الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
الحمد لله الذي لا إله إلا هو، ولا رب سواه.
أحمدك ربّي معترفًا بجحود حمدي عن شُكْر نعمة حَمْدِك، فأحمدك ربي مع يأسي عن حق حمدك طاعةً لأمرك. فما حُمِدْتَ إلا بحمدك، ولا قَبِلْتَ إلا بعَفْوك، ولا رضيتَ إلا بحلمك.
فلله الحمد كُلُّه، لطيفُه وجلُّه؛ ما رُفع منه في كُتُبِ الأتقياء، ودوّت به الملائكة في السماء، وتجلجل تقديسُه في صدور الأنبياء؛ وما لهجت به حقائقُ الوجود، وغيبتُه الغُيوب عن عوالم الشهود؛ وما حَمِدْتَ به نَفْسَك وأنزلته في كُتُبِك، وما حمدتَ به نَفْسَك واختصصتَ به نفسَك.
إلهي فتشفّعتُ إليك بعبوديّتي لك أن تقبل حَمْدي، وتوسّلتُ إليك -ربّي- بافتقار كُلّي إليك أن تقبل حمدي، واستغثتُ بك -خالقي- بتمام عجزي عن كُنْهِ حمدك أن تقبل حمدي، وتمسّحْتُ بأعتاب جودك -راحمي- أن تقبل حمدي.
وأصلّي وأسلّم على عبد الله ورسوله محمَّد سيد الأولين والآخرين، وإمام الأنبياء والمرسلين، صلاةً تنفعني في العُقْبى،
وأدّخرها ليوم الشفاعة العُظمى. فاللهم صَلِّ على عبدك ورسولك محمَّد أتمَّ الصلوات المباركات، وسلم اللهم عليه تسليمًا كثيرًا، وعلى آل بيته من ذريته وأزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه أجمعين، وعلى مُقْتَفِي آثارهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فقد جعل الله تعالى سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم حِصْنَ دينه الحصين، ورُكنَ شرعه الرَّكين. ولذلك فإن الوَعْدَ الإلهي بحفظ كتابه الكريم، وبنُصرة دينه، وببقائه إلى يوم الدين؛ متضمن الوعدَ بحفظ السنة النبويّة المشرفة، وبنُصْرَتها، وببقائها؛ لأن السنة بيانُ الكتابِ، ولأنّها (معه) هي الدين والشريعة.
ولذلك فإن قول الله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)} [الحجر: 9]، وَعْدٌ بحفظ القرآن الكريم والسنة المشرفة معًا.
غير أن الله عز وجل قد شاء بتقدير علمه ولطيف حكمته أن يُوكل حِفْظَ السنّةِ إلى النّاس، وأن يتكفّل هو بحفظ كلامه المنزّل (القرآن الكريم). لذلك فقد هيّأ الله تعالى في هذه الأمّة أئمةً أعلامًا، وسخّر فيها علماء عظامًا، لحفظ دينه، بحفظ السنة النبويّة المشرفة.
والحقُّ يقول، والتاريخُ يُخبر، والوجودُ يشهد، والبدائةُ لا تتردد: أن علوم السنة المشرفة التي أنشاها علماء هذه الأمّة معجزةٌ
وخارقةٌ للعادات، ما كانت لتكون لولا قَدَرُ الله تعالى بتأييد هذا الدين!
ومن أجلّ علوم السنة وأعظمها خطرًا: علمُ الجرح والتعديل، ومعرفةُ مَن تُقبل روايته أو تُرَدُّ؛ حيث إنه العلم الذي به تم تمحيص النّقل، وعليه بُني نَقْدُ الأخبار، ومن أحكامه شعَّ نورُ السُّنةِ في صدور علماءِ السُّنةِ فميّزوا به السنّةَ من غيرها.
وقد بذل أئمةُ الحديثِ ونقّادُه في علم الجرح والتعديل قُصارى جهدهم، ونقّبوا عن أخبار الرواة، وبحثوا عن أحوالهم، وأرّخوا لهم، بما لا يُعرف بعضُه (ولا بعضُ بعضِه) لأمّةٍ من الأمم. فصنّفوا في ذلك كتب تراجم الرواة وتواريخهم، وأبدعوا في تنويع التصنيف، وأتقنوا ذلك الإبداع؛ حتى خرجت تلك الجهودُ وعليها نفحةُ التوفيق الإلهي، وتدل على التأييد الربّاني لأولئك العلماء.
يقول الإِمام الذهبي (ت 748 هـ) في مقدّمة كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال (1/ 1 - 2): "وقد ألّف الحفاظُ مصنّفاتٍ جمةً في "الجرح والتعديل" ما بين اختصار وتطويل. فأوّل من جُمع كلامه في ذلك الإمامُ الذي قال في أحمد بن حنبل: ما رأيتُ بعينيَّ مثل يحيى بن سعيد القطان؛ وتكلم في ذلك بعده تلامذته: يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وعَمرو بن علي الفلاس، وأبو خيثمة؛ وتلامذتُهم: كأبي زرعة، وأبي حاتم،
والبخاري، ومسلم، وأبي إسحاق الجوزجاني السعدي؛ وخلقٌ بعدهم، مثل: النسائي، وابن خزيمة، والترمذي، والدولابي، والعقيلي (وله مصنّفٌ مفيدٌ في معرفة الضعفاء)؛ ولأبي حاتم ابن حبان كتابٌ كبيرٌ عندي في ذلك؛ ولأبي أحمد ابن عدي كتاب الكامل، هو أكمل الكتب وأجلّها في ذلك؛ وكتابُ أبي الفتح الأزدي، وكتاب أبي محمَّد ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" والضعفاء للدارقطني، والضعفاء للحاكم، وغير ذلك.
وقد ذيّل ابن طاهر المقدسي على (الكامل) لابن عدي بكتابٍ لم أره، وصنّف أبو الفرج ابن الجوزي كتابًا كبيرًا في ذلك
…
".
ثم صنّف الإمامُ الذهبيُّ كتابه (ديوان الضعفاء)، ثمّ (ذيلَ ديوان الضعفاء)، ثم ضمَّ الذيلَ إلى الأصلِ مع زياداتٍ في (المغني في الضعفاء)؛ ثم خَتَمَ ذلك بكتابه العظيم (ميزان الاعتدال في نقد الرجال)، الذي شمل فيه ما هو على شرطه مما بلغه عِلْمُه؛ حيث إن الأمر أعظم من أن يُحاطَ به كلّه، كما قال الذهبي في ذيل ديوان الضعفاء (15):"وهذا شيءٌ لا سبيل إلى استيعابه، وإنما هو بحسب ما عرفت".
ولجليل قَدْر (الميزان)، ولعظيم شُمُولهِ، ولكونه ثمرةَ جهودٍ متواصلة من علماء الأمّة في تمييز الضعفاء ومعرفة المجروحين، من القرون الأولى إلى عصر الإِمام الذهبي؛ جعل العلماءُ (الميزانَ)
إمامَ كُتُبِ الضعفاء والمجروحين، وأصلًا أصيلًا لمعرفة المتكلَّم فيهم من الناقلين. بل بلغ الأمر إلى درجة أن اعتبر بعضُ أهل العلم عدمَ وجود راوٍ في (ميزان) الذهبي دليلًا على توثيقه! كما فعل الهيثمي (ت 807 هـ) في كتابه (مجمع الزوائد)، حيث قال فيه (1/ 8):"ومَن كان مِنْ مشايخ الطبراني في (الميزان) نبهت إلى ضعفه، ومن لم يكن في (الميزان) ألحقتُه بالثقات الذين بعده". وذلك منهم استرواحًا إلى استيعابِ (الميزان)، واطمئنانًا إلى عظيم إحاطته!!
لكن جَاء بعد الذهبي من ذيل على كتابه (الميزان)، من أمثال الحافظ أبي الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي (ت 806 هـ)، الذي صنّف (ذيل ميزان الاعتدال).
ثم انتهى الأمر إلى الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ)، فضمّ (ذيل الميزان) لشيخه العراقي إلى أصله (الميزان)، مع زيادات كثيرات وتحريرات مفيدات، في كتابه الجليل (لسان الميزان).
إلا أن الحافظَ ابنَ حجر حَذَفَ من (اللسان) كُلَّ مَنْ تُكُلِّمَ فيه من رجال كتابه (تهذيب التهذيب) مِنْ رجال أصحاب الكُتُبِ الستة؛ لأنه لم يَرَ إعادةَ تراجمهم في (اللسان) بعد أن كان قد بَسَطَها في (التهذيب).
وقد أتقن الحافظُ تأليفَ (اللسان)، ووفَّرَ له غايةَ جُهْدِه وتحريرِه؛ حتى ذكر السخاويُّ في الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإِسلام ابن حجر (151 / ب) -ونقلته بواسطة كتاب: ابن حجر العسقلاني لشاكر محمود عبد المنعم (1/ 162) - عن شيخه الحافظ ابن حجر اعتزازَه بـ (اللسان)، في قول ابن حجر:"لستُ راضيًا عن شيء من تصانيفي؛ لأني عملتُها في ابتداءِ الأمْرِ، ثم لم يتهيّأ لي تحريرُها؛ سوى (شرح البخاري) و (مقدمته)، و (المشتبه)، و (التهذيب)، و (لسان الميزان)؛ ولو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم أتقيّد بالذهبي، ولجعلتُه كتابًا مُبْتَكرًا".
وبعد تلك الجُهود المتتابعةِ من علماء الأمّة عَبْر القرون، في محاولةِ حَصْرِ الضعفاء والمتكلَّم فيهم، وبعد ضَمِّ الإِمام الذهبي لتلك الجهود بعضِها إلى بعضٍ مع إضافاته العظيمة، مَرَّةً بعد مرَّة، إلى أن صنّف كتابه العظيم (الميزان)، وبعد (ذيله) للحافظ العراقي؛ بعد هذا كلِّه جاء الحافظُ ابن حجر -جامعًا عِلْمَه وجُهْدَه- ليُتَمِّم هذا البناءَ الشامخ، الذي تَنَاوبَ علي بنائه أئمةُ السُّنَّة ونُقَّادُ الحديث!! فما ظنُّك -بَعْدُ- بهذا البناء؟!!
ولئن كان الاسترواحُ بكتاب الذهبي والاطمئنانُ إلى استيعابه قد بلغ ذلك المبلغ المذكور آنفًا عن الإِمام الهيثمي وغيره، فما ظنك بالأمر بعد (لسان الميزان)؟!!
ولقد كنتُ أظن أن (اللسان) قد قطع لسانَ من أراد الزيادة عليه، وأنه لم يترك لمن بعده فيه مقالًا؛ وكنتُ أسمع نحو ذلك من أهل العلم وطلبته. حتى مَنَّ اللهُ تعالى عليّ بمشروع عظيم، أعيش معه من سنواتٍ طويلاتٍ، تزيد على عشر سنوات.
فكان من ثمرات هذا المشروع ما أُقدمه اليوم لأهل العلم وطلبته، وهي سبعٌ وثلاثون ومائتا ترجمةٍ على شرط (لسان الميزان)(1)، قد فاتت الحافظ ابن حجر أن يذكرها فيه.
وقد كنت خلال تلك السنوات وأثناء عملي في مشروعي المنوَّهِ به ألتقطُ تلك التراجم من بطون الكتب، ومن مناجم العلم، ومعادن السُّنن، ترجمةً ترجمةً، حتى بلغ العقد سبعًا وثلاثين ومائتي خرزة. وهو عددٌ كبير، مِنْ مناجمَ ما كان يُظَنُّ إلا أنها قد اسْتُنْفِدَتْ، ومعادنَ قد تَوَارَدَ عليه المُنَقِّبون حتى ما عاد يُحْسَبُ إلا أنهم قد أفقروها.
ثم إني خشيتُ ضياعَ ذلك الجُهْد، بموتٍ أو فَقْد؛ فسارعتُ إلى تأليف ذلك النظم، لأُزيّنَ به جِيدَ العلم. وإلا فإني ما زلتُ على مشروعي، ولا أشك أن بابَ الاستدراك والزيادة لم يزل مُشْرَعًا؛
(1) وقد اعتمدت في مراجعة (لسان الميزان) الطبعة القديمة: المطبوعة بمجلس دائرة المعارف النظامية بالهند (سنة 1329 هـ). ثم دققت التراجم ومراجحتها على الطبعة الحديثة التي بتحقيق خليل محمَّد العربي وغيره، المطبوعة بمطبعة الفاروق الحديثة.
لمن تعوَّدَ الوُلُوجَ من ثُقُوب الإبر، والتَّنْقِيبَ في رَمْل عالج؛ فكما سبق عن الذهبي:"هذا شيءٌ لا سبيل إلى استيعابه".
فهذا جُهدُ سنوات، وثمرةٌ من ثمار سهر الليالي، أُقدِّمُه لأُمّتي؛ عسى اللهُ تعالى أن يُثيب عليه صاحبَه والمنتفعَ به إلى قيام الساعة .. آمين.
ثم الحمد لله عودًا على بَدْء، حمدًا يُتِمُّ تعالى نَقْصَه بفضله، وينيله القَبولَ بعفوه، ويوازي به نِعَمَه برحمته وجُوده، ويزيدُني به آلاءً، يُتبع بها مني حمدًا جديدًا على مُتَجَدِّدِ إنعامه؛ فلا يزالُ الحَمْدُ يوفِّقني إلى الحمد، والآلاء تَرْدُفُها الآلاء؛ إلى أن ألقاك ربي وأنت عليَّ راضً، ولحمديَ شاكر، ولذنبيَ غافر، ولمعاصيَّ ساتر .. يا أرحم الراحمين!!
وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك محمَّد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسَلِّم تسليمًا كثيرًا.
وكتب
الشَّريف حاتم بن عارفٍ العوني
بمكة المكرمة / ص ب 10768
في ليلة الثلاثاء 13/ 6 / 1418 هـ