الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فـ"للوصول لأهدافك يحب عليك أنْ تكون على دراية مقدماً بما يمكن أن يواجهك لتحقيق ذلك، ومن الواجب أن تجد الحل مقدماً .. فلو أنك قلت لنفسك يكفي أن أفكر بطريقة ايجابية وسيكون كل شيء على ما يرام فإنك ستنهار عند أوّل تحد يواجهك في حياتك، ذلك لأنك لم تقم بتحصين نفسك ضد العقبات التي يمكن أن تقابلها، فلابد أن تتعلم وتكون مستعداً لتعديل خطتك، وكما قال مارشال:"الحياة بدون دراسة لا تستحق أن نعيشها" (1).
لذا يجب أن يكون الهدف مرناً، فيه أكثر من بديل، فإن قصرت همة صاحبه عن الحدود العليا فسيتمكن من تحقيق الدنيا، وهذه المرونة تخفف من ضغط الأهداف علينا؛ لأن الإنسان في الغالب يشعر حيال كثير من أهدافه بالالتزام أكثر منه واجباً، والالتزام بحاجة دائماً إلى درجة من المرونة، ومن الخلل الكبير أن تتحول الأهداف إلى قيود مرهقة، وحينما يشعر الإنسان بهذا الإرهاق فستأتي النتائج عكسية، أو لا تسموا الى الطموح (2).
المطلب الخامس: أن تكون متوافقة مع قيم المجتمع وتوجهاته:
كل مجتمع من المجتمعات فيه الإيجابيات وفيه السلبيات، وأفراد هذا المجتمع يتعاطون معهما حسب المفاهيم والقيم التي تربوا عليها، فتصير عادة وعرفاً سليماً موافقاً للفطرة والقيم، أو فاسداً مخالفاً للمبادئ والقيم السليمة، ثم تتأصل فيه شيئاً فشيئاً حتى تتجذر في الأجيال، فمثلاً:
الكرم، والشجاعة، والمروءة، والنجدة، والوفاء بالعهود
…
قيم عرف بها العرب في جاهليتهم، والشرك، والظلم، والاستعباد، ووأد البنات، .. الخ، كانت أعراف سلبية في المجتمع الجاهلي، فلمّا جاء الإسلام أقرّ الإيجابيات وهذبها، ورفض السلبيات ووضع لها الحلول الناجعة لعلاج المجتمع واستإصالها منه.
لذا فمرادنا من توافق الهدف لقيم المجتمع إنما نقصد بها القيم الإيجابية، والأعراف السليمة التي توافق المفاهيم الإسلامية، وهو واضح كما أحسب.
فالهدف الناجح هو الذي يكون متوافقاً مع القيم السامية التي يعرفها المجتمع السليم، كي يتعاطى معه، ولا ينفر منه النّاس.
أما تلك الأهداف التي تحمل في جعبتها أفكاراً دخيلة على المجتمع، مجترة من هنا أو هناك فلن يكتب لها النجاح، ولو استجاب لها ثلة قليلة فهم شواذ، نبذهم النّاس، ولذا وجدنا الأفكار الإلحادية الشيوعية لما جاءت بشعارات لأهدافها الخبيثة باسم (عدل حرية مساوة) لهث ورائها بعض الإمعات الذين
(1) المفاتيح العشرة للنجاح، د. إبراهيم الفقي ص129.
(2)
ينظر: من أجل إنتاجية أفضل أهمية رسم الأهداف، د. عبد الكريم بكار.
لا يقفون على أرض ثابتة، ويركضون وراء كل ناعق، لكن غالب مجتمعنا العربي رفضها؛ لكونها لا تتوافق مع قيم المجتمع وثوابته الإسلامية.
لذا تجد الأهداف التي سعى إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم جاءت منسجمة مع القيم الرفيعة للمجتمع! نعم كانت هناك قيم كريمة في المجتمع الجاهلي، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:" أية أخلاق في الجاهلية، ما أشرفها! بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض"(1).
ومن ذلك: ما أخرجه أحمد بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق"(2). فمن أهم أهداف البعثة النبوية إتمام مكارم الإخلاق التي في المجتمع وتقويم المعوج من الاعتقاد والسلوكيات.
فالأهداف التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم تتلاءم مع القيم والثوابت السامية، وهي وإن انطمس بعضها بسبب ركام الوثنية والتكبر الجاهلي، بيد أنّّ القلوب الصافية والعقول النيرة سارعت إلى اعتناق هذه المبادئ والدعوة إليها والجهاد من أجل نشرها، فضحوا بالمال والنفس والأهل والوطن في سبيل الله تعالى ولنصرة مبادئ الإسلام الحنيف.
ومن عظيم خلق النبيّ صلى الله عليه وسلم وكمال فطنته أنه ركز على الإيجابيات في المجتمع على ما فيه من سلبيات جمة، فلم يقل (بعث لعلاج السلبيات)، وكذا لم يقل (لأتمم صالح العقيدة)، لأن العقيدة لا تقبل القسمة بين الله وغيره، فهي إما توحيد أو شرك، والمجتمع كان في جاهلية وشرك ووثنية.
وحريّ ببعض الحركات والجماعات والمؤسسات اليوم أن تعالج أسلوبها بهذا الهدي النبوي، فهي تسعى لأهداف راقية وكبيرة، ولكنها تغافلت عن الهدف الأكبر (التوحيد)، فتحولت الثوابت إلى متغيرات، والمتغيرات إلى ثوابت، باسم المصلحة والسياسة الشرعية، والحقيقة هي أنهم سيسوا الشرع، فحريّ بإخواننا التنبه لمثل هذه المزالق الخطرة عافنا الله وإياهم منها.
ومن الأمثلة أيضاً: ما أخرجه الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه يروي عن أبي سفيان رضي الله عنه،قبل أن يسلم: "أنّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبيٌّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إنّي سائل عن هذا الرجل فإنْ
(1) أخرجه ابن حبان في السيرة النبوية 1/ 93.
(2)
أخرجه أحمد 2/ 381،والبخاري في الأدب المفرد (273) بإسناد صحيح.
كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أنْ يأثروا عليّ كذباً لكذبت عنه. ثم كان أوّل ما سألني عنه أنْ قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسبٍ. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت لا. قال: فأشراف النّاس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أنْ يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أنْ يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيء، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة ". -إلى أن قال-:"فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنّه خارج لم أكن أظن أنّه منكم فلو أني أعلم حتى أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه .... الحديث "(1).
فتأمل في هذا الحوار المهم بين أبي سفيان وبين هرقل! وتأمل في أسئلة هرقل وتركيزه على القيم الأخلاقية للنبي صلى الله عليه وسلم، هل يكذب؟ هل يغدر؟ ثم سأل عن معالم دعوته صلى الله عليه وسلم،ثم لاحظ صدق لهجة أبي سفيان فلم يكذب على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتهمه بما ليس فيه! حتى حينما نغزه بكلمة (ولا ندري ما هو فاعل) تحرج أبو سفيان إلا أن يذكرها بعد اسلامه، لأن الكذب في موازين المجتمع آنذاك عيب كبير، على عداوته وبغضه للدين وقتئذٍ، وبين ذلك بقوله:(لولا الحياء من أنْ يأثروا علي كذباً لكذبت عنه ..) لذا لم يظهر في مجتمع مكة منافقون! وإنما ظهر خندق النفاق والكذب في أفراد من مجتمع المدينة لاختلاطهم باليهود وتاثرهم بقيمهم المعوجة.
فهذه القيم التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم كانت سبباً لإسلام كثير من النّاس بمجرد معرفته بمعالي الأمور التي يدعو إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى آمن له كثير من النّاس قبل أن يروه، لمجرد معرفتهم بالقيم العليا، ولم يقتصر هذا التأثير على الضعفاء والفقراء، بل بلغ هرقل، حتى كاد أن يسلم، كما سبق، وكذا النجاشي ملك الحبشة الذي آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ونصر دعوته، حتى صلى عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب لما بلغه موته رضي الله عنه،ولم ير النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يعرفه إلا من خلال مبادئه وقيمه التي نقلها إليه أصحابه المهاجرون رضي الله عنهم أجمعين.
فأخرج أحمد من حديث أمِّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم في قصتهم في هجرة الحبشة، لما أراد المشركون ارجاعهم إلى قريش، قالت: " .. فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في
(1) أخرجه البخاري (6)،ومسلم 3/ 1393 (1773)،وغيرهما.