الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الوسطية في التشريع الإسلامي]
الوسطية في التشريع الإسلامي لا شك أن التشريع الإسلامي، هو التشريع الوسط والأكمل بين الشرائع.
ولذلك أهميته الكبرى؛ لأن الشريعة الملزمة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هي الأساس في وحدة الأمة الفكرية والنفسية والعملية.
وينبغي التمييز الحاسم والواضح بين أحكام الشريعة، متمثلة في نصوص الكتاب والسنة، وبين الاجتهاد والنظر في هذه النصوص.
ولذلك، فإن الوسطية تبدو في حقيقتها، وفي أكمل صورها في النصوص الشرعية ذاتها.
والفقه الإسلامي في جملته، والاجتهاد في
أحكام الشرع،. يستلهم تلك الوسطية المثلى القائمة في النصوص.
وقد كانت الوسطية الإسلامية بمعناها القرآني، غائبة تمامًا عن كل القوانين الوضعية، ولا سيما في أصولها القديمة، وحتى إذا كانت هذه القوانين تنشد العدالة، فإن العدل بوصفه قيمة، تتغير صورته بحسب الزمان والمكان.
وعلى سبيل المثال، فقد كان القانون الروماني، يحرم الأرقاء من كل مشاركة في الحياة العامة، وكان يجيز قتل كل الأرقاء الذين في خدمة النبيل إذا ثبت تآمر واحد منهم عليه، وكان من حق الدائن قتل المدين العاجز عن السداد، أو استرقاقه إلى الأبد، وطبقا لأحكام
ذلك القانون، كانت المرأة تدخل بيت زوجها عن طريق البيع أو وضع اليد، فيشتري الزوج زوجته بإجراءات البيع والشراء، وظل ذلك فترة طويلة.
أما الوسطية القرآنية، فإنها تتجلى في منهاج التشريع الإسلامي كله.
ويبدو ذلك وأضحًا في تنظيم المال والملكية، والاعتراف بملكية الفرد للمال، إلى جانب أنه يملكه استخلافا من الله عز وجل؛ لكي يؤدي رسالته في الحياة:
{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7](الحديد الآية 7) .
كما يبدو المنهاج الوسط، في الإقرار بحق
الفرد في المال، إلى جانب الاعتراف بأن للجماعة فيه حقًّا مقدرًا أو محددًا، يخصص لفقراء الجماعة، وهو الزكاة:{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19](الذاريات الآية 19) . {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ - لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24 - 25]
(المعارج الآيتان 24، 25) .
وقد أضيف المال في القراَن الكريم إلى صاحبه، كما في الآيتين السابقتين، وأضيف ملك السماوات والأرض وما فيهن إلى الله عز وجل، قال تعالى:
{لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120](المائدة الآية 120) .
كما أضيف المال بخصوصه إليه تعالى، قال سبحانه:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33](النور الآية 33) .
وهذا المنهاج في النظر إلى المال، والهدف منه، وكيفية اكتسابه، وكيفية إنفاقه، هو المنهاج الأكمل والأعدل، في تنظيم أمر هام وجوهري في حياة الإنسان، وهو يتفق مع فطرة الإنسان وغريزته في حب التملك والاستئثار، ويوازن بينها وبين حق المجتمع في مال الله، وأن المال - ولو كان مملوكًا للفرد- فيه حقوق لله أو للجماعة.
ذلك هو المنهاج الأمثل الذي يحفظ مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، ويوازن بينهما موازنة
عزَّت على أصحاب المذاهب والنظريات البشرية قديمَاَ وحديثًا.
إن الموازنة واضحة في التشريع الإسلامي بين حقوق الله وحقوق العباد، مع أن الله تعالى هو المالك لكل شيء، وإليه يرجع الأمر كله.
ورحمة من الله بالإنسان، قضى بأن يتمكن من التصرف في بعض الحقوق كما يريد؛ لأنه يحتاج إلى ذلك في حياته ومعاشه، بينما هناك حقوق لا تتعلق به وحده، حتى وإن كان ظاهرها يومئ إلى ذلك.
ففي حد السرقة مثلًا، لا يصح للإنسان المسروق ماله أن يطلب إعفاء السارق من عقوبة الحد، إذا توافرت شروطه الشرعية، مع أن المال
المسروق ملكه، وكان يستطيع أن يهبه للسارق قبل أن تقع الجريمة، وتستكمل أركانها، وشروط توقيع الحد؛ لأن التنازل عن حد السرقة يدعو إلى شيوعها في المجتمع، وهو ما يقف دونه الشرع.
وفي جريمة القتل العمد، وهي تقع على القتيل، ويقع ضررها على أقرب الناس للمقتول، وتضر بأمن المجتمع، نجد لأولياء القتيل حق العفو نظير دية، أو بغير مقابل، ونجد حق الولي أيضا في طلب القصاص، أخذًا بالعدل وشفاء للنفوس.
هذا المنهاج التشريعي الأكمل والأعدل، يوازن بين الحقوق، ولا يضيف حقاَ لأحد على
حساب الآخر، ويتلافى عيوب مناهج أخرى عديدة، جعلت أولياء الدم لا سلطان لهم على الإطلاق، أو جعلت عقوبة القتل لازمة في كل حال، أو ألغت عقوبة القتل كلية، دون سند من عدل أو مصلحة، تعود على الفرد أو على المجتمع.
وفي التشريع الإسلامي، موازنة دقيقة بين التكليف وبين الاستطاعة، فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، والمشقة تجلب التيسير، والضرورات تبيح المحظورات.
وفي مجال العبادات اعتبر الشرع أعذارًا عديدة تعفي المكلف، وإن لم تكن المشقة متحققة؛ نظرًا إلى أن العذر يؤدي إليها غالبًا، أو أن العذر مظنة للمشقة.
ومن تلك الأعذار، السفر في قصر الصلاة وإباحة الفطر، وكذلك الحيض في إعفاء المرأة من الصلاة أيامًا، يرجح فيها مشقة القيام بالتكليف بالصلاة أثناء حيضها، الذي هو من فطرتها التي فطرها الله عليها.
لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107](الأنبياء الآية 107) .
وقال تعالى:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128](التوبة الآية 129) .
وقال صلى الله عليه وسلم:
«إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا ميسرًا» . (رواه مسلم) .
فمنهاج الإسلام مبني على اليسر، ورفع الحرج، قال الله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]
(البقرة الآية 184) .
وقال سبحانه:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78](الحج الآية 76) .
وكان صلى الله عليه وسلم يترك بعض الأفعال خشية المشقة على أمته، وكان إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
ولما بَعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما:«يسرا ولا تعسرا وبشرا ولا تنفرا» . (متفق عليه) .
ومن أقواله المشهورة- صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر
ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا. .» الحديث ". (رواه البخاري) .
وللإنسان أن يأخذ بالأشد من المشروع، كأن يصلي صلاة طويلة، ولكن ليس له أن يُلزم الناس بذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، ولكنه كان يخفف صلاته إذا صلى بالناس، مراعاة لأحوالهم.
ولما سمع صلى الله عليه وسلم بعزم نفر من أصحابه على الانقطاع للعبادة، قال:«إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» . (متفق عليه) .
إن منهاج الإسلام هذا وسط بين اليهود الذين
فرطوا في جنب الله، وحرصوا على الدنيا وملذاتها، كما قال الله تعالى عنهم:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96](البقرة الآية 96) .
والنصارى الذين غلوا وابتدعوا رهبانية لم يشرعها الله، كما قال الله عنهم:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27](الحديد الآية 27) .
لقد ذمهم الله لابتداعهم في دينه ما لم يأذن به، وفي عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إلى الله.
إن تشريع الله في العبادة، تشريع متوسط معتدل، بين الإفراط والتفريط، والغلو والتقصير:
{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110](الإسراء الآية 110) .
وعن جابر بن سمرة - رصي الله عنهما- قال: «كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا» . (رواه مسلم) .
أي: كانت معتدلة، وسطًا بين الطول والقصر.
ولا نستطيع في هذا المجال، أن نفصِّل وسطية التشريع الإسلامي، وعدله، وأفضليته في الأحكام الشرعية كلها، في العبادات، وفي المعاملات، وفي قواعده العامة، وأصوله الكلية، فهذا يحتاج إلى دراسة مقارنة دقيقة، بين منهاج التشريع الإسلامي، وبين ما هو
موجود في قصور المناهج الوضعية كلها، قديمًا وحديثًا.
إن وسطية التشريع الإسلامي، تعني أنه الأكمل والأقوم والأعدل لحياة الإنسان بالمعنى القرآني للوسطية.
فتشريع العبادات في هيآتها ومقاديرها وتكاليفها ومراتب وجوبها على المكلف، تتفق مع الأعدل والأقوم، وفطرة الإنسان، في الجمع بين الدنيا والآخرة.
وفي أحكام المعاملات كما أشرنا، لا سيما في النظر إلى المال وملكيته، وحق الفرد وحق الجماعة فيه، تحصيلًا وكسبًا وإنفاقًا، نجد الوسطية ظاهرة.
وذلك لكي يدوم هذا التشريع الإلهي، صالحًا للناس في كل زمان ومكان، مما يجنب الأمة الإسلامية مخاطر التطرف والغلو والشطط، وغير ذلك مما نراه في كثير من شرائع البشر التي تختلف وتتعارض بحسب الزمان والمكان، والظروف والأهواء.