الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
22 - إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم:
هذه الخصال تنفي الغل، وغش القلب، وسخائمه، وفساده، وحقده؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((نضَّر الله امرأً سمع مقالتي، فوعاها، وحفظها، وبلَّغها، فرُبَّ حامل فِقه إلى من هو أفقه منه، ثلاثٌ لا يغلُّ (1) عليهن قلب مسلم: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن الدعوة تحيط من ورائهم)) (2).
(1) يَغِلُّ: من الغل: وهو الحقد، والشحناء: أي لا يدخله حقدٌ يزيله عن الحق. والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تصلح بها القلوب، فمن تمسَّك بها طَهُرَ قلبُه، من: الخيانة، والدَّغَل، والشرِّ. [النهاية في غريب الحديث، لابن الأثير (3/ 381)].
(2)
الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، برقم 2658، وغيره، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 61) وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 404.
وقد شرح الإمام ابن القيم رحمه الله هذا الحديث، شرحاً مفيداً، نافعاً، هذا نصُّه: قال رحمه الله: ((النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه، وبلغه بالنضرة - وهي: البهجة، ونضارة الوجه، وتحسينه - ففي الترمذي (1) وغيره من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي، فوعاها، وحفظها، وبلغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
ورَوَى هذا الأصل عن النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود،
(1) برقم 2658. ورواه أحمد (1/ 437)، والحميدي (88)، وابن ماجه (222)، وابن حبان (74)، والبغوي (1/ 236)، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص (260)، وابن عبد البر (1/ 40)، وسنده صحيح، وتقدم تخريجه.
ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وجُبير بن مُطْعِم، وأنس بن مالك، وزيد بن ثابت، والنُّعمان بن بشير.
قال الترمذي: حديث ابن مسعود حديث حسن، وحديث زيد بن ثابت حديث حسن.
وأخرج الحاكم في صحيحه (1) حديث جبير بن مطعم والنعمان بن بشير.
وقال في حديث جبير: على شرط البخاري ومسلم.
ولو لم يكن في فضل العلم إلا هذا وَحْدَهُ لكفى به شرفاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لمن سمع كلامه ووعاه، وحفظه وبلَّغَهُ.
وهذه هي مراتب العلم:
أولها وثانيها: سماعهُ، وعَقْلُهُ؛ فإذا سمعهُ وعاهُ
(1)(1/ 86، 87، 88). وهذا الحديث متواتر؛ فهو مروي عن بضعة وعشرين صحابيًّا، كما في ((نظم المتناثر)) (ص 24 - 25) للكتاني.
بقَلْبِهِ؛ أي: عَقَلَهُ واستقرَّ في قلبه كما يستقرُّ الشيءُ الذي يُوعى في وعائه ولا يخرُجُ منه، وكذلك عَقْلُهُ هو بمنزلة عَقْل البَعيرِ والدابة ونحوها حتى لا تَشْرُدَ وتذهب؛ ولهذا كان الوعيُ والعَقْلُ قدراً زائداً على مُجرَّدِ إدراك المعلوم.
المرتبة الثانية: تَعَاهُدُه وحِفْظُهُ حتى لا ينساه فيذهب.
المرتبة الرابعة: تبليغه وبثه في الأمة؛ ليحصل به ثمرته ومقصوده؛ وهو بَثُّهُ في الأمة، فهو بمنزلة الكنز المدفون في الأرض الذي لا يُنْفَقُ منه وهو مُعَرَّضٌ لذهابه؛ فإنَّ العلم ما لم يُنْفَقْ منه ويُعَلَّم فإنه يوشك أن يذهب، فإذا أنفق منه نما وزكا على الإنفاق.
فمن قام بهذه المراتب الأربع دخل تحت هذه الدعوة النبوية المتضمنة لجمال الظاهر والباطن؛ فإن
النَّضْرَةُ هي: البَهْجَةُ، والحسن الذي يُكساه الوجه من آثار الإيمان وابتهاج الباطن به وفرح القلبِ وسروره والتذاذه به، فتظهر هذه البهجة والسرور والفرحة نضارة على الوجه، ولهذا يجمع له سبحانه بين السرور والنَّضرة، كما في قوله تعالى:{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} (1).
فالنَّضْرَةُ في وُجوههم، والسرور في قلوبهم، فالنَّعيمُ وطيبُ القلبِ يُظهِرُ نضارةً في الوجهِ، كما قال تعالى:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} (2).
والمقصود أن هذه النَّضرة في وجه من سمع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووعاها، وحفظها، وبلَّغها: هي أثر تلك الحلاوة، والبهجة، والسرور الذي في قلبه وباطنه.
(1) سورة الإنسان، الآية:11.
(2)
سورة المطففين، الآية:24.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) تنبيه على فائدة التبليغ، وإن المبلَّغ قد يكون أفهم من المبلِّغ، فيحصل له في تلك المقالة ما يحصل للمبلِّغ.
أو يكون المعنى: أن المبلَّغ قد يكون أفقه من المبلِّغ، فإذا سمع تلك المقالة حملها على أحسن وجوهها واستنبط فقهها وعَلِمَ المراد منها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث لا يُغلُّ عليهنَّ قلب مسلم
…
)) إلى آخره، أي: لا يحمل الغِلَّ، ولا يبقى فيه مع هذه الثلاثة؛ فإنها تنفي: الغل، والغش، وفساد القلب، وسخائمه، فالمخلص لله إخلاصه يمنع غِلَّ قلبه، ويخرجه ويزيله جملة؛ لأنه قد انصرفت دواعي قلبه وإرادته إلى مرضاة ربه، فلم يبق فيه موضع للغلِّ والغش، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (1). فلما أخلص لربه صرف عنه دواعي السوء والفحشاء.
ولهذا لما عَلِمَ إبليسُ أنه لا سبيل له على أهل الإخلاص استثناهم من شِرْطتِه التي اشترطها للغواية والإهلاك، فقال:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (2). قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (3).
فالإخلاص هو سبيل الخلاص، والإسلام مركبُ السلامة، والإيمان خاتم الأمان.
وقوله: ((ومناصحة أئمة المسلمين))؛ هذا أيضاً منافٍ للغلِّ والغشِّ؛ فإن النصيحة لا تُجامع الغل، إذ هي ضده، فمن نصح الأئِمةَ والأمةَ فقد برئ من الغلِّ.
(1) سورة يوسف، الآية:24.
(2)
سورة ص، الآيتان: 82، 83.
(3)
سورة الحجر، الآية:42.
وقوله: ((ولزوم جماعتهم))؛ هذا أيضاً مما يُطَهِّرُ القلبَ من الغلِّ والغش؛ فإن صاحبه - للزومه جماعة المسلمين - يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها، ويسوؤه ما يسوؤهم، ويسره ما يسرهم.
وهذا بخلاف من انحاز عنهم واشتغل بالطعن عليهم والعيب والذم؛ كفعل الرافضة والخوارج، والمعتزلة، وغيرهم؛ فإن قلوبهم ممتلئةً غِلاًّ، وغشًّا؛ ولهذا تجدُ الرافضة أبعد الناس من الإخلاص، وأغشهم للأئمة والأمة، وأشدهم بُعداً عن جماعة المسلمين.
فهؤلاء أشدُّ الناس غِلاًّ وغشًّا بشهادة الرسول والأمة عليهم، وشهادتهم على أنفسهم بذلك؛ فإنهم لا يكونون قطُّ إلا أعواناً وظَهراً على أهل الإسلام، فأيُّ عدوٍّ قام للمسلمين كانوا أعوان ذلك العدو وبطانته!
وهذا أمرٌ قد شاهدتْهُ الأمةُ منهم، ومن لم يشاهده فقد سمع منه ما يُصِمُّ الآذان ويُشجْي القلوب.
وقوله: ((فإن دعوتهم تحيط من ورائهم))؛ هذا من أحسن الكلام، وأوجزه، وأفخمه معنىً؛ شبَّه دعوة المسلمين بالسُّورِ والسياج المحيط بهم، المانع من دخول عدوهم عليهم، فتلك الدعوةُ التي هي دعوة الإسلام - وهم داخلوها - لما كانت سُوراً وسياجاً عليهم أخبر أن من لزم جماعة المسلمين أحاطت به تلك الدعوة التي هي دعوة الإسلام كما أحاطت بهم، فالدعوة تجمع شمل الأمة، وتلم شعثها، وتحيط بها، فمن دخل في جماعتها أحاطت به وشملته (1).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
(1) مفتاح دار السعادة، لابن القيم (1/ 274 - 278).