الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهدف النبيّ صلى الله عليه وسلم كان النصرة والأمان له ولأتباعه صلى الله عليه وسلم وعلاقة هذا الهدف الجزئي بالدعوة المباركة هي أن الدعوة لن تنتشر إلاّ بأرض تمكين ومنعة من الأضطهاد والتعذيب، لذا فالسؤال واضح: ما المنعة فيكم؟ وكم عدد فرسانكم؟ كيف أنتم في القتال؟ الهدف واضح، ولم يسأله أحد من النّاس ما حاجتك الى الحرب؟ لأن العلاقة واضحة بين الهدف من طلب المنعة والنصرة والأيواء والقتال وبين تبليغ دعوة الله، لأن الملوك والمتكبرين يكرهون مثل هذه الدعوة كما قال المثنى بن الحارث الشيباني في جوابه. وتأمل في ردّ النبيّ صلى الله عليه وسلم النصرة المجتزءة، والمنعة الناقصة لما قال المثنى (ننصرك مما يلي مياه العرب) فقط، فقال:"إن دين الله لن ينصره إلا من أحاطه الله بجميع جوانبه".وتأمل الربط بين إيواء النبيّ صلى الله عليه وسلم ونصرته وبين القضية الأساس (تبليغ دين الله).
المطلب الثاني: مراجعة الجدول الزمني وتدقيقه:
صاحب الأهداف الدقيقة الواضحة يحدد لأهدافه خطة مرسومة يسير عليها، بجدول زمني معلوم، والمؤسسات التي تريد النجاح حري بها أن تضع لها جدولاً زمنياً مرسوماً وواضحاً، ولو تأملنا قليلاً في قول النبيّ صلى الله عليه وسلم للمثنى بن حارثة يخبره عن حال كسرى والفرس:" أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وديارهم وأموالهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه؟ "(1)، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم كان يسير على جدول محدد (إذا صح التعبير) فيبدأ بالمدينة ثم مكة ثم الشام ثم فتح العراق، ثم فتح القسطنطينية، ثم قتال اليهود في أرض فلسطين.
والمؤسسات الناجحة هي التي تقوم على العمل المؤسسي لا على ارتباطها بشخص المؤسس أيّاً كان؛ لأن هذا الشخص قد يموت فتموت المشاريع معه، أما إذا كان الارتباط على أساس المشروع فسيأتي أحد بعده يكمل ما وصل إليه المؤسس، لذا فالقرآن أسس لهذه القضية المهمة، فقال:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} آل عمران144.
فربط الأمة بحياة الرسالة لا بحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم في كل حياته، كان يربط النّاس بالله تعالى ويحملهم المسؤولية في حياته لكي يستمر ابداعهم وفق الجدول المرسوم لهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان له ما أراد صلى الله عليه وسلم.فليس بالضرورة أن يكون صاحب المشروع هو من ينفذ تلك الخطوة في هذا المشروع، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم أسس وربى جيلاً أكمل ما بدأ به النبيّ صلى الله عليه وسلم (عالمية الدعوة)، وعمل بمنهج النبيّ صلى الله عليه وسلم، إذ كان على فراش الموت وهو ينادي:"أنفذوا جيش أسامة"(2)،و"أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"(3).
(1) سبق تخريجه ص25.
(2)
أخرجه عبد الرزاق (19372).
(3)
أخرجه البخاري (2888)،ومسلم 3/ 1275 (1657)،وغيرهما.
ونوضح هذا بأمثلة من السنة النبوية: فأخرج الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنه في إسلام أبي ذر الغفاري رضي الله عنه،وفيه أنّ أبا ذر رضي الله عنه دخل على النبيّ صلى الله عليه وسلم فسمع من قوله، وأسلم مكانه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري". قال:-يعني أبو ذر- والذي نفسي بيده لأصرخنَّ بها بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله. ثم قام القوم فضربوه حتى أضجعوه وأتى العباس فأكب عليه قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأن طريق تجاركم إلى الشأم فأنقذه منهم ثم عاد من الغد لمثلها فضربوه وثاروا إليه فأكب العباس عليه " (1).
فالنبيّ صلى الله عليه وسلم في أوّل دعوته وفي أوّل مرحلة من مراحلها (السرية)،وهدفه واضح لديه والجدول مرسوم عنده، فيخبر أبا ذر رضي الله عنه أنه سيعلن دعوته لاحقاً وامره باللحوق به حينئذ، يالله من نبي عظيم صلى الله عليه وسلم، فلتأتي الجامعات ومعاهد التنمية البشرية للتتعلم من هذا النبيّ الكريم أسس القيادة ورسم الأهداف! وكأني بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يعلم أبا ذر رضي الله عنه أنّ الخط البياني للدعوة الآن في الدرجة الثانية أو الثالثة .. وحينما يبلغ الدرجة الثلاثين فالتحق بي، يعني أن الجدول البياني للهدف واضح لديه صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إليه على أنه واقع. لذا فأنت تجد النبيّ صلى الله عليه وسلم يبشر النّاس في أحنك الظروف ببشارات عظيمة، فبشر سراقة بن مالك رضي الله عنه بسواري كسرى يلبسهما، وطلب منه سراقة بن مالك عهداً مكتوباً! فأعطاه النبيّ صلى الله عليه وسلم الأمان وأمر عامر بن فهيرة، فكتب له رقعة من أدم، ثم جاء سراقة بالكتاب بعدئذٍ، ووفاه النبيّ صلى الله عليه وسلم ما وعده (2).
فانظر إلى هذا التخطيط العظيم قريش تطلبه صلى الله عليه وسلم، وهو متخفي مطارد من كفار قريش، ثم هو يعد سراقة بسواري كسرى، ويعطيه الأمان لقابل الأيام! خطة واضحة تماماً.
ومثله تماماً يوم الخندق لما حوصرت المدينة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يحفر في الخندق فيضرب صخرة كبيرة فتبرق ثلاثة مرات في كل مرة يكبر النبيّ صلى الله عليه وسلم وينادي: فتحت الشام، .. فتحت اليمن، فأخرجه أحمد من حديث البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق قال: وعرض لنا صخرة في مكان من الخندق لا تأخذ فيها المعاول قال فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عوف- وأحسبه قال -:وضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول فقال: بسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال:"الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا". ثم قال:" بسم الله وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال:" الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني
(1) أخرجه البخاري (3648)،ومسلم 4/ 1924 (2474).
(2)
لتمام القصة ينظر: دلائل النبوة للبيهقي 2/ 484،والشفا بتعريف حقوق المصطفى، القاضي عياض 1/ 674.
هذا". ثم قال:" بسم الله، وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا " (1).
فالنبيّ صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بهذه البشارات، كدفع معنوي قبيل المعركة، وفيه بيان للجدول المستقبلي لهذا الهدف، فأين هم الآن وأين الشام أو فارس أو اليمن؟ والحقيقة أن من أهم صفات صاحب الأهداف الناجحه أنه يرى هدفه أمامه، وهو ينظر إليه كأنه يحدث الآن، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينظر إلى هذه الأهداف بهذه الطريقة، - مع تسديد الوحي له-.
وكذا كل أصحاب المشاريع والأهداف الكبيرة، "لقد رأى أديسون المصباح، والأخوان رايت الطائرة، وهنري فورد السيارة قبل أن يشرع أي منهم في خطوة واحد"(2).
وفي إحدى إجتماعات شركة ديزني قام أحد المجتمعين متأثراً بالانجازات، وقال: ياليت والت ديزني –مؤسس الشركة- حيّ بيننا الآن ليرى انجازاته الرائعة. فرد عليه المدير: لقد رأى ديزني هذا بالفعل قبل أن يشرع فيه، وإلا ما أصبح حقيقة قائمة اليوم (3).
لذا فلابد من مراجعة وتدقيق في هذا الجدول الزمني المرسوم، فلعل بعد المراجعة والتدقيق والمشورة يظهر أمرٌ هو أحرى وأولى مما سبق، وقد ظهر ذلك بجلاء في صنيع النبيّ صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع، منها: ما أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: كنت أقرئ عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر، فلما كان آخر حجة حجها عمر- ونحن بمنى- أتاني عبد الرحمن بن عوف في منزلي عشياً، فقال: لو شهدت أمير المؤمنين اليوم أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إني سمعت فلانا يقول: لو قد مات أمير المؤمنين قد بايعت فلاناً. فقال عمر: إني لقائم عشية في النّاس فنحذرهم، هؤلآء الرهط الذين يريدون أنْ يغتصبوا المسلمين أمرهم. قال: فقلت يا أمير المؤمنين، إنّ الموسم يجمع رعاع النّاس وغوغاءهم، وإنهم الذين يغلبون على مجلسك، وإني أخشى إنْ قلت فيهم اليوم مقالة أنْ يطيروا بها كل مطير ولا يعوها، ولا يضعوها على مواضعها، ولكن أمهل يا أمير المؤمنين حتى تقدم المدينة، فإنها دار السنة والهجرة، وتخلص بالمهاجرين والأنصار فتقول ما قلت متمكنا فيعوا مقالتك ويضعوها على مواضعها. قال: فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن به في أول مقام
(1) أخرجه أحمد 4/ 303،والنسائي في الكبرى (8807)، وفي اسناده (ميمون بن أستاذ البصري)، قال ابن كثير في السيرة: 3/ 194:" وهذا حديث غريب، تفرد به ميمون بن أستاذ هذا".وفي البخاري (3875) ذكر هدمه صلى الله عليه وسلم الصخرة دون ذكر هذه المبشرات.
(2)
أفكار صغيرة لحياة كبيرة، كريم الشاذلي ص65.
(3)
ينظر: المصدر نفسه.