الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإجتماعية، والثقافية، وعامة أهلها يغلب عليهم طباع أهل المدن، خلافاً لمكة التي هي قرية يمتاز أهلها -عموماً- بالشدة والقوة، فإرسال مصعب الذي نشأ في بيت دلال وغنى أقرب إلى التفاهم والتعامل مع أهل يثرب، ولذا فإنه نجح بامتياز في مهمته، وتأمل في قصته مع أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنه حينما جاءاه، وتكلما معه بغلظة وهدداه: فقال بكل هدوء:" أو تجلس فتسمع؟ فإن سمعت خيرا قبلته، وإن كرهت شيئا أو خالفك أعفيناك عنه ".فأسلم الرجلان وقومهما! فلو كان غير مصعب في هذا الموقف لما تحمل مثل هذا منهما، فالقائد الناجح هو الذي يضع الرجل المناسب في المكان المناسب وهذا منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم (1).
المطلب الثاني: تحديد المعيار الكمي، والنوعي لقياس الإنجاز:
وأعني به أن يكون للهدف المنشود معياراً كمياً أو نوعياً يمكننا من خلاله قياس نسبة الإنجاز، فمثلاً عندما أقول: أنا أريد أن أقرأ ثلاثة فصول من كتاب كذا خلال يومين. فإنه يمكن القياس بخلاف لو قلت: (أريد أن أقرأ كتاباً) فتحتاج أن تكون الأهداف قابلة للقياس، لكي نعرف هل نحن نجحنا أم أخفقنا؟ فلابد من وضع التاريخ والزمن والكميات كي يمكن قياس الهدف.
يقول الدكتور عبد العزيز بكار: "إنّ كل هدف ليس معه معيار لقياسه وللكشف عما أنجز منه، وما بقي؛ ليس بهدف. ولذا فإنّ من يملك أهدافًا واضحة يحدثك دائمًا عن إنجازاته، وعن العقبات التي تواجهه. أما من لا يملك أهدافًا واضحة، فتجده مضطربًا، فتارة يحدثك أنه حقق الكثير الكثير، وتارة يحدثك عن خيبته وإخفاقه؛ إنه كمن يضرب في بيداء، تعتسفه السبل، وتشتته مفارق الطرق! نجد هذا بصورة أوضح لدى الجماعات؛ فالجماعة التي لا تملك أهدافًا واضحة محددة، تظل مشتتة الرأي في حجم ما أنجزته، ولا يكاد خمسة من أبنائها يتفقون في تقويمهم لذلك! لا يكفي أن يكون الهدف واضحًا، بل لا بد من تحديد توقيت لإنجازه، فالزمان ليس ملكًا لنا إلى ما لا نهاية، وطاقاتنا قابلة للنفاد، ثم إن القيمة الحقيقية للأهداف، لا تتبلور إلاّ من خلال الوقت الذي يستغرقه الوصول إليها، والجهد والتكاليف التي نحتاجها، ولهذا كله فالبديل عن وضوح الهدف، ووضوح تكاليفه المتنوعة، ليس سوى العبث والهدر والاستسلام للأماني الخادعة! "(2)
(1) السيرة النبوية، ابن حبان 1/ 109،وتنظر القصة بتمامها هناك.
(2)
من أجل إنتاجية أفضل أهمية رسم الأهداف، د. عبد الكريم بكار، وينظر: العمل المؤسسي، د محمد أكرم العدلوني ص187.
وأوضحه بمثال من السنة النبوية:
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما رهقوه، قال:"من يردهم عنا وله الجنة؟ " - أو "هو رفيقي في الجنة" -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، ثم رهقوه أيضا، فقال:"من يردهم عنا وله الجنة؟ "- أو "هو رفيقي في الجنة" -، فتقدم رجل من الأنصار، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه:"ما أنصفنا أصحابنا"(1).
فالمعيار هنا واضح، وهو (من يردّ هؤلآء الكفار عنّا)(جزاه الله الجنة)،فالكم:(هؤلآء الكفار)،
والجزاء واضح (له الجنة)، لذا فقوله صلى الله عليه وسلم:"ما أنصفنا أصحابنا":هو تصريح بالرضى على صنيع هؤلآء السبعة، وعتب على من لم يثبت من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين (2).
ومنه ما أخرجه البخاري عن عثمان رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" من حفر (3) رومة فله الجنة
…
من جهز جيش العسرة فله الجنة " (4).
فالمعيار الكمي واضح (شراء البئر بمبلغ كذا وتسيبه للمسلمين) والجزاء (له الجنة)، (تجهيز جيش العسرة بالمال والسلاح والمؤنة) والجزاء (له الجنة).
لذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم حريصاً على تدريب الأمة على مراجعة نسبة الإنجاز وقياسها، لأنه إن لم يكن هناك مقياس واضح لنسبة الأنجاز سنتنتج العشوائية والاضطراب في النتائج، وضياع الأهداف بمرور الوقت، لذا كان صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه أحياناً (من تصدق اليوم)، فيحدد لهم المعيار، ومنه: ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أصبح منكم اليوم صائما؟ " قال أبو بكر: أنا، قال:"فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا، قال:"فمن أطعم منكم اليوم مسكينا". قال أبو بكر: أنا، قال:
(1) أخرجه مسلم 3/ 1415 (1789)،وغيره.
(2)
ينظر: المفهم لما اشكل من تلخيص مسلم، القرطبي 11/ 143،وشرح النووي 4/ 400.
(3)
وجاءت في رواية (يشتري بئر رومة) وقد استشكله بعض أهل العلم، ووجهه الحافظ ابن حجر فقال في الفتح 5/ 408:" بمد فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تبيعنيها بعين في الجنة؟ " فقال يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان رضي الله عنه فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال صلى الله عليه وسلم:"نعم". قال: قد جعلتها للمسلمين وإن كانت أولا عينا فلا مانع أن يحفر فيها عثمان بئرا ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسعها وطواها فنسب حفرها إليه ".
(4)
أخرجه البخاري (2626).