الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في مصنفاتهم، ولم يحكموا عليه بالضعف أو الوضع، كما أن قلب لام التعريف ميمًا في كلام حمير وغيرهم من أهل اليمن، كالأزد وطيء أمر مستفيض مشهور عند العلماء قديمًا وحديثًا، والشواهد على ذلك كثيرة، ذكرنا شيئًا منها فيما تقدم.
وحكم ابن جني على إبدال اللام ميمًا في هذه اللغة بالشذوذ الذي لا يسوغ القياس عليه1.وفي هذا الحكم نظر، لأنها "لغة قوم بأعيانهم
…
ولا يجوز الحكم على لغة قوم بالضعف ولا بالشذوذ. نعم لا يجوز القياس بإبدال كل لام ميمًا، ولكن يتبع إن سمع"2 كما قال في الخصائص:"الناطق على قياس لغة من لغات العرب مصيب غير مخطئ، وإن كان غير ما جاء به خيرًا منه"3. أو كما قال أبو حيان: "كل ما كان لغة لقبيلة قيس عليه"4.
وقد فسر اللغويون قلب اللام ميما في هذه اللغة بأنهما من الأصوات الذلقية الشبيهة بأصوات اللين، والمخارج متقاربة بينهما، يشاركهما في ذلك النون والراء5.وهذه الأصوات يبدل بعضها من بعض كثيرًا في اللغات السامية6.
ومن أمثلة قلب اللام ميمًا في العربية: "انجبرت يده على عَثَم وعَثَل، وسَمَمْت ما عنده وسَمَلت ما عنده، أي: خبرته، وأصابته أزمة وأزلة، أي: سنة، وغُرْمَة وغُرْلَة، وهي القلفة، وامرأة غرلاء وغرماء"7.
1 سر صناعة الإعراب 1/423.
2 لهجات العرب 105-106.
3 الخصائص 2/411.
4 الاقتراح186.
5 الأصوات اللغوية 63.
6 التطور النحوي للغة العربية 38، ودراسات وتعليقات في اللغة 82.
7 الإبدال والمعاقبة 98.وينظر: الإبدال لأبي الطيب 2/387-381.
3-
المعاقبة:
عرّف ابن سيده المعاقبة بأنها: دخول الياء على الواو، والواو على الياء من
غير علة تصريفية، أما ما دخلت فيه الواو على الياء، والياء على الواو لعلة، فليس من المعاقبة، لأنه قانون من قوانين التصريف1.
ويتضح من هذا التعريف أمران:
أحدهما: أن المعاقبة ليست ناشئة من علة تصريفية، فليس منها، نحو: ميزان وميقات، لأن الواو قلبت ياء لعلة تصريفية هي سكونها وانكسار ما قبلها.
الثاني: أن يكون المعنى واحدًا في الصيغة الواوية والصيغة اليائية، ولذا لا يعد من التعاقب ما اختلف معناه، فالكور المبني من الطين، والكير: الرق الذي ينفخ فيه، فلا معاقبة هنا2.
والمعاقبة بين الواو والياء تكون في أوائل الكلم، وأواسطه وأواخره، كقولهم: غلام يَفْعة ووَفْعة، ومولود وتن ويتن، وتحوّزت إلى فئة وتحيّزت، وبينهما بون بعيد وبين بعيد، ونوّم ونيّم جمع نائم، وقلوت البسر وقليته، وهذه غنم قِنية وقنوة، وهي الجهة القصوى والقصيا3.
والتعاقب بين الواو والياء كثير ألف فيه العلماء، كـ (كتاب الاعتقاب) لأبي تراب اللغوي، وكتاب (التعاقب) لابن جني، وأفرد له ابن السكيت بابًا مستقلاً في (إصلاح المنطق) 4 ومثلُه ابن سيده في (المخصص)5. ونظم ابن مالك بعض ألفاظ التعاقب في تسعة وأربعين بيتًا6.
وإذا كان اللغويون يذكرون أن الغالب على أهل الحجاز إيثار الصيغة اليائية
1 المخصص14/19.
2 اللهجات العربية نشأة وتطورًا 238، 240.
3 الإبدال لأبي الطيب 2/463،464،465،472، 495، 496.
4 إصلاح المنطق 135.
5 المخصص14/19.
6 المزهر 2/279-282.
فيما تعاقبت فيه الواو والياء1، فإن المنقول عن أهل اليمن - ومنهم الأزد - أنهم يؤثرون الصيغة الواوية، قال الخليل:"الكُلوة لغة في الكلية لأهل اليمن"2.
وقال ابن دريد: "عبوت المتاع عبوًا: إذا عبيّته، لغة يمانية"3.
وقال الأزهري: "النيرج والنورج لغتان. وأهل اليمن يقولون: نورج"4.
كما أنها وجدت في النقوش اليمنية، فكلمة قَوْل يقابلها في الفصحى قَيْل5.
وفي الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى الأقوال العباهلة، وروي الأقيال6.
وأنشد ثعلب لرجل من طيء:
تحنّ إلى الفردوس والشَّير دونها
…
وأيهات عن أوطانها حوث حلّت
قال: هذه لغته7.
وحكى ابن السكيت عن بعض طيء أنهم يقولون في جمع ناقة: أنوق،
1 معاني القرآن للفراء1/190، والإبدال لأبي الطيب2/478، المخصص 12/31، 14/19، والنهاية 3/61، والمزهر2/276، واللسان (صوغ) 8/ 442.
2 العين 5/405، وينظر: تهذيب اللغة 10/357، والمحيط 6/324.
3 جمهرة اللغة 1/368.
4 تهذيب اللغة (نرج) 11/ 38.وينظر: ديوان الأدب 2/36.
5 اللهجات العربية في التراث 1/407.
6 النهاية 4/122.
7 مجالس ثعلب2/566.
وغيرهم يقول: أنْيُق1.
وأما الأزد، وهم من القبائل اليمنية المهاجرة، فقد عزيت إليهم المعاقبة في (تهذيب اللغة) 2 في قول المؤرج:"هي المعيشة، والمعوشةُ لغة الأزد". وأنشد لحاجز بن الجعيد:
من الخَفِرات لا يُتْمٌ غَذَاها
…
ولا كَدُّ المعوشة والعلاجُ
كما عزي إلى أزد شنوءة وإلى أهل المدينة - ومعظم أهلها من الأزد - أنهم يقولون: لا يجوز هذا في القوس، أي: في القياس، من قٌسته أقوسه قَوْسًا، قالوا: هي لغة في: قِسته أقيسه قَيْسًا وقياسًا، والأصل الواو3.
وجمع الهدية هدايا، وعزي إلى أهل المدينة - أيضًا - أنهم يجمعونها على هداوى بالواو4.
وجاء في الاشتقاق: كاد يكود في معنى كاد يكيد، وحاد يحود في معنى حاد يحيد، لغة لزهران من الأزد5. وقد انفرد ابن دريد بعزوها لزهران، غير أنه عزاها في جمهرة اللغة6 إلى اليمن عامة، على اعتبار أن زهران إحدى قبائل الأزد اليمنية.
هذا، وروى الإمام الشافعي7، وأحمد8، ومسلم9، والخطيب البغدادي10،
1 إصلاح المنطق 144.
2 3/60.
3 القرطبي17/91، والمحيط 5/470،واللسان6/86، والمصباح 199.
4 العين4/77، والبارع137، واللسان15/358.
5 الاشتقاق 507،510.
6 جمهرة اللغة 2/680.
7 المسند 2/68، والأم 1/203.
8 المسند 2/244- (7328) .
9 الصحيح 2/583 (الجمعة -851) .
10 الكفاية في علم الرواية 184.
وابن خزيمة1، والبيهقيّ2، والقرطبي3، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغيت" واللفظ لمسلم.
قال أبو الزناد - من رجال الإسناد في الحديث -: "هي لغة أبي هريرة، وإنما هو فقد لغوت"4.
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: "لغا يلغو كغزا يغزو، ويقال: لغي يلغى كعمي يعمى، لغتان الأولى أفصح، وظاهر القرآن يقتضي الثانية التي هي لغة أبي هريرة، قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} وهذا من لغي يلغى، ولو كان من الأول لقال: "والغُوا" بضم الغين"5.
ورواه أحمد6 ومسلم7، في غير ما تقدم، والبخاري8، ومالك9، وأصحاب السنن10 عن أبي هريرة أيضًا بلفظ (لغوت) .
وهذه الرواية أشبه من سابقتها بلغة أبي هريرة الدوسي الزهراني رضي الله عنه.
1 الصحيح 3/154.
2 السنن الكبرى 3/219.
3 تفسير القرطبي 3/99،11/126.
4 ينظر: مصادر الحديث السابقة.
5 6/138.
6 المسند 2/272 (7672) ، 2/393 (9090) .
7 الصحيح1/583 (851) .
8 1الصحيح /316 (892) .
9 الموطأ 1/103 (232) .
10 ينظر: سنن النسائي 3/104 (1402) ، 3/189 (1577) ، وابن ماجة 1/352 (1110) ، وأبي داود1/290 (1112) ، والدارمي 1/437 (1548) ، 1/438 (1549) .
كما جاء في أحاديث أخرى ما يدل على أنه رضي الله عنه كان يؤثر الواو على الياء، من ذلك ما أخرجه أحمد1 وابن ماجه2 عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"أكذب الناس الصبّاغون والصيّاغون".
ومنه حديثه رضي الله عنه وقد قيل له: خرج الدجال، فقال:"كَذْبة كذبها الصّواغون"3. فنطق بالصيغة الواوية، في الحديثين، وقد يكون سمعها من رسول الله بالياء، لأنه قرشي، ولكنه نطقها بالواو علي سليقته اليمنية.
فإن كان أبو هريرة قد نطق بالصيغة اليائية على أنها لغة له، كما ذكر أبو الزناد، فلعلها في هذه الكلمة فقط، أفادتها قبيلته من إحدى القبائل الحجازية المجاورة التي تؤثر الياء في كلامها. وقد تجتمع اللغتان في قبيلة واحدة، كما حكى الخليل عن طيئ - وهي من القبائل اليمنية - أنها كانت تقول:"محيته محيًا ومحوًا"4.
بل وعزي إلى أهل الحجاز أنهم كانوا يقولون: قنوان وقصوى وقلوت، فيما يقول التميميون: قنيان وقصيا وقليت5.
1 المسند 2/292 (7907) ، 2/324 (8582) .
2 السنن 2/728 (2152) .
3 النهاية3/61، وكشف الخفاء1/191.
4 العين 3/314.وينظر: تهذيب اللغة5/277، والمخصص 13/17.
5 تهذيب اللغة 9/129، 315، والمزهر 2/ 277.
وحكى ابن السكيت عن أهل الحجاز أيضًا أنهم يعاقبون بين الواو والياء، فيقولون: الصوّاغ والصيّاغ، والمياثر والمواثر، والمواثق والمياثق1.
وتابع ابن سيده ابن السكيت في إمكان المعاقبة في القبيلة الواحدة، حيث قال:"وأذكر الآن شيئًا من المعاقبة، وأُري كيف تدخل الياء على الواو، والواو على الياء من غير علة عند القبيلة الواحدة من العرب"2 ثم نقل عن ابن السكيت ما حكاه عن أهل الحجاز.
فاللغات - كما يقال - ظواهر اجتماعية لا تعرف الاطراد، ولا يمكن أن ينتظمها أو يحكمها قانون عام شامل أو جامع مانع3، وإنما هي - دائمًا - تأخذ وتعطي بفعل تأثر القبائل بعضها ببعض، كما قال ابن جني في حديثه عن الفصيح يجتمع في كلامه لغتان فصاعدًا:"وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما، ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى، وطال بها عهده، وكثر استعماله لها، فلحقت - لطول استعمالها - بلغته الأولى. وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة، والكثيرة هي الأولى الأصلية"4.
ولعلنا نحمل على هذا التوجيه بعض صور المعاقبة التي سمعتها في ديار بني ناشر أحد بطون أزد السراة، فهم يقولون مثلاً:"دعيت، وعفيت، وغديت"
1 إصلاح المنطق 137، واللسان (صوغ) 8/442.
2 المخصص 14/19.
3 لهجة ربيعة 83.
4 الخصائص1/372.
في دعوت، وعفوت، وغدوت. ويقولون:"لا حيل ولا قوة إلا بالله" في لا حول ولا قوة إلا بالله. والأخيرة لغة غابرة ذكرتها بعض كتب اللغة بلا عزو1.
وقد علل سيبويه حدوث التعاقب بين الواو والياء في هذه الصيغ ونحوها بطلب الخفة وكثرة الاستعمال. فقال: "الواو والياء بمنزلة الحروف التي تدانى في المخارج، لكثرة استعمالهم إياهما، وإنهما لا تخلو الحروف منهما ومن الألف أو بعضهن، فكان العمل من وجه واحد أخف عليهم"2.
وكذلك جعل ابن جني علة التعاقب بينهما طلب الخفة وكثرة الاستعمال، إذ يقول: أهل الحجاز يقولون: للصوّاغ: الصيّاغ. ووجه الاستدلال منه أنهم كرهوا التقاء الواوين - لا سيما فيما كثر استعماله - فأبدلوا الأولى من العينين ياء، فصار تقديره: الصيواغ، فلما التقت الواو والياء على هذا أبدلوا الواو للياء قبلها، فقالوا: الصيّاغ، وليس هناك علة تضطر إلى إبدالها أكثر من الاستخفاف مجردًا3.
ويرى الدكتور أحمد علم الدين الجندي أن إيثار الياء على الواو من سمة القبائل المتحضرة، كقريش وكنانة وكلب، على حين نجد القبائل البدوية تؤثر
1 شرح الكافية الشافية 4/2150، وتهذيب اللغة 5/244، واللسان 11/196، والمصباح 61 (حيل) .
2 الكتاب4/335.
3 الخصائص2/65، 66 (بتصرف) .وينظر: اللسان (صوغ) 8/442.
الواو، كطىء وتميم وقيس وعقيل ومن جاورهم وعامة بني أسد1.
وعلل ميل القبائل البدوية إلى صوت الواو أو الضم، والقبائل المتحضرة إلى صوت الياء أو الكسر، بأن الضم مظهر من مظاهر الخشونة البدوية وطبع الجفاة من العرب، والكسر دليل التحضر والرقة في معظم البيئات اللغوية2.
غير أن نسبة الميل إلى الياء أو الواو إلى الحضارة أو البداوة قول لا يصدقه الواقع، فلو كان الأمر كما قال لخلت الواو من كلام الحضر والياء من كلام البدو، وهذا ما لم يصدقه واقع تلك القبائل التي وجد في لغاتها جميعًا الواوي واليائي، كالأمثلة المتقدمة. وهل لنا أن نقول - على رأيه هذا -: إنما آثر الأزديون الواو على الياء، لأنهم من القبائل البدوية؟ كلا فالأزديون - وهم من اليمن ذات الحضارة الموغلة في القدم - كانوا أكثر من القبائل المجاورة لهم في مواطنهم الجديدة ميلاً إلى الاستقرار، وأخذًا بأساليب التحضر، وإقبالاً على الأعمال التي يأنف منها البدوي، ولذلك تغلبوا على السكان الأصليين في المواطن الجديدة التي حلوا بها على الرغم من اضطرارهم إلى النزوح عن وطنهم، وإلى التشتت في أنحاء الجزيرة العربية3.
1 اللهجات العربية في التراث1/405-409.
2 مجلة مجمع اللغة العربية ص 130، العدد 41، 1397?. وينظر: في اللهجات العربية 91.
3 ينظر: العرب 808 (ج9، السنة 5) .