الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث
في ذكر معرفته بأنواع أجناس المذكور والمقول والمنقول، والمتصوَّر والمفهوم والمعقول
أمّا معرفته بصحيح المنقول وسقيمه فإنه في ذلك من الجبال التي لا يُرتقى ذروتها، ولا يُنال سنامُها. قلَّ أن ذكر له قولٌ إلا وقد أحاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله وآثره، أو راوٍ إلا وقد عرف حاله من جرح وتعديل بإجمالٍ وتفصيل.
حكى من يوثق بنقله أنه كان يومًا بمجلس، ومحدّثٌ يقرأ عليه بعض الكتب الحديثية. وكان سريع القراءة. فعارضه الشيخ في اسم رجل من سند الحديث قد ذكره القارئ بسرعة. فذكر الشيخ أنَّ اسمه فلان، بخلاف ما قرأ، فاعتبروه فوجدوه كما قال الشيخ، فانظر إلى هذا الإدراك السريع والتنبيه
(1)
الدقيق العجيب. ولا يقدر على مثله إلا من اشتدت معرفته، وقوي ضبطه.
وأما ما وهبه الله تعالى ومنحه، من استنباط المعاني من الألفاظ النبوية والأخبار المروية، وإبراز الدلائل منها على المسائل، وتبيين مفهوم اللفظ ومنطوقه، وإيضاح المخصّص للعام، والمقيّد للمطلق، والناسخ للمنسوخ، وتبيين ضوابطها ولوازمها وملزوماتها، وما يترتب عليها، وما يحتاج فيه إليها، حتى إذا ذكر آية أو حديثًا، وبيّن معانيه وما أريد به، يعجب
(1)
لعله: «التنبّه» .
العالم الفطن من حسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقف عليه منه.
ولقد سئل يومًا عن الحديث «لعن الله المحلَّل له
…
»
(1)
فلم يزل يورد فيه وعليه حتى بلغ كلامه فيه مجلّدًا كبيرًا. وقلّ أن كان يُذكر له حديث أو حكم فيشاء أن يتكلّم عليه يومه أجمع إلا فعل. أو يقرأ بحضرته آيةٌ من كتاب الله تعالى ويشرع في تفسيرها إلا وقطع المجلس كلَّه فيها.
وأمّا ما خصّه الله تعالى به من معارضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، وما ألفه في ذلك من دحض أقوالهم وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم وانتحالهم، وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شبههم الشيطانية، ومعارضتهم النفسانيّة
(2)
للشريعة الحنيفية المحمدية، بما منحه الله تعالى من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية والتوضيحات العقلية، حتى انكشف قناع الحق، وبان فيما جمعه في ذلك وألّفه الكذب من الصدق، حتى لو أن أصحابها أحياء ووُفِّقوا
(3)
لغير الشقاء؛ لأذعنوا له بالتصديق، ودخلوا في الدين العتيق.
ولقد وجب على كلّ من وقف عليها، وفهم ما فيها أن يحمد الله تعالى على حسن توفيقه هذا الإمام لنصر الحقّ بالبراهين الواضحة العظام.
حدثني غير واحدٍ من العلماء الفضلاء النبلاء الممعنين بالخوض في
(1)
أخرجه أحمد (671)، وأبو داود (2078) وغيرهما من حديث علي رضي الله عنه. وروي عن جماعة من الصحابة.
(2)
كذا، ولعلها:«القياسية» .
(3)
(ط): «ووقفوا» .
أقاويل المتكلمين، لإصابة الثواب وتمييز القشر من اللباب: أنّ كلًّا منهم لم يزل حائرًا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم، وأنه لم يستقرّ في قلبه منها قولٌ ولم يَبِن له من مضمونها حقّ. بل رآها كلَّها موقعة في الحيرة والتضليل، وجُلّها مذعن بتكافؤ الأدلة والتعليل. وأنه كان خائفًا على نفسه من الوقوع بسببها في التشكيك والتعطيل، حتى منّ الله تعالى عليه بمطالعته مؤلفات هذا الإمام أحمد ابن تيمية شيخ الإسلام، مما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام. فما هو إلا أن وقف عليها وفهمها، فرآها موافقة للعقل السليم وعَلِمَها، حتى انجلى ما كان قد غشيه من أحوال المتكلمين من الظلام، وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشكّ وظفر بالمرام
(1)
.
ومن أراد اختبار صحة ما قلته، فليقف بعين الإنصاف، العَرِيّة عن الحسد والانحراف، إن شاء على مختصراته في هذا الشأن، كـ «شرح الأصبهانية» ونحوها، وإن شاء على مطولاته، كـ «تخليص التلبيس من تأسيس التقديس» ، و «الموافقة بين العقل والنقل» ، و «منهاج الاستقامة والاعتدال» ، فإنه والله يظفر بالحق والبيان، ويستمسك بأوضح برهان، ويزن حينئذ ذلك بأصحّ ميزان.
ولقد أكثر ــ رضي الله عنه ــ التصنيف في الأصول فضلًا عن غيره من
(1)
أظنه عنى بهذا الكلام الشيخ عبد الله بن حامد الشافعي، وقد أرسل رسالتين بهذا الخصوص لتلاميذ شيخ الإسلام يشرح فيها بالتفصيل حكايته، ويتحسر على عدم لقاء الشيخ، الرسالة الأولى إلى ابن رشيّق، وهي في «الجامع لسيرة ابن تيمية» (ص 241 - 245)، والثانية إلى ابن بُخيخ، وهي في «تكملة الجامع» (ص 51 - 64).
بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك، والتمست منه تأليف نصّ في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته، ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، فإذا قلّد المسلم فيها أحدَ العلماء المقلَّدين جاز له العمل بقوله، ما لم يتيقن خطأه. وأمّا الأصول فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء، كالمتفلسفة والباطنية والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية، والنُّصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطلة، والمجسِّمة، والمشبِّهة، والراوندية، والكُلّابية، والسالمية
(1)
، وغيرهم من أهل البدع قد تجاذبوا فيها بأزمّة الضلال، وبان لي أنّ كثيرًا منهم إنما قَصَد إبطال الشريعة المقدّسة المحمدية، الظاهرة على كلّ دين، العلية، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم، ولهذا قلّ أن سمعت أو رأيت معرضًا عن الكتاب والسنة، مقبلًا على مقولاتهم، إلا وقد تزندق أو صار على غير يقين في دينه أو اعتقاده.
فلما رأيت الأمر على ذلك، بان لي أنه يجب على كلّ من يقدر على دفع شُبَههم وأباطيلهم وقطع حُجّتهم وأضاليلهم، أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم، وزيف دلائلهم، ذبًّا عن الملّة الحنيفية، والسنة الصحيحة الجليّة.
ولا والله ما رأيتُ فيهم أحدًا ممّن صنّف في هذا الشأن، وادعى علوّ المقام، إلا وقد ساعد بمضمون كلامه في هدم قواعد دين الإسلام. وسبب ذلك إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعمّا جاءت به الرسل الكرام عن
(1)
(ط): «السلمية» ، (ك):«السليمية» ولعل الصواب ما أثبت، والسالمية هم أتباع أبي الحسن بن سالم. انظر «مجموع الفتاوى»:(5/ 483).
رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة في الاصطلاحات التي سمّوها بزعمهم حُكميات وعقليّات، وإنما هي جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضًا عن غيرها أصلًا ورأسًا، فغلبت عليه حتى غطَّت على عقله السليم، فتخبّط حتى خَبَط فيها خَبْط عشواء، ولم يفرّق بين الحقّ والباطل، وإلا فالله أعظم لطفًا بعباده من أن لا يجعل لهم عقلًا يقبل الحقّ ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال.
وقد جعل الله تعالى العقل السليم من الشوائب ميزانًا يزن به العبد الواردات، فيفرق به بين ما هو من قبيل الحقّ، وما هو من قبيل الباطل، ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟ هذا باطل قطعًا، يشهد له كل عقل سليم، لكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].
قال الشيخ الإمام قدّس الله روحه: فهذا ونحوه هو الذي أوجب أنّي صرفت جُلّ همّي إلى الأصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبت عنها بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة العقلية والنقلية.
قلت: وقد أبان بحمد الله تعالى فيما ألّف فيها لكلّ بصيرٍ الحقَّ من الباطل، وأعانه بتوفيقه حتى ردّ عليهم بِدَعهم وآراءهم، وخُدَعهم وأهواءهم، مع الدلائل النقلية بالطريقة العقلية
(1)
، حتى يجيب عن كل شبهة من شبههم بعدة أجوبة جليّة واضحة، يعقلها كلّ ذي عقل صحيح،
(1)
كذا، ولعلها:«والطرائق العقلية» .
ويشهد لصحتها كلّ عاقل رجيح.
فالحمد لله الذي منّ علينا برؤيته وصحبته، فلقد جعله الله حجةً على أهل هذا العصر، المعرض غالب أهله عن قليله وكثيره؛ لاشتغالهم بفاني الدنيا عما يحصَّل به باقي الآخرة. فلا حول ولا قوة إلا بالله، لكن الله ذو القوة المتين ضمن حفظ هذا الدين إلى يوم الدين، وأظهره على كل دين، فالحمد لله رب العالمين.