المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل التاسعفي ذكر بعض كرامته وفراسته - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية - ط عطاءات العلم

[أبو حفص البزار]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة التحقيق

- ‌ ترجمة المؤلف

- ‌ نبذة عن الكتاب:

- ‌1 - إثبات نسبته للمؤلف:

- ‌2 - نسخ الكتاب الخطية:

- ‌3 - طبعات الكتاب:

- ‌4 - منهج التحقيق:

- ‌الفصل الأولفي ذكر منشئه وعمره ومدّة عمره رضي الله عنه وأرضاه

- ‌الفصل الثانيفي غزارة علومه ومؤلفاته ومصنفاته، وسَعَة نقله في فتاويه ودروسه البديهية ومنصوصاته

- ‌الفصل الثالثفي ذكر معرفته بأنواع أجناس المذكور والمقول والمنقول، والمتصوَّر والمفهوم والمعقول

- ‌الفصل الرابعفي ذكر تعبّده

- ‌الفصل الخامسفي ذكر بعض وَرَعه

- ‌الفصل السادسفي ذكر بعض زُهده وتجرده وتقاعده عن الدنيا وتبعّده

- ‌الفصل السابعفي إيثاره مع فقره، وتواضعه

- ‌الفصل الثامنفي هيئته ولباسه

- ‌الفصل التاسعفي ذكر بعض كرامته وفراسته

- ‌الفصل العاشرفي ذكر كرمه رضي الله عنه

- ‌الفصل الحادي عشرفي ذكر قوة قلبه وشجاعته

- ‌الفصل الثاني عشرمن ذكر قوّته في مرضاة الله وصبره على الشدائد،واحتماله إياها وثبوته على الحق

- ‌الفصل الثالث عشرفي أنّ الله جعله حُجّة في عصره ومعيارًا للحق والباطل

- ‌الفصل الرابع عشرفي ذكر وفاته وكثرة من صلى عليه وشَيَّعه

الفصل: ‌الفصل التاسعفي ذكر بعض كرامته وفراسته

‌الفصل التاسع

في ذكر بعض كرامته وفراسته

أخبرني غير واحد من الثقات ببعض ما شاهده من كراماته، وأنا أذكر بعضها على سبيل الاختصار، وأبدأ من ذلك ببعض ما شاهدته.

فمنها: أنه جرى بيني وبين بعض الفضلاء منازعة في عدة مسائل، وطال كلامنا فيها، وجعلنا نقطع الكلام في كل مسألة بأن نرجع إلى الشيخ وما يُرجحه من القول فيها.

ثم إن الشيخ رضي الله عنه حضر، فلما هممنا بسؤاله عن ذلك سَبَقنا هو وشرع يذكر لنا مسألة مسألة كما كنا فيه، وجعل يذكر غالب ما أوردناه في كل مسألة، ويذكر أقوال العلماء، ثم يرجح منها ما يُرجحه الدليل، حتى أتى على آخر ما أردنا أن نسأل عنه، وبيَّن لنا ما قصدنا أن نستعمله منه، فبقيتُ أنا وصاحبي ومَن حَضَرَنا مبهوتين متعجبين ممّا كاشَفَنا به، وأظهره الله عليه ممّا كان في خواطرنا.

وكنت في خلال الأيام التي صحِبْته فيها إذا بحث مسألةً يحضر لي إيرادٌ، فما يستتمُّ خاطري به، حتى يشرع فيورده ويذكر الجواب من عدّة وجوه.

وحدّثني الشيخ الصالح المقرئ أحمد بن الحريمي أنّه سافر إلى دمشق، قال: فاتفق أنّي لمّا قدمتها لم يكن معي شيء من النفقة البتة، وأنا لا أعرف أحدًا من أهلها، فجعلت أمشي في زقاق منها كالحائر، فإذا بشيخ قد

ص: 773

أقبل نحوي مسرعًا فسلَّم، وهشَّ في وجهي، ووضع في يدي صُرَّة فيها دراهم صالحة، وقال لي: أنفق هذه الآن فيما أنت فيه، فإن الله لا يضيعك، ثم رُدَّ على أثره كأنه ما جاء إلا من أجلي، فدعوت له وفرحت بذلك، وقلت لبعض من رأيته من الناس: من هذا الشيخ؟ فقال: وكأنك لا تعرفه، هذا ابن تيمية، لي مدة طويلة لم أره اجتاز بهذا الدرب. وكان جُلُّ قصدي من سفري إلى دمشق لقاءه، فتحقَّقتُ أنّ الله أظهره عليّ وعلى حالي، فما احتجت بعدها إلى أحد مدّة إقامتي بدمشق، بل فتح الله عليّ من حيث لا أحتسب، واستدللت فيما بعد عليه، وقصدت زيارته والسلام عليه، فكان يكرمني ويسألني عن حالي، فأحمد الله تعالى إليه.

وحدّثني الشيخ العالم المقرئ تقي الدين عبد الله ابن الشيخ الصالح المقرئ أحمد بن سعيد قال: سافرت إلى مصر حين كان الشيخ مقيمًا بها، فاتّفق أنّي قدمتها ليلًا وأنا مُثقل مريض، فأُنزلت في بعض الأمكنة، فلم ألبث أن سمعت من ينادي باسمي وكنيتي، فأجبته وأنا ضعيف، فدخل إليّ جماعة من أصحاب الشيخ ممّن كنت قد اجتمعت ببعضهم في دمشق، فقلت: كيف عرفتم بقدومي، وأنا قدمتُ هذه الساعة؟ فذكروا أنّ الشيخ أخبرنا أنّك قدمت وأنت مريض، وأمرنا أن نسرع بنقلك، وما رأينا أحدًا جاء، ولا أخبرنا بشيء، فعلمت أنّ ذلك من كرامات الشيخ رضي الله عنه.

وحدثني أيضًا قال: مرضت بدمشق ــ إذ كنت بها ــ مرضةً شديدة منعتني حتى من الجلوس، فلم أشعر إلا والشيخ عند رأسي وأنا مثقل بالحُمّى والمرض، فدعا لي وقال: جاءت العافية، فما هو إلا أن فارقني وجاءت العافية وشُفيت من وقتي.

ص: 774

وحدّثني أيضًا: قد كنتُ أستكتب شعرًا لبعض من انحرف عن الشيخ قد تنقصَّه فيه. وكان سبب قوله ذلك الشعر أنه نُسب إلى قائله شعر وكلام يدلُّ على الرفض، فأُخذ الرجل وأُثبت ذلك عليه في وجهه عند حاكم من حُكام الشرع المطهر، فأمر به فشُهِّر حاله بين الناس، فتوهم أن الذي كان سبب ذلك الشيخ، فحمله ذلك على أن قال فيه ذلك الشعر، وبقي عندي، وكنت ربما أورد بعضَه في بعض الأحيان، فوقعت في عدّة أشياء من المكروه والخوف متواترة، ولولا لطف الله تعالى بي فيها لأتت على نفسي، فنظرت من أين دُهيتُ، فلم أر لذلك سببًا إلا إيرادي لبعض ذلك الشعر، فعاهدت الله أن لا أنوّه بشيء منه، فزال عني أكثر ما كنت فيه من المكاره، وبقي بعضه، وكان ذلك الشعر عندي فأخذته وحرقته وغسلته، حتى لم يبق له أثر، واستغفرت الله تعالى من ذلك، فأذهب الله عني جميع ما كنت فيه من المكروه والخوف، وأبدلني الله به عكسه، ولم أزل بعد ذلك في خير وعافية، ورأيت ذلك حالًا من أحوال الشيخ ومن كرامته على الله.

وحدثني أيضًا قال: أخبرني الشيخ ابن عماد الدين المقرئ المطرّز قال: قدمت على الشيخ ومعي حينئذ نفقة، فسلّمت عليه، فردّ عليّ ورحّب بي، وأدناني ولم يسألني هل معك نفقة أم لا. فلما كان بعد أيّام وقد نفِدَت نفقتي أردت أن أخرج من مجلسه بعد أن صليت مع الناس وراءه، فمنعني وأجلسني دونهم، فلما خلا المجلس دفع إليَّ جملة دراهم، وقال: أنت الآن بغير نفقة، فارتفق بهذه، فعجبت من ذلك، وعلمت أنّ الله كشَفَه على حالي أوّلًا لما كان معي نفقة، وآخرًا لما نفِدَت واحتجت إلى نفقة.

وحدّثني من لا أتهمه أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ حين نزل المُغل

ص: 775

بالشام لأخذ دمشق وغيرها، رجَفَ أهلُها وخافوا خوفًا شديدًا، وجاء إليه جماعةٌ منهم وسألوه الدعاء للمسلمين، فتوجه إلى الله، ثم قال: أبشروا، فإن الله يأتيكم بالنصر في اليوم الفلاني بعد ثالثة، حتى ترون الرؤوس معبّأة بعضها فوق بعض. قال الذي حدثني: فوالذي نفسي بيده ــ أو كما حلف ــ ما مضى إلّا ثلاثٌ ــ مثل قوله ــ حتى رأينا رؤوسهم كما قال الشيخ، على ظاهر دمشق، معبأة بعضها فوق بعض

(1)

.

وحدّثني الشيخ الصالح الورع عثمان بن أحمد بن عيسى النسّاج أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ كان يعود المرضى بالبيمارستان بدمشق، في كل يوم، فجاء على عادته فعادهم، فوصل إلى شاب منهم فدعا له، فشُفي سريعًا، وجاء إلى الشيخ يقصد السلام عليه، فلما رآه هشَّ له وأدناه، ثم دفع إليه نفقةً وقال: قد شفاك الله، فعاهد الله أن تعجل الرجوع إلى بلدك، أيجوز أن تترك زوجتك وبناتٍ لك أربعًا بلا نفقة وتقيم هاهنا، فقال الفتى: فقبّلت يده وقلت: يا سيدي أنا تائب إلى الله على يدك، وعجبت مما كاشفني به، وكنت قد تركتهم بلا نفقة، ولم يكن قد عرف بحالي أحدٌ من أهل دمشق.

وحدثني مَن أثق به: أنّ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ أُخبر عن بعض القضاة أنه قد مضى متوجّهًا إلى مصر المحروسة ليُقلَّد القضاء، وأنه سمعه يقول: حالما أصل إلى البلد قاضيًا أحكم بقتل فلان، رجل معيّن من فضلاء أهل العلم والدين، قد أجمع الناس على علمه وزهده وورعه، ولكن حصل في

(1)

وذلك في معركة شقحب سنة (702 هـ).

ص: 776

قلب القاضي منه من الشحناء والعداوة ما صوَّب له الحكم بقتله، فعظُم ذلك على من سمعه خوفًا من وقوع ما عَزَم عليه من القتل بمثل هذا الرجل الصالح، وحذرًا على القاضي أن يوقعه الهوى والشيطان في ذلك، فيلقى الله متلبِّسًا بدم حرام، وفتْكٍ بمسلم معصوم الدم بيقين، وكرهوا وقوع مثل ذلك لما فيه من عظيم المفاسد.

فأبلغ الشيخ ــ رضي الله عنه ــ هذا الخبر بصفته، فقال: إن الله لا يُمكِّنه ممّا قصد، ولا يصل إلى مصر حيًّا، فبقي بين القاضي وبين مصر قدرٌ يسير، وأدركه الموت، فمات قبل وصولها، كما أجرى الله تعالى على لسان الشيخ رضي الله عنه.

قلت: وكرامات الشيخ رضي الله عنه كثيرةٌ جدًّا، لا يليق بهذا المختصر أكثر مِن ذكر هذا القدر منها. ومن أظهر كراماته أنه ما سُمِع بأحدٍ عاداه أو غضّ منه إلا وابتُلي بعدّة بلايا غالبها في دينه، وهذا ظاهر مشهور لا يُحتاج فيه إلى شرح صفته.

ص: 777