الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثّاني: باب ما جاء في الاستنجاء بالحجرين، من أبواب الطهارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
1/25-28 سنن الترمذي بتحقيق وتعليق أحمد محمد شاكر
حدثنا هناد وقتيبة، قالا حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله1 قال:"خرج النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته فقال: "التمس لي ثلاثة أحجار" قال: فأتيته بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة2 وقال: "إنها ركس "34.
1 هو عبد الله بن مسعود بن غافل (بمعجمة وفاء) ابن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن من السابقين الأولين، ومن كبار العلماء من الصحابة، مناقبه جمّة، وأمّره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين أو في التي بعدها بالمدينة –روى له الجماعة "تقريب التهذيب 1/450" وانظر "الإصابة في تمييز أسماء الصحابة" 2/368.
2 الروثة كما في "القاموس المحيط" 1/168 واحدة الروث والأرواث، قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/271:"الروث: رجيع ذوات الحافر، والروثة أخص منه، وقد راثت تروث روثاً" ا?. وانظر "تاج العروس" 5/268.
3 ركس: بكسر الراء وإسكان الكاف "هو شبيه المعنى بالرجيع" يقال: ركست الشيء، وأركسته إذا رددته ورجعته. كذا في "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/259، وانظر "تاج العروس" 16/131 وفي "القاموس المحيط" 2/220 و"مختار الصحاح"/254 و"أساس البلاغة"/176 الركس بالكسر: الرجس ا?. والرجس هو النجس والقذر فعلى هذا "ركس" بالكاف والجيم، أي نجس.
قال ابن حجر "فتح الباري" 1/258 "قيل هي لغة في رجس –بالجيم- ويدل عليه رواية ابن ماجة 1/114 وابن خزيمة 1/39 فإنها عندهما بالجيم إلى أن قال: وأغرب النسائي 1/41 فقال عقب هذا الحديث: الركس: طعام الجن. وهذا إن ثبت في اللغة فهو مريح من الإشكال" ا?.
4 أخرجه أحمد في "مسنده" في موضعين: أحدهما: 1/388 والثاني: 1/465 ومن طريقه أخرجه ابن الجوزي في "التحقيق" 1ورقة 8 وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 1/155.
كلام الترمذي على هذا الحديث
قال أبو عيسى: وهكذا روى قيس بن الربيع1 هذا الحديث عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله نحو حديث إسرائيل2.
وروى معمر3 وعمار بن رزيق4، عن أبي إسحاق، عن علقمة5، عن عبد الله6
وروى زهير7، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن
1 ستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى قريباً.
2 لم أقف على من خرّج هذه الرواية سوى الترمذي.
3 تقدمت ترجمته في الحديث الأول.
4 عمار بن رزيق -بتقديم الراء- مصغراً الضبي، أو التميمي، أو الأحوص الكوفي، لا بأس به، من الثامنة مات سنة تسع وخمسين أي ومئة، روى له مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه "تقريب التهذيب" 2/47.
5 علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي، ثقة ثبت، فقيه عابد، من الثانية، مات بعد الستين، وقيل بعد السبعين، وروى له الجماعة "المصدر السابق" 2/31
6 أخرجه أحمد في "مسنده" 1/450 والدارقطني في "سننه" 1/55 وقال عقبه: اختلف على أبي إسحاق في إسناد هذا الحديث، وقد بينت الاختلاف في مواضع أخر. ا?. والبيهقي في "السنن الكبرى" 1/103 كلهم من طريق معمر عن أبي إسحاق.
7 زهير بن معاوية بن حديج أبو خيثمة الجعفي الكوفي نزيل الجزيرة، ثقة ثبت إلا أن سماعه من أبي إسحاق بآخره، من السابعة، مات سنة اثنتين أو ثلاث أو أربع وسبعين أي ومئة وكان مولده، سنة مئة، روى له الجماعة. (تقريب التهذيب) 1/265 وانظر في مصادر ترجمته:"تهذيب التهذيب" 3/351 و"تذكرة الحفاظ" 1/233 و"ميزان الاعتدال" 2/86 و"الجرح والتعديل" 1/2/588 و"التاريخ الكبير" 1/2/427 و"طبقات ابن سعد" 6/376.
الأسود1، عن أبيه الأسود بن يزيد 2، عن عبد الله3.
وروى زكريا بن أبي زائدة4، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد5 عن الأسود بن يزيد، عن عبد الله6. وهذا حديث فيه اضطراب.
1 عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، ثقة، من الثالثة، مات سنة تسع وتسعين، روى له الجماعة (المصدر السابق) 1/473.
2 الأسود بن يزيد بن قيس النخعي أبو عمرو، أو أبو عبد الرحمن، مخضرم ثقة مكثر، فقيه، من الثانية، مات سنة أربع أو خمس وسبعين، روى له الجماعة (المصدر السابق) 1/77.
3 أخرجه البخاري في "صحيحه" 1/49 والنسائي في "سننه" 1/39 وابن ماجه في "سننه" 1/418، 436 والإسماعيلي في "مستخرجه على صحيح البخاري" ذكره ابن حجر في "مقدمة الفتح"/349 و"الفتح" 1/258.
4 زكريا بن أبي زائدة خالد ويقال هبيرة بن ميمون بن فيروز الهمداني الوادعي أبو يحيى الكوفي، ثقة، وكان يدلس، وسماعه من أبي إسحاق بآخره، من السادسة، مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وأربعين أي ومئة، روى له الجماعة (تقريب التهذيب 1/261) .
5 عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبو بكر الكوفي، ثقة من كبار الثالثة، مات سنة ثلاث وثمانين أي ومئة، روى له الجماعة (المصدر السابق) 1/502.
6 أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" 1/155.
قال أبو عيسى: وأصحّ شيء في هذا عندي حديث إسرائيل وقيس، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة؛ لأن إسرائيل1 أثبت وأحفظ لحديث أبي
1 إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني أبو يوسف الكوفي، ثقة تكلم فيه بلا حجة، من السابعة، مات سنة ستين أي ومئة وقيل بعدها، روى له الجماعة (تقريب التهذيب 1/64) .
ولما كان إسرائيل أحد من طعن فيه من رواة البخاري، فقد ذكره ابن حجر في هدي الساري مقدمة فتح الباري/390 وقال عنه:"أحد الأثبات" ثم لخص الأقوال فيه ورتبها بشكل، جيد وقد دافع عنه، ورد على من ضعّفه.
وأورده الذهبي في "ميزان الاعتدال" 1/208 ودافع عنه؛ فقال: "أحد الأعلام وكان مع حفظه وعلمه صالحاً خاشعاً لله كبير القدر؛ وقال: قلت: إسرائيل اعتمده البخاري ومسلم، وهو في الثبت كالاسطوانة فلا يلتفت إلى تضعيف من ضعّفه" ا?.
وذكره في "تذكرة الحفاظ" 1/214 ودافع عنه أيضاً كما أدخله في رسالتيه:
"من تكلم فيه وهو موثق أو صالح الحديث" 1/44 نسخة بالآلة الكاتبة محققة؛ لنيل الماجستير من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بارياض.
و"الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد"/4 نسخة بخط اليد وقال في "المغني في الضعفاء": "أحد الثقات الأعلام" ا?.
انظر في مصادر ترجمته: "الجرح والتعديل 1/1/330" و"التاريخ الكبير" 1/2/56 و"التاريخ الصغير" 2/136 و"طبقات ابن سعد" 6/374 و"تاريخ بغداد" 7/20.
إسحاق من هؤلاء. وتابعه على ذلك قيس بن الربيع1.
قال أبو عيسى: وسمعت أبا موسى محمد بن المثنى2 يقول: سمعت عبد الرحمن بن مهدي3 يقول: "ما فاتني الذي فاتني من حديث سفيان الثوري4، عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتم".
قال أبو عيسى: وزهير في أبي إسحاق ليس بذاك سماعه منه بآخره.
قال: وسمعت أحمد بن الحسن الترمذي5 يقول: سمعت أحمد بن
1 قيس بن الربيع الأسدي أبو محمد الكوفي، صدوق، تغير لما كبر، أدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به، من السابعة، مات سنة بضع وسنيتين أي ومئة، روى له أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. (تقريب التهذيب 2/128) .
2 محمد بن المثنى بن عبيد العنزي -بفتح النون والزاي- أبو موسى البصري المعروف بالزمن، مشهور بكنيته، وباسمه، ثقة ثبت، من العاشرة، وكان هو وبندار فرسي رهان، وماتا في سنة واحدة، روى له الجماعة. (المصدر السابق) 2/204.
3 عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ، عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني:"ما رأيت أعلم منه"، من التاسعة، مات سنة ثمان وتسعين أي ومئة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، روى له الجماعة. (المصدر السابق) 1/499.
4 سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ، فقيه عابد، إمام حجة من رؤس الطبقة السابعة، وكان ربما دلس، مات سنة إحدى وستين أي ومئة وله أربع وستون، روى له الجماعة (تقريب التهذيب 1/311) .
5 أحمد بن الحسن بن جنيدب بالجيم والنون –مصغراً- الترمذي أبو الحسن، ثقة حافظ، من الحادية عشرة مات سنة خمسين أي ومئتين تقريباً روى له البخاري، والترمذي. (تقريب التهذيب) 1/13.
حنبل يقول: "إذا سمعت الحديث عن زائدة1، وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق".
وأبو إسحاق اسمه: عمرو بن عبد الله السبيعي الهمداني2.
وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود3 لم يسمع من أبيه، ولا يعرف اسمه.
1 زائدة بن قدامة الثقفي أبو الصلت الكوفي، ثقة ثبت، صاحب سنة، من السابعة مات سنة ستين أي ومئة وقيل بعدها، روى له الجماعة. (المصدر السابق) 1/256.
وفي "تهذيب التهذيب" 3/306 عن أبي داود الطيالسي قال: "لم يكن زائدة بالأستاذ في حديث أبي إسحاق" ا?.
2 عمرو بن عبد الله الهمداني أبو إسحاق السبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة- مكثر ثقة، عابد، من الثالثة، اختلط بآخره، مات سنة تسع وعشرين أي ومئة، وقيل قبل ذلك، روى له الجماعة. (تقريب التهذيب 2/73) .
وانظر في مصادر ترجمته: "تهذيب التهذيب" 8/63 و"تذكرة الحفاظ" 1/114 و"ميزان الاعتدال" 3/270 و"المغني في الضعفاء" 2/486 و"مقدمة فتح الباري"/431 و"الجرح والتعديل" 3/1/242 و"التاريخ الكبير" 3/2/347 و"التاريخ الصغير" 1/326 و"طبقات ابن سعد" 6/313 و"اللباب في تهذيب الأنساب" 2/102.
3 ستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى.
حدثنا محمد بن بشار العبدي1 حدثنا محمد بن جعفر2، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة3 قال: سألت أبا عبيدة بن عبد الله "هل تذكر من عبد الله شيئاً؟ قال: لا"4.
ترجيح الترمذي لرواية إسرائيل
قدم الترمذي بما ساقه من اختلاف الروايات على أبي إسحاق الدليل لما استخلصه منها في قوله "وهذا حديث فيه اضطراب".
وهو قبل أن يذكر لنا رأيه في هذا الاضطراب أطلعنا على موقف الدارمي منه، كما كشف لنا عن رأي البخاري فيه.
فقد قام الترمذي مشكوراً بعرض الاضطراب على الدارمي شيخه وشيخ شيخه، وعلى شيخه البخاري "وذلك في سبيل البحث عن حل له
1 محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري، أبو بكر بندار، ثقة من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين أي ومئتين، وله بضع وثمانون سنة، روى له الجماعة. (تقريب التهذيب 2/147) .
2 محمد بن جعفر المدني البصري، المعروف بغندر، ثقة، صحيح الكتاب إلا أن فيه غفلة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومئتين، روى له الجماعة. (المصدر السابق) 2/151.
3 عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملى -بفتح الجيم والميم- المرادي، أبو عبد الله الكوفي، الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس، ورمي بالإرجاء، من الخامسة مات سنة ثمان عشرة ومئة، وقيل قبلها، روى له الجماعة. (المصدر السابق 2/78) .
4 أدخل الترمذي هذا الحديث في كتابه "العلل الكبير" ورقة/5 ونقل الكلام عليه.
ومخرج منه". فذكر أنه سأل الدارمي عن أصح الروايات في ذلك؟ إلا أن الدارمي على جلالة قدره توقف، ولم يقض فيها بشيء، فلم يبد رأيه في الموضوع، ولم يفصل فيه بشيء لا بترجيح ولا غيره.
وذكر أنه سأل البخاري عن الموضوع؟ فكان موقفه منه مبدئياً يشبه تماماً موقف الدارمي أقر بالاضطراب، ولم يحكم فيه بشيء، ثم أداه اجتهاده إلى غير ذلك فاختار إحدى الروايات، وهي رواية زهير ووضعها في كتابه "الجامع الصحيح" وهذا ما نبه عليه الترمذي بقوله:"وكأنه –أي البخاري- رأى حديث زهير عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود أشبه، ووضعه في كتاب "الجامع".
فالبخاري بوضعه لرواية زهير في "صحيحه" يشير إلى ذلك الاجتهاد والترجيح من غير أن يصرّح. وبهذا الصنيع يكون البخاري قضى على الاضطراب.
أما الترمذي فإنه خالف شيخه، وخالف اجتهاده، فرجح رواية أخرى غير الرواية التي رجحها شيخه. فقد اجتهد الترمذي في إزالة هذا الاضطراب وأبدى رأيه، فرجح –بما ذكره من وجوه الترجيح الثلاثة- رواية إسرائيل على باقي الروايات بما فيها رواية زهير التي اختارها شيخه، وأودعها جامعه الصحيح.
وهذا يظهر لنا استقلال الترمذي وثقله في الميدان العلمي، وتمسكه بما يقوم لديه من دليل وحجة، فلم يقلد شيخه فيما رآه وذهب إليه.
والترمذي ليس وحده في هذا الترجيح، فقد قال ابن حجر في هدي الساري مقدمة فتح الباري1:"وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه، وأبي زرعة أنهما رجحا رواية إسرائيل2 وكأن الترمذي تبعهما في ذلك" ا?.
وجوه ترجيح الترمذي لرواية إسرائيل
والوجوه الثلاثة التي رجح بها الترمذي رواية إسرائيل هي:
أن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من زهير ومعمر ومن معهما.
وقد قوى هذا الوجه بما ذكره بإسناده عن عبد الرحمن بن
1 /348.
2 هكذا نقل ابن حجر عن أبي حاتم، وهو خلاف ما في "علل الحديث" لابن أبي حاتم؛ إذ فيه نسبة الترجيح إلى أبي زرعة فقط من غير تعرض لذكر أبيه، فقد قال في علل الحديث 1/42 سمعت أبا زرعة يقول في حديث إسرائيل عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم استنجى بحجرين وألقى الروثة.
فقال أبو زرعة: "اختلفوا في هذا الإسناد؛ فمنهم من يقول: عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله، ومنهم من يقول: عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله، ومنهم من يقول: عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله. والصحيح عندي حديث أبي عبيدة والله أعلم. وكذا يروي إسرائيل يعني عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة. وإسرائيل أحفظهم" ا?. وكذا في "نصب الراية" 1/116 نقلا عن "الخلافيات" للبيهقي.
هذا ويلاحظ في بعض الأسانيد التي ذكر أبو زرعة سقط.
مهدي، قال:"ما فاتني الذي فاتني من حديث سفيان الثوري عن أبي إسحاق إلا لما اتكلت به على إسرائيل؛ لأنه كان يأتي به أتم" ا?.
معنى هذا الكلام على ما في "الكوكب الدريّ"1: "أن الذي فاتني من حديث سفيان ولم اعتمد عليه، كان السبب فيه اتكالي على إسرائيل؛ فإنه كان يأتي برواية أبي إسحاق أتم من سفيان".
أن قيس بن الربيع تابع إسرائيل في روايته عن أبي إسحاق.
ما قاله في شأن زهير: "وزهير في أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأن سماعه منه بآخرة".
وقد أيّد الترمذي هذا الوجه بما قاله أحمد بن حنبل: "إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق".
والترمذي بهذا الوجه بالذات يبدو وأنه يرمي إلى تعليل رواية زهير التي اختارها شيخه، وتقوية موقفه باختياره لرواية إسرائيل، فزهير عنده سمع من أبي إسحاق بآخره، أما إسرائيل فإنه لم يسمع منه بآخره.
ابن حجر يثبت قوة ترجيح البخاري على ترجيح الترمذي
وإذا كان الترمذي تولى بنفسه ذكر تلك الوجوه لتقوية ترجيحه
1 1/19.
على ترجيح شيخه البخاري، فإن ابن حجر تولى في مقدمة فتح الباري1 والفتح2 بيان قوة ترجيح البخاري على ترجيح الترمذي، وفي أثناء ذلك تعرّض للجواب عن العلتين اللتين وجهتا إلى ما رجحه البخاري علة الاضطراب وعلة التدليس.
علة الاضطراب والجواب عنها
غير خاف أن الدارقطني3 انتقد فيما انتقد من أحاديث البخاري حديث زهير هذا الذي رجحه البخاري، ووضعه في كتاب "الجامع" فاعترض عليه بكثرة الاختلاف فيه على أبي إسحاق. فإن الدارقطني بعد أن ساق وجوه الاختلاف فيه على أبي إسحاق بأتم مما ساقه الترمذي وغيره قال:"وأحسنها سياقاً الطريق الأولى التي أخرجها البخاري، ولكن في النفس منها شيء، لكثرة الاختلاف فيه على أبي إسحاق" ا?.
فالدارقطني كان موافقاً للترمذي في موضوع الاضطراب، وقد صرّح بأن الطريق التي أخرجها البخاري أحسن الطرق سياقاً، ولولا الاستدراك الذي أتى به لقلنا بأنه يؤيد موقف البخاري في اختياره وترجيحه، إلا أنه في استدراكه أبان وجه نقده وطعنه لرواية البخاري
1 /348.
2 1/256 وما بعدها.
3 التتبع/303 مع الإلزامات له نسخة محققة؛ لنيل درجة الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة النبويّة.
هذه. ومعنى هذا أن علة الاضطراب لا زالت باقية فيها عند الدارقطني.
ولما كان الاعتراض من الدارقطني بمثل هذا يقدح في شرط البخاري الذي شرطه في كتابه وهو أن يخرّج فيه الصحيح، والحديث المضطرب ليس بصحيح كما هو معروف، فإننا نجد ابن حجر يدافع عن البخاري وينتصر له، ويحقق في الموضوع، فيرد دعوى الاضطراب هذه، وينفيها بعدم استواء وجوه الاختلاف على أبي إسحاق فيه، حيث أمكن ترجيح بعضها على بعضها الآخر.
ومعنى هذا تخلف أحد الشرطين الموجبين للاضطراب وهما كما قال ابن حجر1:
"استواء وجوه الاختلاف، فمتى رجّح أحد الأقوال قدّم ولا يعل الصحيح بالمرجوح.
مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه، فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف عن الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك" ا?.
ويعقّب ابن حجر على هذا بقوله: "وهنا يظهر عدم استواء وجوه الاختلاف على أبي إسحاق فيه؛ لأن الروايات المختلفة عنه لا يخلو إسناد منها من مقال غير الطريقين المقدم ذكرهما عن زهير، وعن إسرائيل، مع أنه يمكن ردّ أكثر الطرق إلى رواية زهير" ا?.
1 هدي الساري مقدمة فتح الباري/348.
ونفهم من هذا الكلام أنه لا اضطراب في الروايات؛ لأن بعضها راجح وبعضها مرجوح، والراجح منها رواية إسرائيل التي اعتمدها الترمذي، ورواية زهير التي اعتمدها البخاري، وقد صرّح ابن حجر بأرجحيتهما على غيرهما في كلام قبل ذلك فقال1:"مجموع كلام الأئمة مشعر بأن الراجح على الروايات كلها إما طريق إسرائيل، وهي عن أبي عبيدة، عن أبيه، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه فيكون الإسناد منقطعاً، أو رواية زهير، وهي عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه عن ابن مسعود فيكون متصلا، وهو تصرف صحيح؛ لأن الأسانيد فيه إلى زهير وإلى إسرائيل أثبت من بقية الأسانيد، وإذا تقرر ذلك كانت دعوى الاضطراب في هذا الحديث منتفية" ا?.
علة التدليس والجواب عنها
ننتقل بعد ذلك إلى علة التدليس التي أعله بها الشاذكوني2 فإنه
1 هدي الساري مقدمة فتح الباري/348.
2 الشاذكوني: -بفتح الشين وسكون الألف وفتح الذال وضم الكاف- وفي آخرها نون قال الذهبي في كتابه "المغني في الضعفاء": "سليمان بن داود المنقري الشاذكوني" الحافظ مشهور رماه ابن معين بالكذب وقال البخاري: فيه نظر.
وعن ابن معين أيضاً قال: كان يضع الحديث. وسئل صالح بن محمد جزرة عنه؟ فقال: "ما رأيت أحفظ منه، لكنه يكذب في الحديث" وقال عنه في "تذكرة الحفاظ": "الحافظ الشهير أبو أيوب
…
البصري من أفراد الحافظين إلا أنه واه" ا?. وقال السخاوي في "فتح المغيث": "كان من الحفاظ الكبار، إلا أنه كان يتهم بشرب النبيذ، وبالوضع حتى قال البخاري: هو أضعف عندي من كل ضعيف" ا?. وسرده ابن عراق في أول كتابه "تنزيه الشريعة" في أسماء الوضاعين والكذابين. "المغني في الضعفاء" 1/279 "ميزان الاعتدال" 2/205 "لسان الميزان" 3/84 "تذكرة الحفاظ" 2/488 "فتح المغيث" 1/337 "تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة" 1/64 "اللباب في تهذيب الأنساب" 2/172.
صرّح –فيما حكاه الحاكم1 عنه- بأن أبا إسحاق دلّس هذا الخبر عن عبد الرحمن بن الأسود، فقال في قول أبي إسحاق "ليس أبو عبيدة ذكره ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه
…
": ما سمعت بتدليس قط أعجب من هذا ولا أخفى، قال: "أبو عبيدة لم يحدثني، ولكن عبد الرحمن عن فلان عن فلان" ولم يقل:"حدثني" فجاز الحديث وسار" ا?.
فعند الشاذكوني أن قوله "ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه" تدليس، حيث لم يقل مثلا "ولكن عبد الرحمن بن الأسود ذكره لي فأوهم أنه سمعه منه".
ولما كان أبو إسحاق2 معروفاً بالتدليس، فهذا مما دلسه ولم يسمعه
1 معرفة علوم الحديث/109 وانظر: "هدي الساري مقدمة فتح الباري"/349 و"نصب الراية" 1/216.
2 سرده العلائي في أسماء المدلسين وقال: "كبير مشهور بذلك" ا?. "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" 1/193 وانظر: 2/583 منه. وأورده ابن حجر في "طبقات المدلسين" في الثالثة منها/11 وقال: "مشهور بالتدليس وصفه النسائي وغيره بذلك" ا?. وقال في "تهذيب التهذيب" في ترجمته 8/66 قال ابن حبان في "كتاب الثقات": "كان مدلساً" وكذا ذكره في المدلسين حسين الكرابيسي، وأبو جعفر الطبري، وقال ابن المديني في "العلل" قال شعبة: سمعت أبا إسحاق يحدث عن الحارث بن الأزمع بحديث فقلت له: سمعت منه؟ فقال: حدثني به مجالد عن الشعبي عنه.
قال شعبة: وكان أبو إسحاق إذا اخبرني عن رجل قلت له: هذا أكبر منك؟ فإن قال: نعم، علمت أنه لقيه، وإن قال: أنا أكبر منه تركته.
وقال أبو إسحاق الجوزجاني: حدثنا إسحاق ثنا جرير عن معن (الذي في "ميزان الاعتدال" 3/270 مغيرة) قال: "أفسد حديث أهل الكوفة الأعمش وأبو إسحاق يعني للتدليس" ا?.
من عبد الرحمن، فيكون الحديث منقطعاً ولا يأخذ حكم الاتصال.
والذي يبدو أن الشاذكوني لم ينفرد بما ذكره من علة التدليس في الحديث، فإن السيوطي أورد قول أبي إسحاق "ليس أبو عبيدة
…
" الخ في "تدريب الراوي"1 مثالا على قسم من أقسام تدليس الإسناد مصدراً له بقوله: "وقال جماعة: كان أبو إسحاق يقول ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن ابن الأسود عن أبيه. فقوله عبد الرحمن "تدليس يوهم أنه سمعه منه" ا?.
وهنا ملاحظة وهي أن السيوطي ضرب هذا مثالا للتدليس ولم ينفه، وكان من حقه لو لم يكن تدليساً لنفاه.
1 /142.
وجوه تقديم ما رجحه البخاري على ما رجحه الترمذي
وفيما يلي الأسباب التي دعت إلى تقديم ما رجحه البخاري حسب ما ذكره ابن حجر:
متابعة يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق1، وزكرياء بن أبي زائدة2، وشريك3 القاضي، وغيرهم لزهير وهي متابعات تامة.
متابعة ليث بن أبي سليم لأبي إسحاق وهي متابعة قاصرة أخرجها أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"4.
قال ابن حجر (5) :"وليث وإن كان ضعيف الحفظ، فإنه يعتبر به، ويستشهد، فيعرف أن له من رواية عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أصلا" ا?.
اختيار أبي إسحاق في رواية زهير لطريق عبد الرحمن بن الأسود وعدوله عن رواية أبي عبيدة.
1 يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، وقد ينسب لجده، ثقة، من السابعة، مات سنة سبع وخمسين أي ومئة، روى له الجماعة. (تقريب التهذيب 2/379) .
2 تقدمت ترجمته.
3 شريك بن عبد الله النخعي، أبو عبد الله، صدوق يخطئ كثيراً، تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة، وكان عادلا فاضلا، عابداً شديداً على أهل البدع، من الثامنة مات سنة سبع أو ثمان وسبعين أي ومئة، روى له البخاري، ومسلم، والأربعة. (المصدر السابق 1/351) .
4 1/155.
5 هدي الساري مقدمة فتح الباري/349.
قال ابن حجر1: "ثم أن ظاهر سياق زهير يشعر بأن أبا إسحاق كان يرويه أولا عن أبي عبيدة، عن أبيه، ثم رجع عن ذلك، وصيره عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه. فهذا صريح في أن أبا إسحاق كان مستحضراً للسندين جميعاً عند إرادة التحديث، ثم اختار طريق عبد الرحمن، واضرب عن طريق أبي عبيدة. فأما أن يكون تذكر أنه لم يسمعه من أبي عبيدة، أو كان سمعه منه، وحدث به عنه، ثم عرف أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه فيكون الإسناد منقطعاً فأعلمهم أن عنده فيه إسناداً متصلا، أو كان حدّث به عن أبي عبيدة مدلساً له ولم يكن سمعه منه" ا?.
فابن حجر وإن لم يجزم هنا بأحد هذه الثلاثة الأمور التي ذكرها في بيان سبب عدول أبي إسحاق عن طريق أبي عبيدة، فإنه جزم بواحد منها أثناء تعرضه للحديث من "الفتح"2 فقال:
"وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له؛ لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن؛ فإنها موصولة" ا?.
وقد ختم ابن حجر بالآتي مثبتاً على البخاري وعلى دقته وقوة علمه، ومتعجباً ممن حكم على ما اختاره البخاري بالمرجوحية فقال: "وإذا تقرر
1 هدي الساري مقدمة فتح الباري/349.
2 1/257.
ذلك لم يبق لدعوى التعليل عليه مجال؛ لأن روايتي إسرائيل وزهير لا تعارض بينهما، إلا أن رواية زهير أرجح؛ لأنها اقتضت رفع الاضطراب عن رواية إسرائيل، ولم تقتض ذلك رواية إسرائيل، فترجحت رواية زهير.
وأما متابعة قيس بن الربيع لرواية إسرائيل، فإن شريكاً القاضي تابع زهيراً وشريك أوثق من قيس
على أن الذي حررناه لا يرد شيئاً من الطريقين إلا أنه يوضح قوة طريق زهير واتصالها وتمكنها من الصحة، وبعد إعلالها، وبه يظهر نفوذ رأي البخاري، وثقوب ذهنه، والله أعلم. وقد أخرج البخاري1 من حديث أبي هريرة ما يشهد لصحة حديث ابن مسعود، فازداد قوة بذلك.
فانظر إلى هذا الحديث كيف حكم عليه بالمرجوحيّة مثل أبي حاتم وأبي زرعة، وهما إماما التعليل، وتبعهما الترمذي، وتوقف الدارمي، وحكم عليه بالتدليس الموجب للانقطاع أبو أيوب الشاذكوني، ومع ذلك فتبيّن بالتنقيب والتتبع التام أن الصواب في الحكم له بالراجحية، فما ظنك بما يدعيه من هو دون هؤلاء الحفاظ النقاد من العلل؟ هل يسوغ أن يقبل منهم في حق مثل هذا الإمام مسلماً؟ كلا والله والله الموفق" ا?.
1 1/255 مع فتح الباري قال: حدثنا أحمد بن محمد المكيّ: قال: حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو المكي عن جده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتبعت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته فكان لا يلتفت فدنوت منه فقال: "أبغني أحجاراً استنفض بها –أو نحوه- ولا تأتني بعظم ولا روث، فأتيته بأحجار بطرف ثيابي فوضعتها إلى جنبه وأعرضت عنه فلما قضى أتبعه بهن" ا?.
موافقة المباركفوري وأحمد شاكر لابن حجر
وقد وافق ابن حجر في تقديم رواية زهير على رواية إسرائيل كلٌّ من المباركفوري في تحفة الأحوذي1، وأحمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي2
مناقشة المباركفوري للترمذي في ترجيحه لرواية إسرائيل
والمباركفوري قد انضم إلى ابن حجر في الانتصار لموقف البخاري؛ فإنه ناقش الترمذي في كل وجه من الوجوه الثلاثة التي رجّح بها رواية إسرائيل، فأتى عليها كلها بالتضعيف؛ إذ أورد في كل وجه منها ما يعارضه فقال3:"اعلم أن الترمذي رجح رواية إسرائيل على رواية زهير التي وضعها الإمام البخاري في "صحيحه" وعلى روايات معمر وغيره بثلاثة وجوه:
الأول: أن إسرائيل أثبت، وأحفظ لحديث أبي إسحاق من زهير ومعمر وغيرهما.
الثاني: أن قيس بن الربيع تابع إسرائيل على روايته، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله.
الثالث: أن سماع إسرائيل من أبي إسحاق ليس في آخر عمره، وسماع زهير منه في آخر عمره.
1 1/86.
2 1/27.
3 تحفة الأحوذي 1/86.
قلت (القائل المباركفوري) في كل من هذه الوجوه الثلاثة نظر: فما قال في الوجه الأول، فهو معارض بما قال الآجري:"سألت أبا داود عن زهير وإسرائيل في أبي إسحاق؟ فقال: زهير فوق إسرائيل بكثير".
وما قال في الوجه الثاني من متابعة قيس بن الربيع لرواية إسرائيل. فإن شريكا القاضي تابع زهيراً، وشريك أوثق من قيس. وأيضاً تابع زهيراً، إبراهيم1 بن يوسف عن أبيه، وابن حماد الحنفي، وأبو مريم وزكريا بن أبي زائدة.
وما قال في الوجه الثالث، فهو معارض بما قال الذهبي2:"قال أحمد بن حنبل: "حديث زكريا وإسرائيل عن أبي إسحاق لين سمعا منه بأخرة" ا?.
ثم يخلص المباركفوري إلى هذه النتيجة التي يصرّح فيها بضعف هذه الوجوه وترجيح رواية زهير، فيقول:"فظهر أنه ليس لترجيح رواية إسرائيل وجه صحيح، بل الظاهر أن الترجيح لرواية زهير التي رجحها البخاري ووضعها في صحيحه" ا?.
مناقشتي للمباركفوري فيما اعترض به
وإذا كان يحفظ للمباركفوري أنه اعتنى بما ذكره الترمذي من وجوه ترجيح لما اختاره ولم يهمله، بل ناقشه فيه ورده بما أتى به، فإن
1 هذا خطأ فإن إبراهيم لم يتابع زهيراً وإنما الذي تابعه هو أبوه يوسف حفيد أبي إسحاق.
2 ميزان الاعتدال 2/73 من ترجمة زكريا بن أبي زائدة.
ابن حجر لم يتعرض إلا لواحد منها وهو متابعة قيس لإسرائيل حيث قال1: "وأما متابعة قيس بن الربيع لرواية إسرائيل، فإن شريكاً القاضي تابع زهيراً وشريك أوثق من قيس" ا?.
وأما الوجهان الآخران فلم يتعرض لهما بشيء من الذكر بل ركز على بيان وجوه ترجيح رواية زهير التي اختارها البخاري.
وأنا أرى بنظري القاصر أنه من تمام البحث ومن مكملات الترجيح لرواية زهير أن يجاب عن أوجه ترجيح الرواية التي في مقابلها، وهي رواية إسرائيل.
وقد فعل المباركفوري حسناً حين تولى ذلك وكمل موضوع ترجيح رواية زهير، ولكن هذا لا يمنع من مناقشة المباركفوري في أجوبته تلك، بل أرى أنه لا مانع من مناقشة من هو أكبر منه إذا ظهر محل لذلك، وكان القصد واضحاً، والحق هو الرائد.
فلا أدري كيف يعارض المباركفوري الوجه الأول بما قاله أبو داود وهو قول واحد، فلو لم يكن في إسرائيل وأنه أثبت وأحفظ من زهير وغيره في أبي إسحاق لكثرة ممارسته لحديثه إلا قول الترمذي ذلك، فإنه ما كان ينبغي أن نعارضه بقول أبي داود في زهير، ومن ثم أخذه في جانب ترجيح رواية زهير فكان على الأقل أن يقال –والحالة هذه-: ليس قول كل واحد منهما أي من الترمذي، وأبي داود بأولى من الآخر؛ فإن كليهما إمام معتبر لا يبعد أحدهما عن الآخر.
1 هدي الساري مقدمة فتح الباري/349.
كيف وقد أيّد الترمذي ما قاله بما نقله عن ابن مهدي من اتكاله وهو الإمام على إسرائيل في حديث أبي إسحاق بدل سفيان لأن إسرائيل كان يأتي به أتم.
فهذه شهادة لها قيمتها من مثل ابن مهدي بل نقل ابن حجر1 عنه أنه قال في حق إسرائيل: "إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري".
فهذا تصريح منه بتقديم إسرائيل في أبي إسحاق ليس في سفيان فقط، بل وفي شعبة أيضاً2 وشعبة وسفيان هما من هما ليس شأنهما هيناً، بل هما جبلان.
1 تهذيب التهذيب 1/263.
2 قال الشيخ أحمد شاكر في "تعليقه على مسند الإمام أحمد بن حنبل" عند الحديث رقم (7711) تحت عنوان "تبرئة إسرائيل من كلمة شانئة وقعت في التهذيب" قال: و"جاءت كلمة في آخر ترجمته في التهذيب"(1/263) توهم جرحاً شديداً هي: وهم ممن رواها، أو ممن روى عمن رواها ففيه:"قال عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي: إسرائيل لص يسرق الحديث". ومعاذ الله أن يوصم بهذا، وعبد الرحمن أجل وأتقى لله من أن يرميه به.
والرواية الصحيحة الثابتة ما روى ابن أبي حاتم في ترجمته "الجرح والتعديل" 1/1/330 أخبرنا عبد الله بن أحمد –فيما كتب إلي- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة سمعت ابن مهدي يقول: "كان إسرائيل في الحديث لصاً" يعني أنه يتلقف العلم تلقفاً. فهذا هو صواب الكلمة وصواب تفسيرها عن أبي بكر بن أبي شيبة وما أظن أن أخاه عثمان فسرها بما جاء في التهذيب.
الراجح عندي أنه تفسير ممن نقلها عنه ثم كيف يقول فيه ابن مهدي هذا المعنى المنكر وهو يروي عنه؟ بل يقول: "إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري" بل إن الذهبي في "الميزان" ترجمة (1/208) ذكر ما تكلم به بعضهم في إسرائيل، ولم يذكر هذه الكلمة، ولا تفسيرها المنكر، بل قال:"إسرائيل اعتمده البخاري ومسلم في الأصول وهو في الثبت كالاسطوانة، فلا يلتفت إلى تضعيف من ضعّفه" ا?.
وقال المعلمي في تعليقه على "الجرح والتعديل" 1/1/330 معلقاً على قول ابن أبي حاتم الذي نقله أحمد شاكر: "في التهذيب (1/263) قال عثمان بن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي: إسرائيل لص يسرق الحديث".
كذا قال والمعروف عن ابن مهدي توثيق إسرائيل والثناء عليه. وفي التهذيب: "وقال ابن مهدي إسرائيل في أبي إسحاق أثبت من شعبة والثوري".
فكلمة يسرق الحديث إنما هي من قول عثمان، فسر بها كلمة لص، والصواب ما قاله المؤلف.
قال ابن رجب1: "وقد رجحت طائفة إسرائيل في أبي إسحاق خاصة على الثوري وشعبة، ومنهم ابن مهدي" ا?.
ولا نفاجأ إذا وجدنا شعبة نفسه يعترف بترجيح إسرائيل عليه في حديث أبي إسحاق، فقد قال ابن حجر في "تهذيب التهذيب"2:"قال حجاج الأعور: قلنا لشعبة: حدثنا حديث أبي إسحاق قال: سلوا عنها إسرائيل فإنه أثبت فيها مني" ا?.
قال الذهبي في ميزان الاعتدال3 وقد أورد إسرائيل فيه: "قلت:
1 شرح علل الترمذي/376.
2 1/263.
3 1/209.
إسرائيل اعتمده البخاري ومسلم في الأصول، وهو في الثبت كالاسطوانة، فلا يلتفت إلى تضعيف من ضعّفه، نعم شعبة أثبت منه إلا في أبي إسحاق" ا?.
فأنت ترى أن الذهبي يلفت النظر إلى هذه الناحية، ويؤكذ عليها، وهي تقديم إسرائيل في أبي إسحاق على شعبة؛ لأن إسرائيل أثبت منه فيه.
أما رأي أحمد، وابن معين، ومعاذ بن معاذ فهو تقديم شعبة والثوري على إسرائيل في أبي إسحاق، فرأي هؤلاء في شعبة يخالف رأيه هو في نفسه كما لا يخفى.
قال ابن حجر1: "وقدم ابن معين وأحمد شعبة والثوري على إسرائيل في حديث أبي إسحاق، وقدمه ابن مهدي عليهما" ا?.
وقال ابن أبي خيثمة2: "سمعت ابن معين يقول: أثبت أصحاب أبي إسحاق: الثوري وشعبة، وهما أثبت من زهير وإسرائيل، وهما قرينان. قال: سمعت ابن معين يقول: لم يكن أحد أعلم بحديث أبي إسحاق من الثوري" ا?.
وقال ابن المديني3: سمعت معاذ بن معاذ وقيل له: أي أصحاب أبي إسحاق أثبت؟ قال: "شعبة وسفيان" ثم سكت.
1 هدي الساري مقدمة فتح الباري/390.
2 شرح علل الترمذي لابن رجب/373-374.
3 شرح علل الترمذي لابن رجب/373.
ولا نستغرب إذا عرفنا أن هذا أيضاً رأي الترمذي وهو تقديم شعبة والثوري على إسرائيل وغيره ممن روى عن أبي إسحاق، فقد ذكر الترمذي في كتابه "الجامع"1 أن الثوري وشعبة أحفظ وأثبت من جميع من روى عن أبي إسحاق.
ولا خلاف بين هذا وبين ما ذكر هنا مما نحن بصدده، فقد أشار هنا إلى أن إسرائيل أرجح ومقدم في أبي إسحاق من زهير ومن ذكر معه، وواضح أنه ليس فيمن ذكر معه شعبة والثوري.
قال ابن حجر2: "وقدمه أحمد في حديث أبي إسحاق على أبيه3، وكذا قدمه أبوه على نفسه" ا?.
قال الأثرم4 "وضعّف أحمد حديث يونس بن أبي إسحاق عن أبيه، وقال: "حديث إسرائيل أحبّ إلي منه" ا?.
قال أبو طالب5: قلت لأحمد: من أحبّ إليك يونس أو إسرائيل في أبي إسحاق؟ قال: إسرائيل؛ لأنه كان صاحب كتاب.
1 4/230 بشرح تحفة الأحوذي.
2 هدي الساري مقدمة فتح الباري/390.
3 يونس بن أبي إسحاق السبيعي أبو إسرائيل الكوفي، صدوق يهم قليلا، من الخامسة، مات سنة اثنتين وخمسين أي ومئة على الصحيح، روى له البخاري في جزء القراءة، ومسلم، والأربعة. (تقريب التهذيب 1/384) .
4 شرح علل الترمذي لابن رجب/375.
5 الجرح والتعديل 1/1/331 وتهذيب التهذيب 1/262.
وتقديم أبيه له على نفسه ذكره عيسى بن يونس1 أخو إسرائيل قال2: "كان أصحابنا سفيان وشريك وعدّ قوماً إذا اختلفوا في حديث أبي إسحاق يجيئون إلى أبي فيقول: "اذهبوا إلى ابني إسرائيل فهو أروى عنه مني، وأتقن لها مني، هو كان قائد جده".
قال شبابة بن سوار3: "قلت ليونس بن أبي إسحاق: أمل علي حديث أبيك. قال: اكتبه عن ابني "إسرائيل" كان أبي أملاه عليه".
أما أبو حاتم فجعله مرة من أتقن أصحاب أبي إسحاق4، ومرة قال5:"زهير أحبّ إلينا من إسرائيل في كل شيء إلا في حديث أبي إسحاق". وهذا -كما يبدو- يعود إلى الأول؛ إذ مفهومه: إسرائيل أحبّ إليه من زهير في حديث أبي إسحاق.
وقال أبو زرعة –فيما نقله عنه ابن أبي حاتم6- "وإسرائيل أحفظهم".
1 عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي -بفتح المهملة وكسر الموحدة- أخو إسرائيل، كوفي نزل الشام مرابطاً، ثقة مأمون، من الثامنة، مات سنة سبع وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين أي ومئة، روى له الجماعة. (تقريب التهذيب 2/103) .
2 تهذيب التهذيب 1/262.
3 الجرح والتعديل 1/1/330 وتهذيب التهذيب 1/262.
4 الجرح والتعديل 1/1/331 وانظر "تهذيب التهذيب" 1/263 في ترجمة إسرائيل.
5 الجرح والتعديل 1/2/589 وانظر "تهذيب التهذيب" 3/352 في ترجمة زهير بن معاوية.
6 علل الحديث 1/42.
وإذا أصغينا إلى قول غيره فيه فلننصت إلى قوله هو عن نفسه وقد أفصح عن حاله في أحاديث جده أبي إسحاق كما قال1 –فيما رواه أخوه عيسى عنه-: "كنت أحفظ حديث أبي إسحاق كما أحفظ السورة من القرآن".
نقل السخاوي في "فتح المغيث"2 عن ابن مهدي أنه قال في إسرائيل: "إنه كان يحفظ حديث جده كما يحفظ سورة الحمد".
وأخيراً فما هو رأي القارئ الكريم في كل هذه النقولات؟! بل ما هو رأي المباركفوري نفسه فيها؟ أما أنا فأقول إنه لا يمكن أن يقف أمامها قول أبي داود الذي حكاه الآجري عنه، ونقله المباركفوري معارضاً به وجه تقديم الترمذي إسرائيل على زهير في حديث أبي إسحاق.
وقد فرغنا من ذلك ننتقل عقبه إلى شيء آخر لنا فيه وقفة مع المباركفوري، وهو أنه ذكر في جوابه على الوجه الثالث أنه معارض بما نقله الذهبي3 عن أحمد، قال:"حديث زكريا وإسرائيل عن أبي إسحاق لين سمعا منه بآخرة".
والحقيقة أن هذا لا يعارض قول الترمذي من كل وجه، غاية ما فيه أن إسرائيل أيضاً ممن سمع من أبي إسحاق بآخره.
1الجرح والتعديل 1/1/330 وتهذيب التهذيب 1/263.
2 1/166.
3 ميزان الاعتدال 2/73 في ترجمة زكريا بن أبي زائدة.
أما سماع زهير منه بآخرة فإنه باقي كما صرّح به الترمذي، حيث لم يتعرض له بأي نفي.
وإذا كان الأمر كذلك أصبحت رواية زهير ورواية إسرائيل على حدّ سواء؛ لأن زهيراً سمع من أبي إسحاق بآخره؛ بناء على قول الترمذي؛ ولأن إسرائيل سمع منه بآخره؛ بناء على قول أحمد، ويكون التعليل الذي أراد الترمذي أن يعلل به رواية زهير وهو سماعه من أبي إسحاق بآخره موجوداً في رواية إسرائيل.
وإذا علم ذلك فالتعارض بهذا الشكل مسلم، أما إذا أريد به إسقاط رواية إسرائيل وترجيح رواية زهير عليها فلا.
والواقع أنه وجد من خالف في إسرائيل، ولم أر أحداً خالف في زهير. فإذا كان إسرائيل عند أحمد وعند ابن معين أيضاً1 ممن سمع من أبي إسحاق بآخره، فإن سماعه من أبي إسحاق عند ابن مهدي وأبي حاتم، ويضاف إليها الترمذي متقدم ليس بآخره وقد ذكر الخلاف في ذلك السيوطي في "تدريب الراوي"2، وسبقه إليه العراقي3، فقال السيوطي عقب عد النووي في "تقريبه" لأبي إسحاق فيمن خلط4 من الثقاة:
1 كما سيأتي قريباً.
2 /523.
3 التقييد والإيضاح/445.
4 قال ابن منظور في "لسان العرب" 9/165: "اختلط فلان أي فسد عقله ورجل
"وممن سمع منه حينئذ إسرائيل بن يونس، وزكريا بن أبي زائدة، وزهير، وخالف ابن مهدي، وأبو حاتم في إسرائيل" ا?.
وفي نظري لو قدم أحد إسرائيل على زهير في أبي إسحاق بالنسبة لهذا الوجه لكان مندوحة لأن إسرائيل فيه خلاف، أما زهير فلا خلاف فيه، فما هي إلا كلمة واحدة وهي أنه سمع منه بآخره.
وأخيراً اذكر بما مضى، أذكر بالثناء الذي لاقاه إسرائيل لحفظه وضبطه وتثبته في حديث أبي إسحاق مما لا يتفق والقول بأنه سمع من أبي إسحاق بآخره؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما وصف بذلك الوصف، وذلك الضبط والإتقان، نتبيّن هذا واضحاً في موقف من خالف في سماعه من أبي إسحاق بآخره؛ إذ هم بعض من أثنى عليه بما سبق.
على أنه ينبغي أن يستفاد هنا من شهادة شعبة المتقدمة لإسرائيل، فمع كون شعبة وصف بأنه أقدم سماعاً من إسرائيل في أبي إسحاق فقد رأينا كيف شهد له بأنه أثبت منه في أحاديث أبي إسحاق، وهي شهادة
ورجل خلط بين الخلاطة أحمق مخالط العقل. ويقال: خولط الرجل فهو مخالط واختلط عقله فهو مختلط إذا تغيّر عقله" ا?. وانظر تاج العروس 5/134.
وقال السخاوي في "فتح المغيث" 3/231 "وحقيقته أي الاختلاط: فساد العقل وعدم انتظام الأقوال والأفعال إما بخرف أو ضرر أو مرض أو عرض من موت ابن وسرقة مال كالمسعودي أو ذهاب كتب كابن لهيعة أو احتراقها كابن الملقن" ا?.
لها قيمتها، ولا يستغنى عنها المقام، وهذا ابن مهدي يقدم إسرائيل على شعبة والثوري في أبي إسحاق والثوري من أصحاب أبي إسحاق القدماء أيضاً بلا خلاف.
نعم على رأي الذهبي الذي ينفى أن يكون أبو إسحاق اختلط لا يبقى لهذه النقطة أي أثر، ويكون بحثها ضرباً من العبث.
فإن الذهبي قال في "ميزان الاعتدال"1 عن أبي إسحاق وقد أورده فيه: "من أئمة التابعين بالكوفة وأثباتهم إلا أنه شاخ ونسي ولم يختلط، وقد سمع منه ابن عيينة، وقد تغير قليلا" ا?.
ولما قال ابن الصلاح في "علوم الحديث"2: "أبو إسحاق اختلط أيضاً، ويقال: إن سماع سفيان بن عيينة منه بعد ما اختلط ذكر ذلك أبو يعلى الخليلي" ا?.
علّق عليه العراقي في "التقييد والإيضاح"3 بقوله: فيه أمور. فنذكر منها:
أحدها: أن صاحب الميزان أنكر اختلاطه، ثم نقل كلامه الآنف الذكر، ولم يتعقبه بشيء، بل اكتفى بما ذكر، وكذا فعل في "التبصرة والتذكرة"4.
1 3/270 وانظر: "تذكرة الحفاظ" 1/233 في ترجمة زهير بن معاوية حيث أنكر اختلاط أبي إسحاق.
2 /353.
3 /445.
4 3/266.
وممن اكتفى بالإشارة إلى ذلك والتنبيه عليه أيضاً السخاوي في "فتح المغيث"1، والسيوطي في "تدريب الراوي"2.
ولا أدري كيف أنكر الذهبي ذلك، وقد جاء وصفه بالاختلاط على لسان أحمد، ويحيى بن معين، وأبي زرعة، وغيرهم.
قال محمد بن موسى بن مشيس3: "سئل أحمد بن حنبل: أيما أحبّ إليك شريك أو إسرائيل؟ فقال: إسرائيل هو أصحّ حديثاً من شريك إلا في أبي إسحاق، فإن شريكاً أضبط عن أبي إسحاق. قال: وما روى يحيى (يعني القطان) عن إسرائيل شيئاً. فقيل: لم؟ فقال: لا أدري أخبرك إلا أنهم يقولون من قبل أبي إسحاق؛ لأنه خلط" ا?.
ونقل الدوري عن يحيى بن معين قال4: زكريا وزهير وإسرائيل حديثهم عن أبي إسحاق قريب من السواء سمعوا منه بأخرة، إنما صحب أبا إسحاق سفيان وشعبة.
وقال أبو زرعة5 في زهير بن معاوية: "ثقة إلا أنه سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط".
1 3/334.
2 /523.
3 التقييد والإيضاح/445، التاريخ 2/134 وليس فيه قوله "سمعوا منه بأخرة".
4 انظر: تهذيب التهذيب 1/263 وشرح علل الترمذي لابن رجب/375.
5 الجرح والتعديل 1/2/589 وميزان الاعتدال 2/86.
وقال أبو عثمان البرذعي1: سمعت أبا زرعة يقول: سمعت ابن نمير يقول: سماع يونس وزكريا وزهير من أبي إسحاق بعد الاختلاط.
وماذا يعني قول أحمد الذي نقله ابنه صالح عنه2: "إسرائيل عن أبي إسحاق فيه لين سمع منه بآخرة".
وكذا قول الترمذي في زهير بن معاوية: "وزهير في أبي إسحاق ليس بذاك؛ لأن سماعه منه بآخرة" إلا أن أبا إسحاق قد اختلط، وإلا فما الفائدة منه.
وقد علّق العراقي على قول ابن الصلاح3: "ويقال إن سماع سفيان ابن عيينة منه بعد ما اختلط فقال4:
الأمر الثالث: أن المصنف لم يذكر أحداً قيل عنه أن سماعه منه بعد الاختلاط إلا ابن عيينة، وقد ذكر ذلك عن إسرائيل بن يونس، وزكريا ابن أبي زائدة، وزهير بن معاوية، وكذلك تكلم في رواية زائدة بن قدامة عنه5، ثم أخذ يفصّل فقال: أما إسرائيل فقال صالح بن أحمد بن حنبل
1 شرح علل الترمذي لابن رجب/374.
2 الجرح والتعديل 1/1/331 وتهذيب التهذيب 1/262.
3 علوم الحديث/353.
4 التقييد والإيضاح/445.
5 أقول إذا كان هؤلاء ممن سمعوا من أبي إسحاق بعد الاختلاط فإن هذا يدعوا إلى التأمل فيما قاله ابن حجر في "هدي الساري مقدمة فتح الباري"/431 فإنه ذكر أبا إسحاق السبيعي فيمن طعن فيه من رجال البخاري وقال عنه: "أحد الأعلام الأثبات قبل اختلاطه، ولم أر في البخاري من الرواية عنه إلا عن القدماء من أصحابه كالثوري وشعبة لا عن المتأخرين كابن عيينة وغيره واحتج به الجماعة" ا?.
يقول هذا ابن حجر وبين أيدينا رواية زهير عن أبي إسحاق، وهو ممن قالوا فيه وبدون خلاف ممن سمع من أبي إسحاق بآخرة، والواقع أن ابن حجر لم يتعرّض في دفاعه عن رواية زهير هذه التي اختارها البخاري؛ لاختلاط أبي إسحاق، ولا لسماع زهير منه بعد الاختلاط.
قال العراقي في "التقييد والإيضاح"/446 معلقاً على قول ابن الصلاح المذكور أعلى "الأمر الرابع" أنه قد أخرج الشيخان في الصحيحين لجماعة من روايتهم عن أبي إسحاق وهم إسرائيل وزكريا وزهيراً، وعد جماعة ثم قال: وقد تقدم أن إسرائيل وزكريا وزهيراً سمعوا منه بآخرة والله أعلم.
عن أبيه وذكر ما ذكرناه سابقاً عنه، وأما زهير وذكر فيه قول الترمذي.
وفي "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم1 قال عبد الله بن أحمد بن حنبل قلت لأبي: "أيّما أحبّ إليك؟ أبو إسحاق أو السدي. فقال: أبو إسحاق ثقة، ولكن هؤلاء الذين حملوا عنه بآخرة" ا?.
وقال البرهان الحلبي في كتابه "الاغتباط بمن رمى بالاختلاط"2 عن أبي إسحاق.
"وقد ذكره أيضاً فيهم (يعني في المختلطين) ابن الصلاح" ا?.
1 3/1/243 وانظر (تهذيب التهذيب 8/64-65) في ترجمة أبي إسحاق.
2 /20.
وتبع ابن الصلاح النووي في "تقريبه"1 فأورده فيهم.
وكذا أورده ابن الكيال في كتابه "الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات"2، ونقل أقوال أهل العلم في اختلاطه.
وقال ابن حجر في "تقريب التهذيب"3 عنه أيضاً: "اختلط بأخرة".
إلى غير ذلك مما يطول ذكره، وما أوردته فيه كفاية ومقنع على وصف أبي إسحاق بالاختلاط. خاصة أن من الواصفين له بذلك من هو أقرب إلى زمنه كثيراً كأحمد، وابن معين، وأبي زرعة، وهؤلاء أئمة كبار، وعلماء أثبات. هذا ولا يخفى ما بين الذهبي، وأبي إسحاق من القرون المتطاولة.
والواقع أني فتشت كثيراً من الكتب علِّي أجد سلفا للذهبي، وسندا له في نفي الاختلاط عن أبي إسحاق، إلا أنني بعد طول بحث وتنقيب لم أجد، ثم عثرت أخيراً على قول لابن شاهين قلت: يمكن أن يصلح دليلا لما ذكره الذهبي؛ فقد أورد ابن شاهين أبا إسحاق في كتابه الثقات4، وقال:"ثقة تغير قبل موته من الكبر ساء حفظه" ا?.
1 /523 بشرحه تدريب الراوي.
2 /225 نسخة بالآلة الكاتبة محققة؛ لنيل درجة الماجستير من مكة. جامعة الملك عبد العزيز.
3 2/73.
4 مصورة ورقة 34.
فكلام ابن شاهين هذا أفاد أن أبا إسحاق حصل له تغير قبل موته، بأن ساء حفظه ونقص، وذلك بسبب تقدم العمر به، وليس فيه أنه اختلط.
وأخيراً
الذي يبدو بعد ذلك كله أن الحق في تقديم رواية زهير التي اختارها البخاري، وترجيحها على رواية إسرائيل التي اختارها الترمذي؛ فإن الصواب كان حليفاً للبخاري، وأظهر شيء في ترجيح رواية زهير على رواية إسرائيل أن رواية زهير موصولة، وهذا بخلاف رواية إسرائيل فإنها منقطعة بصريح قول الترمذي:"أبو عبيدة بن مسعود1 لم يسمع من أبيه ولا يعرف اسمه".
1 "أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود مشهور بكنيته والأشهر أن لا اسم له غيرها ويقال اسمه عامر كوفي، ثقة من كبار الثالثة، والراجح أنه لا يصحّ سماعه من أبيه، مات بعد سنة ثمانين أي ومئة، روى له أهل السنن الأربعة". (تقريب التهذيب 2/448) وفي "تهذيب التهذيب" 5/75 رمز لاسمه بعلاّمة الجماعة، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
قال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" 4/2/403: سئل أبو زرعة عن اسم أبي عبيدة هذا؟ فقال: "اسمه وكنيته واحد" وقال سمعت أبي يقول: "أبو عبيدة لا يسمى" ا?.
وفي "تهذيب الكمال" 5 ورقة 323: "عامر بن عبد الله بن مسعود الهذلي أبو عبيدة الكوفي ويقال اسمه كنيته" ا?.
وقال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 5/76: قال الترمذي في "العلل الكبير" قلت لمحمد: "أبو عبيدة ما اسمه؟ فلم يعرف اسمه وهو كثير الغلط" ا?.
ثم ساق بسنده الصحيح إلى عمرو بن مرة، قال:"سألت أبا عبيدة ابن عبد الله: هل تذكر من عبد الله شيئاً قال: لا" ا?.
قال المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي1:"هذا نص صحيح صريح في أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه شيئاً، وهو القول الراجح" ا?.
وهذا الذي قال أنه هو القول الراجح مأخوذ فيما يبدو من كلام ابن حجر في "تقريب التهذيب"2: "والراجح أنه لا يصح سماعه من أبيه" ا?. وذكر في "فتح الباري"3: "أنه لم يسمع من أبيه على الصحيح".
ومفهوم ذلك أنه مختلف في سماعه من أبيه إلا أن الصحيح، والراجح هو عدم سماعه من أبيه، وهذا المفهوم قد نطق به ابن حجر في "طبقات المدلسين"4 فقال –وقد ذكر أبا عبيدة في الثالثة منها-: "ثقة مشهور، حديثه عن أبيه في السنن وعن غير أبيه في الصحيح، واختلف في سماعه من أبيه، والأكثر على أنه لم يسمع منه، وثبت له لقاؤه، وسماع كلامه، فروايته عنه داخلة في التدليس، وهو أولى
1 1/88.
2 2/448.
3 1/257.
4 /13.
بالذكر من أخيه عبد الرحمن"1 ا?.
وممن نفى سماعه من أبيه صراحة أبو حاتم؛ فإنه قال: "أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من عبد الله بن مسعود "رضي الله عنه" نقل ذلك عنه ابنه في "المراسيل"2.
وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" أيضاً3 سألت أبي عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود: هل سمع من أبيه عبد الله؟ فقال: لم يسمع.
قلت: فإن عبد الواحد بن زياد روى عن أبي مالك الشجعي، عن عبد الله بن أبي هند، عن أبي عبيدة قال:"خرجت مع أبي لصلاة الصبح، فقال أبي: ما أدري ما هذا؟ عبد الله بن أبي هند4 من هو؟ " ا?.
والأثر المذكور أورده العلائي في "جامع التحصيل"5، فقال: وقد روى عبد الواحد بن زياد عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي عبيدة قال: خرجت
…
الخ.
1 عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي المسعودي، صدوق اختلط قبل موته وضابطه: أن من سمع منه ببغداد فبعد الاختلاط، من السابعة، مات سنة ستين وقيل: سنة خمس وستين أي ومئة، روى له البخاري تعليقاً، وأهل السنن الأربعة. (تقريب التهذيب 1/487) .
2 /257.
3 /256 وانظر (تهذيب التهذيب 5/75) .
4 قال البخاري: عبد الله بن أبي هند عن أبي عبيدة، روى عن أبي مالك الأشجعي لا يصح حديثه. التاريخ الكبير 3/2/223-224. وانظر: ميزان الاعتدال 2/517.
52/467
وأنت تلاحظ أنه سقط من هذا الإسناد ابن أبي هند، وفي آخره قال العلائي:"وضعّف أبو حاتم هذه الرواية" ا?.
وذكر ابن أبي حاتم في "المراسيل"1 بإسناده إلى سلم بن قتيبة قال: قلت لشعبة: "إن البري يحدثنا عن أبي إسحاق أنه سمع أبا عبيدة يحدّث أنه سمع ابن مسعود، قال: أوه كان أبو عبيدة ابن سبع سنين وجعل يضرب جبهته"2 ا?.
وقد عقب ابن حجر3 على هذا بقوله: "هذا الاستدلال بكونه ابن سبع سنين على أنه لم يسمع من أبيه ليس بقائم، ولكن راوي الحديث عثمان4 ضعيف والله أعلم" ا?.
أما العيني في "عمدة القارئ"5 فإنه يقرر سماع أبي عبيدة من أبيه ويثبته، وهو في هذا يرد على ابن حجر الذي قرر عدم سماعه منه، وقد تولى الرد على العيني المباركفوري فقال6: تنبيه: قال العيني في "شرح البخاري" راداً على الحافظ ما لفظه: وأما قول هذا القائل أبو عبيدة لم
1/256
2وأورد ابن أبي حاتم هذا النص أيضاً في "تقدمة الجرح والتعديل"/147 وفي "الجرح والتعديل" 3/1/167.
3تهذيب التهذيب 5/76.
4 اسمه عثمان بن مقسم البري انظر ترجمته في "الجرح والتعديل" 3/1/167.
5 1/734.
6 تحفة الأحوذي 1/88-89
يسمع من أبيه فمردود بما ذكر في "المعجم الأوسط" للطبراني من حديث زياد بن سعد عن أبي الزبير، قال حدثني يونس بن عتاب الكوفي سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة
…
الحديث، وبما أخرج الحاكم في "مستدركه"1 من حديث أبي إسحاق عن أبي عبيدة، عن أبيه في ذكر يوسف عليه السلام وصحح إسناده، وربما حسّن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه: منها لما كان يوم بدر جيء بالأسرى2، ومنها كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف3.
ومنها قوله {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 4، ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصل الإسناد عند المحدثين انتهى كلام العيني.
قلت (القائل المباركفوري) : "لا بد للعيني أن يثبت أولا صحة رواية "المعجم الأوسط"، ثم بعد ذلك يستدل بها على صحة سماع أبي عبيدة ودونه خرط القتاد.
وأما استدلاله على سماعه من أبيه بما أخرجه الحاكم وتصحيحه
1 2/572.
2 سنن الترمذي 8/476 مع تحفة الأحوذي.
3 سنن الترمذي 2/361 مع تحفة الأحوذي والرضف بسكون المعجمة وبفتحها وبعدها فاء: الحجارة المحماة على النار واحدتها رضفة كناية عن التخفيف في الجلوس. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" 2/231.
4 سنن الترمذي 8/362-363 مع تحفة الأحوذي. والآية في آل عمران/169.
فعجيب جداً؛ فإن تساهله مشهور، وقد ثبت بسند صحيح عن أبي عبيدة نفسه عدم سماعه من أبيه كما عرفت.
وأما استدلاله على ذلك بما حسّن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه، فمبني على أنه لم يقف على أن الترمذي قد يحسن الحديث مع الاعتراف بانقطاعه، وقد ذكرنا ذلك في المقدمة" ا?.
هذا وقد نفى ابن حبان سماعه أي شيء من أبيه، قال ابن حجر1:"ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: لم يسمع من أبيه شيئاً" ا?.
وفي "تهذيب الكمال"2: "روى عن أبيه ولم يسمع منه" ا?. هكذا على الجزم.
وإذا تقرر أن الراجح عدم سماعه من أبيه، وأنه هو قول الأكثرية، وأنه ثبت ذلك عنه هو نفسه، فيكون انقطاع رواية إسرائيل ظاهراً.
أما رواية زهير فإنها –كما سبق- موصولة، وتكون صحيحة؛ لمتابعاتها. قلت هذا لأجل علة الاختلاط في أبي إسحاق وزهير ممن أخذ عنه بآخرة، أي بعد ما اختلط، فلما اعتضدت رواية زهير برواية إسرائيل وكان المتن صحيحاً، عرفنا منه أنه لم يختلط فيه، وكذا عرفنا هذا بالمتابعات الأخرى التي سبق ذكرها.
1 تهذيب التهذيب 5/75.
2 5 ورقة 323.
وممن اعتبرها صحيحة ابن تيمية فقال في "الفتاوى"1: "وبعض ما يصححه الترمذي ينازعه غيره فيه، كما قد ينازعونه في بعض ما يضعّفه ويحسّنه، فقد يضعّف حديثاً ويصححه البخاري، كحديث ابن مسعود لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبغني أحجاراً استنفض بهن قال: فأتيته بحجرين وروثة قال: فأخذ الحجرين، وترك الروثة، وقال: إنها رجس. فإن هذا قد اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي، فجعل الترمذي هذا الاختلاف علة، ورجح روايته له عن أبي عبيدة عن أبيه وهو لم يسمع من أبيه
وأما البخاري فصححه من طريق أخرى؛ لأن أبا إسحاق كان الحديث يكون عنده عن جماعة يرويه عن هذا تارة وعن هذا تارة، كما كان الزهري يروي الحديث تارة عن سعيد بن المسيب، وتارة عن أبي سلمة، وتارة يجمعهما، فمن لا يعرفه فيحدث به تارة عن هذا، وتارة عن هذا، يظن بعض الناس أن ذلك غلط، وكلاهما صحيح، وهذا باب يطول وصفه".
1 المجلد 18/24.