية.
- كتاب المسائل المفردة.
ولا يليقُ هذا المختصر بأكثر من هذا القَدْر من مؤلفاته، وإلاّ فيمكن تعداد ما ينيفُ على المائتَين، لكن لم نَرَ الإطالة بذكره.
وأما فتاويه ونصوصه وأجوبته على المسائل، فهي أكثر من أن أقدر على إحصائها، لكن دُوِّن بمصر منها على أبواب الفقه سبعة عشر مجلّدًا. وهذا ظاهر مشهور. وجمع أصحابه أكثر من أربعين ألف مسألة. وقلَّ أن وَقَعَتْ واقعةٌ وسُئل عنها، إلّا وأجابَ فيها بديهةً بما بَهَرَ واشتهر. وصار ذلك الجواب كالمصنّف الذي يحتاج فيه غيره إلى زمن طويل ومطالعة كُتُب، وقد لا يقدر مع ذلك على إبراز مثله.
أخبرني الشيخ الصالح تاج الدين محمد المعروف بابن الدوري، أنّه حضر مجلس الشيخ رضي الله عنه، وقد سأله يهوديٌّ عن مسألة في القَدَر قد نظمها شعرًا في ثمانية أبيات، فلما وقف عليها فكّر لحظة يسيرة وأنشأ يكتب جوابها، وجعل يكتب ونحن نظنّ أنه يكتب نثرًا. فلما فرغ تأمّله من حضر من أصحابه، وإذا هو نظم في بحر أبيات السؤال وقافيتها، تقرب من مائة وأربعة وثمانين بيتًا
(2)
. وقد أبرز فيها من العلوم ما لو شُرح بشرح لجاء
(1)
كذا بالجمع، والمعروف: المسألة. وكذلك الذي يليه.
(2)
انظرها في «مجموع الفتاوى» : (8/ 245 - 255). وعددها فيهما مائة وخمسة وعشرون بيتًا. وهي ملحقة ببعض نسخ «العقود الدرية» وعددها هناك مئة وخمسة أبيات. وذكر الحافظ في «الدرر» أنها مائة وتسعة عشر بيتًا. انظر «شرح التائية» (ص 114) لمحمد الحمد.
شرحه مجلّدين كبيرين. هذا من جملة بواهره. وكم من جواب فتوى لم يُسبق إلى مثله.
وأمّا ذكر دروسه؛ فقد كنت في حال إقامتي بدمشق لا أفوّتها. وكان لا يهيئ شيئًا من العلم ليُلقيه ويورده، بل يجلس بعد أن يصلي ركعتين فيحمد الله ويثني عليه، ويصلّي على رسوله صلى الله عليه وسلم ، على صفة مستحسنة مستعذبة لم أسمعها من غيره. ثم يشرع فيفتح الله عليه إيراد علوم وغوامض، ولطائف ودقائق، وفنون ونقول، واستدلالات بآياتٍ وأحاديث، وأقوال العلماء، ونصر
(1)
بعضها وتبيين صحته، أو تزييف بعضها وإيضاح
(2)
حجّته، واستشهادٍ بأشعار العرب، وربّما ذكر ناظمها. وهو مع ذلك يجري كما يجري السيل، ويفيض كما يفيض البحر، ويصير منذ يتكلم إلى أن يفرغ، كالغائب عن الحاضرين، مغمضًا عينيه، وذلك كله مع عدم فكره فيه ورَوِيَّته
(3)
، من غير تعجرف ولا توقف ولا لحن، بل فيضٌ إلهيّ، حتى يبهر كل سامع وناظر، فلا يزالُ كذلك إلى أن يصمت. وكنتُ أراه حينئذٍ كأنّه قد صار بحضرة من يشغله عن غيره، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يُرعد القلوب ويحيّر الأبصار والعقول.
(1)
في نسخة: «ونقد» .
(2)
كذا، ولعلها:«وإدحاض» أو نحوها.
(3)
(ط): «وروايته» خطأ، والمثبت من (ل) و (ك):«فكر فيه ورويّة» .
وكان لا يذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطُّ إلّا ويصلي ويُسلِّم. ولا والله ما رأيت أحدًا أشدّ تعظيمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أحرص على اتباعه ونصر ما جاء به منه. حتى إذا كان أورد شيئًا من حديثه في مسألة، ويرى أنه لم ينسخه شيء غيره من حديثه يعمل به ويقضي ويفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنًا من كان. وقال رضي الله عنه: كلُّ قائل إنّما يحتج لقوله لا به، إلا الله ورسوله.
وكان إذا فرغ من درسه يفتح عينيه، ويقبل على الناس بوجه طلْقٍ بشيشٍ، وخلق دمث كأنه لقيهم حينئذ. وربّما اعتذر إلى بعضهم من التقصير في المقال مع ذلك الحال. ولقد كان درسُه الذي يورده حينئذ قدر عدة كراريس.
وهذا الذي ذكرته من أحوال درسه أمرٌ مشهور يوافقني عليه كلّ حاضريه، وهم بحمد الله خلق كثير، لم يحصر عددهم: علماء ورؤساء وفضلاء من القرّاء والمحدّثين والفقهاء والأدباء وغيرهم من عوام المسلمين.