الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث عشر
في أنّ الله جعله حُجّة في عصره ومعيارًا للحق والباطل
وهذا أمرٌ قد اشتهر وظهر، فإنه ــ رضي الله عنه ــ ليس له مُصنَّف ولا نصٌّ في مسألة ولا إفتاء إلّا وقد اختار فيه ما رجّحه الدليل النقلي والعقلي على غيره، وتحرّى قول الحق المحض فبرهن عليه بالبراهين القاطعة الواضحة الظاهرة، بحيث إذا سمع ذلك ذو الفطرة السليمة يثلج قلبه بها، ويجزم بأنها الحق المبين. وتراه في جميع مؤلفاته إذا صحّ الحديث عنده يأخذ به ويعمل بمقتضاه، ويقدّمه على قول كل قائل من عالم ومجتهد، وإذا نظر المنصف إليه بعين العدل يراه واقفًا مع الكتاب والسنة لا يُميله عنهما قولُ أحد كائنًا من كان، ولا يرائي في الأخذ بعلومهما أحدًا، ولا يخاف في ذلك أميرًا ولا سلطانًا ولا سوطًا ولا سيفًا، ولا يرجع عنهما لقول أحد، وهو متمسّك بالعروة الوثقى، واليد الطولى، وعاملٌ بقوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] وبقوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10].
وما سمعت أنه اشتهر عن أحد منذ دهر طويل ما اشتهر عنه من كثرة متابعته للكتاب والسنة، والإمعان في تتبّع معانيهما، والعمل بمقتضاهما. ولهذا لا يُرى في مسألة أقوال العلماء إلا وقد أفتى بأبلغها موافقةً للكتاب والسنة، وتحرّى الأخذ بأقومها من جهة المنقول والمعقول.
ولمّا منّ الله عليه بذلك جعله حجّة في عصره لأهله، حتى إنّ أهل البلد البعيدة عنه كانوا يرسلون إليه بالاستفتاء عن وقائعهم، ويعوِّلون عليه في كشف ما التبس عليهم حكمه، فيشفي غلّتهم بأجوبته المسدّدة، ويبرهن على الحق من أقوال العلماء المتعددة، حتى إذا وقف عليها كلُّ محقّ ذو بصيرة وقوى، ممن قد وُفّق لترك الهوى، أذعن بقبولها، وبان له حقّ مدلولها، وإن سمع عن أحد من أهل وقته مخالفته في حقه المشهور، يكون ممن قد ظهر عليه عند الخاصة والعامة فعل الشرور، والاشتغال بترّهات الغرور.
ومن أراد تحقيق ما ذكرته فليُمعن النظر ببصيرته، فإنه حينئذ لا يرى عالمًا من أهل أيّ بلد شاء موافقًا لهذا الإمام، معترفًا بما منحه الله تعالى من صنوف الإلهام، مثنيًا عليه في كل محفل ومقام، إلّا وراءه من اتّبع من علماء بلده الكتاب والسنة، واشتغل بطلب الآخرة ورغب فيها، وبالغ في الإعراض عنها وأهملها. ولا يرى عالمًا مخالفًا له، منحرفًا عنه، ملتبسًا بالشحناء له، إلا وهو من أكبرهم نَهَمًا في جمع الدنيا، وأوسعهم حيلًا في تحصيلها، وأكثرهم رياءً، وأطلبهم سمعةً، وأشهرهم عند ذي الُّلب أحوالًا رديّة، وأشدّهم على ذوي الحكم والظلم دهاءً ومكرًا، وأبسطهم في الكذب لسانًا، وإن نظر إلى محبّيه ومبغضيه من العوام، رآهم كما وصفت من اختلاف القبيلين الأولين.
ولقد أمعنت فكري ونظري، فرأيته كما وصفته، لا والله ما أتحرّج في أحدٍ منهما، ومن ارتاب في ذلك فليعتبر هو بنفسه فإنه يراه كذلك، إن أزاح عنه غطاء الهوى، وما كان ذلك كذلك إلّا لما علم الله سبحانه من حسن
طوية هذا الإمام، وإخلاص قصده، وبذل وسعه في طلب مرضاة ربّه، ومتابعة نبيه صلوات الله وسلامه عليه.