المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌أفعَالُ المقارَبَةِ هذا هو النوعُ الثالث من نواسخ الابتداء، وذلك أفعالُ - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌ ‌أفعَالُ المقارَبَةِ هذا هو النوعُ الثالث من نواسخ الابتداء، وذلك أفعالُ

‌أفعَالُ المقارَبَةِ

هذا هو النوعُ الثالث من نواسخ الابتداء، وذلك أفعالُ المقاربة. وإنما سُمّيت أفعالَ المقاربة لأنها جِئَ بها لتدلّ على تقريب الخبر من المخَبرِ عنه، فإنما أتت لمعنى في المبتدأ والخبر، كما جاءت كان وأخواتُها لمعنى فيهما، وهو كونُ ذلك في الزمان المعيّن؛ فلذلك عُدّت من النواسخ.

وكان الأصلُ فيها أن تدخل في باب كان، إلا أنّها/ اختصّت عن كان وأخواتها بحكمٍ لا يكونُ فيها، فلذلك أخرجوها عنها.

وأفعالُ هذا الباب على ثلاثة أقسام: قسمٌ يقتضى الشروعَ في الفعل. وقسم يقتضى مقاربةَ الفعل والدنوّ من وقوعه حقيقةً. وقسمٌ للإعلان بالمقاربِة في الرجاءِ والطمع لا في الوجود. ولكلِّ واحدٍ منها حكمٌ يختصُّ به. والناظمُ خلطَ القسمين الأخيرين فجعلهما قسمًا واحدًا، وبه ابتدأ لإشكله في هذا الباب حتى اختلف فيه فقال:

كَكَان كادَ وعَسَى لَكِنْ نَدَرْ

غَيرُ مُضَارِعٍ لِهَذَيْن خَبَرْ

وَكونُه بِدوُنِ أَنْ بَعْدَ عَسَى

نَزْرٌ، وَكادَ الأمرُ فِيهِ عُكِسَا

فأخبر أولصا أن هذين الفعلين -وهما: كاد وعسى- مثلُ كن، يريد في العمل والدخول على المبتدأ والخبر، فيرفع المبتدأَ كلُّ واحدٍ منهما

ص: 261

وينصب الخبر ككان، إلا أنهما فارقا باب كان بحكمٍ يختصّان به هما وما جَرى مجراهما، وهو كونُ المضارع يلزمُ أن يكون هو خبر المبتدأ الذى تدخل عليه، فلا يجوز أن تدخل على جملة يكونُ خبرُ المبتدأ فيها مفردًا، ولا جملةً اسمية، ولا فعليةً مصدرةً بماضٍ ولا أمرٍ. وهذا قد تبيّن في باب كان؛ فلا تقول: عسى زيدٌ قائما، إلا ما أشار إليه بقوله:

لكن نَدَرْ

غيرُ مُضَارعٍ لِهَذَينِ خَبَرْ

يعنى أنّ عسى وكاد ندر فيهما وقوع الخبر غير فعل مضارع؛ مثالُ ذلك في عسى قولُ العرب: عَسَى الغويرُ أبؤسًا. فأبؤسًا خبر عسى، وهو مصدرٌ جُمعِ لاختلاف أنواعه، وكأنه قال: عسى الغوير أن يُبْئِسَ. فوضع بؤسً موضعه ثم جمعه. وهذا رأى الفارسىّ في هذا المثل، ومنهم من ذهب إلى أنّ أبؤسًا هنا بمنزلة ما أنشده الفارسىُّ وغيره:

أكثرتَ في العَذْلِ ملحًا دائمًا

لا تُكثَرِنْ، إِنّى عَسَيتُ صائما

فقد وقع هنا الخبر اسم فاعل، فكذلك أبؤسًا على هذا الرأى، أى: ذا أبوسِ.

ص: 262

فإلى هذين الشاهدين أشار في عسى، وأما في كاد فلا تقول: كاد زيدٌ قائمًا، إلا نادرًا، نحو قول تأبط شرًا:

فَأبتُ إلى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيبا

وَكَمْ مِثْلِها فَارَقَتْهُا وَهْى تصْفِرُ

وهذه هى الرواية الصحيحة. وروى وما كنت آيبا -ولا شاهد فيه.

وكذلك لا تقول: عسى زيدٌ أبُوه منطلقٌ، ولا عسى زيدٌ قام. ولا ما أشبه ذلك. وعلى ذلك حكمُ كاد زيدُ أبوه منطلقٌ ولا كاد زيدٌ في الدار. ولا ما أشبه ذلك.

وهذا الكلامُ صريحٌ في أنّ كاد وعسى من نواسخ الابتداءِ على الإطلاق لأنه قال: «ككانَ كادَ وعسى» إلى آخره. والمسألة مختلف فيها على أقوال ثلاثة:

أحدها: هذا، فإذا جاء الخبر دون أنْ فظاهر، وإن جاء بأنْ فليس الفعلُ معها بتأويل المصدر، بل دخلت دالّة على التراخي والاستقبال خاصة. هذا في عسى، وأما في كاد فتشبيها بعسى، ودخولها فيهما كدخولها مع لعلّ في قولهم: لعلّ زيدًا أن يقوم. فَأَنْ يقوم هنا ليس في معنى المصدر ولا يتصور ذلك فيه، قال العُدَيل بن الفرخ:

ص: 263

لَعلّ الذِي قَادَ النوى أَنْ يَرُدّها

إلينا، وَقْدُ يُدْنِى البَعِيد مِنَ البُعْدِ

وقال متمم بن نُويرةَ:

/ لعلّك يومًا أَنْ تُلِمّ مُلِمّةً

عليك من اللائى يدعنك أَجْدَعا

فلا يمكن هنا أن يقال: إلّا أنّ «يَرُدّها» و «تُلِمّ» هو الخبر، و «أنْ» غيرُ معتبرة في معنى المصدرية. فكذلك هى في: عسى زيدٌ انْ يقوم، وكاد أن يخرج.

والدليل على صحة هذا القصيد أنّهم لما أتوا بالاسم الصريح لم يأتو به مصدرًا، وإنما أتوا به اسم فاعلٍ، نحو:

إِنى عَسَيتُ صائمًا

وأما عسى الغوبرُ أبؤسًا، فعلى حذف المضاف، كما تقدم. ويمكن أن يكون أنْ المصدرية، لكن تكون مع ما بعدها (بدلًا من الاسم؛ إذ)

القائل: عسى زيدٌ أنْ يقوم في قوة: عسى أن يقوم زيد. وإلى هذا ذهب في الشرح.

ص: 264

فإن قيل: فما يُصنَع بقولهم: عسى أن يقوم زيدٌ؟ فيأتى ذلك بُعَيد هذا، إن شاء الله.

وهذا المذهبُ ذَهب إِليه ابنُ عصفور وابنُ الضائع.

والقول الثاني: أنّ كاد وعسى ليسا من نواسخِ الابتداءِ على الإطلاق. أمّا عسى فذلك فيها ظاهر لِغَلَبةِ أنْ على ما جُعِل خبرًا لها، وأن مصدرية، وتقدير المصدر لا يصحّ. فإن قلت: عسى أن يقوم زيد، فهو أوضح في خروجها عن النواسخ؛ إذ لا خبر لها. وأما عسى زيدٌ يقوم، وعسى الغواير أوسًا، فنادرٌ لا حكم له. على أَنّ أبؤسًا ليس بمعارضٍ لأنه مصدر. وأما كان فإن قولهم:

قَدْ كادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْصَحَا

يدلّ على أنه غير ناسخ، لأنه هنا قد استغنى عن الخبر؛ إِذ قوله «أن يمصحا» لا يصحّ وقوعه خبرًا، فبقيت كاد بلا خبر. فلو مان مثل «كان» للزمه ولم يفارقه.

وهذا مذهب الفارسىّ، صَرّح به في التذكرة، ويظهر منه في الإيضاح.

والقول الثالث للجمهور: التفرقة؛ فإذا وقع الخبر بعدهما مصرّحا به كقوله: «وما كدتُ آيبًا» ، و «إنى عَسَيت صائما» ، فمن باب كان. وكذلك إذا وقع

ص: 265

بعدهما الفعل دون أنْ نحو:

عَسَى يَفْتَرُّ بى حَمِقٌ لئيمُ

وكاد زيدٌ يقومُ. وأما إِذا وقع بعدهما أَنْ فهما خارجان عن باب النواسخ وداخلان في حكم ما يرفع الفاعل وينصب المفعول من الأفعال. وهو ظاهر كلام سيبويه، ونصُّ المبرد وغيره؛ إلا أنّ لهم في وقوع أنْ بعد عسى تفصيلا سيأتى إن شاء الله.

وللناظم أن يرجّح مذهبه بأنّه قد ثبتَ في هذين الفعلين وقوعُهما ناسخين، وذلك حيث صُرّح بالإخبار فيها، وإن كان نادرًا، فإنه مَنْبَهةٌ على الأصل المرفوضِ، كما كن قوله، أنشده سيبويه:

صَدَدْتِ فأطولت الصدودَ وقلّما

وصالٌ على طُولِ الصُّدودِ يدومُ

لأن قاعدة الضرائر أنها ردُّ فرعٍ إلى أصلٍ، أو تشبيه غير جائز بجائز. فهذا من الأول. وكذلك أيضًا ثبت كونهما من النواسخ حيث أسقطت أَنْ، كما ثبت ذلك فيما كان من أفعال هذا الباب للشرح، نحو جعل وأخذ؛ فإنك تقول: عسى زيدٌ يقومُ، وكاد زيدٌ يقوم، كما تقول: جعل زيدٌ يقول، وأخذ يقول. فمن

ص: 266

فرق بين الفعلين فقد تعسّف! ولذلك أقرّ سيبويه بذلك فاحتاج إلى التفصيل المذكور حملًا على النظير ووقوفًا مع الظاهر. وعند ذلك يقال للفارسي: ما تقول في نحو: كاد زيد يقول؟ هل كاد هنا داخلةٌ على المبتدأ والخبر أم لا؟ فإن/ قال: نعم، فقد أَقَرّ على الجملة بِما أنكر من قبل. وإن قال: لا، قيل له: فما الفرق بين ذلك وبين جعل زيد يقول في أن أقررت بأن هذا من النواسخ والآخر ليس كذلك، بل الحكم في الجميع واحد وإنما يبقى الاعتراض بدخول أَنْ، وقد تقدّم تأويلها على وجه سائغ لا إشكال فيه، وعند ذلك لا يبقى ما يمنع الاطراد في دخول هذه الأفعال على المبتدأ والخبر، فهو أولى من تقسيمها إلى قسمين وكلّ ما كان في معنى عسى وكاد جارٍ مجراهما فيما ذكر.

ولنرجع إلى كلامه. ثم قال: لكن نَدَرَ كذا، يعنى أنّ الغالب والشائع في كلام العرب أن يكون خبرُهما فعلًا مضارعًا فتقول: عسى زيد أن يقوم، وكاد زيدٌ يقوم. وإنما التزموا ذلك في خبارهما لأن معانيهما ومعاني سائر أفعال الباب التقريب، وذلك لا يكون إلا في الأفعال، فالتزموا في خبارها ذكر الأفعال، تنبيها على معانيها.

وتنبيهُه على اختصاص هذين الفعلين بما ذكر من الحكم -وإن كان سائر الأفعال كذلك- بيان أنهما هما المختصان بورود خبرهما غير فعل، لأن غيرهما لا يكون فيه ذلك، بل المضارع فيها لازم. على لأنه قد

ص: 267

جاء في «جعل» الخبرُ جملة اسمية؛ أنشد ابن خروف:

وقد جَعَلَت قلوصُ ابنىّ سُهَيلٍ

من الأكوار مرتَعُها قَرِيبُ

ولكنه من الشذوذ بمكان مكين.

ومعنى كاد في اللغة: قارب؛ قال الجوهري: «كاد يفعلُ كذا كودًا ومكادةً، أى: قارب ولم يفعلْ. قال: وزعم الأصمعىّ أن من العرب من يقول: لا أفعل ذاك ولا كودًا. فجعلها من الواو» وذكر ابن سيده: كاد يفعلُ كذا كيدا: قارَبَ وهَمّ. ثم قال: ولا أفعل ذاك ولا كيدًا ولا همّا. فجعلها من الياءِ. وقد يقال: كِيد بِفعلُ. وليس بمبنى للمفعول، قال أبو خراش الهذلى:

وكيد ضباع القف يأكلن جثتى

وكيد خراس يوم ذلك تِيْتَمُ

وأما عسى فمعناها الطمع والإشفاق، كَلعَلّ، فورودها للطمع هو الكثير. وورودها للإشفاق نحو قول الله تعالى:{لَعلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} ، {فَلَعَلّك تاركٌ

ص: 268

بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْك}.

ثم قال: «وكونُه بِدُونِ أَنْ بَعْدَ عَسَى» .. إلى آخره. الضمير في «كونه» عائدا إلى المضارع الواقع خبرًا «وبدون أَنْ» : خبرُ الكونِ. يعنى أنّ كون الفعل المضارع واقعًا بعد عسى غير مصاحب لأَنْ قليلٌ، والكثير مصاحبته لأن، فقولك: عسى زيد أن يقوم، كثيرٌ شهيرٌ، وكذلك جاء في القرآن، كقول الله تعالى:{فَعَسى اللهُ أَنْ يَأْتِي بِالْفَتْحِ} ، {عَسَى ربُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} ، {عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتَينِي بِهِمْ جَميعًا}. وقولك: عسى زيدٌ يقومُ، نزرٌ قليلٌ. ومنه ما أنشد سيبويه لهدبةَ بن خشرم العُذْرِىّ:

عَسَى الكربُ الّذِى أَمْسَيتَ فيهِ

يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ

وأنشد أيضا:

فأمّا كيّسٌ فَنَجا وَلَكِنْ

عسَى يَغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ

وقال مالك بن الرّيب:

ص: 269

وَمَاذا عَسَى الحجاجُ يبلغُ جَهده

إذا نحنُ جاوزنا حَفِيرَ زيادِ

ووجه/ غَلَبةِ استعمال أَنْ ههنا وقِلّةِ عدمها أن الأفعال كما مرّ على ثلاثة أقسام: منها ما تلبّس [به] بالفعل. وهذا لا يليقُ به أن، لأنها تخلّص للاستقبال، والفِعْلُ حال، فَهُما متنافيان. وذلك جَعَل وأخواته.

ومنها ما قَرُب من التلبُّسِ بالفعل ولم يُفْعَلْ، لكنه على تَهْيِئَةِ أَنْ يُفْعَل. وهذا القربِ معناه من الوقوع حُكِم له بحكمه، فلم تَلْحقه أَنْ، لأنهم قصدوا التقريب من الحال، وأَنْ تنافي هذا القصد، لكنهم اعتبروا في القليل حقيقة عدم وقوعه فألحقوها؛ إهمالًا للقصد، ونظرًا لحقيقة الأمر من عدم الوقوع بعدُ. وهذا كاد وما جرى مجراه.

ومنها ما لم يقع ولا يجرى مجرى الواقع؛ إذ لم يقرب من الوقوع لكنه منتظر في الرجاء، فهذا هو الذى يستحقّ أَنْ، لأن الفعلَ مستقبل تحقيقًا، فدخلت هناك لتخلّصَ الفعل للاستقبال. وقد اعتبروه -في القليل- اعتبار كاد- فلم يلحقوا أَنْ؛ إذ الفعل في الرجاء مع هذا النوع كالفعل مع الوقوف في النوع قبله، كأنهم قربوه في رجائهم فصار بمنزلة ما قَربُ وقوعه. وذلك عسى وأمثاله.

هذا هو التعليل اللائق بمذهب الناظم. وقد علل ذلك بما يرجع إلى المذاهب الأخر.

ويقال: نَزُر الشئ -بالضم- ينزُر نزارةً، فهو نَزْرٌ، أي: قَلّ.

ص: 270

والنزر: التاف القليل، وعطاءٌ منزور. وإنما قال: نَزْرٌ، ولم يقل: شذّ؛ لأن سيبويه يظهر منه أَنّ عدم اللحاق في عسى لغة قليلة؛ ألا تراه قال: «واعلم أَنّ من العرب من يقول: عسى زيد يَفْعَلُ، تشبيها بكاد» . فقد يمكن أن يُصْرَف إلى ما جاء في الشعر من ذلك. ولكن الأظهر الآخر. وبه جزم ابن خروف، فردّ على الأعلم حيث جعل حذف أَنْ في الشواهد المذكورة ضرورة. فلهذا -والله أعلم- عبّر بالنّزْر لا بالشاذّ.

واستعمل «دون» متصرّفة فجرّها بالباءِ؛ لأنها عند سيبويه وغيره تتصرف -وأنشد المؤلف

وباشرتُ حدّ الموتِ والموتُ دونُها

برفع دون.

ثم قال: «وكاد الأمرُ فيه عكِسا» . يعني أن الحكم المقرّر في عسى هو معكوسٌ في كاد، والذى في عسى أنّ لحاق أَنْ في خبرها هو الشهيرُ، وعدمُها نادرٌ، فعُكِس هذا، وهو أَنّ عدم لحاق أَنْ هو الشهير، وثبوتها نادرٌ حاصل لكاد. فالكثير قولك: كاد زيد يقوم، وكاد العروسُ يكون أميرًا، وكاد الفقر يكون كفرًا. وفي التنزيل:{وَمَا كادوُوا يَفْعَلُونَ} . والنادر قولك: كاد زيدٌ أن يقوم. ومنه قول كعب بن مالك رضي الله عنه يردّ على ضرار بن الخطاب:

ص: 271

خَزَايا لم تنالوا ثَمّ خيرًا

وكدتُم أَن تكونوا دامِرِينَا

وأنشد سيبويه لرؤية -قال ابن عصفور: ولم يثبت في ديوان شعره-:

قد كادَ من طول البِلَى أَنْ يَمْصَحا

وأنشد المؤلف في شرح التسهيل:

أَبيتُمْ قَبُولَ السّلم منّا فكدتُمُ

لدى الحَرْبِ أن تُغْنُوا السيوفَ عن السلّ

ويقتضى قولُ الناظم: «وكادَ الأمرُ فيه عُكِسا» أن يكون دخولُ أَنْ هنا غير شاذّ، كما كان إسقاطها في عسى كذلك، وسيبويه خصّ هذا بالشعر ولم يجعله لغةً لبعض العرب. لكن بنى الناظمُ على قاعدته في الاستشهاد بالحديث فلم يجعله مختصًا بالشعر، لأنه جاء في حدِيث عُمَر رضي الله عنه:«ما كدتُ/ أن أصَلى العصر حتى كادت الشمس أن تغرُبَ» -وسيبويه لم يبن على ذلك. والحقّ مع سيبويه، وما بنى عليه الناظم لا يثبت! ولعلّ للكلام معه في هذه المسألة موضعًا هو أليقُ به من هذا لموضع، قيتقرر الصواب في المسألة، إن شاء الله.

ص: 272

وضمير: «فيه» يعود على كاد باعتبار اللفظ.

ثم أخذ يلحق بكل واحدٍ من الفعلين نظيره في عمله ورتبته وحكمه، فقال:

وَكَعَسَى حَرَى، ولكن جُعِلَا

خَبَرُها حَتْمًا بِأَنْ مُتّصِلَا

وَأَلْزمُوا اخْلَولَقَ أَنْ مِثْلَ حَرَى

وَبَعْدَ أَوشَكَ انْتِفَا أَنْ نَزَرَا

فابتدأ بقسم عسى، وعدّ لها ثلاث أخوات، وهنّ: حَرَى، واخْلَولَقَ، وأَوْشَكَ.

فأمّا حَرَى فمعناه عسى؛ قال ابن القوطية: «حَرَى أن يكون ذلك، بمعنى: عسى، فِعلٌ غير متصرفٍ» . انتهى. وكأنه من قولهم: هو حَرَىَ بكذا، وحرٍ به، وحَرِىٌّ، أى: حقيقٌ به وجديرُ. وأحْرِى به، قال:

فَأَجْرِ به لطُولِ فَقْرٍ وَأَحْرِيا

وأما اخلولق فبمعنى: قارَب، أو قَرُب. يقال: اخلولقت السماءُ أن تمطر. وفيه قولهم: هو خليقٌ بكذا، أى جديرٌ به، وأخلِقْ به.

ص: 273

وأما أوشَكّ فقال الجوهرى: «أوشك يوشك إيشاكًا، أى: أسرع السير. قال: ومنه قولهم: يوشك أن يكون كذا» . انتهى. وكأنه -فيما يُخَال- حقيقٌ أن يقع. هذا محصول معناه.

فهي كلّها راجعة إلى قرب الوقوع في الرجاء أو في المخيِّلة.

ثم نقول: قولهُ «وكَعسى حَرَى» . يعنى أن حرى موافقة لعسى في أصل المعنى وفي العمل في المبتدأ الرفع، وفي الخبر النصب.

وأشعر قوله: «ولكن جُعِلا» إلى آخره بأن الخبر بلزمُ أَن يكون فعلًا مضارعًا؛ لأن بناء الحكم بدخول أَنْ عليه يستلزمُ ذلك. فهو ثالث بني عليه، ودخل تحت قوله:«وكعسى حرى» أيضا، وإلّا أنه لو سكت هنا لأوهم حكمين غير صحيحين، أحدهما: مجئ الخبر اسمًا، كما جاء في عسى، حسبما تقدّم والثاني: جوادُ إسقاط أَنْ من الخبر إذا كان مضارعا، فاستدرك قوله:«ولكن جُعلَا خبرها» .. إلى آخره. يعنى: أن حَرىَ خالفت عسى بأن جاء خبرها متصلًا بأن حتمًا، لا يفارقها البتة؛ فحصل أنك لا تقول: حرى زيدٌ فاعلًا، لا قياسً ولا سمعًا، وأنك لا تقول: حرى زيدٌ بفعل، لا قياسًا ولا سماعًا. وإنما تقول: حَرىَ زيدٌ أن يفعل.

فالتزمت طريقةً واحدة.

وهذا الفعل من نوادر هذا الباب، وقلّ من يذكره من النحاة.

وحتمًا: مصدر في موضع الحال من الضمير في «متصلًا» وهو ضمير الخير.

والحَتْمُ: الواجب واللازم. والحتم أيضا: القضاء. وحتمت عليه الأمر:

ص: 274

أوجبته «وألزموا اخلولقَ أَنْ مثلَ حرى» ، الضمير في «ألزموا» عائد على العرب. واخلولق على حذف المضاف، أراد: خَبر اخلولق. يريد أن العرب أتو بأَنْ في خبر هذا الفعل. وهذا الحكم مبنىٌّ على أنّ اخلولق من أفعالِ هذا الباب، وأن خبرها لا يكون إلا فعلا مضارعًا. لكن تُرِك ذكر ذلك للعلم/ به من جهة سياق الكلام، وما ذُكِر في حَرىَ، وكونُه قرن هذا الفعل بما هو مثل عسى في المعنى دلّ أنه من أخوات عسى -ومثال ذلك اخلولق زيدٌ أن يفعلَ، واخلولقت السماءُ أن تُمْطِرَ. ولا يجوز أن تقول: اخلولقت السماء تُمطِرُ، ولا اخلولقت السماءُ ماطرةً. ولا ما أشبه ذلك.

وما زعمه الناظمُ في اخلولق من كونه من هذا الباب، فيه نظر؛ فإن سيبويه وغيرُه جعلوه خارجًا من أفعال المقاربة، وإنما يدخل فيها من جهة المعنى، وكذلك قارَبَ، لأنّك تقول: قارب زيدٌ أن يفعلَ؛ قال سيبويه: «تقول: عَسَيتَ أن تفعل. فَأَنْ هنا بمنزلتها في قولك: قاربت أَنْ تَفُعَلَ، أى: قاربت ذلك. وبمنزلة دنوتُ أن تفعل، واخلولقت السماء أن تمطر، أى لأن تمطر» . فإذًا اخلولق على حكم تعدى الأفعال يقتضى فاعلاً ومفعولًا بحرف الجرّ، لأنك تقول: اخلولقت السماءُ للمطر. فقولك: أن تمطر، على إسقاط الخافض، بمنزلة إذا قلت: دنوت أن تَفْعَل، أى: من الفِعْلِ؛ فلو جاز أن يعدّ مثل هدا في أفعال المقاربة لجاز أن يعدّ منها: دنا وقَرُب وقارب، وما كان نحوها، مما اتفق على أنه ليس منها. وهكذا يجرى القول في حَرَى، لأنك تقول: هو حَرٍ بكذا، فتعدّيه كما تقول من اخلولق: هو خليقٌ بكذا. ويلزم ذلك أيضًا في نحو خليق وجدير وحقيق وقمِنٌ، وشِبْه

ص: 275

ذلك؛ صفة مشتقة من فعلٍ يستحقّ الدخول في الباب. وهذا كلّه بُعدٌ عن الإصابة في المسأة. والحقّ أنه لا يثبت حكم للكلمة حتى يتعيّن فيها كما تعيّن في عسى وأوشك.

ثم قال: «وبعدَ أوشَكَ انتفا أنْ نَزَرا» . هذا أيضا بناءً منه على أَنّ أوشك من أفعال هذا الباب، وأن خبرها يقع بالفعل المضارع لا يغيره، فيريدُ أمّ الخبر الواقع بعد أوشط الغالب فيه أن يقع مقارنًا لأنْ، فتقول: أوشك زيد أن يقومَ، ويوشك عبد الله أن يسافر. ومنه قول جرير بن الخَطَفَى:

إذا جهل الشقىُّ فلم يُقَدِّر

ببعض الأمرِ يُوشِك أن يصابا

وأنشد ثعلب:

ولو سُئِلَ الناسُ الترابَ لأَوشكوا

إِذا قيلَ: هاتُوا - أَنْ يَمَلُّوا ويَمِنْعُوا

وجاء إسقاط أَنْ نَزْرًا، فتقول في قليلٍ من الكلام: يوشِكُ زيدٌ يقومُ. وليس بمختصٍّ بالشعر، فلذلك لم يقل: شذّ؛ قال سيبويه: «وقد يجوز: يوشك تجِىْ، بمنزلة: عسى يجئُ» . وأنشد لأمية بن أبي الصلت:

ص: 276

يُوشِكُ مَن فَرّ من منيّتِهِ

في بعض غِرّاته يوافقها

وقوله: «وبعدَ» متعلق بانتفاء، وهو مبتدأ خبرُه «نَزَرَ» ، وقدّم الظرف على المصدر الموصول وهو ممنوع، لكن يجئُ مثلُه. ويحتمل أن يتعلّقَ باسم فاعلٍ حالٍ من فاعل نَزَر فيكون من معمولات الخبر، فيسهل الأمر في ذلك.

وبعدُ فقد خالف رأيه في التسهيل في أوشك، فجعلها هنا في قسم عسى، فهى إذًا عنده من أفعال مقاربة الفعل في المخيلة والرجاء. وجعلها في التسهيل في قسم كاد، فهى عنده هنالك من أفعال مقاربة الفعل في الوجود. والمعنيان متباينان، والاتفاقُ على أنها لم يثبت لها الاستعمالات معًا، فلا بدّ إذًا من صدق أحد الرأيين، فإما أن يكون رأيهُ هنا صحيحًا فرأيه في التسهيل غير صحيح. وإما أن يكون/ بالعكس، فالاعتراض عليه ورادٌ لا محالة.

والجواب أن ما قاله هنا هو الصحيحُ الموافق لما ذكره الناسُ؛ فقد ذكر الشلوبين وتلامذته ابن الضائع والأبذي/ وابن أبي الربيع: أنّ أوشك ومن قسم عسى الذي هو للمقاربة في الرجاء قال ابن الضائع والدليل على ذلك أنك تقول: عسى زيد أن يَحُجّ، ويوشك زيدٌ أن يحجّ -ولم يبرح من بلده- ولا تقول: كاد زيدٌ يحجّ إلا وقد أشرف عليه، فلا يقال ذلك وهو ببلدة.

ص: 277

ويظهر من بعض المتأخّرين أن أوشك من قسم الشروع كأخذ. وليس بصحيح لما ذُكِرَ.

وقد وافق المؤلفَ ابنُه في شرح هذا النظم على ما قاله في التسهيل، وكأنه يفسّر معنى نظمه. وهنا. وما فسّرته به من أنّ أوشك من قسم عسى هو الأظهر منه؛ وبيان ذلك أنه ذكر أولًا فعلين من قسمين ثم ألحق بعد ذلك بكلّ فعلٍ ما أشبهه فقال: وكعسى كذا، وأردفه بَحَرى واخلولق وأوشك. ثم رجع إلى كاد فقال:«وَمِثْلُ كادَ في الأَصَحِّ كَرَبا» . فهذا المساقُ ظاهرٌ جدًا في أوشك من قسم عسى دون قسم كاد، مع أن هذا التفسير موافقٌ لكلام الناس.

فإن قيل: إنّ تفسير الجوهرى لأوشك يؤذن بمعنى كاد؛ إذ قال: إن معناه معنى أسرع.

قيل: ذلك ليس على حقيقته، وإلا لزم أن يكون من أفعال الشروع إذا أخذنا بظاهر هذا التفسير، وإنما معناه المقاربة في الرجاء وفي التوقّع لا في الوقع. فالصوابُ إذًا ما أعطاه ظاهر النظم من موافقة الناس.

ثم رجع إلى قسم كاد وما يُلحقُ به من الأفعال فقال:

وَمِثْلُ كادَ فِى الأصَحِّ كَرَبَا

وَتَرْكُ أَنْ مَعْ ذِى الشُّرُوعِ وَجَبَا

كَأَنْشَأَ السّائِق يَحْدُو وَطِفقْ

كَذَا جَعَلْتُ وَأَخَذْتُ وَعَلِقْ

يعنى أن كَرَبَ لاحقةٌ بكاد ومماثلةٌ لها في هذا الباب من جهة المعنى والاستعمال:

أما جهة المعنى فإِنّ كَرَبَ معناها مقاربةُ الفعلِ في الوقوع لا في الرجاء

ص: 278

ولا في الشروع، وبذلك فسّرها الجوهرى فقال:«وكَرَب أن يفعل كذا، أى: كاد يفعلُ. وأصل الفعلِ من قولهم: كَرَب الشئُ أى: دنا، وإثاءٌ كربان: إذا كرب أن يمتلئ. وكربت الشمس، أى: دنت للغروب» . وهذا كلّه فِسّر معنى كاد.

وأما جهة اللفظ فقد تقدّم أن كاد إنما يقعُ خبرها في الغالب فعلًا مضارعًا غير مقرون بأن إلا في النادر، فكذلك كرب، فإنك تقول: كرب زيدٌ يفعلُ، دون أن قال سيبويه:«وأمّا كاد فإنهم لا يذكرون فيها أن» ، قال:«وكذلك كرب، ومعناها واحدٌ، تقول: كرب يفعل» . وهذا من سيبويه نصٌّ على صِحّة ما قال الناظم من أنّ كرب مثل كاد في المعنى وحكم اللفظ. ويدلّ على ذلك أيضًا من جهة السماع قول أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يرثى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وَذَاكَ أَحقُّ ما سَالَتْ عَلَيهِ

نفوسُ القَوْمِ أَوْ كَرَبَتْ تسيلُ

فالمعنى ههنا معنى كاد بلا بُدِّ. ومثله مما استعمل بغير أَن على المشهور في/ الاستعمال قولُ الكميت:

ص: 279

وما أنتَ أم ما رسومُ الديارِ

وسِتُّوك قد كَرَبَتْ تكملُ؟ !

وأنشد المؤلفُ:

كَرَبَ القلبُ من جَواهُ يَذُوبُ

حين قال الوشاةُ: هندٌ غضوبُ

وقد جاءَ خبرها بأن، كما أتى في خبر كاد. ومنه قول أبي زيد الأسلمي:

سَقَاها ذَوُو الأحلامِ سَجْلا على الظّما

وقد كَرَبتَ أعناقُها أَنْ تَقَطّعَا

وأنشد المؤلف:

قَدْ بُرْتَ أو كَرَبْتَ أَنْ تَبُورَا

ووجهُ دخولِ أَنْ هنا أو عدمِ دخولها قد مَرّ في كاد.

وقوله: على الأصحّ، أو:«في الأصح» ، أراد في القول الأصحِّ والرأى الأصوب -وهذا منه تنبيه على خلافٍ في المسألة لم يذكره في التسهيل ولا شرحه، ولا في الفوائد، ولا (هو) فى الكتب التى بأيدينا، وإنما وجدت في ذلك

ص: 280

ما ألقِيه إليكَ:

فأما الخلاف في المعنى فإن ابن الحجب في مُقَدِّمته النحوية جعلها من أفعال الشروع، فقال في أفعال المقاربة: هى ما وُضِع لدُنُوِّ الخبر رجاءً أو حصولًا أو أخذًا فيه». ثُمّ لمّا عدّ أفعال الأخذ فيه عدّ في جملتها كَرَبَ. وهذا نص فيما قلته، وأحسب أنه ليس بمذهبٍ اخترعه، بل هو ناقلٌ أو آخذ بمذهب غيره. وللزمخشرى عبارة تشعر بما نصّ عليه ابن الحاجب فقال في المفصل:«ومنها كرب وأخذ وجعل وطفق» . فلعلّ الناظم أشار إلى هذا الخلاف المعنوى.

وأما الخلاف في حكم اللفظ فإن شيخنا -رحمة الله عليه- رأيت بخطّه عند هذا الموضع تنبيهًا على وجود الخلاف، وأنّ ثَمّ من يقول: إن كَرَبَ مخالفة لكاد؛ فإنّ الأكثر في كاد عدم لحاق أَنْ، وفي كرب اللحاقُ وعدمُه سِيّانِ، لا مزيّةِ لأحدهما على الآخر. وهذا المذهب ظاهر -لَعَمْرِى- من نصّ التسهيل والفوائد للمؤلف، وما ذهب إليه هنا موافق لجمهور الناس، حيث جعلوا لحاق أَنْ مع كرب نادرًا، والذى شرح فيه ابنُ الناظم هذا الموضع غيرُ ما تقدّم، بل قال: ولم يذكر سيبويه في كَرَب إلا تجريد خبرها من أَنْ، لذلك قال الشيخ -يعنى أباه-:«وَمِثلُ كادَ في الأَصحِّ كَرَبا» انتهى. وكأنه بنى على أن الناظم خالف سيبويه حين لم يذكر في كَرَب دخولَ أَنْ؛ إذ لم يحفظه، بخلاف كاد عنده فإن حكى فيها دخولَ أَنْ، فكأنّه يقول: الأصحّ كونُ كرب أختُ كاد في صحة

ص: 281

الوجهين، وإنْ كان أحدهما نزارًا والآخرُ شائعًا، لا أن تنفردَ به بوجه واحدٍ وهو ترك أَنْ جملة؛ لأن السماع فيها موجود بالوجه الآخر. والذى يغلب الظن أن الناظم لم يُرِدْ هذا، لأن سيبويه لمّا لم يسمع فيها دخولَ أَنْ اقتصر على وجه واحد، لم ينفِ الآخر ولا تعرّض له، فجاء منَ بعده فسمع لحاقَ أنْ فاستدركه عليه، ولم يَعُدّ سيبويه مخالفًا؛ لأنه لو سمعه لنقله في كاد أختها، وإنما ينبغي أن يُنبّه على المخالفة أنْ لو نَفَى جواز لحاقها، ولم يفعلْ ذلك، فكيف يسوغ أَن ينتقل عن سيبويه أنه مخالف في المسألة؟ ! هذا ما لا ينبغي، بل لو قد نفي بناءً على عدم سماعة عنده لم يكن عن بعده حسنًا إن يعدّه مخالفًا. وكثير من المسائل تقع في على هذا السبيل لسيبويه/ وغيره ولا تعدُّ من مسائل الخلاف، اللهم إلا أن يحتج للنفي ويناضل عنه البتة فربّما يَسوغُ للمثبت أن ينقله خلافًا، كما يحتج للإثبات، فيصحّ للنافي نقله خلافًا؛ فإذًا هذه المسألة بعيد أن يَعْيِها الناظم بالأصح. والأظهر ما تقدّم نقلُه عن شيخنا رحمه الله.

إلا أنه على الناظم في إحالته على كاد شئٌ، وهو أنه حكى في كاد زيادة على الوجهين أنّ خبرها جاء غير مضارع نادرًا، وهو قد أحال في حكم كرب عليها، فاقتضى أن خبرها جاء غير مضارع أيضا، كما اقتضى الوجه النادر في لحاق أ، لكن ذلك غير موجود في القل، فإطلاقُ الإحالة غير سديد.

والجواب: أن الناظم قد نَصّ على أن غير المضارع لا يقع في هذا الباب خبرًا إلا لكاد وعسى خاصّة، وذلك حيث قال أول الباب:

ص: 282

لكن نَدَرْ

غَيرُ مُضَارِعٍ لهَذينِ خَبَرْ

يعنى كاد وعسى، فخرج غيرهما عن أن يقع غير المضارع خبرًا لواحدٍ من البواقي، فلم يبق ما يحيل عليه في كاد إلا الوجهان الباقيان. وهذا ظاهر.

وسؤَالٌ ثانٍ، وهو: أنه اقتصر هنا على نَقْلِ فعلين من هذا القسم، وقد عُلِم أن له أفعالًا آخَر لم يحكها ولا أشار إليها، وفي التسهيل ثلاثة منها، وهى: هَلْهَلَ، وأَوْلَى، وأوشك. أما أوشك فقد مر ما فيها، فبقي اثنان، وعدّ الشلوبين وغيره منها: قارب.

فأما هَلْهَلَ فقال الجوهري: يقال: هَلْهَلْتُ أدْرِكه، كما يقال: كِدْتُ أُدُركه. وأنشد:

هَلْهَلْتُ أَثْأَر مالكَا أو صِنْبِلَا

وأما أَوْلَى، فتقول: أولى زيد أن يقوم، بمعنى: قارب أن يقوم. وأنشد الأصمعى:

فعادى بين هاديتين منها

وأولى أن يزيد على الثلاث

ص: 283

أي: «قارب أن يزيد» .

وأما قارب فتقول: قارب أن يفعل، كما تقول: كاد أن يفعل.

والجواب أن يقال: لعلّه ترك ذلك لِعلّةٍ؛ فهلهل من النواد التى لا يذكرها النحويون، وهذا لا ينجيه، فقد ذكر حرى، وهى نادرةٌ أيضا. وأمّا أولى فهى محتملةٌ أن تكون اسمًا أو فعلًا؛ قال الأصمعيّ في قول الشاعر:

فَأَوْلَى ثُمَ أَوْلَى ثُمّ أَوْلَى

وهل للدّرِّ يحلبُ من مَرَدِّ؟

: «معناه: قاربه ما يهلكه، أى: نزل به» . وأنشد: فعادى

البيت. فهذا يحتمل أن يكون تفسير معنًى، لأنهم يفسّرون «أولى لك» بذلك، وهو اسم لا فعلٌ، قال مكى:«العرب تقول لكلّ من قارب الهَلَكَة ثم أفلت منها: أولى لك، أى: كدت تَهْلِكُ» . فإذا ثبت هذا لم يَسُغ إثبات ولى مع وجود هذا الاحتمال.

وأما قارب فليس منها إلا من جهة المعنى فقط، ولم يذكره سيبويه على أن من الباب، بل على موافقة المعنى، وهو بعد ذلك فعلٌ متعدٍّ تعدّى سائر الافعال. فالصواب عدم عدِّه منها.

ثم شرع في القسم الثالث، وهو قسم الشروع في الفعل فقال:«وَتَرْكُ أَنْ مَعْ ذِى الشُّرُوعِ وَجَبا» ، يعنى أَنّ ما كانَ من هذه الأفعالِ لمعنى الشُّروعِ في

ص: 284

الفِعْلِ فتركُ أن فيها/ هو الواجب، فلا يجوز أن تدخُلَ على أخبارها. وهذا الكلام بيان أن أخبارها أفعال مضارعه كما تقدم، فتقول: جعل زيدٌ يقومُ، ولا تقول: جعل زيدٌ أن يقومَ، للتنافى الذى بين أَنْ وهذه الأفعال حسبما تقدّم. وأتى الناظم بأفعال خمسة:

أحدها: أنشأ، ضَمنه مثالًا هو قولهُ:«أنشأ السائق يحدو» . فأنشأ بمعنى شرع وابتدأ، ولذلك أطلق عليها أفعال الشروع، لأن ذلك معناها.

والسائق، من ساق الإبل وغيرها يسوقُها سوقًا: إذا قدّمها بين يديه، ومنه قوله تعالى:{وجاءَتْ كلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ} .

والحادي: سائقُ الإبل بالغناء لها، وقد حدوتُ الأبل حَدْوًا وحداءً.

ومثال ذلك في الشعر ما أنشد المؤلف:

لما تَبَيّنَ مينُ الكاشحين لَكُمْ

أنشأتُ أُعِربُ عما كان مكتُوما

وأنشد الجوهرى:

أنشأتُ أسألُه: ما بالُ رفْقَتَهِ

حَىّ الحُمُولَ فإِنّ الركبَ قد ذَهَبَا

والثاني: طفق، يقال زيدٌ يفعلُ كذا يطفَقُ طَفَقًا، أى جعل يَفْعل. منه قولُ الله تعالى: {وَطَفقا يَخْصِفانِ عليهما من وَرَقِ

ص: 285

الجنّةِ}؛ قال الأخفش: وبعضهم (يقول): طفَقَ -بالفتح- يطفقُ طفوقًا. وأنشد المؤلف في طِفق بيتًا لم أُقَيِّدْه كما أحبُّ.

والثالث: جعل، نحو قولك: جعل زيدٌ يقرأ، بمعنى أخذ في القراءة. وأنشد الفارسىّ وغيره:

وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُنى

ثَوبي فَأْهَضُ نهضَ الشاربِ الثّمِلِ

وأنشده سيبويه:

وقد جَعَلْت نفسي تطيبُ لضغَمةٍ

لِضْغمهما يقرعُ العظمَ نابُها

وأنشد ابن جني:

ص: 286

قد جَعَلَ النعاسُ يَغْرِنَدينِي

والرابع: أخذ، كقولك: أخذ زيد يقرأ

وأما عَلِق فنحو: عَلِقَ زيدٌ يقرأ، بمعنى أخذ وجعل. وأنشد صاحب الصحاح:

عَلِق حَوْضِى نُغَرٌ مُكِبٌّ

إذا غَفَلْتُ غَفْلَةَ لِعُبُّ

قال: أى طَفِق. وأنشد المؤلف:

أَراكَ عَلِقْتَ تَظْلمُ مُن أَجَرْنا

وظلمُ الجار إذلالُ المجيِر

فكلّ هذه الأفعال لا تلحقُ أخبارَها أنْ البتّةَ.

وفي قوله: «كأنشأ السائق يحدُو» .. إلى آخره ما يشعرُ بأنّ ثَمّ أفعالًا أُخَرَ لم يذكرها تدخُل في هذا القسم لأنه أتى بأدارة التشبيه ولم يحصُر. وقد زاد في التسهيل: طَبِقَ، بالباء أخت التاء مكسورة، فتقول على هذا: طبق زيدٌ يقرأ. ولم يأت عليه بشاهدٍ. وزاد: هَبّ، وقد حكاه الجوهرى فقال: وهبْ فلان يفعلُ كذا، كما تقول: طَفِق يفعلُ. وأنشد المؤلف:

هَبَبتُ ألومُ القلبَ في طاعَةِ الهوى

ص: 287

فَلَجّ، كأني كنتُ باللوم مُغْرِيا

وقوله: «كذا جعلتُ وأخذتُ وعلقُ» . يعنى أنها مثل ما تقدّم من أفعال الشروع في المعنى والحكم المذكور.

ثم ذكْر ما تصرّف منها وما لم يتصرف، خوفًا أن تحمل كلُّها محملًا واحدًا، ظنّا أن هذه الأفعال في التصرف مثل كان وأخواتها، فيتوهم أن لها أفعالٌ مضارعة، وأسماءَ فاعلين، ونحو ذلك تعملُ عملها، فقال في ذلك:

وَاسْتَعْمَلَوا مُضَارِعًا لأَوْشَكَا

وَكَادَ لَا غَيْرُ، وَزَادُ وامُوْشِكَا

حقيقة هذا الكلام أن أكثر هذه الأفعال لم تتصرّف تصرّف الافعالِ، فلم يستعمل لها مضارع ولا أمرٌ/ ولا بُنِى منها اسم فاعل ولا مفعول. وإنما اقتُصِر بها على حالةٍ واحدة لكن بحيث فهم منها قصدُ الاقتصار؛ فإن عدم استعمال المضارع والأمر وغيرهما. بمجرّده لا يدُلُّ على عدم التصرف، وإلّا لَزِمَ أن يقف في كل فِعْلٍ من الأفعال على السماع. وكذلك في كل اسم فاعل أو اسم مفعول. وليس الحكم كذلك، بل إذا سمعنا بعض أنواع الفعل قسنا عليه سائر الأنواع، بخلاف ما إذا فهمنا الاقتصار على ما استعمل فهذا هو الذى لا نستعمل منه إلا ما استعملته العرب. وأفعال هذا الباب من ذلك؛ فالغالب فيها عدمُ التصرف، إلا أنهم استعملوا المضارع وحده من فعلين منها، واسم الفعل من واحدٍ، وذلك قولُ الناظم:

ص: 288

واستعُملوا مضارعًا لأوشكا

وكادَ لا غيرُ

...

يعنى أن العربَ صاغت لأوشك وكاد المضارع فتكلمت به على معنى المقاربة الداخلة في هذا الباب؛ فأما أوشك فإنهم قالوا: يوشكُ زيدٌ أن يقومَ، ويوشك أن يكون كذا. وفي الحديث:«كالرائع حول الحمى يوشك أن يقع فيه» . وأنشد سيبويه:

يُوشِكُ من فَرّ من مَنيّتهِ

في بَعْضِ غِرّاتِة يُوافِقُها

واستعمالهُم للمضارع هنا أكثر من استعمالهم للماضى، ولذلك تجدُ أكثر النحويين إنما يذكره في هذا الباب مضارعًا. وأما كاد فإنهم قالوا فيه: يكاد زيد يقومُ. وفي التنزيل المقدس: {يكادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهبُ بالأبْصَارِ} ، {يكادُ زيتُها يُضِيءُ وَلَو لم تمْسَسْهُ نار، نورٌ} {يكاد السموات ينفطرْن منه} . وهو كثير.

وأما غير هذي الفعلين فلم يستعمل له مضارع، كما لم يستعمل لواحد منها أمر، فلا تقول: يطفق زيدٌ يقومُ، ولا يجعل يخرج، كما أنه لا يقال: أَوْشِكْ

ص: 289

يا زيدُ أن تقومُ، ولا كَدْ تقوم. والى ذلك أشار بقوله:«لا غيرُ» ، أى إنّ المضارع لا يستعملُ من غيرهما البتة.

وقوله: «وَزَادُوا مُوشِكا» ، يعنى أنهم زادوا في أوشك على استعمال المضارع استعمال اسم الفاعل، فقالوا نحو: زيدٌ موشكٌ أن يقوم. ومنه قول أسامة بن الحارث الهذلي:

فموشكةٌ أرضُنا أن تعودَ

خلافَ الأنِيسِ وحوشًا يَبابَا

وقال كُثَيْرٌ:

فإنك موشِكٌ أَنْ لا تراها

وتعدُو دُونَ غاضرةَ العَوادِى

وأراد ها التقييد بلا غيرُ، إلا أنه تركه للعلم به، فكأنه قال: وزادوا في أوشك -لا غير- موشكا. والله أعلم.

(ثم قال):

بَعْدَ عَسى اخْلَولَقَ أَوشَكَ قَدْ يَرِدْ

غِنًى بِأَنَ يَفْعَلَ عَنْ ثَانٍ فُقِدْ

يعنى أنّ أنْ والفعل المضارعَ، وهو الذى عَبّر عنه بأنْ يفعلَ، قد يقع بعد هذه الافعال الثلاثة، وهى عسى واخلولق وأوشك، فيستغنى به عن الإتيان

ص: 290

بالمعمول الثاني، وهو الخبر المفقود من الكلام، فتقول: عسى أن يقوم زيد، واخلولق أن يقوم زيدٌ، وأوشك أن يقوم زيدٌ.

ويعطى هذا الكلام أنّ أنْ مع الفعل في موضع رفع اسمًا لعسى، فإن المفقود من المعمولين هو الثاني، قال، فالأولُ إذًا غير مفقود، وإذا كان موجودًا وليس ثمّ مع الفعل إلا أنْ والفعل، وذلك الاسم، فهما إذًا في موضع رفع الفعل، وقد قَرّر أن هذه الأفعال الثلاثة من النواسخ، فالرفع على أنّ المرفوع اسمها، وصار لما كان في قوة الجملة وفي معناها سادّا مسدّ الخبر، لأنه مذكور. وفي القرآن من هذا:{وعَسَى أن تكرهوا شيئًا وَهُوَ خيرٌ لكم، وعَسَى أن تُحِبُّوا شيئًا وهو شرٌّ لَكُم} و {عَسَى أن يبعثَكَ رَبُّكَ مقامًا محمُودًا} . ومثل ذلك يلزم في الفعلين الباقيين.

وما قاله الناظم ها هو أحد المذاهب الأربعة في المسألة.

والثاني/: أَنّ أَنْ وما بعدها في موضع الرفع على الفاعلية بمنزلة قَربُ ودنا، فكما تقول أن يقومَ زيد، ويكون «أن يقوم» فاعلًا، فكذلك هنا إذا قلت: عسى أن يقوم. وهو في اخلولق وأوشك ظاهر.

والثالث: أَنّ أنْ وما بعدها في موضع نصب المفعولية، والاسم الظاهر بعد الفعلِ والفاعل، وهى بمنزلة قارب، فإذا قُلْت: عسى أن يقوم زيدٌ، أو اخلولق أن قوم، فَأَنْ يقوم في موضع المفعول، وزيد فاعل، كأنك قلت: قارب أن يقوم زيد، أى: القيامَ زيدٌ.

وهذان المذهبان بناءٌ على هذه الأفعال هنا غير نواسخ، وأنّ أنْ

ص: 291

مصدرية والرابع: يتخرج على قول من جعل أن غير مصدرية، وهو أن يكون «أن يقوم» هو الخبر، وزيدٌ هو الاسم، لك تنازعه مع فعل المقاربة الفعلُ الواقع خبرًا، فصار بمنزلة: عسى يقومُ زيد، والبناءُ هنا على أنها نقاصة كما كانت في الأصل.

فأمَا رأْىُ الناظم فقد مرّ أنه إذا ثبت أن هذه الافعال تكون نواقص في بعض المواضع بلا نزاع، فالاولى أن يردّ سائر المواضع إلى ذلك. ونحن ههنا قادرون على ردّها، فهو الذى ينبغي، فإذا أسندت هذه الافعال الثلاثة إلى أن الفعل وجهت بما يوجه به «حسب» إذا وقع أن الفعل في موضع مفعوليها نحو قول الله تعال:{أَحَسِبَ الناسُ أَنْ يُترَكُوا} ، وقوله:{أم حسبتم أن تتركوا} ، وما أشبه ذلك. فلما لم تَخْرُجُ «حَسِبَ» بذلك عن أن صلها، كذلك لا تخرج عسى وأختاها عن أصلها. ووجه ذلك في حسب ونحوها أنّ أن والفعل سدّا مسدّ الجزأين اللذين أصلُهما المبتدأ والخبر، وإن كانا مؤولين بمفرد؛ فإنّ ذلك قد تضمن المبتدأ والخبر ملفوظا بهما؛ وإذ ضمير «يُتْركُوا» هو المبتدأ، و «يترك» هو الخبر، والتقدير: أحسب الناس أنفسهم متروكين. فكذلك تقول: عسى أن يقوم زيد، أَنْ يقوم في تأويل مفرد، وهو يتضمن الجملة، فزيدٌ هو المبتدأ في المعنى، ويقوم الخبر. وهذا لا إشكال فيه على الجملة. قال ابن الضائع: «لما كان هذا المرفوع -يعنى أَنْ والفعلَ- يتضمن الخبر والمخبر عنه ملفوظا بهما، سدّ مسدّهما، كما سدّ- في: أقائم أخواك؟ - المرفوع عن الخبر؛ ألا ترى أنه يجوز على مذهب الأخفش: كان قائمٌ أخواك، وكان ناقصة قال: «وينبغي على قياسِ قولِ سيبويه أن يجوز: ما كان قائم أخواك؛ لأن النفي

ص: 292

يُجوِّز الابتداء بالنكرة، وقد اعتمد اسم الفاعل على كان». قال:«ومن هذا قولهم: ظننتُ أن زيدًا قائم، فأنّ مع بعدها في تقدير اسم مفرد، وجازَ ذلك في ظنتُ، وإن كان لا يجوزُ: ظننت قيامَ زيدٍ، بالنظم إلى ذِكْرِ الخَبر والمخبر عنه في الكلام خبرًا ومخبرًا عنه» - قال: «واحُترِزَ بهذا التقييد من إلزام ظنننتُ قيام زيد» .

هذا ما قال، وهو ظاهر كما ترى؛ إلا أن الفارسىّ ردّ هذا في التذكرة، ومنعه جملة، لأنّ أنْ في عسى واقعة موقع الفاعل، ولا يصلح أن تقع جملة موقع الفاعل، لأن الفاعل لا يكون جملة، لأنه يُضْمَرُ، ويكنى عنه، ويثنى ويجمع. ولا يجوز شئٌ من ذلك في الجمل، ولا يجوز أن تكون أنْ واقعةً موقع الجُمْلة بعد الفعل، ولا أن تُسدّ مسدّ الجملة هنا لأنها في معنى المفرد، وفي موضع مفرد مرفوع، وإلا فأين مرفوع الفعل في عسى أن يقوم زيدٌ؟ فلا بُدّ أن يقال/: أنْ والفعلُ، وأَنْ والفعلُ مفردٌ، كما في نحو: أعجبني أن تقوم.

فإن قيل: فقد وقعت أنْ وأنّ موقع الجملة في: ظننت أن يَقُومَ زيدٌ، وأنّ زيدًا يقوم، فكذلك هنا.

فالجواب: أنهما لم يقعا موقع البتة، وإنما وقعا موقع المفرد، وإنما سدّ ما جرى في الصلة من ذكر الخبر والمخبر عنه في المعنى مسدّهما، كما سدّ الفاعل مسدّ الخبر في: أقائم الزيدان؟ فاستغنى معه عن خبر المبتدأ، كذلك استغنى بذكر الخبر والمخبر عنه عن أن يعدّى الفعل؛ قال الفارسي: ولم يقع الإفرادُ موقع الجملة في شئٍ علمناه.

ص: 293

هذا كلامه على بسط بعض ما فيه مع تحرّى معناه، وهو كما ترى وارد ويصعبُ الجواب عنه. ولكن نجيب بأن نقول: إنّ أنْ والفعلَ وقعت في اللفظ مع عسى موقع الاسم المرفوع، فإنه مفرد في التقدير، لكن لما كان الخبر في المعنى واقعًا في صلة أَنْ، وهو الفعل الموالى لأن استغنى به عن ذكره؛ إذ لا يحتاج إليه من جهة المعنى مع وجوده، فلم يقع المفرد موقع الجملة، وإما وقع المفردُ موقع المفرد، واتفق أن ما في صلة المفرد سدّ مسدّ الخبر، كما اتفق الفارسىُّ معنا على أَنّ «أَنْ» مع ظنت واقع موقع المفرد، وسدّ ما في صِلَتِه مَسّدّ المفعولِ الثّاني، وهو خبرُ المبتدأ في الأصل، فمسألة حَسِبَ نظيرة مسأة عسى، وهو ما تقدّم ذكره، ولا يبقي بعد ذلك أشكال.

والمذهب الثاني مرجوعٌ؛ فإنه إخراجٌ لهذه الافعال عما ثبت فيها إلى أمر محتمل، وأيضًا فإن أمكن ذلك في غير عسى فلا يمكن في عسى لأنها غير متصرّفة، ولا دالّة على حدث ولا زمان، فكيف تعدّى [تعدية] الفعل المتصرف وتجعل دالّةٌ على معناه من الحدث والزمان؟ هذا خلاف المقرر فيها؛ فإنْ جَعَل ذلك أمرًا معنويًا لم تخرج به عسى [عن] أن تكون من النواسخ؛ لأن الادوات قد تتحمّل معاني الافعال الصحيحة، ولا تخرج بذلك عن حكمها المستقرّ فيها، كليت وكأنّ وأسماء الإشارة ونحوها.

والمذهب الثالث إيضا، فيه ما في الثاني ويزيد محذورًا آخر، وهو أنه لو كان كما قال للزم إبرازُ الضمير مطلقًا واتصاله بعسى إذا كان ضمير مخاطب، فكنت تقول: عسيت أن تقوم، ولا يجوز على ذلك أن تقول: عسى أن تقوم، إلا

ص: 294

أن هذا باطل، لقول الله تعالى:{وعسى أن تكرهُوا شَيئًا وهو خيرٌ لَكُم، وعَسَى أن تحبوا شيئًا وهو شرٌّ لكُم} . وكذلك كان يلزم الإبراز في الفعل الثاني إذا كان الاسم مثنّى أو مجموعًا، فكنت تقول: عسى أن يقوما الزيدان، وعسى أن يقوموا الزيدون. ولو أعمل الثاني لزم أن تقول: عسيا أن يقوم الزيدان، وعَسَوا أن يقُوم الزيدون؛ فلا يقال: عسى أن يقوم الزيدان، ولا عسى أن يقوم الزيدون. وهذا فاسدٌ، فإن العرب تقوله.

وأما المذهبُ الرّابعُ فلا ينبغي الحمل عليه ما وجدتَ عنه مندوحةً. فالأولى ما ذهب إليه الناظم.

واعلم أنه حين بَيّن أَنّ أَنْ والفعل في موضع رفع بعسى أو واحدٍ/ من أخواتها، أشعر ذلك بأنّ لفظ الفعل لا يختلف بحسب اختلاف أحوال الاسم بعده، إلا بحسب ما يختلف الفعل لاختلاف فاعله فتقول: عسى أن يقوم الزيدان والزيدن، وعسى أن تقوم هند والهندان والهندات، وكذلك: الهنود، في أحد الوجهين. وعسى أيضا لا تختلف.

فالحاصلُ من كلامه من أول الباب إلى هنا يدور على مسألتين إحداهما:

عسى زيد أن يقوم. وهذه يشترك فيها جميع أفعال الباب. والثانية: عسى أن يقوم زيد. وهذه مختصة بثلاثة الأفعال المذكورة. وذلك كله عند عدم اسم يذكر قبلها، فأما إن ذُكِر اسم قبلها فإن ذلك يتفرع على هاتين المسألتين، وهو الذي قال فيه:

ص: 295

وَجَرِّدَنْ عَسَى، أو ارْفَعْ مُضْمَرَا

بِهَا إذَا اسْمٌ قَبْلَهَا قَدْ ذُكِرَا

فيعنى أنّ عسى إذا تقدّمها اسم مذكورٌ قبلها، فلك فيها وجهان:

أحدهما أَنْ تُجرّد عسى -يغنى عن الضمير جملةً- وتجعل «أنْ يفعلَ» هو المرفوع بها، وتسدّ إذ ذاك مسدّ المنصوب، حسبما تقدم آنفا، فتقول: زيدٌ عسى أن يقوم. والزيدان المسألتين المتقدمتى الذكر.

والوجه الثاني: أن يضمر فيها ضمير يكون مرفوعًا بها، والخبر: أَنْ والفعل. وذلك الضمير عائد على الاسم المتقدم، فيطابقه في إفراده وتثنية وجمعه، وتذكره وتأنيثه؛ فتقول: الزيدان عسيا أن يقوما، والزيدون عَسَوا أن يقوموا، وهند عَسَتْ أن تقوم، والهندان عستا أن تقوما، والهندات عَسَين أن يَقُمنَ. فيكون الضمير في هذا الوجه اسمَ عسى، وأَنْ والفعل الخبر، كما تقول: زيد كان يقوم، والزيدان كانا يقومان، والزيدون كانوا يقومون، ونحوه. وهذه هى المسألة الثانية من المسألتين.

وقول الناظم: «إذا اسمٌ قبلَها قد ذُكِر» ، لم يعيّن ههنا حال هذا الاسم، من كونه مبتدأٌ أو غير ذلك؛ لأن المقصود صحة إعادة الضمير عليه من عسى؛ وإذا لت زرتُ المريض وعسى أن يفيق، وجاء زيدٌ فعسى أن يقرأ. وما أشبه ذلك -[فهو] داخل في مقتضى إطلاقه. وتخييرُ بين هذين الوجهين هو تخييرٌ

ص: 296

بين لغتين للعرب حكاهما الإمام فقال: «ويقولون عسى أن يفعل، وعسى أن يفعلُوا، وعسى أن يفعلا» .. إلى آخر ما قال، ثم قال:«ومن العرب من يقول: عسَى، وعسَيا، وعسَوا، وعسَتَ وعستا، وعسَين»

إلى آخره.

وإذا تقرّر هذا بقى على الناظم دَرْكٌ من وجهين أو ثلاثة؛ فإنه قَصَر هذا الحكم على عسى وحدها دون اخلولق وأوشك، فاقتضى أنهما غير داخلين معها. وهذا غيرُ مستقيم، بل هما داخلان مع عسى في الحكم؛ لأنك تقول: الزيدان أوشك أن يقوما، وأوشكا أن يقوما، والزيدون أوشك أن يقوموا، وأوشكوا/ أن يقوموا. وكذلك التأنيث في الإفراد وغيره. وهذا منصوصٌ عليه للمؤلف وغيره. وكذلك اخلولق على القول بإلحاقها بأفعال المقاربة. وقد نصّ على ذلك في التسهيل، فاقتصارهُ على عسى إيهام يقتضى إخراج غيرها، فلو قال عَوِضًا من ذلك:

وَجرِّدَنْهُنّ أو ارْفَعْ مُضْمَرَا

فيعودَ الضمير على ثلاثة الأفعالِ المذكورة قبلُ -لاستقام كلامُه وجرى على ما ينبغي، لكنه لم يفعل، فكان معترضًا. هذا وجه.

والثاني: أنه أتى بالمسألة قاصرة؛ فإنه قصرها على ما إذا تقدم عسى اسمٌ، ضمير متكلم أو مخاطب فإن الوجهين سائغان، واللغتان ثابت، فتقول: عسى أن تقوم يا زيد، وعسيتَ أن تقوم، وعسى أن أَقُوم،

ص: 297

وعسيتُ أن أقوم. ومن ذلك في القرن: {وعَسَى أن تكرهُوا شيئًا وهو خيرٌ لكم} ، . وفي موضع آخر قال:{هل عَسَيتم إن كُتِب عليكم القتالُ أنْ لا تُقاتلوا} ، فكان من حقه أن يأتى بالمسألة مُكَمّلة، وإلا أوهم أن الوجهين مختصان بما إذا ذكر قبل عسى اسمٌ. وذلك غير صحيح.

والثالث: أنه نَقَصه وجه ثالثٌ جائز، وهو أن تنصب عسى ذلك المضمر ولا ترفعه، وذلك في لغة من يقول: عساك أن تقوم، وعساني أن أخرج، وعساه أن يركب. وأنشد سيبويه لرؤبة:

يا أبَتَا علكأَوْ عَسَاكَا

وأنشد لعمرانَ بن حِطّان:

وَلِى نَفْسٌ أَقُولُ لها إذا ما

تُنَازِعُنِى: لَعَلِّى أَوْ عَسَانِى

وليس ذلك بِمقصُورٍ على السماع، بل هى لغة للعرب حكاها الناسُ. ووجهُها أنهم حملوا عسى محمل لعلّ، فأعملوها إعمالها لما اجتمعت معها في

ص: 298

معنى الرجاء والإشفاق، كما حَمَلُوا لعلّ على عسى في إدخال أَنْ في الخبر، نحو لعلّ زيدًا أَنْ يَقُومَ، كما جاءَ في الحديث:«ولعلّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحُجّته من بعض» . فكان ينبغى له أن ينبّه على هذه اللغة الثالثة.

والجواب: أن الأول لازمٌ، لا أجدُ الآن عنه جوابا.

وأما الثاني فإنه لم يحتج إلى التنبيه على ما ذكر لأنه داخل في مسألتى الباب الأُولَيَين، لأنك إذا اجتزأت بأن والفعل فلا إشكال، وإلا فلا بُدّ من مبتدأ وخبر، وقد يكون ظاهرًا وضميرًا، فإذا كان ضمير متكلم أو مخاطب فلا بدّ من ذكره على إحدى اللغتين. فلما كان حكم ضمير المتكلم والمخاطب داخلًا فيما تقدم، لم يحتج إلى ذكره.

فإن قيل: فكذلك أيضا إذا تقدم الاسمُ عسى فلا فرق، فإذا قلت: زيد عسى أن يقوم -ولا ضمير في عسى- فهى قد اجتزأتْ بأَنْ والفعل عن ذكر الخبر، وإذا كان فيها ضمير فهى لم تجتزئ بل دخلت على المبتدأ والخبر، فلم يزد تقديم الاسم شيئًا.

والجواب: أنه إن لم يزد شيئًا فقد أوهم أمرًا محتاجًا إلى زواله، لأنه إذا تأخّر الفعل عن الاسم، وهو يطلبُه من جهة المعنى، فالسابقُ إلى الوهم الإضمار/ فيه، كقولك: زيدٌ ضرب عمرًا، بل (هو) الواجب في مثل هذا -وكذلك قولك: زيدٌ عسى أن يَقُومَ، عسى فيه طالبةٌ لضمير زيد، وصالحة له، فقد يتوهم أن حكمها حكمُ سائر الافعال في وجوب الإضمار والتزام وجه واحدٍ من الوجهين؛ فبيّن أن الوجهين معًا سائغان

ص: 299

في المسألة ليرتفع الإيهام. والله أعلم.

وأما الثالث فالجواب عنه من وجهين، أحدهما: أن تلك اللغة قليلة، نصّوا على ضعفها، وضعفُها من جهة السماع، فإنها لم تكثر في الكلام، ومن جهة القياس لإخراج عسى -وهى فعل- من بابها، وهو باب كان إلى باب إِنّ. والثانى: أنّ هذه اللغة في التحصيل راجعة إلى إحدى اللغتينن المذكورتين؛ فإن الضمير -وإن كان بلفظ المنصوب- هو في موضع رفع على رأى الأخفش؛ فإن بعض الضمائر قد تُوضع مَوْضِعَ بعض، كقولهم: ما أنا كأنت. وعلى ذلك حمل بعضهم قول العرب: كن كما أنت. فأنت في موضع جرٍّ بالكاف وما زائدة. وزعم الفراء أن من العرب من يقول: مررتُ بإيّاك. وأنشد الكسائي:

فأحسن وأجمِلْ في أَسِيركَ، إنّهُ

ضعيفٌ، وَلَمَ يَأسِرْ كإيّاكَ آسِرُ

ولذلك يقول الأخفش أيضًا في لولاكَ ولولاهُ ولولاىَ: إن الضمائر في موضع رفع، وضعوا ضمير النصب موضع ضمير الرفع، والباب باقٍ على أصله، فكذلك هنا في عسى الكاف والباءُ والهاءُ في موضع رفع، والخبر منصوب.

ص: 300

والمسألة ذاتُ أقوال ثلاثة:

أحدها: أنها -أعنى عسى- حُمِلت على لعلّ، فنصبت الاسم ورفع الخبر:

والثانى: أنها باقيةٌ على أصلها، إلا أن الضمير خيرٌ مقدّم، والاسم أَنْ والفعل. وهذا رأى المبرّد، والأولُ رأىُ سيبويه.

والثالث: ما تقدم للأخفش. قال المؤلف: «وقولُ الأخفش هو الصحيح عندى لسلامته من عدم النظر؛ إذ ليس فيه إلا نيابة ضمير غير موضوع للرفع عن موضوع له؛ وذلك موجودٌ لقول الراجز:

يا ابنَ الزُّبَيرِ طالَما عَصَيْكا

أراد: ما عصيت، فجعل الكاف نائبة عن التاءِ؛ ولأن نيابه غيره عنه؛ ولأَنّ العرب قد تقتصر على عساك ونحوه، فلو كان الضمير في موضع نصبٍ لزم مه الاستغناء بفعلٍ ومنصوبه عن مرفوعه، ولا نظير لذلك، #بخلاف كونه في موضع رفع، فإن الاستغناء به نظير بمرفوع كاد في نحو: من تأتّى أصاب أو كاد، ومن تعجل أخطاء أو كاد». قال:«ولأن قول سيبويه يلزم مه حملُ فعلٍ على حرفٍ في العمل، ولا نظير له» . ويلزمُ المبردَ الاكتفاءُ بالمنصوب أيضًا في نحو: عساك

ص: 301

تقومُ -بغير أَنْ، والإخبار باسم عين جامدٍ عن اسم معنى، ووقوع الخبر في غير موضعه بصورةٍ لا تجوز فيه إذا وقع موقعه؛ لأنك إذا قلت في عساك أن تفعلَ: عسى أن تفعلَ إياكَ، لم يجز، وما لم يَجُزْ في الحالة الاصلية حقيق بأن لا يجوز في الحالة الفرعية فثبت أن رَأْىَ الأخفش أولى الأقوال/ بالصواب. وعند ذك يكون قولُك: عساك أن تقومَ، وزيد عساه أن يخرج بمنزلة: زيد عسى أن يخرج -والضمير في عسى- غير أنه يبقى بيان هذا الاختلاف، وذلك موكول إلى نظر الناظر أو الكتب المطولة.

واعلم أَنّ وقوع الضمير المنصوب (في) موقع المرفوع مختصّ بعسى دون اخلولق وأوشك؛ لأن عسى هى المرافقة للعلّ في المعنى، فعوملت في اللفظ معاملتها، بخلاف الفعلين الآخرين.

ثم قال الناظم:

وَالفَتْحَ والكَسْرَ أَجِزْ فِى السِّينِ مِنْ

نَحْوِ عَسَيْتُ، وانْتِقَا الفَتْحِ زُكِنْ

هذه تتمة القول في إحدى المسألتين في هذا الباب، وهى أن الفعل المذكور الذى هو عسى، إذا أسند إلى ضمير متكلم أو نحوه، وهو ضمير المخاطب، فإن لك في سين عسى وجهين:

أحدهما: فتقول: عَسَيتُ أَنْ أقومَ، مثل: عَنَيتُ.

ص: 302

والثاني: الكسر، فتقول: عَسِيتُ أنْ أقومَ، مثل: نَسِيت.

وكذلك ما كان نحو عَسَيِتُ أَنْ أقومَ، مثل: نَسِيت. وكذلك ما كان نحو عَسَيِتُ، مثل عَسِينا، وعَسَيِتَ، وعَسَيْتُما، وعَسِيتُمْ، وعَسَيتُنّ في ذلك كله الوجهان.

والضابطُ الذى أشار إليه بالمثال هو أن تُسنِد عسى إلى ضمير يسكن معه آخر الفعل؛ فقولهُ:

من نحو كذا، إخبارُ عن كل موضع كانت فيه مسندةٌ إلى ضمير يسكن معه آخر الفعل، فيدخ كل مسند في التاء وحدها نحو عَسِيت، أو مع غيرها نحو عَسِيتم، أو النون: الهندات عَسِينَ، أو نا نحو عَسِيا. فهذا كله فيه الوجهان. وقد قُرِئ قولُ الله تعالى:{قَالَ: هَلْ عَسَيتم إِنْ كُتِب عَليكُم القِتَالُ أن لا تُقَاتِلوا} ، وقوله:{فَهَلْ عَسَيتم إن تَوَلّيتم أن تُفْسِدُوا في الأَرْض} ، بالوجهين.

وقوله: «والفتح والكسر» ، منصوبٌ بأجِزْ. و «في السين» ، متعلقة به. و «من نحو» متعلق باسم فاعل محذوف ثم نبّه على اختيار الفتح بقوله:«وانتقا الفتح زُكِن» ، الانتقاء بالمدّ فقصره ضرورة، معناه: الاختيار؛ يقال: انتقيت كذا، أى: اخترته. ومعنى زكن: علم. يريدُ أن اختيار الفتح هو المعروف المعلوم. قال في الشرح: ولذلك قرأ به ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر، ولم يقرأ بالكسر إلا نافع. وإنما كان المختار لأنه اللغة الفاشية الشهيرة، قال مكي في

ص: 303

اختصار الحجة للفارسي: «حجة من كسر أنها لغة في هذا الفعل إذا اتصل بمضمر خاصة، ويدلّ على ذلك ما حكاه ابن الأعرابي من قولهم: هو عَسٍ بكذا، مثل: شَجٍ وحَرٍ، قال: فهو إذًا فِعْلٌ مثل شَجِى» . قال: «وحجة من فتح أنها اللغة الفاشية المستعملة مع المضمر والمظهر، ويقوّى ذلك أنه قد أُجْمِع على فتح السين مع المظهر، فواجب أن يكون مع المضمر كذلك؛ لأن المضمر يصيبُ المظهر» . وذكر أنّ قياس لغة الكسر إذا أُسنِدَ الفِعلُ إلى ظاهر أن يكون: عَسِى زيدٌ، الكسر مثل رَضِى، إلا أن نافعًا أخذ بالأمرين فكسر مع المضمر وفتح مع المظهر. وقد قال بن دَرَسْتُويه: إن الكسر لغة رديّةٌ شاذة.

/فالحاصل أنّ سببَ الاختيار لفتح وجهان: كونه اللغة الفاشية، بخلاف الكسر. وكونُه جارٍ على القياس لعدم اختلافه مع الظاهر والمضمر، بخلاف الكسر فإنه يختلف الأمرُ فيه، فيكون موجودًا مع المضمر، ولا مع كل مُضْمر، ومعدوما إلى الرجوع إلى الفتح مع الظاهر. فهى لغة مضطربةٌ في القياس. فاختيارهُ الفتحِ للسماع والقياس معًا.

ص: 304