الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني عشر
من ذكر قوّته في مرضاة الله وصبره على الشدائد،
واحتماله إياها وثبوته على الحق
كان ــ رضي الله عنه ــ من أعظم أهل عصره قوّة ومقامًا وثبوتًا على الحق، ولتحقيق توحيد الحقّ، لا يصدُّه عن ذلك لوم لائم ولا قول قائل، ولا يرجع عنه لحجة محتجّ، بل كان إذا وضح له الحقّ يعضُّ عليه بالنواجذ، ولا يلتفت إلى مباين معاند، فاتفق غالب الناس على معاداته، وجُلُّ من عاداه قد تستروا باسم العلماء والزمرة الفاخرة، وهم أقبل الناس في الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة.
وسبب عداوتهم له: أنّ مقصودهم الأكبر طلب الجاه والرياسة، وإقبال الخلق وراءه، قد رقّاه الله إلى ذروة السنام من ذلك بما أوقع له في قلوب الخاصّة والعامة من المواهب التي منحه بها، وهم عنها بمعزل، فنصبوا عداوته، وامتلأت قلوبهم محاسدة، وأرادوا ستر ذلك عن الناس، حتى لا يفطن بهم، فعمدوا إلى اختلاق الباطل والبُهتان عليه، والوقوع فيه خصوصًا عند الأمراء والحكام، وإظهارهم الإنكار عليه فيما يُفتي به من الحلال والحرام، فشقّقوا قلوب الطّغام بما اجترحوه
(1)
من زور الكلام، ونسوا أنّ لكلّ قول مقامًا
(2)
بين يدي أحكم الحُكام، يسأله هل قلته بحقٍّ
(1)
(ط): «اخترصوه» . والمثبت من (ك).
(2)
(ك): «مقامًا أي مقام
…
».
أو بذام؟ فيجازي المحقَّ دار السلام، والمبطل دار الانتقام. فبعضهم صَبَا إلى أقوالهم تقليدًا، وصار في حقّ هذا الإمام جبّارًا عنيدًا، وأحسّ بذلك من العامّة قوم قد أصبحوا للحكام عبيدًا، وتصوروا أن أخذهم بزمام حصول المال يكون شديدًا، فأصبحوا وهم لهم مصدِّقين، وفي طاعتهم سابقين
(1)
، فاجتمع من هذا التركيب العديد، بحيث عاداه أكثر السادات والعبيد، كلٌّ بحسب غرضه الفاسد، وهو مع ذلك كلّما رأى تحاشدهم في مباينته وتعاضدهم في مناقضته، لا يزداد للحقّ إلا انتصارًا، ولكثرة حججه وبراهينه إلا إظهارًا.
ولقد سُجن أزمانًا وأعصارًا، ولم يولّهم دُبُره فرارًا. ولقد قصد أعداؤه الفتكَ به مرارًا، وأوسعوا حيلهم عليه إعلانًا وإسرارًا، فجعل الله حفظه منهم له شعارًا ودثارًا، ولقد ظنُّوا أن في حبسه مشينة، فجعله الله له فضيلة وزينة، وظهر له يوم موته ما لو رآه وادُّه أقرَّ به عينيه، فإن الله تعالى لعلمه بقرب أجله، ألبسه من الفراغ عن الخلق للقدوم على الحق أجمل حلله، كونه حُبِس على غير جريرة ولا جريمة، بل على قوّة في الحقّ وعزيمة، هذا مع ما نشر الله له من علومه في الآفاق، وبهر بفنونه البصائرَ والأحداق، وملأ بمحاسن مؤلفاته الصُّحف والأوراق، كبتًا ورغمًا للأعداء أهل البدع المضلة والأهواء.
(1)
كذا وصوابها: «مصدقون
…
سابقون».