المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وهكذا ساعدت بعض جماعات المسلمين بمسلكها المجانب للوسطية والمخالف لشرع - الأمة الوسط والمنهاج النبوي في الدعوة إلى الله - جـ ١

[عبد الله بن عبد المحسن التركي]

الفصل: وهكذا ساعدت بعض جماعات المسلمين بمسلكها المجانب للوسطية والمخالف لشرع

وهكذا ساعدت بعض جماعات المسلمين بمسلكها المجانب للوسطية والمخالف لشرع الله، في إلصاق مذاهب أهل الضلال بالإسلام واستيرادها إلى بلاده؛ لتقطع عليها طريق أمنها واستقرارها.

[فتنة التكفير]

فتنة التكفير: ومن أخطر صور الانحراف عن منهاج الوسطية، والبعد عن طريق رسول صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، ومن تبعهم بإحسان، القول بتكفير أصحاب الكبائر وخروجهم من الإسلام، تلك الفتنة القديمة الجديدة: قديمة؛ إذ قالت بها فئة ضالة خرجت على جماعة المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين،

ص: 104

فسماها المسلمون (الخوارج) ، وترتب على ضلالها في التكفير، والقول على الله وعلى رسوله بغير علم، فتن وخلافات بين المسلمين، سُفكت فيها الدماء، وانتهكت فيها الحرمات، وقاسى المسلمون من آثارها المدمرة منذ بدأت إلى الآن، آلامًا عظيمة، ومحنًا كبيرة.

وجديدة؛ لأن بعض الجماعات الإسلامية في الوقت الحاضر تقول بتكفير الحكام المسلمين والمجتمعات الإسلامية، وتدعو للخروج عليهم.

وهذه الجماعات بهذا المسلك تلتقي مع الخوارج في تكفير أصحاب الكبائر، والدعوة إلى الخروج على ولاة الأمر، وإثارة الفتن في

ص: 105

صفوف المسلمين.

ومن أسباب ضلال أصحاب هذه الأقوال، فهمُهم الخاطئ لقول الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44](المائدة الآية 44) .

فقد فسَّروا الكفر هنا بالخروج من الدين، وأنه لا فرق بين من وقع فيه، وبين أصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام، ولم يرجعوا إلى فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الأئمة المعتبرين في هذا المجال، ولا إلى معنى لفظ الكفر في اللغة العربية.

وهذا مما يؤكد على ضرورة أن يكون الدعاة على علم بكتاب الله الكريم، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم،

ص: 106

وأقوال السلف الصالح في ذلك، ومدلولات اللغة العربية في نصوص الكتاب والسنة.

إن لفظ الكفر في هذه الآية، لا يدل على معنى واحد فقط، وهو الخروج عن الدين، شأنه شأن الظلم والفسق في الآيتين الكريمتين، وهما قول الله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]

(المائدة الآية 45) .

{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]

(المائدة الآية 47) .

فالوصف بالظلم، أو الفسق لا يعني خروج المتصف به عن الإسلام، فكذلك وَصْفُ من وصف بالكفر لا يعني خروجه عن الدين.

ص: 107

وقد بيَّن علماء السلف- رحمهم الله هذا الموضوع أحسن بيان، إذ قسَّموا الكفر إلى كفر عملي، وكفر اعتقادي.

وقد يراد بهذه الآية الكريمة الكفر العملي، الذي لا يُخرج من الدين بالكلية، ولكنه يدل على المخالفة في هذه الأعمال.

وقد قال ترجمان الأمة الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: (ليس الكفر الذي تذهبون إليه، إنه ليس كفرًا ينقل عن الملة، هو كفر دون كفر) .

وهذا التفسير هو الذي ينسجم مع النصوص الأخرى، التي وردت فيها كلمة الكفر، وهي لا تعني الخروج من الدين، كما في الحديث عن

ص: 108

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر» . (متفق عليه) . فالكفر هنا هو المعصية، والخروج عن الطاعة، وليس الخروج من الملة.

يؤكد ذلك وصف الله تعالى الطائفتين المتقاتلتين بالإيمان في قوله سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9](الحجرات الآية 9) .

فوصف الله سبحانه وتعالى الطائفة الباغية بكونها من المؤمنين، وإن كانت تقاتل الطائفة التي على الحق.

ص: 109

ومثل ذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت» . (رواه مسلم) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض» . (متفق عليه) .

فجماعات التكفير التي تطلق الكفر على الحكام، أو على المجتمعات، دونما تفصيل ومعرفة للأحوال والواقع، تتابع ما قالته وفعلته الخوارج منذ القدم، في مرتكبي الكبائر وتكفيرهم بذلك.

وقد استغل هذه الأقوال الخاطئة أصحاب الأهواء والمصالح، من أجل تنفير المسلمين من

ص: 110

حكامهم، ودعوتهم للخروج عليهم.

إن على الدعاة أن يكونوا على بصيرة فيما يدعون إليه، وما يتعرضون له، من تفسير لآيات كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إن قضية التكفير خطيرة لا يجوز بحال التساهل فيها، أو القول فيها بغير علم وبصيرة.

فالكفر والفسق والظلم، منه ما يخرج من الملة، ومنه ما يكون كفرًا عمليًّا ومعصيةً لله ورسوله.

فإذا ثبت للإنسان أن أحدًا استحل ما حرم الله، واعتقد في نفسه ذلك، حكم عليه بالكفر المخرج من الملة.

وإذا لم يثبت ذلك، فإن إطلاق الكفر المخرج

ص: 111

من الملة عليه بمجرد ارتكاب الكبيرة، أو فعل المعاصي، خلاف منهاج أهل السنة والجماعة، وصاحبه متوعد بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه» . (متفق عليه) .

وقد أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد رضي الله عنه قتله مشركًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، معتقدًا أنه قالها خوفًا من القتل، حيث قال له صلى الله عليه وسلم:«أفلا شققت عن قلبه» . (رواه مسلم) .

فالإنسان لا يعرف ما في قلوب عباد الله الذين يرتكبون المعاصي والكبائر التي هي دون

ص: 112

الشرك والكفر، ما لم يفصحوا عما في قلوبهم من استحلال ما حرم الله.

إن المتأمل لما عليه أهل الضلال من المسلمين فرقًا وأشخاصًا- وإن أظهروا حماسًا للإسلام، واهتمامًا بأمور المسلمين - يدرك أن سبب ضلالهم، هو تنكبهم عن الطريق الصحيح، وفهمهم السقيم للإسلام، والعمل به، وبعدهم عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

وهم حينما يثيرون عواطف كثير من الناس يؤلبونهم على حكامهم، وولاة أمرهم، دونما تفريق بين حاكم وحاكم ومجتمع وآخر، ودونما استناد صريح وواضح إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يخالفون طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم في

ص: 113

دعوته، فقد مكث صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثة عشر عامًا يدعو الناس إلى توحيد الله، والدخول في دينه، وإفراده بالعبادة، ويعلِّم أحكام الدين، بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والصبر على ذلك.

وهذا هو الطريق الصحيح للدعوة إلى الله سبحانه.

إننا نجد كثيرًا ممن يكفِّرون الحكام، ويدعون إلى الخروج عليهم، وتأليب الناس عليهم، يقعون في أخطاء شنيعة في حياتهم الخاصة، وتعاملهم مع الناس، وفهمهم لأحكام دينهم، بل قد يتساهلون في أمور لها مساس بالعقيدة، وإفراد الله سبحانه بالعبادة، فيدعون مع الله

ص: 114

غيره، ويبنون القباب والمساجد على القبور، ويفعلون ما يُنكر، من تمسح بها، وطواف حولها، وتقديم النذور والقربات لها، مما قد يصل إلى الإشراك بالله، عياذًا بالله من ذلك. وخلاصة القول فيما يتعلق بفتنة التكفير التي وقعت فيها بعض الجماعات والطوائف في الوقت الحاضر، امتدادًا لما كان عليه الخوارج منذ القدم: أنه ينبغي أن يحذر كل أحد من الدعاة الوقوع فيها، وأن يحرص كل داعية على معرفة طريقة السلف الصالح، والضوابط التي يجب أن تراعى عند إطلاق كلمة الكفر على أحد من الناس.

ص: 115

ومن أهمها: عدم تكفير المسلم بمجرد ارتكاب الكبائر والمعاصي، فلا يحكم بردته حتى يظهر منه ما يناقض الشهادتين، وأنه تجب إقامة الحجة على المسلم إذا ظهر منه ما يوجب الحكم بردته، وأن علامة إسلام المرء الكافر، نطقه بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقراره بمقتضاهما.

وأن يفرَّق بين النوع والشخص، فيقال: من قال كذا فهو كافر، يُحكم على النوع والعمل، دون الشخص.

أما الشخص المعيَّن، فيجب التثبت والاحتياط في وصفه بذلك.

ومما ينبغي الانتباه إليه في هذا المقام، أن

ص: 116

أحكام الناس تجرى على ما يظهر منهم، أما سرائرهم فالله يتولاها.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمَّنَّاه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة) .

وليس معنى هذا أنه يُحكم بكفره، ما لم يرتكب مكفرًا عليه من الله برهان.

وهكذا كان طريق السلف الصالح، يحكمون

ص: 117

على الظاهر، والله يتولى السرائر.

يحتاطون في أمر التكفير أشد الاحتياط، يجمعون النصوص بعضها إلى البعض، ويفسرون مدلولاتها، دونما تطرف أو غلو أو شطط.

إنهم يحكمون بالكفر والردة على من جحد توحيد الله سبحانه وتعالى، في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، أو استحل ما أجمع المسلمون على تحريمه، أو جحد فريضة ثبتت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك مما هو مقرر في مباحثه.

ص: 1218