المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌لا التي لنفي الجنس - شرح ألفية ابن مالك للشاطبي = المقاصد الشافية - جـ ٢

[الشاطبي الأصولي النحوي]

الفصل: ‌لا التي لنفي الجنس

‌لَا الّتِي لِنفْي الجِنْسِ

هذا هو النوع الخامس من نواسخ الابتداء، وهو: لا التى لنفي الجنس، وعملها في الأصل عند الناظمِ ومن تبعه الناظمُ كعَمَلِ إِنّ، تنصب الاسم وترفع الخبر، للشبه المقرّر بينهما في أنّ كلّ واحدٍ منهما حرفٌ موكّد، فإنّ مؤكدة للإيجاب، ولا مؤكّدةٌ للنفي، وكلاهما موضعه صدرُ الجملة، وهو داخلٌ على المبتدأ والخبر، قال المؤلف:«وأيضًا فإنّ «لا» تقترن بهمزة الاستفهام ويراد به التمني، فيجب إلحاقها بليت، قم حملت في سائر أحوالها على حالها في التمني». وهذا وجه ضعيف.

(ثم قال):

عَمَلُ إِنّ اجْعَلْ لِلَا في نَكِرهْ

مُفْرَدَةً جَاءَتْك أَوْ مُكَرّرَهْ

فَانْصِبْ بِهَا مُضَافًا أو مُضَارِعَهْ

وَبَعْدَ ذَاكَ الخْبَرَ اذْكُرْ رَافِعَهْ

ظاهرُ قوله: «عَمَلَ إِنّ اجْعَلْ لِلَا» يقتضى أنّ لا عاملةٌ في الاسم والخبر بإطلاق، أما علمها في الاسم فظاهر، وأما في الخبر فليس بمتّفَقٍ عليه، بل فيه خلافٌ:

فعلى طريقة المؤلف في التسهيل أنّ الاسم إن لم يركّب معها فالخبر مرفوع بها عند الجميع، وإن رُكِّب معها الاسم فقولان؛ قيل: إِلّا الخبر مرفوع بها أيضا، وهو مذهب الناظم. وقيل: على خبر الابتداء، لأن «لا» مع اسمها في موضع اسم مبتدأٍ، فالخبر مرفوعٌ به لا بها.

ص: 412

وعلى طريقة غيره أن الخبر في رفعه القولان، كان الاسم مركّيًا مع لا أَولا؛ فقد حكى ابن خروفٍ وغيره الخلافَ بين سيبويه والأخفش بإطلاقٍ، ونص ابن خروف على هذا المعنى في نحو: لا خيرًا من زيدٍ، وهو الذى حكى فيه المؤلفُ الاتفاق.

فالحاصل أن الناظم ارتضى مذهب الأخفش في المسألة، ووجهُ/ ذلك ما تقدّم من المناسبات بين إِنّ ولا، وقد ثبت الرفع لإِنّ فلْيكُن كذلك في لا. وأيضًا قد عملت في الاسم باتفاقٍ وعملها في الخبر أولى من العمل في الاسم، لأنّ معناها إِنما تسلط عليه، وإنما عملت في الاسم لأنه مطلوبُ مطلوبها، فهو معمول بالقصد الثاني، وما كان مطلوبًا للعامل بالقصد الأول أَولى أن يكون معمولًا له مما كان مطلوبًا له بالقصد الثاني.

فإن قيل: القاعدة المستمرة أن المشبّه لا يقوى قوة ما شُبِّه به، وقد تقرّر أن لا إنّما عملت لشبهها بإنّ، وعملت إِنّ بشببها بكان، فلا في المرتبة الثالثة، فلا ينبغي في القياس أن تعمل الرفع والنصب، وإلّا لزم أن تكون في العمل في درجة إِنّ، لكنها ليست في درجتها، فلزم أن لا تعمل عملها.

فالجواب: أن القوة والضعف في التشبيه ليس براجعٍ إلى نفس العمل المجعول لها، وإلّا لزم ذلك في إنّ وأَلّا تعمل رفعًا ونصبًا؛ إذا كانت بذلك تصير في درجة الفعل، وإنما ذلك راجع إلى أحكام أُخَر؛ ألا ترى أَنّ تعمل في المعرفة والنكرة، ولا لا تعمل إلا في النكرة، إلى غير ذلك من

ص: 413

الأحكام التي قصرت فيها عن التصرُّفِ تصرّفَ إنّ. وقد تقدّم هذا المعنى.

وشرط الناظم رحمه الله في هذا العمل أن يكون الاسم الذى تعملُ فيه نكرةً بقول: «عَمَل إِنّ اجعَلْ للا في نكره» . فاشترط أن يكون المعمول نكرة، ولم يقيده بكونه اسما أو خبرا. فيحمل على إطلاقه فيهما، فتقول: لا رجل في الدار، أى: مستقر في الدار،

وَلَا كَرِيمَ مِنَ الوِلْدَانِ مَصْبُوحُ

ولا يقال: لا رجلَ زيدٌ، ولا كريم أخوه، ولا ما أشبه ذلك. كما لا يقال: لا زَيْدَ في الدار ولا عَمْروَ. وما جاء مما ظاهره ذلك فمؤول أو نادِرٌ لا يُعِتَدُّ به، فيقال في مثل: لا إِله إِلّا الله، ولا عالِمَ إلّا زيدٌ: إن الخبر (مُقَدّر)، والمعنى: لا إله في الوجود إلا الله، ولا عالم في الدنيا إلا زيدٌ. ولا يقالُ: إِنّ هذا التقدير يؤول إلى نفي الإلهيّة عن غير الله بقيدٍ، لأنا نقول: القيدُ هنا غير قادح، لأنه إذا لم يكن غير الله في الوجود لم يكن بإطلاق، وههنا بحثٌ في الخبر آخر. وأيضًا فقولهم:«قضيةٌ ولا أبا حسن لها» ، وفي الحديث: «إذا هلك كسرى فلا

ص: 414

كسرى بعده. وإذا هلك قيصرُ فلا قيصَرَ بعد». وأنشد سيبويه:

لا هَيْثَمَ الليلَةَ للَمِطىِّ

وقال ابن الزبير الأسدىّ، أنشده سيبويه أيضا:

أَرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيبٍ

نَكِدْنَ، ولا أُميّةَ بالبلاد

/ وقالوا: لا بَصْرَةَ لكم. وقال آخر:

إِنّ لنا عُزّى وَلَا عُزّى لَكُمْ

كلّ هذا نادر لا يُقيّد به، مع أنه مؤوّلٌ إمّا بتقدير تنكير هذه المعارفِ، فتدخلُ تحت قوله:«في نَكِرَه» . لكن يبقى أن يقال: هل يجوزُ مثلُ هذا عنده أم لا. فالظاهر أنه لم يتعرّض لهذه المسألة، وقد أجاز ذلك في «التسهيل» على قِلّةِ إذا كانت المعرفةُ يَصِحُّ تنكيرُها كالأعلام لا كالمضمراتِ وأسماءِ الإشارة، خلافًا للفرّاءِ.

ص: 415

وقوله: «مُفْرَدة جَاءَتك أو مُكَرَّرَه» حالٌ من لا، والعامل في الحال/ جاءتك، يعنى أنك تُعمِلُ لا في النكرة على أىّ حالةٍ كانت، فسواءٌ أكانت مكررة نحو: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، أو غير مكررة نحو: لا رَجُلَ في الدار. والإفرادُ هنا في مقابلة التكرار، دلّ على ذلك ذكره القسيم بقوله:«أو مكرّرَه» . والإفرادُ في هذا الباب يطلقُ بإطلاقين؛ أحدهما: هذا الذى ذكر أنّه مرادُه هنا. والثاني: الإفرادُ الذى في مقابلة الإضافة والشّبِيه بها، وهو المراد في قوله:«وَرَكَبِ المُفْرَدَ فاتحًا» ، وقوله:«ومُفْردًا نعتًا لِمَبْنىِّ يَلِى» ، وليس بمراده هنا. فعلى هذا يدخل له تحت لفظ المفرد المثنى والمجموع نحو: لا رجلين في الدار، ولا قائِمينِ عِنْدَك، ولا رجالَ في البيت. ويدخل له تحته أيضًا المضافُ والشبيه به، نحو: لا غلامَ أحد عندك، ولا خيرًا من زيدٍ في الدار. وما أشبه ذلك؛ لأن جميع ذلك ليس بمكرّرٍ.

وهذا العمل الذى ذكره الناظم لم يقيّده بوجوبٍ ولا جوازٍ، بل أطلق القول فيه وأجمله بحيث لا يقتضى جوازًا ولا وجوبًا، لأنه أدخَلَ في حكم الإعمال ما يكون العمل فيه واجبًا، وذلك النكرة المفردةُ غير المكرّرة نحو:{ولو تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ} و {قَالُوا: لا ضَيْرَ} ؛ فإنّ هذا لا يجوزُ فيه الإلغاءُ البتّة، فلا تقول: لا غلامٌ فيها، حتى تكرر فتقول: ولا جاريةٌ. وأدخل فيه أيضًا ما يكونُ العملُ فيه جائزًا، وذلك النكرة المكررة نحو:{فلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ} و {لا لَغْو فيها ولا تَأْثِيمٌ} و {لا بَيْعٌ فيه ولا خُلّةُ ولا شفاعَةٌ} ،

ص: 416

فأعملها ابن كثير وأبو عَمْرو، وألغاها من عداهما من السبعةِ. فلما حصلَ في مقتضَى الإعمالِ القسمان معًا اللفظ فقال:«عَمَلَ إِنّ اجْعَلْ للَا في نَكِرة» ليشملهما بإطلاقه. و «عَمَلَ إِنّ» : مفعولُ «اجعَلْ» مقدٌ عليه.

ثم إنّ هذا العمل الذى ذكر على وجهين:

أحدهما: عملٌ يبقى على أصله ولا يحدث عليه طارئٌ يغيره عن حاله إلى حالةٍ أخر، وذلك العملُ في النكرة المضافة والّتى ضارعت المضافة.

والثاني: عملٌ لا يَبْقى على حاله بل يتغيّر إلى حالة أخرى، وذلك العملُ في النكرة المفردة غير المضافة ولا الشبية بها، فإنها تتغير من حالة الإعراب إلى حالة البناء.

فأخذ الناظم رحمه الله يذكر هذا الحكم ويفصّل ما أجمل فقال: «فانِصِبْ بِها مُضَافًا أو مُضَارِعَه» . والضمير في «بها» يعود على لا، وفي «مُضَارعه» يعود على المضاف، والتقدير: فاِنصبْ بلا الاسم النكرة المضاف أو المضارع للمضاف. وهذا هو أحد القسمين، وهو الذى لا يتغيّر عن حاله؛ فقوله:«فانصب بها» يعنى نصبًا صحيحًا لا يتغَيّر عن حالته، فأما المضاف فنحو: لا غُلَام أحدٍ في الدار، وأما المضارع له فهو المشابهُ له، وهو العاملُ فيما بعده نحو: لا ضاربًا أحدًا في الدار، ولا خيرًا مِنْكَ عِنْدِى. والمضارَعَةُ للمضافِ هنا معَتَبرةٌ في صِحّة النصْبِ كاعتبارها في باب النداءِ، فيمتنعُ بناءُ المضارعِ للمضافِ هنا كما يمتنعُ هناك، كالمضاف حقيقةً نحو: يا ضاربا زيدًا، ويا طالعًا الجَبَلِ. فليس بين البابين في هذا خلاف وهذا مذهب البصريين. وذهب

ص: 417

البغداديُّونَ إلى أنّ العامل هنا يُبْنى ويصحُّ له العملُ مع البناءِ فيقولون: لا خير من زيد، ولا ضاربَ أحدًا في الدار، ونحو/ ذلك. وصحح الفارسىّ الأوّل بأن البناء مع لا يزيلُ شَبَه الفعل كما أنّ التصغير والوصف يزيلان شبهه عن اسم الفاعل والمصدر فلا يعملان.

فإن قيل: إنّ هَلُمّ في لغة أهل الحجاز قد بُنِى الفِعلُ فيه مع حرفٍ قَبْلَه فلم يمنعُه ذلك العملَ، فكذلك اسم الفاعل والمصدر مع لا.

قيل: ذلك نادرٌ. وأيضًا إنما عملُه في لُغَةِ أهل الحجاز عَمَل اسم الفعل لا عمل الفعل، بدليل أنهم جعلوه للواحد والاثنين والجمع على لفظ واحدٍ، وكذلك في المذكر والمؤنث، فهذا يدلّ على خروجه عن حدّ الفعل وعن عمله المعلوم لَمّا بنى مع الحرف، فكذلك ينبغى أن يكون الحكمُ في مسألتنا.

هذا ردّ الفارسى من جهة القياس، وأما من جهة السماع فلا سماعَ، فسقط ما ذهبوا إليه، وثبت ما ارتضاه الناظم. والله أعلم.

ثم قال: «وبعدَ ذَاك الخبرِ اذكرْ رافِعَهْ» ، ذاك: إشارةٌ إلى ما تقدّم من نصب الاسم، يعنى أَنّك تأتى بعد ذلك بالخبر رافعًا له؛ إذ كانت «لا» إنّما عملُها كَعَملِ إِنّ حسبما نصّ عليه آنفًا.

فإن قيل: هذان المزدوجان معترضان من وجهين: أحدهما: أنهما حشوٌ بغير مزيد على ما تقدّم؛ إذ قال: إن عَمَل لا كعَمَل إنّ، وذلك معنى كونها تنصب الاسم وترفع الخبر، وهو معنى ما ذكر فيما يظهر لباديء

ص: 418

الرأي هنا.

والثاني: على تسليم أن لذلك فائدة، فقوله:«وبَعْدَ ذَاكَ الخبر اذكُرْ» يقتضى بظاهره أن يكون الخبرُ مذكورًا ومنطوقًا به على الإطلاق. وهذا المقتضَى ليس بصحيح، بل إنما يكونُ الخبر مذكورًا إذا لم يدلّ عليه دليل، وأما إذا دلّ عليه دليل فلا يمتنع حذفه، بل حذفُه جائز وواجب؛ فيجوز عند أهل الحجاز، ويلزم عند بنى تميم.

فالجوابُ عن ذلك أنْ يقالَ: أما قولُه «فانصِبْ بها مُضَافًا» ، فالقصدَ به أَنّ عمل لا تارةٌ يكونُ باقيًا على أَصْلِه لا يعرضُ له البناء، وذلك المضافُ والمضارعٌ له، وتارةً يعرضُ له البناء -وقد تقدم هذا المعنّى- فنبّه فيه على أمرين؛ أحدهم: أنّ العَمَلَ نصبٌ صحيح، أى: لا تَبْنِ الاسم البتّةَ -والثاني: أن صاحب هذا النصبِ هو المضافُ والشبيه به، فلا يُبْنَيان كما يُبْنى المفردُ المنبّه عليه في قوله:«وَرَكِّب المفردَ فاتحًا» ووجهُ عدمِ البناء فيهما أَنّ المُضَافَ مع المضافِ إليه كشئٍ واحدٍ؛ إذ كان منزّلًا منه منزلة التنوين، فلو بُنِى مع لا لزم جعلُ ثلاثةِ أشياءَ شيئًا واحدًا، ولا نظير لذلك- وإذا كان كذلك فلا إشكال ولا تكرار.

وأما قوله: «وبعد ذاكَ الخبرَ اذكرْ» ، فالقصدُ به بيانُ رتبة الخبر من الاسم، وأنه لا يكونُ إلا بعده، فلا يجوزُ أن يتقدم، فإنه إنْ تقدّم الخبرُ بطل العملُ نحو:{لَا فِيهَا غولٌ} . ويلزمُ عند ذلك التكرارُ، لكنها معملةٌ فبطلَ أَنْ يتقدّمها الخبر. ووجهُ ذلك ظاهر؛ إذ لم يثبُت للا من التصرّفِ في المعمول ما ثبَتَ في إِنّ التى هى أصلٌ لها في العمل، ولم يثبت ذلك لإنّ لا إذا كان الخبرُ ظرفًا

ص: 419

أو مجرورًا، فلا تبلغُ لا أَنْ يتقدّم خبرها على اسمها وإن كان ظرفًا أو مجرورًا. فهذا قصدُ الناظم بهذا القيد، لا أنه يلزم ذكره؛ والدليل على أن قصده ما ذُكِرَ تقديمُه الظرفَ حين قال:«وبعدَ ذاكَ الخبرَ اذكُرْ» ، إِشعارًا بالاعتناء بذكر التركيب، كأنه قال: إنما تأتى به بعد ذكر الاسم لا قبله، وأيضًا فإنه قد قَيّد هذا الإطلاق في آخر الباب فقال/:«وَشَاعَ في ذا البابِ إسقاطُ الخَبَرْ» . وَإِذا ثبت هذا كلُّه لم يكن في كلامه حشوٌ، وسقط اعتراضٌ المعترضِ.

والخبَر: مفعول اذكر. ورافعه: حال من فاعل اذكر؛ لأن إضافته غير محضة، أى: اذكره حال كونك رافعًا له.

ثم أخذ في القسم الثاني من قسمي عمل لا، وهو الذى يتغيّر إلى حالة البناء فقال:

وَرَكِّبِ المُفْرَدَ فَاتحًا كَلَا

حَوْلَ ولا قُوّةَ، والثانِى اجْعَلَا

مَرْفُوعًا أو مَنْصُوبًا أو مُرَكّبَا

وَإِنْ رَفَعْتَ أَوّلًا لَاتضِبَا

أشعر بقوله: «وركّب المفرَدَ فاتحًا» أن الاسم مبنىٌّ، وأن سبب البناءِ التركيبُ، فقوله:«فاتحا» ، يدلّ على أنّ الحركة بنائيّة، لأنها لو كانت عنده إعرابيّة لقال: ناصبًا، كما قال في القسم الأول:«فانصِبْ بها مضافًا» ، وكما قالَ على أثر هذا: مرفوعا أو». وهذا هو الاصطلاح الجاري على لسانه ولسان غيره، ولذلك قال سيبويه في إعراب بنائها:

ص: 420

«وهي تَجْرِي عَلَى ثَمَانِيةِ مَجارٍ» .

وقوله: «وركِّب المفردَ» يشعر أن هذا البناءَ سببُه التركيبُ -يعنى مع لا- وأنّ؛ من أسباب البناء. وهذا الكلام يتعلّق به أربع مسائل:

إحداها: أنه قد قدّم الناظمُ أنّ البناء إنما يكون لشبه الحرف على وجهٍ من الأجه الأربعة المذكورة، ولم يُذْكر فيها التركيب مع الحرف، فلقائل أَن يقولَ: إلى أىِّ جهة ينتسب البناءُ منه؟

والجواب من وجهين:

أحدهما: أن الناظم إنما تكلّم في سبب البناء الذى هو بحقّ الأصل، كالشّبه الوضعى وهو الوضعُ على حرف واحدٍ أو حرفين ثانيهما حرف لين، والشبه المعنوى الذى في اسماء الشرط استفهام، والنيابة عن الفعل من غير تأثر الذى في أسماء الفعل، والاقتصار الذى بأصل الوضع لعارض الذى قد يكون وقد لا يكون. فأنت إذا حقّقت تلك الأوجُهَ لم تجد واحدًا في الاسم المركب مع لا؛ إذ البناءُ فيه طارئ غير أصيلٍ، يزول بزوال موجبه، فيرجع الاسم إلى الأصل من الإعراب. ولقد اعتُرِضَ على الفارسيّ في اقتصاره من أسباب البناء على شيئين، وهما شبهُ الحرفِ، وتضمّن معناه، بأنّ ثم أوجهًا أُخَر موُجِبةٌ للبناء منها: التركيب مع الحرف كمسألتنا، والتركيب مع الصوت نحو: سيبويه، والإضافة إلى الحرف نحو:{مِثْلَ ما أنكم تنطقُونَ} ، وشِبْهُ ما أشبه

ص: 421

الحرفَ كَبَدادِ. فَأُجِيب بأنّ علىّ إنما يعنى ما كان مبنيًا بأصل الوضع، لا ما كان سببًا طارئًا. وقد قيل إنه ركب معها لتضمنه معنى الحرف، إذ الأصلُ: لا من رجل، لأنه [جواب قولك]: هل من رجل. وقد نطق بالأصل في قول الشاعر:

فقامَ يَذُودُ الناسَ عَنّا بِسَيْفِهِ

وقالَ: أَلَا لا من سَبيلٍ إلى هِنْدِ

فحذفوا [من]، وضمنوا الاسم مناها حين ركبوه معها، أشار إلى هذا ابن الأنبارى. والأ [ول أظهر].

والوجه الثني من الجواب أن يقال: إن هذا وإن كان غير داخلٍ بحقّ الأصل فيما نصّ عليه الناظم/، يدخل له فيها بالشبه، وذلك أنّ التركيب هو ضمّ شئ إلى شئٍ آخر، وجعله معه كالجزء منه، وإذا كان كذلك فالذى يكون كالجزء من الشى مفتقر إلى ذلك الشئ الذي جُعِل جزءًا له، إذ لو لم يكن مفتقرًا إليه لكان مستقلًا بنفسه غير مركّب معه، لكنه موضوعٌ الآن على أنه غير مستقلّ، فلا بدّ أن يكون مفتقرًا، فإذًا قصدُ التركيب يجعله مفتقرًا إلى ذلك الذى ركّب معه، فدخل بحكم الشبه في حكم الافتقار الأصيل، لأن القصد إلى جعله مفتقرًا كأنه وَضْعٌ على

ص: 422

الافتقار مستأنف. وهذا وجه صناعى حسن، وقد تقدّم التنبيه على أصله في باب «المعرف والمبنى» ، والله المستعان.

والثانية: أنّ قوله: «وركِّب المفردّ» ، إنما يريد بالمفرد هنا ما هو في مقابلة المضاف والشبيه به، لأنه لما قال أوّلًا:«عَمَلَ إِنّ اجعَلْ للا في نكرة» جعل المنصوب بها قسمين هو منصوب أو مضارعٌ له، وقسمًا ليس كذلك، فهو المفرد عنده هنا. لكن يقال: هل يدخُلُ المثنّى والمجموع على حدّه أم لا؟ ظاهر عبارته يقضى بعدم دخولهما لقوله: «فاتحًا» ؛ إذ لا يكون في المثنى والمجموع على حدّه، وإنما يُبنَيان على ما كانا يُنصبان به، كما يُبْنَيان في على ما كانا يرفعان به، إلا [أنّ] إن حملناه هذا المحمل، و [أَنّه] إنما أراد المفرد للمثنى والمجموع، والمقابل للمضافِ والشبيه به، خرج له الجمع المكسّر عن حكم البناء، والاتفاقُ أنه لا فرقَ بينه وبين المفردِ في البناءِ عند القائِل به، أو في الإعراب كذلك فلا بدّ أن يقال: إنه أراد بالمفردِ ما قابل المضاف والشبيه به خاصّةً، فيدخل له جمع التكسير بلا بدٍّ يقول: لا رجالَ في الدار، ولا غلمانَ في السوق، كما تقول: لا رجلَ ولا غلامَ، لأنه بقوله:«فاتحًا» دخل له؛ هو مما يفتح؛ لأن إعرابه وبناءه بالحركات. ويبقى والمجموع على حدّه مسكوتًا عنه، فيحتمل أن يكون رأيُه فيه رأىَ الجمهور في أنه مبنى على ما ينصبُ لما كان في باب النداء مبنيًا على ما كان يرفَعُ به. وخالف المبرّد في جعله المثنى على حدّه في هذا الباب معربًا بإطلاق، وكذلك الزجاج أيضا. والأولى مذهب الجمهور، بما اتّفقا مع سائر البصريين عليه من البناء في قولهم: يا قائمان، ويا قائمون، ؛ إِذْ ما في أحدهما

ص: 423

يلزم في الآخر، فإن أجاز أن يقال في: لا رجلين، إنه معرب، فَلْيقلْ يا رجلان، ذلك بعينه. ويحتمل أن يكون رأيه رأى الزجاج والمبرّد، ويكون:«فاتحا» قيدًا يخرج به المثنى والمجموعُ على حدّه، ويبقى جمعُ التكسير مسكوتًا يدخل في حكم البناءِ، قياسًا على المفرد؛ إذ لا فرق بينهما، بخلاف المثنى وجمع السلامة فإن فيهما مع البناءَ، وهو أالأسماء المثناةَ والمجموعة بالواو والنون لا تكون مع [ما] قبلها اسمًا واحدًا، لم ذلك، كما لم يُوجَدَ المضاف ولا الموصول مع ما قبله بمنزلة اسم واحدٍ. وبهذا احتج المبرّد في «المقتضب» ودليلٌ قوىّ، ويعضّده ما جاء من إعراف/ اثنين في قولهم: اثنى عشر، ولم يركبوه مع عشر، كما ركّبُوا عَشَر وأربعة عشر، وسائر الباب. وقد احتج الزجاج لما قال بأنّ التثنية وجمع السلامة يخرج بهما الاسم عن شبه الحرف. فَرُدّ عليه بقولهم: يا زيدان، ويا قائمون، في النداء؛ إذ هو مبنىّ بلا بدٍّ على ما يرفع به مع وجود المانع عنده. وقد احتُجّ للمبرد أيضًا بأشياءَ ليس فيها مَقْنَعٌ، فلذلك تركتُها، مع أن لا ينبي عليه حكمٌ سوى النظر الصناعىّ.

والثالثة: أن كلامه ظاهر في موافقة جماهير البصريين، في أنّ المفرد مبنيٌ مع لا، وأنه الحركة بناءٍ لا حركة إعراب، خلافًا للكوفيين، والزجاج من البصريين، وتبعه السيرافىّ وتأوّلَ عليه سيبويه، حيث قال:

ص: 424

«فتنصبُه بغير تنوين، ونصبُها لما بعدها كنصب إِنّ لما بعدها، وإنّما في التنوين عندهما لأنهما لما ضمّ أحدهما إلى الآخر وجعلا كالشئِ الواحد، حذف التنوين علامة ذلك.

وقيل: حذف للتخفيف، وللشبه بالمركب حقيقةً، وهو مذهب مرجوعٌ من أوجه:

منها: أن ذلك مخالف للنظائر؛ فإن الاستقراء قد قرّر أنّ حذف التنوين من أسماء المتمكنة لا يكون إلا لمانع صَرْفٍ، أو للإضافة، أو لام التعريف، أو كونه في موصوف بابن مضافًا إلى علم، أو لملاقاة ساكن، أو للوقف -الاسم المذكور ليس واحدٌ من هذه الأمور بموجود فيه، فتعيّن أنه مبنىّ، وأنّ ذلك هو السبب في حذف تنوينه. ومنها: أنه قد رُوِى عن العرب: جئت بلا شئَ، بالفتح وسقوط التنوين، والجارَ لا يُلْغِىَ ولا يُعلّق. وتأويلُ كلام سيبويه قريبٌ.

فإن قيل: فهل رأيت شيئًا عمل في شئ ثم صار معه كالشئِ الواحد؟

قيل: نعم، الكاف عاملة في ذا من قولك: كذا، وقد جعلت معها كالشئ الواحد، وكذلك الكاف من كأيّنِ، عاملة في أىّ، وهى معها كالشئ الواحد، وكذلك حبّذَا في قول النحويين حيث كانت حَبّ عاملةً في ذا، ثم صيّرت معها كالكلمة الواحدة، وكذلك كأنّ وبها شبّه الأخفش حبذا. ومثلُه إذا تُتُبِّع موجودٌ، فلا بُعْدَ في المسألة.

ص: 425

فإن قيل: تركيبُ العامل مع المعمول مناقضٌ لعمله فيه؛ إذ قد تقرّر في الأصول أنّ من شرط عمل العامل أن لا يكونَ مع معموله كالشئ الواحد؛ ولذلك لم تعمل عندهم الألف واللام.

فالجواب: أنّ ما اشترطوه صحيح، والتركيب مع العمل صحيح أيضًا، ووجه الجمع بينهما غير محتاج إليه هنا. ومن بحثَ عنه وجده. والله أعلم.

والرابعة: أنّه نبّه على أنّ بناء الاسم مع (لا) على الفتح ليس على الضمّ ولا الكسر.

وأيضًا لما كان منصوبًا ووجهه التشبيه بخمسة عشر؛ فإن البناء للتركيب مقتضٍ للفتحة؛ لخفّتها دون الضمّة والكسرة.

في الأصل أرادوا أنْ لا يذهبَ أثرهُ جُملةً، فأبقوه في البناء على مثل حاله في الإعراب؛ لئلا تختلف حاله في حالةٍ عارضة، ولئلّا يزولَ الدليلُ على النصب [في الأصل]. وقول الناظم (كلا حول ولا قُوّة) مثالان لبناء المفرد على الفتح. وكان يكفيه أن يأتي بمثالٍ واحد، ولكنه أتى بالمثالين ليبين بهما أحكامًا، ويفرّع على اجتماعهما/ مسائل؛ فإنه إذا ضمّ الأول إلى الثاني تصوّر فيهما اثنتي عشرة مسألة، يمتنع منها وجهان، وتصحّ العشرة، وكلّ ذلك قد جمعه الناظم في كلامه حسبما يتبيّن بحول الله، وذلك أنّ (لا حولَ) يُتصوّر فيه البناء على الفتح، والرفع لأجل التكرار، والرفع على إعمالها عمل ليس، فهذه ثلاثة أوجه. و (لا قوة) يتصوّر فيه تلك الأوجه الثلاثة، ويزيد وجهًا رابعًا، وهو النصب عطفًا على موضع اسم (لا) باعتبار عملها.

ص: 426

فهذه أربعة وجه، فإذا ضربتها في الثلاثة التى في «لا حول» كان الجميع اثنى عشر وجهًا، باثنتى عشرة مسألة:

الأولى: لا حولَ ولا قوةَ، بالفتحِ فيهما وَجَعْلِ الكلام جملتين.

والثانية: لا حولَ ولا قوةٌ، بالفتح في الأول، والرفع في الثانى عطفا على موضع لا مع اسمها، لأنها في تقديم اسم مبتدأ، ولذلك يعطف عليه رفعًا، وُجْرَى عليه النعت رفعًا. ويقيّد هنا زيادة لا توكيدًا.

والثالثة: المسألة بعينها، لكن يكون رفع الثاني على تقدير إعمال لا عمل ليس، والكلام في تقدير جملتين.

والربعة: لا حولَ ولا قُوّةً، بالفتح في الأول والنصب في الثاني، عطفًا على موضع اسم لا باعتبار عملها عملها، وتقدر زيادة لا توكيدا.

وهذه المسائل الأربع داخلة تحت قوله: «وركّب المفرد فاتحًا» . ثم قال: «والثاني اجعلا .. مرفوعًا أو منصوبًا أو مركّبا» . فالرفع في الثاني على وجهين، والنصب وجهٌ واحدٌ، والتركيب وجه واحد، وكلها مع تركيب الأول.

والخامسة: لا حولٌ ولا قُوّةٌ، بالرفع فيهما، على تقدير الإلغاء فيهما وزيادة لا الثانية.

والسادسة: المسألة بعينها، لكن على تقدير إعمالها معًا عمل ليس، والكلام في تقدير جملتين أو على زيادة الثانية.

والسابعة: المسألة على حالها، لكن على تقدير إِلغاء الأولى وإعمال الثانية عمل ليس، والكلام في تقدير جملتين.

ص: 427

والثامنة: المسألة على حالها إلا أنها بعكس ما قبلها، على تقدير إعمال الأولى عمل ليس وإلغاء الثانية.

والتاسعة: لا حَوْلٌ ولا قوةَ، برفع الأولى وفتح الثانية، على تقدير إلغاءِ الأولى، وإعمال الثانية عمل إنّ، والكلام في تقدير جملتين.

والعاشرة: المسألة كما هى، لكن على تقدير إِعمال الأولى عمل ليس.

وهذه المسائل الستّ مفهوم جوازُها من قوله: «وَإِنْ رَفَعْتَ أوّلًا لاتَنْصِبا» ، فذلك يُعْطِى أنّ ما عدا النصب في الثانى جائز مع رفع الأول، على الإِعمال والإِلغاءِ، فيبقى في الثاني الرفعُ على الإعمال، والرفع على الإلغاء، والنصب، فاثنان يضربان في ثلاثةٍ بستّةٍ.

والحاديةَ عشرَة: لا حول ولا قُوّةٌ، برفع الأول ونصب الثاني، على إعمال الأول عمل ليس.

والثانية عشرة: المسألة بعينها، لكن على تقدير إلغاء الأولى.

وهاتان المسألتان ممنوعتان بنصّ الناظم في قوله: «وإن رفعت أولًا لاتنصبا» ؛ لأن النصب هنا لا وجه له؛ إذ لا يمكن العطفُ على موضع الأولى، ولا على موضع اسمها، ولا على لفظه؛ إذ ليس ثَمّ ما يقتضى نصبا دون بناءٍ، وأيضًا ليس للا أن يبقى معها الاسمُ غير مبنىٍّ؛ لأنّ شرط التركيب موجود، فظهر وجهُ المنع في المسألتين.

ص: 428

فتحصّلَ من كلامه جوازُ عشر مسائلَ مأخوذةٍ من هذا الباب، ومن باب لا/ وما، ومَنُوطَةٍ بتفسير لم يتعرّض إليه؛ إذ لم يبيّن وجه الرفع في هذه المسائل المتصوّرة في كلامه غير مفسّرة وجدتها ست مسائل، خمسة جائزة، وهى: لا حولَ ولا قوة، ولا حولَ ولا قوةً، ولا حولَ ولا قوةٌ، ولا حولٌ ولا قوةَ، ولا حولٌ ولا قُوّةٌ. وواحدة ممتنعة وهى: لا حولٌ ولا قوّةً.

وإن نظرت إلى ما يتصوّرُ في لا -على الجملة- غير منوطةٍ بكلام الناظم، كثرت المسائل الجائزة، وقد رفعها شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار -رحمةُ اللهِ عليه- إلى مائة وإحدى وثلاثين مسألةً، سمعناها كلّها منه، وهى في شرحه للجمل، فليطالعها من تَشَوَّف إليها.

فإن قيل: إن الناظم هنا فَرَّع على إعمال لا وإلغائها في هذه المسائل، ولم يبيّن شرط الإلغاء وهو التكرار، إذ لا يجوزُ الإلغاء فيها بدون التكرار، فلا تقول: لا رجلٌ في الدار -وهى ملغاة- وتسكت حتى تقول: ولا امرأة. ولا يقال: لعلّه ارتضى مذهب المبرّد في عدم اشتراط التكرار، لأنه قد نَصّ في «التسهيل» على مخالفته، فقال:«إذا انفصل مصحوب لا، أو كان معرفة، بطل العملُ بإجماع، ويلزم حينئذ التكرار في غير ضرورةٍ، خلافًا للمبرّد وابن كيسان» .

فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن نقول: إنما نصّ الناظم هنا على أحكامِ إعمالها عمل

ص: 429

إنّ، ولم يتعرّض لإلغائها، ولا لما يتعلّق بالإلغاء من الأحكامِ، وغايته أَن نَصَّ في هذه المسألة التى تكررت فيها لا أن يَجُوزَ الرفع ولم يتعيّن هل يكون بلا أو بالابتداء. وإنما تكرّرُ على تقدير كون الرفع بالابتداء، فلا يلزم على هذا أن يذكر شرط حكم لم يتعرّض لتعيينه.

والثاني: على تسليم أنه تعرّض لحكم الإلغاء فَيُعتَذَرُ عنه بأمرين:

أحدهما: أن يقال: لعله ارتكب هنا مذهب أبي العباس وابن كيسان، وارتضى هنا ما لم يرتضيه في التسهيل. وقد يكون للعالم نظران في مسألةٍ في زمانين، فيظهر له في وقت بطلان ما ارتضاه وصححه في وقتٍ آخر، وتصحيح ما أبطله. وقد تقدّم لهذا نظير في الباب قبل في قوله في اللام والفارقة:«وَرُبَّما استُغْنِى عنها إِنْ بدَا» . إلى آخره، فهذا ممكن، فيرتضى غير مذهب سيبويه والجماعة، ويحتج لذلك بأمرين: السماع والقياس، أما السماع فقد قالوا: لا نَوْلُك أَن تفعلَ.

وأنشد سيبويهَ:

بكَتْ جَزعًا واسترجَعَتْ ثم آذنَتْ

ركابِئُها أَنّ لا إِلينا رجوعُها

وأنشد ابنُ خروفٍ (للحطيئةَ):

ص: 430

سُئِلْتَ فلم تَبخَلْ ولم تُعْطِ طائلًا

فسيّانَ لا ذمٌّ عليك ولا حَمْدُ

وأنتَ امرؤ لا للجودٌ منك سجيّةٌ

فتعطى، وقد يُعِدِى على النائل الوُجدُ

وأنشد سيبويه لرجل من بني سلولَ:

وأنتَ امرؤٌ مَنّا خُلِقْتَ لغيرنا

حياتُك لا نفعٌ وموتُكَ فاجِعُ

وأنشد المؤلف:

إنى تركتُكَ لاذا عُشْرةٍ تَربًا

فاستَغْفِفَنْ واكْفِ مَنْ وَافَاك ذا أَملِ

فإذا كان عدمُ التكرار قد عملها ودخولها على النكرة، وفي عدم عملها ودخولها/ على المعرفة والنكرة بحسب ما وقعت جوابًا له، فإن قدّرت دخولها على شئ عمل بعضه في بعض، من المبتدأ والخبر، لم يخل إما أن يتكرّر المسئول عنه أم لا، فإن تكرّر لزم في جوابه التكرار، فتقول: لا زيدٌ في الدار ولا عَمْرو، جوابًا لمن قال: أزيد في الدار أم عمرو؟ ولا رجل في الدار ولا امرأةٌ، في جواب من قال: أرجلٌ في الدار أم امرأةٌ؟ ولا يجوز ههنا الاقتصار في الجواب على أحدهما لئلّا يتوهم أنّ الآخر ليس بمنفي، ولا أيضًا يجوز أن تقصد هنا القصد فتذكر أحدهما

ص: 431

منفيا وتريد أن غير المذكور في الدار؛ إذ ليس بمطابق للسؤال، ويتوهّم السائل أنك أردت نفي الآخر فحذفته استغناءً. فإذا لم يمكن الاقتصار على أحدهما لزم ذكرهم نفيهما معًا، إلا أن تستغنى بلا فذلك أمرٌ آخُر. ولا يلزم هنا فيما بعد لا التنكير لأنه بحسب السؤال، وإك لم يتكرر المسئول عنه لزم أن يتكرر في الجواب، فتقول: لا رجل في الدار، مرفوعًا أو منصوبًا مَبْنيًا، جوابا لمن قال: هل رجل في الدار؟ كما جاز حلة التكرار أن تأتى بما بعد لا مرفوعًا أو منصوبًا، إذ أجازوا في نحو: أرجلٌ عندى أم امرأة؟ : لا رجلَ عندى ولا امرأة -بالبناء فيهما- ولا رجلٌ عندى ولا امرأة- بالإعراب رفقًا فيهما، أو بالبناء في أحدهما والإعراب في الآخر. فإذا جاز ذلك مع التكرار جاز مع الإفراد، لكن بشرطه وهو تنكير الاسم، فإن كان معرفة فليس إلا الرفع مع التكرار ودونه. ولا يقال إن السؤال بغير تكرار، إنما يجاب بنعم أو بلا، فإذا قال: هل أحد في الدار؟ قلت: نعم، أو لا، وليس من شأن جوابه التعيين؛ إذ لا فائدة فيه، بخلاف التكرار. لأنا نقول: هذا الذى قلتم هو الأكثر، والآخر ليس بممتنع بدليل ما تقدّم من السماع. وأيضًا فالتطوّعُ بما لا يلزم جائز، فَيُذكرُ له المسئولُ عنه منفيًا وإن تقدّم ذكره في السؤال، كما يجوز ذلك إذا قيل: أعندى رجل؟ فتقول: نعم، عندى رجل. أو تقول: نعم، عندى زيد، فتغْنِيه عن السؤال بمن هو؟ وكما تقول: لا، ما عندى رجل. وما أشبه ذلك. ولا يبعد في كلام العرب أن تأتى بالكلام مؤكّدا أو مكرّرًا، من غير سب ظاهر يقتضيه. وقد عقد ابن جني في هذا المعنى فصلًا في الخصائص، بوّب عليه بالتطوع بما لا يلزَم هو مما يَشُدُّ هذا الاحتجاجَ؛

ص: 432

فإذا كان كذلك لم يبعدُ مذهبُ المبرّد كُلّ البعد.

والأمر الثاني: نقول: قد يؤخذ له اشتراط التكرار من إشارة كلامه، وذلك أنه أطلق القول في إعمالها بقوله:«مفردةً جاءَتْك أو مكّرره» ، ثم بعد ذلك لم يذكر فيها الإلغاء إلا مع التكرار حين قال:«والثاني اجعلا» كذا وكذا، ثم قال:«وإن رفعت أولًا لا تنصبا» ، أى: لا تنصب الثاني. فهو إنما تكلم على جواز الإلغاء في مسألة التكرار، ولو كان الإلغاء عنده جائزًا بإطلاقٍ لم يحتج إلى فرضه مع التكرار؛ فقد يفهم له هذا الشرط من وضعه مثال التكرار.

وقوله: «اجعلا» و «لا تنصبا» الألف فيهما بدلٌ من نون التوكيد الخفيفة، أبدلت للوقف عليها، لأنها كتنوينِ المنصوب تُرَدّ اُلفًا. ونظيره قول الأعشى: /

وَلَا تَعْبُدِ الأوثانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا

* * * *

وَمُفْردًا نَعْتًا لِمَبْنِىٍّ يَلِى

فَافْتَحْ، أَو انْصِبَنْ، أو ارْفَع، تَعْدِلِ

وَغَيَر مَا يَلِى، وَغَيرَ المُفْرَدِ

لَا تَبْنِ وَانْصِبَنْ، أوِ الرّفْعِ اقْصِدِ

تكلم في هذين المزدَوَجَينِ على حكم النعتِ من التوابع، وإنما تعرض

ص: 433

في هذا الباب من التوابع الخمسة اثنين، وهما النعتُ وعطفُ النسق بالحرفَ، وترك ما عداهما.

والمتبوع في هذا الباب على قسمين:

أحدهما: أن يكون معربًا نحو: لا غُلَام رجلٍ عندك.

والثاني: أن يكون مركبا مع لا مبنيا نحو: لا أَحدَ فيها.

والذى تعرّض للنصّ عليه نعت المبنى، لقوله:«ومفردًا نعتًا لمبنىٍّ» ، فقيد النعت بكونه جاريًا على المبنى، وسكت عما إذا كان نعتًا لمعربٍ؛ إذ لم يشر إليه حسبما يتقرّرُ، لا بمنطوق ولا بمفهوم ولما كانت عادته في غير هذا الموضع أنه إنما يأتى في غير باب التابع لما لا يطّرد في باب التوابع، ويترك ما عداه لبابه محالًا عليه بالقصد المفهوم، أشعر ذلك بأن نعت المعرب مخالف لنعت المبنىّ ها هنا، وأن الحكم فيه هو الحكم المقرّر في باب النعت من كونه يُتْبَع على اللفظ كسائر المعرباتِ، لا على الموضع. فيظهر من هذا المنزع أن المعرب عنده في باب لا كالمعرب في غيره، فتقول: لا غلام رجل عاقلًا عندى، بنصب عاقل لا غير، كما تقول: ما رأيت غلامَ رجلٍ عاقلًا. ولا تتعدّى النصب واقتضى هذا منع قولك: لا غلامَ رجل عاقلٌ عندي، بالرفع -وهذا عند النحويين غير صحيح- وقد ذهب إليه ابنُ عصفور في تقاييده، فزعم أنّ نعت المنصوب لا يكون إلا نصبا، فلا يجوز فيه الحملُ على الموضع. ومذهبُ سيبويه والمحققين كالسيرافي وابن حروف والشلوبين وتلامذته: ابن أبي الربيع، وأبن الضائع، وسواهما خلا ابن عصفور -جوازُ الرفعِ حملًا على الموضع. فالوجهان سائغان عندهم وعند غيرهم، لأن المنصوب بلا عندهم كالمجرور بمن في قولك: هل من رجلٍ؟ له لفظٌ

ص: 434

وموضع، فيجوز الحمل على لفظه وعلى موضعه ونقل سيبويه عن الخليل أنه مثلُ قولَه:

فلسنا بالجبالِ ولا الحَدِيدا

وحكى عن العرب: لا مثلَه أحدٌ، ولا كزيد أحدٌ. قال:«وتقول: لا مثله رجلٌ، إذا حملته على الموضع، كما قال بعض العرب: لا حولَ ولا قوّةٌ إلّا بالله» . فأجرى في الباب حكم المعرب والمثنى في الحمل على اللفظ وعلى الموضع مجرىً واحدًا؛ قال ابن الضائع: وإنما غلط ابن عصفور في باب النداء لما كان منصور النداءِ لا يجوز فيه إلّا الحملُ على اللفظ، وفي مبنيّه يجوز الوجهان، ظنّ أنّ حكم التابع في لا كذلك. ثم فرّق بينهما بأن المنصوب في باب النداء لا موضع له زصلًا، والمنصوب هنا أصلُه الابتداءُ ويجوز النطق به. قال: وهذا هو الفرق بينه وبين إنّ فلذلك لم يجز نعت اسم إنّ على الموضع، وأيضا فإن لا جوابُ: هل من رجل، وهو في موضع رفع، ويجوز فيه الحمل على اللفظ، والحملُ على الموضع، فكذلك جوابه.

وقد جرى في التسهيلَ/ على طريق الجملعة، ووجّه في شرحه الرفعَ في النعتِ مع نصب المنعوب على خلاف إنّ، بأنّ إنّ شبيهةٌ بالأَفعال الناسخة للابتداء في الاختصاص بالمبتدأ أو الخبر، وفي

ص: 435

كون ما دخلت عليه مفيدًا بدون دخولها، ولقوّتها؛ لا يبطل عملها بالفصل نحو: إنّ فيها زيدا، بخلاف لا فإنها ضعيف العملِ لكونها فَرْعٍ فَرْعٍ، ولعروض اختصاصها بالمبتدأ والخبر، وكون ما تدخل عليه لا يفيد بدون دخولها غالبًا، نحو: لا رَجُل في الدار، فلو قلت: رجلٌ في الدار، لم يفد، فلوقف الإفادة على دخولها صارت مع ما دخلت عليه كاسمٍ مبتدأ، فجاز لذلك أن يُعتبر عملُ الابتداء بعد دخولها في الصفة وغيرها. قال:«وشُبِّه اعتبار الابتداء في ذلك باعتباره في نحو: هل من رجل كريمٌ في الدار» .

ثم نقل عن ابن بَرْهانٍ نحوًا مما تقدّم عن ابن عصفور، وردّه، وهو بالردّ حقيق، ويد الله مع الجماعة.

وأيضا السماعُ يقضى بجواز الرّفع كما حكاه سيبويه. فإن كان الناظم سكت عن نعت المعرب هنا لهذا القصد فمذهبه مردودٌ، وفي محاسنه غير معدود.

وتنزيل لفظه على هذا القصد أَنّ قوله: «نعتا» مفعول يا فتح، وهو على حدّ قولهم: زيدًا فاضرِبْ، على معنى: أما زيدًا فاضرب. وقوله: «لمبنى» في موضع لنعت، و «يلى»: صفة ثانية لنعت. و «مفردًا» حال من نعت. وكان الأصلُ في «مفردًا» أَنْ يجرى على «نعتا» صفةً له، لكن لما تقدّم نصب على الحال، لتعذِّر جريانه صفة. ويحتمل أن يكون «مفردا» هو مفعول أفتح، ونعتا: بدلٌ منه، أو عطف بيان. والتقديرُ على الأوّلِ: افتح نعتا كائنًا لاسم مبني واليًا له، حالةَ كون ذلك النعت مفردًا. وعلى الثاني: افتح اسمًا مفردًا نعتًا لمبنى واليًا له.

ص: 436

والمفردُ هنا في مقابلة المضاف وما أشبه.

وقد يمكنُ حملُ كلامه على موافقة الجماعة بأن يكون قوله: «مبنى» ليس بمتعلّق بمحذوفٍ جارٍ صفةً على «نعت» فمن هذا التقدير فُهِمَتِ المخالفة، بل يكون قوله «لمبنى» معمولًا لقوله «يلى» ، وأصله: يلى مبنيًا، لكن لما تقدّم عليه تعدّى إليه باللام، نحو قول الله تعالى:{إِنْ كُنْتُم للرؤيا تَعبُرونَ} . فتحرز به من غير المفرد، وغير الوالى، والوالى غير المبنى، فإنها لا تجوزُ فيها تلك الأوجهُ كلُّها -وقد قال على أَثَرِ هذا:«وغير ما يلى وغير المفرد» .. إلى آخره، فبيّن أن الوجهين في ذلك سائغان الرفع والنصب، كما يجئُ، ومن جملةَ ما يدخلُ فيه أن يلى النعتُ غير المفرد، فحصل أن نحو: لا غلام رجلٍ عاقلٌ في الدار، جائز عند الناظم. وهو رأىُ الجماعة، ورأيه في غير هذا النظم، فَهُو الذى ينبغي أن يحملَ كلامُه عيه؛ إذ لو حُمِل على الأوّل لاقتضى أنّ هذه الأوجه إنما تجوز إذا تَبِع مبنيا، فإذا تبع معربا فليس كذلك، فيرجع إلى أصل النعت إذ لم يدخل تحت قوله:«وغير ما يلى وغير المفرد» ، بخلاف ما إذا جعلت/ «لمبنى» معمولَ «يلى» ، فإنه يدخل تحت قوله «وغير ما يلى» ، كأنه قال: وغير الوالى مبنيا وغير المفرد يجوز فيه الوجهان، وغير الوالى يشمل الوالى غير مبنى، والذى لم يل المبنى، بل فصِل بينهما. وهذا صحيح فلا يعدل عنه في تفسير كلامه. والله أعلم.

ص: 437

ولنرجع إلى تفصيل شرح كلامه: فاعلم أنه ذكر أنّ النعت إذا اجتمع فيه ثلاثة شروط جاز فيه مع المنعوت ثلاثة أوجه:

الشرط الأولُ: أن يكون مفردًا، والمفرد هنا في مقابلة المضاف وما ضارعه، وهو المطوّلُ.

والثاني: أن يكون واليًا المنعوتَ، لم يُفصل بينهما بفاصل.

والثالث: أن يكون المنعوتُ مبنيًا لا معربًا.

فإذا اجتمعت هذه الشروط المبنيّنة في قوله: «ومفردًا نعتا لمبنى يلى» ، جاز فيه الأوجه التى ذكرها في قوله:«فافتح أو انصبّنْ أو ارفع تَعْدِلِ» ؛ ومثال ما اجتمعت فيه الشروط قولك: لا رَجُلَ ظريف عندك. فظريف: قد اجتمع فيهِ أنه مفردٌ والٍ المنعوتٍ، ومنعوته مبنى. فالوجه الأوّلُ الفتح -يعنى به البناء مع المنعوت على الفتح، وسببُ بنائِه التركيبُ مَعَه كبناءِ خمسة عشر. ونحو: لا رجلَ ظريفَ، وسَخّل ذلك -وإن كانت ثلاثةُ أشياءَ لا تركّبُ ولا تُبْنَى- كونُ النعتِ والمنعوت كالشئ الواحد. وعلله السيرافي بأن الموضع موضعُ تغيير، فرذا كان قد بنى فيه الاسم مع حرف، فبناءُ اسم مع اسمٍ أولى؛ لأنّ ذلك أكثر كخمسة عشر، وبيتَ بيتَ ونحو ذلك.

والأكثر في الكلام عدمُ البناء؛ قال سيبويه: «وإن شئت نَوّنت صفة المنفىّ. وهو أكثر في الكلام، وإن شئت لم تنوّنَ» . وتقديمُ الناظم للفتح كأنه مشعر بتفضلِه له على غيره، فهو كالمناقض لكلام الإمام، والعذر أنه لم يحفل بهذا التفاوت اليسير، ولم يعتبر التقديم، ولكن لو قال: «فارفع أو انصبن أو افتح

ص: 438

تعدل» لكان أحسن.

والوجه الثاني: النصبُ، حملًا على لفظ «لا رجلَ» وإن كان مبنيّا، لأنّ حركة البناء، هنا شبيه بحركة الإعراب، بل الإعراب زصلها. وقد قال جماعة ببقاء حكم الإعراب، وأنها ليست بحركة بناء، فسهل ذلك، وكما سَهُل في النداءِ وهو أبعد، فأجروا التابع فيه على اللفظ، فتقول: لا رجل ظريفًا عندك. ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه، أنشده سيبويه:

أَلَا طِعَانَ ولا فُرْسانَ عاديةً

إلا تَجُشُّؤُكم عند التَّنَانيِرِ

بنصب عادية حملًا على لفظ فرسان.

والوجه الثالث: الرفع، حملًا على موضع لا مع اسمها، لأنها في موضع اسم مرفوع بالابتداء، فتقول: لا رَجُلَ ظريفٌ عندك، كأنك قلت: رجل ظريفٌ فيها، إذا مثلت وإن كان لا يتكلم به، وكذلك مثله الخليلَ:

وإن تخلف شرطٌ من هذه الشروطِ المتقدمة فلا سبيلَ إلى الفتح، وسقط وجه البناء جملة، وبذلك عَرّف في قوله: وَغْيَرِ ما يلى وَغْيَرِ المفردِ .. لا تَبْنِ» يعني أن النعت إِذا لم يل مبنيا، سواءٌ وَلِى معربًا ولا مبنيا، بل وُجِد بينهما فصلٌ/ فلا يجوز البناء. وكذلك إذا لم يكن مفردًا بل كان مضافًا

ص: 439

أو شبيهاً [بهَ] فلا سبيل إلى البناء فيبقي الوجهان الآخران وهما الرفعُ والنصب- جائزين، ونصّ على ذلك بقوله:«وانصبَنْ أو الرفع اقصِدِ» . أما تخلّف الشرط الأول وهو الإفراد فمثاله: لا رجل صاحبُ دابّةٍ لك، فيجوز في «صاحب دابة» النصب والرفع، ولا يجوز البناء لأنه في المضاف غير ممكن، ولأنّه يُصَيّر أربعة أشياءَ كشئ واحدٍ، وذلك معدوم في كلام العرب.

فإن قيل: فكذلك ثلاثة زشياء لا ينبغي أن تصير بالبناء كشئ واحدٍ، إذ لا نظير لذلك قيل: لولا الدليل لما قيل، وأيضًا فإنّ لا كالحرف الزائد، أو كالحرف الذى من نفس الكلمة، كما تقدّم، بخلاف مسألتنا فإن غايتها أن يكون ثلاثة زشياء كشئ واحدٍ، وذلك معدوم.

وكذلك الشبيه بالمضاف إذا قلت: لا غلام خيرًا من زيد، و [لا غلامَ خيرٌ من زيدَ]، ولا يمكن فيه البناء من باب أولى.

وعلى ما نصّ عليه من جواز الوجهين جمهورُ الناس. ووقع لابن عصفور في شرح «الجُمَل» أن النعت إذا كان مضافًا أو مُطَوّلًا، فلا يجوز فيه الحملُ على الموضعَ و [هوَ] الرفعُ، وإنما يكون منصوبا حملًا على اللفظ خاصة، قاسه على حكمه في باب النداءَ. قال ابن الضائع: وهذا غَلَط. وفرّق بينهما بأنه إِنما امتنع في النداء: يا زيدُ أخو عمرو، فيتبعه على اللفظ، لأنّ الأصل في نعت المبنىِّ الحمل على موضعه، فلما كانت حركة النداء تشبه حركة الإعراب، وكان

ص: 440

«يا» عاملةٌ الرفع فيه، أجازوا الحمل على اللفظ في الاسم الذى لو ولى «يا» لارتفع ذلك الرفع، وهو المفردُ غيرُ المضافِ والمطوّل. على أن المطول في النداء قد يُحمَلُ على اللفظ في نحو: يا زيدٌ الضاربُ عمرًا. ثم إن الممتنع في النداء في المضافِ الحملُ على اللفظ، وعكس هو في باب لا فَمَنَع فيه الحملَ على الموضع، فلا بُدّ من الفَرْقِ على مذهبه في البابين، فالحمل على اللفظ في ما ولا على الموضع ليس من أجل البناء، بل لأنه قد حُكِمَ له بحكم الحرف الزائد الذى يغير اللفظ. وقد استدلّ سيبويهَ على أن لا وما عملت فيه في موضع اسم مبتدأ. قال ابن خروف: الحمل على الموضع في هذا الباب حَسَنٌ في المعرب والمبنى، لأن الموضع للابتداء، بدليل: لا مثله أحدٌ، وهو معرب. وقد نصّ الشّلوبين في «التوطئةَ» على حمل النعت المضاف والمطوّل على الموضع، قال ابن الضائع: وهو الذى يقتضيه كلام العرب والقياس. وما ذكر عن ابن عصفور هنا وفي المسألة الأولى في نعت المعرب وقع له في بعض تواليفه، والذى في المقرّب والهلاليةَ موافقة الجماعة، فالله أعلم بحقيقة ذلك النقل.

وأما تخلف الشرط الثاني وهو الولاية للمنعوت، فمثاله: لا غلام فيها عاقلًا، ولا غلام فيها عاقلٌ. يجوز الوجهان كما قال، ولا يجوز البناء، فلا/

ص: 441

تقول: لا رَجُلَ فيها عاقِلَ؛ لما يلزم من جعل أربعة أشياء كشئٍ واحد. وإذا قلت: لا غلامَ عقلًا ظريفًا لك، فأنت في النعت الأول بالخيار في ثلاثة الأوجه، لعدم الفصل. وأما الثاني فلا سبيل لك إلى بنائه للفصل بينه وبين المنعوت. وكذلك إذا قلت: لا ماءَ ماءً باردًا؛ لا يجوز في باردٍ إلا الإعراب على الوجهينَ.

وأما تخلف الشرط الثالث -وهو بناءُ المنعوت- فمثاله: لا غلامَ رجلٍ ظريفٌ، فالوجهان أيضًا جائزان، أما النصب فظاهر على اعتبار اللفظ، وأما الرفعُ فعلى اعتبار الموضع، لأن للا موضعا كما تقدّم ذكره. ولا يجوزُ هنا البناءُ في النعت، لأنه لم يل مبنيّا وإنما ولى مُعْربًا، فكان كما لو فُصِل. وهذا هو الصحيح من المذهبين كما مرّ.

وقوله: «وغيرَ ما يلى وغيرَ المفردِ» منصوبان على المفعولية بلا تَبْنِ، أى: لا تَبْنِ غير النعت الوالى للمنعوت، ولا تبن غير المفرد.

وقوله: وانصِبَنْ أو الرفع اقصِدِ» تخيير في الوجهين المذكورين، وهما الرفع والنصب، وكأنّ الحمل عنده على اللفظ أولى فلذلك قَدّمه. والله أعلم.

وَالعَطْفُ إِنْ لَمْ تَتَكرّرْ «لا» احْكُمَا

لَهُ بِمَا للنّعْتِ ذِىِ الفصْلِ انْتَمَى

هذا بيان حكم العطف في هذا الباب، ويريدُ أن المعطوف على اسم لا يخلُو أَنْ تتكرَر معه لا أو لا تتكرَر، فإن لم تتكرّر معه لا فحكمه حكمُ النعت المفصول

ص: 442

بينه وبين المنعوت، وذلك قوله: إن لم تتكرر لا احكما له» بكذا، أى: احكم له بما انتمى للنعت ذى الفصل. يريد المفصول من منعوته.

وانتمى، معناه: انتسب.

وقد تقدم أن في النعت المفصول وجهين، وهما: النصب حملًا على اللفظ، والرفعُ حملًا على الموضع، فكذلك هنا. فالنصب نحو: لا رجلَ وامرأةٌ فيها، وأنشد سيبويه قول الشاعرَ:

لَا أبَ وابنًا مثلَ مَرْوانَ وابنهِ

إذا هُو بالمجدِ ارْتَدَى وتأَزّرَا

والرفع نحو: لا رجلَ وامرأةٌ فيها. وهذا منه نَفْىٌ للوجه الثالث، وهو البناء، فلا يجوز البناء على الفتح لأجل الفاصل، وهو حرفُ العطف. وكأنه أشار بإحالته على النعت ذى الفصل أن عَلَة نفي البناء هو الفصل، وإذا كان كذلك فقد وجدت هنا فلا يصحّ البناء، لأنّ أربعة أشياءِ لا تركّب. وقد حكى الأخفش من كلامهم: لا رجلَ وامرأة، بإسقاط التنوين. وهو نادرٌ لا يعتدٌّ به. وقد تُؤُوِّل على أن يكون على حذف «لا» وهى مرادةٌ، كما حذفت في باب القسم وهى مرادة، كقوله تعالى:{قالُوا: تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يوسُفَ} . وقد نبه على ذلك في التسهيل في مسألة: لا حولَ ولا قوةَ إلّا بالله، فقال:«وَرُبَّما فُتِح مَنْويًا معه لَا» ، يعني إذا أسقط لا الثانية.

واعلم أن الناظم ذكر هذا القسم وحده وترك القسم الثاني الذي تتكرر

ص: 443

فيه لا، اعتمادًا على ذكره له فيما تقدّم، فلم يحتج إلى إعادته، إلا أنه لم يُبَيِّن وجه التكرار. ولها إن تكرّرت اعتباران:

أحدهما: اعتبار التوكيد للأولى، فهذا حكم المعطوف، معه كما لو لم تذكر لا أصلًا، فيجوز الوجهان؛ قال سيبويه:«وتقول: لا رجل ولا امرأةً يا فتى، إذا كانت لا بمنزلتها في ليس، -يعني لا- حين قلت: ليس لك رجلٌ ولا امرأة» . وأنشد على ذلك لأنس بن العباس، رجل من بني سُليمَ:

لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلّةً

اتّسَعَ الفتقُ على الراقِعِ

وقال ذو الرمة في الرفعَ:

بها العِينُ والارآمُ، لا عِدّ عندها

ولا كَرَعٌ إِلا المغاراتُ والرّبْلُ

أنشد سيبويه أيضا. وأنشد لرجل من مَذْحِجَ:

ص: 444

هذا لعمْركُمُ الصّغَارُ بعينهِ

لا أمّ لى إِنْ كانَ ذَاكَ ولا أَبُ

والثاني: اعتبارُ الاستئناف، وأن يكون ما بعدها جملةٌ مستأنَفَةٌ، فها هنا لا بدّ من البناء، إلا أن تُحمل على ليس. وقد مرّ تصويرُ المسائل.

والضمير في قوله «لا» ، عائد على المعطوف من قوله:«والعطفُ» ، أو جَعْلُ العطف على حذف المضاف، كأنه قال: وذو العطف. واللام متعلقة باحكما، «للنعت» متلّق بانتمى، أى: واحم للمعطوف بالحكم الذى انتَسب للنعت وتقرّر له.

وَأَعْطِ لَا مَعْ هَمْزَةِ اسْتِفْهَامِ

ما تَسْتَحِقُّ دُونَ الأسْتِفْهَامِ

يعنى أن همزة الاستفهام إذا دخلت على لا لم تغيّر لها حكمًا، بل يكونُ حالها معها كحالها لو لم يكن ثَمّ استفهامٌ، تقول: أَلا رَجُلَ فيها، كما تقول: لا رَجُلَ فيها، وألا غُلَامَ صالحٌ، كما تقولُ: لا غلام صالح؛ قال حسان رضي الله عنه:

أَلَا طِعَانَ ولا فُرْسانَ عَادِيةٌ

إلا تَجَشُّؤكُمْ عِنْدَ التّنَانِيرِ

وقال آخر:

ألا ارعواءَ لمن ولّتْ شبيبتُه

وَآذَنَتٍ بِمَشِيبٍ بَعْدُه هَرَمُ

ص: 445

وكذلك الحكم في الإلغاء وغيره مما تقدّم، فمن قال: لا غلامَ ولا جاريةُ قال: ألا غلامَ ولا جاريةَ، ومن قال: لا رجلٌ ولا امرأةٌ فيها يقول: ألا رجلٌ ولا امرأةٌ، وعلى ذلك سائر المسائل المتقدّمة، إلا أنّ على الناظم رحمه الله دركًا في هذا الإطلاق؛ لأنّه يقتضى أنّ حكم (لا) مع الهمزة -في كلّ موضع، وعلى كلّ حال- حكمُها مع عدمها، وليس كذلك، فإنّ (ألا) إذا أريد بها معنى التمنِّي جاز فيها النصبُ والتركيب بشرطه، والحملُ على لفظها إذا أُتبعت، وأمّا الرّفعُ في اسمها أو في تابعه فلا يجوز. قال سيبويه:«ولا يكون الرفع في هذا الموضع» . يعني إذا أريد بها التمنّي؛ لأنّه ليس بجواب لقولك: «إذا عندك أم ذا؟ وليس في هذا الموضع معنى (ليس)» . يعني أنه لا يجوز الرفع بالابتداء؛ لأنّه يلزمها التكرار، وليس من شرط التمنّي التكرار، لا بمعنى (ليس)؛ لأنّ التمنّي منافٍ لليس. قال:«ومن قال: لا غلامَ أفضل منك لم يقل في: ألا غلام أفضل منك إلا بالنصب؛ لأنّه دخل فيه معنى التمني، وصار مستغنيًا -يعني عن الخبر كاستغناء/: اللهم غلامًا، ومعناه: اللهم هب لي غلامًا» . فإذا كان الأمر على هذا فليس هذا الإطلاق بصحيح، وقد يجاب بأمرين:

أحدهما: أن يقال: لعلّ الناظم ارتكب في هذا مذهب

ص: 446

المازني، فإن الرفع عنده جائز، قال المازنى:«الرفعُ عندى في التمنى جيد بالغ، أقول: ألا غُلامٌ ولا جاريةٌ، كما قلت في الخبر» . وقال: أقول في الاستفهام كما أقول في الخبر سواء، أقول: ألا رجلٌ أفضلُ منكَ». قالوا: وشبّهَهُ بقولهم: رحمةُ الله عليه، وغفر الله له. لفظه لفظ الخبر، ومعناه معنى الدعاء، فكذلك هذا. فإذا قلت: ألَا ماءَ باردٌ، فلفظه لفظ: لا ماءَ، وإن كان معناه التمنِّى. فقد يكونُ الناظم نحا نحو هذا المذهب، ولا يلزمه إاذ كان مذهبُه في غير هذا النظم مذهبَ سيبويه أَنْ يكون مذهبَه هنا؛ لأنه نصب نفسه في منصب الاجتهاد، والاجتهاد قد يتغيّر بحسب الأزمان، فيكون للمجتهد الواحد قولان وأكثر من ذلك [فيرىَ في وقت] ما لا يراه في غيره، وقد مضى من ذلك مواضع، وسيأتى منها أُخَر سَيُنَبَّه عليها، إن شاء الله.

والثاني من الأمرين أن يقال: يحتمل أن يكون موافقًا للجماعة، وذلك أنّ لا إذا دخلت عليها الهمزةُ باقيةً على معناها من الاستفهام وإن صحبها مع ذلك معنى الإنكار والتقرير، فهذا الوجه لا فرق فيه بين دخولها على لا وعدم دخولها؛ فكلّ ما جاز في لا قبل دخولها جاء بعد دخولها، من غير فرقٍ. وهذا الوجهُ داخلٌ تحت قوله: «وأَعْطِ لا مع همزة استفهام .. إلى آخره، حيث جعلها للاستفهام.

والوجه الثاني: أن يحدث في الهمزة مع لا معنى التمنى، فكأن معنى الاستفهام قد نُزِع منها، فليست داخلةً تحت كلامه؛ إذ ليست بهمزة استفهام حقيقيةً. وهاهنا وقع الخلاف، فهذا الوجهُ خارجٌ عن كلامه، وإذا لم يتناوله لم يصر بذلك مخالفًا للجمهور، بل هو موافقٌ لهم بإخراجه هذا النوع من تعميم

ص: 447

الحكم في المساواة. وغايةُ ما يبقى فيه أن يقال: فَلِمَ ترك حُكْمَ هذا النوعِ الئي خالف فيه المازني؟ فيجاب بأنّ هذا قريب، فلعلّه تركه اتكالًا على تفهيم المعلم وإرشاده.

وجمعه بين «استفهام» في القافيتين ليس بإيطاءٍ عند جمهور أهل القافية، لتباينهما بالتعريف والتنكير، كقوله:

يا رَبِّ، سَلِّم سَدْوَهُنّ الّلْيَلْه

وَلَيلةً أُخْرَى وكلّ لَيْلْه

وَشَاعَ فِى ذَا البابِ إِسْقَاطُ الخَبَرْ

إِذَا المُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَرْ

لما قدّم أول الباب قوله: «وبعدَ ذاكَ الخَبَر اذكُرْ رافِعَهْ» ، فنصّ على ذكره نصّ مجملًا، أتى بهذا الكلام مفسّرًا لذلك الإجمال، ويعنى أن الخبر في هذا الباب، الذى هو باب لا العاملة عمل إنّ، قد شاع في الكلام إسقاطه وترك ذكره، وإنما يثبت قليلًا، أما بنو تميم فلا يذكرونه إذا/ عُرِف المعنى وعُلِم المحذوفُ. وبذلك قيّد الناظم الحذف فقال:«إذا المراد مَعُ سُقُوطه ظَهَرْ» ، فلا يحذفُ الشىُ إِلا إذا عُلِم. وأما أهل الحجاز فيجوزُ عندهم الحذفُ والإثباتُ إذا عُلِم، والحذف عندهم أكثر، فمن الإثبات قول الله تعالى:{لا رَيْبَ فيه} ، {لا تثريب عليكُمُ اليومَ} . وفي الشعر قولُ

ص: 448

حاتم، أنشده سيبويه:

وَرَدّ جِازُهِمْ حَرْفًا مصرّمةً

ولا كَرِيمَ مِنَ الوِلْدانِ مَصْبوحُ

فمصبوحٌ خبرٌ لا صِفَةٌ؛ قال المؤلف لعدم الحاجة إلى مقدّر، وعلى هذا أتى به سيبويه، قال:«وتقول: لا أَحدَ أفضَلُ منك، إذا جعلته خبرًا، وكذلك: لا أَحَد خيرٌ منكَ» . وأنشد البيت، ثم قال:«لما صار خبرًا جرى على الموضع، لأنه ليس بوصفٍ ولا محمول على لا، فجرى مجرى: لا أحد فيها إلا زيدٌ» . وهذا بناءً على مذهبه في الخبر أنه ليس للا.

ومن الحذف قوله تعالى: {لا ضَيْرَ} . {وَلَو تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} . وفي الحديث: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ» ، «لا عَدْوَى وَلا طِيَرةَ ولا هامَةَ ولا صَفَرَ» . وهو كثيرٌ.

ويثبت في بعض النسخ» «إِذِ المرادُ» ، بإِذْ التى للمُضِىّ. ومرادُه: تعليل شياع إسقاط الخبر، ويثبتُ بإذا التى للاستقبال، وهو أيضًا ظاهرُ المعنى، حيث كان قيدًا في شياع حذف الخبر، فاقتضى أنه إذا لم يُعْلَم غيرُ جائزِ الحذفِ البتّةَ، وكذا قال في الشرح: إنّ حذفه على ثلاثة أقسام: جائز، وواجب، وممتنع. فلممتنعُ في موضعٍ لا دليل عليه، كقولك مبتدئًا من غير سؤالٍ: لا رَجُلَ.

ص: 449

والجائز والوجب في موضعٍ يكون عليه دليلَ؛ فهذا معنى كلامه هنا.

وقال ابن خروف: لا يجوزُ إضمار الخبر إلّا إذا كان معلومًا. وكأن في هذا القيد تنكيتًا على من زعم أن حذف خَبَر لا يشترطُ فيه العلم. وهو ظاهر إطلاقَ سيبويه وغيره، حيث يذكرون جواز الحذف ولا يُقَيِّدون ذلك بالعلم به. وهو شرطٌ لا بدّ منه؛ إذ القاعدة أنّ ما لا يعلم لا يحذف، لأنه نقض للغرض؛ إذ موضوع الكلام لإفهام المخاطب لا للإلباس، والحذف لغير دليل إلباسٌ فلا يصحُّ ان يبني الكلام عليه. ولسيبويه ومن أطلق إطلاقه كالسيرافي أن يقول: لا يصحّ أن يحذف شئ بغير دليل، ولا يلزمُ أن يشترط العلم في حذف هذا الخبر لأنه في أصل وضعه معلوم؛ ألا ترى أنه إنما يقال: لا رجل، في جواب من قال: هل من رَجُلٍ في الدار؟ وكذلك سائر الباب؛ فإذا كانت لا مع ما دخلت عليه جوابًا أو كالجواب لزم من ذلك أن يكون الخبر معلومًا، ولزم أنه لا يقال: لا ررجلَ، ابتداءٌ من غير جوانب ولا تقديره، وأن العرب لا تقول مثل ذلك لعدم الفائدة، كما لا تقول: رجل قائم، لعدم الفائدة.

ونظير هذا مما تَقَدّم للناظم حذفُ خبر المبتدأ بعد لولا، حيث ادعى في التسهيل أنه في الحذف على ثلاثة أقسام: جائز الحذف، وواجب، وممتنعه. ويقول مخالفه ليس كذلك، بل هو واجب الحذف، وعلى وجوب الحذف يتكلم به حسبما تقرّر هنالك.

فإذا كان كذلك لم يلزم خطأ من أطلق القول في الحذف هنا. وقد يشير إلى هذا المأخذ/ قوله: «إِذِ المرادُ» على ثبوت إِذ التى للمضي، أي

ص: 450

: إن الحذف شاع لأجل ظهور المقصود بإطلاق، فيكون على هذا منبهّا على ما ذكر من التزام وضع «لا رجلَ» في الموضع الذى يعلم فيه الخبر، فإن كان أراد هذا فقد يُقال به، وأنه مقصود سيبويه من وتبعه. وإن أراد الأول فقد تقدّم وَجْهُه، لكن يَرِدُ عليه سؤالٌ، وهو أنّ العرب في حذف الخبر المعلوم على وجين، كما تقدم، منهم من يلتزم مطلقًا، وهو بنو تميم، ونقل المؤلف ذلك عن طيءَ، ومنهم من لا يلتزمه، وهم الحجازيون، هكذا نقل المؤلف. والذى ينتقل غيره عن بني تميم أنهم لا يظهرون خبرًا مرفوعًا، وإنما يظهرون المجرور والظرف، قاله ابن خروف. وهو ظاهر كلام سيبويه، وإذا كان كذلك فليس الحذفُ هوَ الشائع بإطلاق كما ظهر من هذا النظم، فإنه يعطى أن جميع العرب هذا شأنهم، وذلك غير صحيح، بل فيه تفصيل كما ذكر، فكان من حقّه أن يُبَيِّن ذلك، وقد بيّنه في في التسهيل فقال:«وإذا علم جازَ حذفُه عند الحجازيين، ولم يُلْفظ به عند التميميّنَ» .

ويجاب عنه أن الحاص من كلامه في القياس هو مقتضى كلام العرب، لأنه إذا كان بنو تميم لا يلفظون به بإطلاق، والحجازيون لا يلفظون به جوازًا، حصل من ذلك -إِنْ قصد كلم العربَ- أن إسقاط الخبر هو الكثير الشائع، فلا يضر تعيين اللُّغَاتِ إذا كان المحصولُ ما قال.

ص: 451